أصدر أحمد أبو الغيط وزير الخارجية الأسبق كتاب "شهادتي" ليروى فيه ما شهده أثناء توليه المسئولية فى عهد الرئيس المخلوع حسنى مبارك ويركز أبو الغيط على شخصية رئيس جهاز المخابرات العامة الراحل، اللواء عمر سليمان الذي يقول عنه إنه بات ذا تأثير واضح في عملية اتخاذ القرار في مصر منذ عام 1992 وتزايد تأثيره بعد فشل محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا في عام 1995.
ويروي في الكتاب أنه ومنذ توليه مهام وزارة الخارجية في يوليو 2004 أدرك دور سليمان في عملية صناعة القرار وقيادة الأمور في الكثير من ملفات الخارجية المصرية، وبخاصة فيما يتعلق بالعلاقات المصرية الأمريكية وملف مياه النيل وبالطبع ملف القضية الفلسطينية والعلاقة مع إسرائيل. وهو ما يعبر عنه أبو الغيط قائلا: «أدى خوض المخابرات المركزية الأميركية وتكليفها بعملية تنظيم العلاقة بين العناصر الأمنية للسلطة الفلسطينية وإسرائيل فور نشوب الانتفاضة الفلسطينية الثانية، إلى دور كبير مساعد أيضا للمخابرات العامة المصرية، ومن ثم تنامي علاقة عمر سليمان مع (تينت)، رئيس المخابرات المركزية وكل من خلفوه، وأدى ذلك إلى تعزيز إضافي لوضعية عمر سليمان شخصيًا مع الأمريكين وامتدادها بالتالي إلى وزراء الخارجية الأميركيين الذين لهم ملف القضية الفلسطينية».
يفسر أبو الغيط في كتابه جزئية مهمة كثيرًا ما أثارت التساؤلات وطرحت تحليلات من قبل السياسيين في عهد مبارك، وهي تراجع الوجود المصري في المحافل الدولية ممثلا في شخص الرئيس. وهو ما يبرره أبو الغيط بالقول: كان الهاجس الأمني والملل الرئاسي، وتقدم السن أقوى من أي محاولات لإعادة الرئيس لقلب الأحداث.
الصندوق الأسود
مثل باقي العسكريين والأمنيين في كل بلاد الدنيا، أمضى اللواء عمر سليمان حياته صامتا، وكانت كلماته معدودة جدا، ولشدة ما تكون هذه الكلمات محسوبة بدقة فإنها غالبا ما تنسى في اليوم التالي لخروجها من فم قائلها.
فقد جرت العادة بأن يخرج من شغلوا مناصب -مثل التي شغلها سليمان- عن صمتهم ويتكلمون بعد موت أو سقوط من كانوا أذرعهم اليمنى، لكن سليمان ظل علبة مغلقة على أسرار النظام المصري السابق إلى أن مات في 19 يوليو/تموز 2012 بمستشفى كليفلاند بالولايات المتحدة.
غير أن الله كتب لعمر محمود سليمان -وهو اسمه الكامل- أن يقرأ يوم 11 فبراير/شباط 2011 أمام الكاميرا كلمات هي بدورها معدودة ومحسوبة بدقة، لكنها ستبقى محفورة في ذاكرة التاريخ المصري.
خيوط كثيرة
سيذكر المصريون عن عمر سليمان أشياء ومواقف كثيرة، لكن أشهر ما سيرسخ عنه في الأذهان وستتناقله الأجيال هو هذه الكلمات: 'بسم الله الرحمن الرحيم. أيها المواطنون، في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد، قرر الرئيس محمد حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية، وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد، والله الموفق والمستعان'.
وكما كان غامضا وصامتا في حياته، اعتبر البعض وفاته غامضة، حيث جاءت مفاجئة، إذ لم يسبق أن أُعلن عن إصابته بمرض أو خضوعه لعلاج، ويزيد من غموضها -حسب أصحاب هذا الرأي- غموض ظروف خروجه من مصر.
كان لنظام مبارك أركان كثيرة يعتمد عليها، لكن عمر سليمان -الذي ولد بمحافظة قنا بصعيد مصر في بداية ثلاثينيات القرن الماضي- تميز عن باقي هذه الأركان بكونه كان يمسك بملفات عديدة، ويحرك خيوطا كثيرة.
ففي يده كان ملف المصالحة الفلسطينية التي ظل النظام المصري السابق يرفض أن يزاحمه فيها أي نظام عربي أو إقليمي آخر، وعلى مكتبه كانت تطبخ قرارات التعامل مع الإسلاميين، من جماعة الإخوان المسلمين المصرية إلى حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الفلسطينية وحزب الله اللبناني، حتى إن بعض من طالبوه بالترشح للانتخابات الرئاسية الماضية رفعوا شعار 'انزل انزل ماتسيبناش للإخوان'.
ومن تحت أنظاره أيضا كانت تمر السياسات التي تعامل بها النظام السابق مع إيران والسودان وسوريا ولبنان، وكذا العلاقة مع دول حوض النيل ودول الخليج، وغيرها من القضايا الساخنة التي كانت ولا تزال تعج بها المنطقة، حتى صار ينافس وزير الخارجية في مهامه.
إنقاذ ما يمكن إنقاذه
ملف السلام والعلاقة مع إسرائيل كان بدوره يمر حتما من مكاتب جهاز المخابرات العامة الذي تولى سليمان رئاسته من 22 يناير/كانون الثاني 1993 إلى أن عينه مبارك نائبا له في 29 يناير/كانون الثاني 2011، وهو المنصب الذي تولاه أياما معدودة تعرض خلالها لمحاولة اغتيال أدت إلى وفاة اثنين من حراسه الشخصيين وسائقه الخاص.
منصب ظل شاغرا ثلاثين عاما، أي منذ تولي مبارك الحكم سنة 1981، وهو ما جعل الكثيرين يرون في سليمان القشة التي استنجد بها مبارك لعلها تنقذه من طوفان الثورة الشعبية التي خرجت في 25 يناير/كانون الثاني مطالبة بإسقاط نظامه، بل إن سليمان نفسه قال إنه تولى هذا المنصب 'لإنقاذ ما يمكن إنقاذه'.
ولشدة إمساك سليمان -وهو أول رئيس مخابرات مصري يُعلن اسمه وتظهر صورته في الإعلام- بموضوع السلام مع إسرائيل، ظهرت في الصحافة الإسرائيلية تقارير تتحدث عن أن المسؤولين الإسرائيليين كانوا يرون أن هذا الرجل هو خير من يخلف مبارك، وأنه الأفضل والأقدر على ضمان استمرار السلام.
وعادت تقارير مماثلة تكرر الأمنية نفسها عندما أعلن سليمان في بداية أبريل/نيسان 2012 ترشحه للانتخابات الرئاسية المصرية، قبل أن ترفض اللجنة العليا للانتخابات ملف ترشحه، لعدم استيفائه الشروط المطلوبة في جمع التوكيلات المؤيدة لترشيحه.
وليس السلام وحده ما ضمنه سليمان لإسرائيل، فبعض التقارير تحدثت عن أن الرجل -الذي شارك في حربيْ 1967 و1973- كان له دور كبير في إتمام صفقة بيع الغاز المصري لإسرائيل بسعر زهيد، وبعد وفاته نقلت صحف إسرائيلية حزن بعض المسؤولين الإسرائيليين على رحيله.
وكما بدأ سليمان حياته في الجيش -الذي انضم إليه منذ شبابه عام 1954، وتخرج من الكلية الحربية، ثم تلقى تدريبا عسكريا إضافيا في أكاديمية فرونز بالاتحاد السوفياتي، وترقى في صفوفه حتى وصل إلى منصب رئيس فرع التخطيط العام في هيئة عمليات القوات المسلحة، ثم مديرا للمخابرات العسكرية- ها هو يودع الدنيا في جنازة عسكرية قررت الرئاسة المصرية تشييعه فيها.
العلاقة مع أميركا
ولا تقل العلاقة مع الولايات المتحدة أهمية عن العلاقة مع إسرائيل، لذلك أوكل النظام السابق جزءا كبيرا من ملفاتها إلى عمر سليمان، لكن أبرز ما طفا على السطح بهذا الخصوص هو اتهام سليمان ومخابراته بممارسة التعذيب -وكالة عن الاستخبارات الأميركية- في حق معتقلين بسجن غوانتانامو.
فقد قالت صحف أميركية إن سليمان وافق على أن تستجوب الاستخبارات المصرية معتقلين أحالتهم عليها نظيرتها الأميركية بعد أن عجزت عن الحصول على معلومات منهم.
ومن أشهر القصص في هذا المجال، تلك التي سبق أن نشرتها صحيفة نيويوركر، حيث قالت إن استخبارات سليمان عذبت معتقلا يعرف باسم ابن الشيخ الليبي تسلمته من الولايات المتحدة، وانتزعت منه اعترافات مفادها أن نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين يتعاون مع تنظيم القاعدة، وأنه يحضر لتسليمه أسلحة بيولوجية وكيميائية.
هذه الاعترافات أخذها وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول إلى مجلس الأمن الدولي، وقدمها على أنها دليل على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وحاول استصدار قرار أممي بتوجيه ضربة عسكرية للعراق.
وتقول الصحيفة إن خلافا نشب بين 'سي آي أي' ومكتب التحقيقات الفدرالي 'أف بي آي' حول أيهما الأحق باستجواب المعتقل الليبي، وفي الأخير تم الاتفاق على إحالته للمخابرات المصرية، وتضيف أنه لما سأله ضباط 'أف بي آي' فيما بعد لماذا أدلى باعترافات كاذبة، أخبرهم أنه انهار تحت 'التعذيب الوحشي'، وأضاف 'كانوا سيقتلونني، وكان علي أن أقول لهم شيئا'.
هذه القضية وغيرها من الملفات الأمنية جعلت الكثير من الحقوقيين والنشطاء ينظرون إلى مشوار عمر سليمان نظرة سوداء سواد النظارات التي لم تكن تفارق عينيه، والتي كانت تخفي وراءها صندوقا أسود للنظام المصري السابق.
من مذكرات الصندوق الأسود «عمر سليمان»
«أعترف بأنني أخطئت عندما منعت الأقباط من الوصول للمناصب القيادية، وبخاصة موقعي نائب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء؛ فأنا أطبق عرف وضع من قبلي يمنع وصولهم للمناصب الحساسة».
بهذه الجملة بدأ الكاتب الصحفي صموئيل العشاي نقل التسريبات التي حصل عليها من مذكرات عمر سليمان نائب رئيس الجمهورية السابق "الصندوق الأسود"، ولكن توفيق الله وحده قاده إلى الوصول للمعلومات التي ظل يخفيها الرجل الغامض، والذي يعتبر من رموز رجال المخابرات عبر التاريخ، حيث تمكن الصحفي صموئيل العشاي من الدخول إلى عمق الأسرار الذي سوف تحدث «تسريباته» انقلاباً في الساحة السياسية المصرية.
وتواصل العشاي مع المصدر وثيق الصلة بالصندوق الأسود ولديه كافة المعلومات، وأقنعه العشاي بأهمية نشر التسريبات في هذا الوقت لكي يعرف المصريين والعالم الحقائق كاملة.
وقال العشاي: احتراما منا لرغبته في عدم نشر أسمه لحساسية الوقت والمشهد فإننا نرجئ الأمر لوقت لاحق، ونقل العشاي عن المصدر قوله أنه متاح لبعض التسريبات لما سوف تتضمنه المذكرات الكاملة لأنه من المعروف أن الشخصيات الهامة التي تعلتي المناصب الحساسة تترك ترتيبات زمنية للإعلان عن الأحداث، ومسموح ببعض التسريبات في الوقت الراهن لكي يتأكد الجميع أن الصندوق الأسود يحتوي على حقائق ومفاجآت سوف تقلب موازين القوى في مصر والوطن العربي والعالم، حد وصفه.
وتقول المذكرات عن الثورة المصرية: أن أصحاب المصالح حكماء في عيون أنفسهم ، مصممون على أنهم قادرين بأساليب حبيب العادلي على منع أي احتمالات لنجاح الثورة، ورفض جميعهم الاهتمام بالتقرير حول الأوضاع التي تمر بها البلاد والتي تراكمت عبر سنوات من الرشوة والفساد وتدني الخدمات في جميع مؤسسات الدولة، وأن المشهد العام يقود إلى ثورة حتمية ستسقط الجميع من على الكراسي، فالأوضاع الاقتصادية والسياسية وأساليب الاستحواذ وطرق معالجة ملفات كثيرة ستؤدي إلى ثورة شاملة.
وتستطرد المذكرات: أن تقرير موسع أعده عمر سليمان وفريق والمعاونين له حول أمكانية حدوث ثورة ضخمة، وأرسل التقرير إلى مؤسسة الرئاسة ليد زكريا عزمي قبل الثورة بفترة؛ لكنه رفض عرضه على الرئيس مبارك، ووصلت نسخه منه ليد صفوت الشريف، ونسخه ثالثة أرسلت لسوزان مبارك شخصيا بصفتها راعية مشروع التوريث.
وكان التقرير يستعرض المشكلات وينتهي بالحلول، ولأن جميع من وصلهم هذا التقرير كان بمثابة المفاجأة التي لم يعدوا لها ولم يتوقعها أحد منهم، فلم يلتفتوا لهذا التقرير الذي كان بمثابة الإعلان الأخير.
ويقول المصدر أن محاولات استهداف عمر سليمان فقد كانت جميعها من داخل النظام، فقد كان ظهور عمر سليمان يجعل كراسي الرئاسة «يهتز بالجميع»، وكان سليمان يعلم أنه مستهدف ، وتوقع سليمان أنه لن يكون موجودا في الفترة القادمة، وتوقع أيضاً أن عددا من الصحفيين والحالمين بالشهرة سيقومون بتأليف أحداث من نسج خيالهم الشخصي لكي يتماشي مع الأحداث الحالية.
ويستكمل المصدر في تسريباته حول المذكرات: إن علاقات عمر سليمان بالخارج كانت مصدر الخطر الأول على النظام السابق، لكونه اللاعب الأساسي وحلقة الوصل بين الأفكار الفلسطينية وأهدافها وبين اليهود وأطماعهم، والإخوان وأجندتهم، وكان سليمان يتمتع بشخصية قوية ومؤثرة في جميع الأطراف وساعدته شخصيته القوية في السيطرة على المواقف المختلفة، على الرغم من قلة المعلومات المتوفرة لحل المشكلة، وأهمها قصة تعمير سيناء، وبحسب التسريبات فإن سليمان كان يعلن دائما للمقربين منه أنه ليس مستهدف من الخارج وإنما مستهدف من الداخل.
وينقل المصدر من مذكرات عمر سليمان مسألة تأمينه الشخصي ودور حسين كمال الشهير باسم «الراجل اللي واقف ورا عمر سليمان»، فيقول المصدر، والكلام على مسئوليته" لا يجرؤ حسين كمال أن يصرح بأي تصريحات عن عمر سليمان لأنه لا يعرف أي شيء إلا أقل القليل من المعلومات".
ويضيف المصدر أن مذكرات سليمان دعت إلى تغير مسمى « جهاز الأمن الوطني» إلى «جهاز الأمن المصري»، حتى لا تكرر تجربة حماس في مصر، وذكر المصدر حول نظرة عمر للمستقبل قال: أن الأخوان يستطيعون الوصول إلى السلطة ولكنهم لا يستطيعون الاستمرار بها، وأن عمرهم على الساحة السياسية قصير، و مهما حاولوا إثبات عكس ذلك، وأن الحكومة القادمة ستكون حكومة إخوانية لمحاولة السيطرة والمغالابة طمعاً في النجاح، ولكن النجاح له مقومات أخرى.
وحول العلاقات المصرية الدولية قالت المذكرات على لسان عمر سليمان " أخطئنا فأخطأت الإدارة الأمريكية"، وقال المصدر هناك العديد من الأسرار التي سنكشف عنها تبعاً.
وكان ضمن المفاجآت التي ذكرها المصدر عن الموضوعات التي تشملها التسريبات، أنها بمثابة اعتراف بالأخطاء التي وقع فيها عمر سليمان، وقالتها المذكرات نصاً " أننا لم نستغل ملف الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط الاستغلال الأمثل، حيث كان يمكننا استبدال شاليط بجميع المساجين والمعتقلين داخل السجون الإسرائيلية، ولكن«...»".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق