معجزة الترتيل في بيان المعاني والأحكام
إعداد المهندس محمد شملول
مهندس مدني و كاتب إسلامي مصري
القرآن الكريم كتاب الله المعجز يجب أن يقرأ بالوجه المخصوص الذي أنزله الله به .
قال تعالى : فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة: 18]
وقال تعالى: أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزّمِّل: 4]
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( إن الله يحب أن يقرأ القرآن كما أنزل) .
لذا فإنه يجب علينا أن نقرأ القرآن كما أنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم .
و كما قرأه الرسول عليه الصلاة و السلام على أصحابه بتؤدة و اطمئنان و تأن و ترسل مع إعطاء الحروف حقها من المخارج و الصفات. و مستحقها من المد و الغنّة والإظهار و الإدغام و الإخفاء و التفخيم و الترقيق و تجويد الحروف و معرفة الوقف و الابتداء ..الخ .
و في هذه الدراسة الموجزة يتبين لنا أن قراءة القرآن الكريم و تلاوته طبقاً لما أنزل و حسب أحكام التلاوة تظهر لنا المعاني الحقيقية للنص القرآني بآفاقها الواسعة .. بل إننا يمكن لنا أن نستنتج منها أحكاماً في قضايا معينة .
إن هذا الموضوع يجب أن يهتم به أهل الفكر الإسلامي في كل بقاع الدنيا لأنه يحتاج إلى دراسات و أبحاث مستفيضة ..
إنه وجه عظيم من أوجه معجزات القرآن الكريم الذي لا تنقضي عجائبه .. لا يمكن لفرد أو لأفراد أن يحيطوا بعلمه...
و لكن يجب عليهم المحاولة و التدبر و التفقه .
إن هذه الدراسة الموجزة تعتبر مقدمة أو مدخلاً لهذا الموضوع المذهل و هو بيان معاني و أحكام القرآن الكريم من خلال أحكام التلاوة .
1- أمثلة في بيان المعنى من خلال مد بعض الحروف
إن المد في القراءة لبعض أحرف الكلمة القرآنية يعتبر ظاهرة من ظواهر زيادة أحرفها ، و كما سبق أن ذكرنا في هذه الدراسة أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى .. لذا فإن ظاهرة المد لبعض حروف كلمات القرآن مدّاً زائداً على المد الأصلي الطبيعي حين التلاوة يدل على تفخيم هذه الكلمة و زيادة معناها ..
و نستعرض فيما يلي أمثلة من الكلمات القرآنية التي يجب مدّ بعض حروفها مداً زائداً لنعرف أن هذا المدّ لم يأت عبثاً ، و إنما جاء لبيان أهمية هذه الكلمة و أنها تدل على شيء مخصوص و غير عادي .
ومثل هذه الكلمات كثيرة جداً في القرآن الكريم إنما سنذكر بعضها حسب الآتي إنما سنذكر بعضها حسب الآتي :
الطامة : { فَإِذَا جَاءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى } [النازعات: 34] .
السماء: { وَ السَّمَآءَ بِنَاءً } [البقرة: 22] .
جان : { فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ } [الرحمن: 39] .
الطائفين : { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ } [البقرة: 125] .
حينما تنظر إلى هذه الكلمات نجد أن كل منها يدل على لشيء عظيم غير عادي . لذا جاء المد ليزيد المعنى .. و حينما نقارن المدّ في كلمة (الطآمة) بعدم وجوده في كلمة قرآنية أخرى قريبة في المعنى وهي (القارعة) نجد أن عدم وجود المد في القارعة مطلوب بشدة لتحقيق معناها و هو أنها (تقرع) آذان الناس و هو شيء لا يسلتزم زمناً فهو لحظي ليدل على الفجاءة .. و لا يحتاج مدّاً أو مدة ..
كذلك فإننا حينما نتدبر سورة (الكافرون) ..
نجد أنه حينما يذكر القرآن (ما تعبدون) و(ما عبدتم) فإنه لا يوجد مدّ على كلمة (ما) للدلالة على تحقير ما يعبدون غير أنه حين يذكر (ما أعبد) وقد جاءت مرتين نجد أنه يوجد مدّ على كلمة (ما) لتدل على عظمة ورفعة ما يعبده الرسول صلى الله عليه و سلم ...
حينما نرجع إلى أحكام التلاوة في المد نجد أن المد قد جاء لأن الحرف الذي تلا المد هو (الهمزة) ..
و هذا الحكم يوضح إعجاز القرآن في اختيار الحروف التي تبدأ بها الكلمات القرآنية لتبين المعنى على أكمل وجه .. كذلك فإننا حينما نتكلم عن المد الجائز المنفصل (مد الصلة الطويلة) و هو المد المتولد من هاء الضمير المكسورة أو المضمومة الواقعة بين متحركين ثانيهما همز نذكر المثالين الآتيين :
- { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ } [البقرة: 131] .
وجاء مد الصلاة الطويلة ليدل على عظمة الرب سبحانه .
- { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الأنعام: 91] .
جاء مد الصلة الطويلة ليدل على عظمة قدر الله سبحانه .
و بالنسبة للمد اللازم المثقل (لوجود التشديد بعد حرف المد) نذكر المثال الآتي :
- { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } [الفاتحة: 7] .
نجد أن كلمة (الضالين) ممدودة مداً لازماً مثقلاً مقداره ست حركات .. على عكس كلمة (المغضوب عليهم) بدون مد ..
و يدل مدّ كلمة (الضالين) على كثيرة هؤلاء الضالين و وفرتهم وهم (النصارى) و ذلك بالمقارنة (بالمغضوب عليهم) و هم اليهود حيث جاءت بدون مد لتدل قلة عددهم ..
الاستثناء في مد صلة (الهاء) لضمير المفرد الغائب
ورد في مصحف المدينة النبوية في اصطلاحات الضبط ما يلي : ( والقاعدة أن حفصاً عن عاصم يصل كل هاء ضمير للمفرد الغائب بواو لفظية إذا كانت مضمومة .. و ياء لفظية إذا كانت مكسورة بشرط أن يتحرك ما قبل هذه الهاء وما بعدها). وقد استثنى من ذلك ما يأتي :
(1) الهاء من لفظ (يرضه) في سورة الزمر فإن حفصاً ضمها بدون صلة .
(2) الهاء من لفظ (أرجه) في سورتي الأعراف والشعراء فإنه سكّنها .
(3) الهاء من لفظ (فألقه) في سورة النمل فإنه سكنها أيضاً .
و حينما نتدبر سبب هذا الاستثناء يتجلى ذلك حين نرجع إلى الآيات الكريمة التي و ردت فيها هذه الألفاظ حسب الآتي :
- كلمة (يرضه) وردت في الآية 7 من سورة الزمر: { وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } [الزمر: 7] و لم ترد هنا الصلة حتى توحي بفورية رضا الله عن شكر عباده .
- كلمة (أرجه) و ردت في الآية 11 من سورة الأعراف والآية رقم 36 من سورة الشعراء عن موسى و هارون عليهما السلام { قَالُوا أَرْجِهْ وَ أَخَاهُ } و لم ترد هنا الصلة حتى توحي بتقليل شأنهما عليهما السلام في نظر ملأ فرعون حيث كانوا يعتبرونهما ساحرين .
- كلمة (فألقه) وردت في الآية 28 من سورة النمل { اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ } [النمل: 28] ولم ترد هنا الصلة لتوحي بتقليل شأن قوم سبأ في نظر سليمان عليه السلام وكذلك بطلب سرعة إلقاء الكتاب .
و من خلال ما سبق تتبين لنا الحكمة في الاستثناء في مد صلة (الهاء) لضمير المفرد الغائب في بعض الآيات القرآنية لتوضح المعنى المراد أجمل وأدق توضيح و بيان .. و أن ترتيل القرآن كما أنزل له فائدة كبرى في توضيح المعاني وإبرازها بجلاء .
2- أمثلة في بيان المعنى من خلال صفات الحروف :
من المعروف في أحكام التلاوة أن لكل حرف مخرجاً يخرج منه وكيفية تميزه في المخرج وهذه الكيفية في صفة الحرف ...
وسنعرض في هذا الموضوع لأمثلة من إعجاز القرآن في مسألة التلاوة والتي تساعد في توضيح المعاني المقصودة ...
حروف الاستعلاء :
حرف (س) ليس من حروف الاستعلاء ..
وحرف (ص) من حروف الاستعلاء في الارتفاع ..
وحينما نتلو الآيتين الكريمتين التاليتين :
- {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [صـ : 9].
- { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ } [الغاشية: 22].
إن كلمة (مصيطر) وكذلك كلمة (المصيطرون) في الأصل تكتب بحروف (س) أي (مسيطر)، (المسيطرون) ولكن حيث أن حرف (س) ليس من حروف الاستعلاء .. فإنه لن يؤدي المعنى المراد و هو التحكم و السيطرة والقوة و الاستعلاء.. لذا جاءت تلاوة القرآن لهذه الكلمة باستخدام حرف (ص) و هو حرف من حروف الاستعلاء .. و ذلك ليؤكد المعنى وتكون التلاوة موضحة أعظم توضيح للمعنى المراد ...
- حروف القلقة وحرف الامتداد:
القلقة تعني التحريك أي: إبراز صوت زائد للحرف بعد ضغطه .. ما يجعل اللسان يتقلقل بها عند النطق .. وحروف القلقة خمسة هي (ق ، ط ، ب ، ج ، د) .
أما حرف الامتداد فهو حرف واحد هو (ض) و يعني الامتداد هو امتداد الصوت من أول اللسان إلى آخره .. و يعني الامتداد أيضاً (القبض) على الحرف حتى لا يتحرك أو يتقلقل .. في حالة السكون .
و حينما نقرأ الآيات التي وردت بها حروف قلقلة خاصة القلقلة الكبرى و هي حالة إذا ما سكنت حروف القلقلة آخر الكلمة نجد أن هذه القلقلة تعطي معنى واسعاً للكلمة تعتبر كأنها زادت حروفها حرفاً و زيادة مبنى الكلمة وحي بزيادة معناها .. و نضرب فيما يلي أمثلة في هذا المجال :
- قال تعالى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } [العلق: 1-2] .
و قلقلة (ق) في كلمة (خلق) تعطي معنى واسعاً لخلق الله حيث أنه لا يوجد حدود للخلق .. كذلك كلمة (علق) فهي توحي بالأعداد الكبيرة العالقة من مَنْيِ الذكر ..
كذلك حينما ترد الكلمات القرآنية (أولو الألباب – العذاب – الحق – الأسباط – الأحزاب – أزواج – الميعاد .... الخ) فإن هذا يزيد في معنى هذه الكلمات و يحفزنا على إعطاء الآيات الواردة بها مزيداً من العناية و التدبر ..
أما بخصوص حرف (ض) في حالة سكونه فإنه يجب الإمساك به بقوة حتى لا يتقلقل أثناء التلاوة .. و مثال ذلك :
- قال تعالى : { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا } [الفرقان: 46].
و يدل سكون حرف (ض) وعدم قلقلته على تأكيد معنى كلمة (القبض) التي ورد بها هذا الحرف .. و عدم إمكانية تحريك هذا القبض أو زحزحته ...
حروف التفخيم والترقيق :
تفخيم بعض الحروف أثناء التلاوة يزيد في توضيح معاني الكلمات القرآنية والآيات الواردة بها ..
كذلك فإن ترقيق الحروف الأخرى يساعد أيضاً في بيان المعاني المقصودة .. و يأتي ذلك حسب الحالة .. و حروف التفخيم هي نفسها حروف الاستعلاء ( خ ، ص ، ض ، غ ، ط ، ق ، ظ ).
و كذلك حرف (ر) في بعض الأحوال حسب التفاصيل الواردة في أحكام التلاوة ..
كذلك فإن (لام) لفظ الجلالة (الله) تفخم إذا سبقتها حروف بفتح أو ضم .. (مثل قل هو الله أحد) .. يفعل الله ما يشاء ..
و ترقق اللام في لفظ الجلالة إذا سبقتها حروف بكسر مثل (بسم الله بالحمد لله) أما باقي الحروف فتأتي في حالة ترقيق ..
و أعتقد أن هذا الموضوع يحتاج إلى دراسات واسعة في أصول الحروف و الكلمات المتكونة منها .. و أرجو أن يكون هناك متسع لاستكمال هذه الدراسة ..
أمثلة في بيان المعنى من خلال إدغام المتماثلين و المتجانسين و المتقاربين :
إدغام المتماثلين: هو أن يتحد الحرفان مخرجاً وصفة .
إدغام المتجانسين : هو أن يتفق الحرفان مخرجاً ويختلفان صفة .
إدغام المتقاربين: هو أن يتقارب الحرفان مخرجاً ويختلفان صفة .
كما سبق أن ذكرنا فإن الإدغام الكامل بدون غنّة يدل على التصاق الكلمتين التصاقاً كاملاً مما يوحي بقطعية الأمر وعدم وجود أي فاصل أو مسافة زمنية وكذلك يدل على العجلة الفائقة .
و نضرب فيما يلي أمثلة لكل نوع من أنواع هذا الإدغام لنتبين المعنى الذي أضافه وبينه :
أ- إدغام المتماثلين :
- قال تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } [النساء: 78] .
حين تلاوة كلمة (يدرككم) نجد أن الكاف الساكنة الأولى قد أدغمت في الكاف الثانية فأصبحت حرفاً واحداً مشدداً وأصبحت تقرأ (يدركَم) والإدغام يوحي بنقص أحرف الكلمة مما يدل على سرعة الموت في إدراك من قضى عليه الموت ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق