تأملت حالة عجيبة ، و هو أن أهل الجنة الساكنين في أرضها في نقص عظيم بالإضافة إلى من فوقهم ، و هم يعلمون فضللا أولئك . فلو تفكروا في ما فاتهم من ذلك وقعت الحسرات ، غير أن ذلك لا يكون ، لأن ذلك لا يقع لهم لطيب منازلهم ، و لا يقع في الجنة غم .
و يرضى كل بما أعطي من وجهين : أحدمها أنه لا يظن أن يكون نعيم فوق ما هو فيه ، و إن علت منزلة غيره . و الثاني أنه يحبب إليه كما يحبب إليه ولده المستوحش الخلفة فإنه يؤثره على الأجنبي المستحسن .
إلا أن تحت هذا معنى لطيفاً ، و هو أن القوم خلقت لهم همم قاصرة في الدنيا عن طلب الفضائل يتفاوت قصورها .
فمنهم من يحفظ بعض القرآن و لا يتوق إلى التمام ، و منهم من يسمع يسيراً من الحديث و منهم من يعرف قليلاً من الفقه ، و منهم من قد رضي من كل شيء بيسيره ، و منهم مقتصر على الفرائض ، و منهم قنوع بصلات ركعتين في الليل . و لو علت بهم الهمم لجدت في تحصيل كل الفضائل ، و نبت عن النقص فاستخدمت البدن ، كما قال الشاعر :
و لكل جسم في النحول بلية و بلاء جسمي من تفاوت همتي
و يدل على تفاوت الهمم أن في الناس من يسهر في سماع و لا يسهل عليه السهر في سماع القرآن .
و الإنسان يحشر و معه تلك الهمة ، فيعطى على مقدار ما حصلت في الدنيا لم تتق إلى الكمال و قنعت بالدون ، قنعت في الآخرة بمثل ذلك .
ثم إن القوم يتفكرون بعقولهم ، فيعلمون أن الجزاء على قدر العمل ، و لا يطمع من صلى ركعتين في ثواب من صلى ألفاً .
فإن قال قائل : فكيف يتصور لها ألا تروم ما ناله من هو أفضل منها ؟
قلت : إن لم يتصور نيله يتصور الحزن على فوته .
و هل رأيت عامياً يحزن على فوات الفقه حزناً يقلقه ؟ هيهات .
لو كان ذلك الحزن عنده لحره إلى التشاغل .
فليس عندهم همة توجب الأسف مع أنهم قد رضوا بما فيه . فافهم ما قلته و بادر ، فهذا ميدان السباق .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق