من أجندات ضباط مباحث
00000000000000000000
الجريدة المكان: الجيزة، شقة المخرج السينمائي الكبير نيازي مصطفى.الزمان: الثامنة صباح يوم 19 أكتوبر عام 1986.
صعد محمد عبد الله، الطباخ الخاص للمخرج السينمائي الكبير سلم الخدم، كما تعود كل صباح، حتى وصل إلى باب المطبخ، لكنه وجده مغلقاً، ما يعني أن المخرج لم يستيقظ بعد، في هذه الحالة كان عليه النزول والصعود من سلم السكان إلى باب الشقة الرئيس. طرق الباب، لكن لم يرد أحد، على رغم مرور وقت غير قصير! في هذه الحالة، يبدو أن المخرج الكبير سهر حتى الفجر ولن يستيقظ قبل الحادية أو الثانية عشرة ظهراً.
هكذا كانت تجاربه مع المخرج نيازي مصطفى. مضى الطباخ من حيث أتى وظل في المقهى القريب من بيت المخرج حتى أشارت عقارب الساعة إلى الثانية عشرة فعاد إلى شقة المخرج الكبير. هنا شعر بالقلق بعدما ظلّ يطرق الباب مرات ومرات، تارة يضغط على زر الجرس، وثانية يستخدم قبضة يده. لكن من دون جدوى. نزل الطباخ وتوجه إلى مسكن أخت نيازي مصطفى القريب من مسكن أخيها، عرض عليها ما حدث، دخلت حجرتها ثم عادت وسلمته النسخة الثانية من المفتاح ظناً منها أن أخاها تأخر في تصوير آخر أفلامه حتى الصباح ثم غلبه النوم حتى استغرق فيه بعمق!
عاد الطباخ إلى شقة المخرج الكبير وفتح الباب بالنسخة الاحتياطية، لكن ما إن دخل حجرة النوم حتى صرخ، وارتجفت أطرافه وهو يشاهد جثة المخرج الشهير ملقاة فوق الأرض موثوق اليدين إلى الخلف، والجثة ملقاة بجوار خزانة الحجرة.
استدعى الطباخ شقيق المخرج وبعدما حضر وشاهد أخاه قتيلاً طلب من الطباخ الذهاب إلى مديرية أمن الجيزة وتقديم بلاغ بالحادث. فعلاً، حضر الطباخ وقدم البلاغ الذي تم إخطار وزير الداخلية به وجميع قيادات الأمن، وهذا ما يحدث دائماً مع الشخصيات المهمة والعامة، ما يعني أن ضباط المباحث سيدخلون امتحاناً صعباً للغاية، لأنهم لن يعملوا بهدوء إنما تحت ضغط الرأي العام وقيادات وزارة الداخلية.
عبث بمسرح الجريمة
كان الأمل معقوداً على أن المعاينة ستكشف عن خيوط تهم فريق البحث الجنائي، بالإضافة إلى الخيوط التي ستُكشف من تقارير المعمل الجنائي وخبراء الطب الشرعي، لكن استرعى انتباه فريق البحث أن ثمة من عبث بمسرح الجريمة، ما سيضر أشد الضرر بمرحلة البحث عن الجاني. كانت الجثة مسجاة فوق السرير وليست فوق الأرض، كما جاء في بلاغ الطباخ، وعرفنا من شقيق المخرج أنه حينما وصل الشقة وهاله مشهد جثة أخيه ملقاة فوق الأرض عزّ عليه هذا المشهد فطلب مساعدة الطباخ في حمل الجثة ونقلها إلى السرير، هكذا عُبث بمسرح الحادث بمنتهى حسن النية، ومعنى هذا أيضاً أن بصمات كثيرة ستتداخل والمهمة ستزداد صعوبة، فالناس لا يعرفون أن أحد أهم أساليب التحقيق في جريمة قتل ألا يقترب أحد من مكان الحادث أو ملحقاته والابتعاد عن لمس الأشياء أو نقلها من مكان إلى مكان، فهذا يصبّ في صالح الجاني ويؤثر سلباً في تحقيقات ضابط المباحث.
أثبتت معاينة الجثة المبدئية وجود سحجات حول الرقبة، وجرح في اليد اليمنى وآثار دماء على الفم والأنف، واليدان مقيدتان إلى الخلف. قال كبار الفنانين إن وجود الجثة ملقاة إلى جوار الخزانة في حجرة النوم هو المشهد نفسه الذي تكرر كثيراً في أفلام الـ{أكشن» التي أخرجها نيازي مصطفى، لكن هذه المعلومة لم تفد فريق البحث في كثير أو قليل.
كان الملاحظ أن شقة المخرج الكبير طرازها كلاسيكياً، وأن آثاث البيت من التحف القديمة ومغطى بالبياضات، أما الستائر فقطيفة وباهتة، والمكتبة من الديكورات النادرة وزاخرة بمئات الكتب ما عدا الكتب المتناثرة في أكثر من مكان في الشقة! وفوق الجدران صورة زيتية بالحجم الطبيعي للفنانة الكبيرة كوكا، زوجة نيازي مصطفى الراحلة، لكن لفت الانتباه وجود مرآة كبيرة تعكس كل ما يدور في غرفة الاستقبال وحجرة الصالون. أما خزانة المكتب فكانت قد بعثرت محتوياتها من أوراق ومستندات ونقود، ما يدلّ على أن الأمر لا يخرج عن ثلاثة احتمالات: إما أن الجاني فعل هذا بهدف إبعاد الشبهة عن جريمة القتل وتصويرها على أنها سرقة، أو أنه ارتكب الجريمة بحثاً عن أوراق محددة أو مستندات أو عقود فبعثر محتويات الخزانة ربما يجد ضالته، أو أن الجريمة تمت بدافع الانتقام وكان في الخزانة ما يشير إلى شخصية الجاني، فأراد التخلص منه ليبعد الشبهة عن نفسه. أما مداخل الشقة ومخارجها فكانت تؤكد أن الجاني شخص معروف للمجني عليه لأن جميع الأبواب والنوافذ سليمة تماماً، أي أنه، سواء كان رجلاً أو امرأة، يملك نسخة أخرى من مفتاح الشقة.
دائرة معارف
الأصعب في هذه القضية والقضايا المشابهة لها أن المجني عليه كان واسع العلاقات، فلا يمكن حصر أصدقائه ومعارفه والمترددين عليه، كانت أجندته مليئة بأرقام الهواتف، «دائرة معارف» تخطت الأسماء والأرقام الموجودة بها آلاف الأسماء، لكن اللافت أن معظم الأسماء والأرقام كانت لنساء، وفتيات، وعدد كبير من الوجوه الجديدة الراغبات في الشهرة… وغيرهن.
بدأنا الكشف عن المشتبه بهم أو بهن أولاً وكشفنا أيضاً عن أرصدة المجني عليه فكانت 23 ألف جنيه في دفتر التوفير في بنك مصر فرع سعد زغلول، و7976 دولاراً أميركياً و2000 جنيه شهادات استثمار البنك الأهلي و500 سهم شركة الحديد والصلب، فضلاً عن 250 سهماً في الشركة القومية للأسمنت و150 في شركة الخزف والصيني و150 سهماً في شركة سيما، ناهيك عن حساب جاري في بنك مصر الرئيس 871 جنيهاً!
قبل توسيع دائرة الاشتباه استجوبنا البواب والطباخ، الأول لأن شقيقه كان يقيم معه في حجرته في مدخل العمارة أياماً عدة قبل الحادث، ثم سافر يوم اكتشاف الحادث. والطباخ الذي كان أحد المترددين على الشقة يومياً من الساعة الثامنة صباحاً ولا يغادرها إلا في الثامنة مساء. لم يسفر فحص البواب عن أي اشتباه على رغم أنه أنكر وصول أي ضيوف إلى شقة نيازي مصطفى أو خروج أي شخص منها منذ غادرها الطباخ في الثامنة مساء اليوم السابق، كذلك لم يبين فحص شقيق البواب أو الطباخ عن أية شبهات، ما جعل المهمة تزداد صعوبة. كان علينا أن نقتحم دائرة معارف المخرج الكبير والزاخرة بالنساء والعلاقات والنزوات الغرامية!
حكاية منى وهالة
وضعت التحريات أمامنا صورة كاملة وواضحة عن حياة المخرج الخاصة، فصحيح أن عمره كان يقترب وقت الحادث من العام السادس والسبعين إلا أنه كان متعدد العلاقات والنزوات بعدما توفيت زوجته الفنانة الكبيرة «كوكا» على رغم أنه كان يكن لها حباً رائعاً كان حديث الوسط الفني كله، فهل أراد أن ينسى أوجاع الفراق ويهزم أحزانه بعلاقات متشعبة وعميقة مع المرأة أيا كان اسمها؟ عدد كبير من الفنانين قالوا «نعم» في إجابة هذا السؤال لأن حبه لكوكا كان أكبر من حب زوج لزوجته فقد كانت امرأة تغنيه عن النساء كلهن، فلما رحلت عاش فراغاً هائلاً حاول أن يملأه هو بعشرات النساء.
آخرون قالوا إنه حاول أن يهزم ذكريات الرومانسية بالرغبة الجامحة والنزوات؟ ولأن بعض هذه النماذج التي وجد فيها نيازي مصطفى ضالته كانت بينها فتيات ونساء يعرفن من أين تؤكل الكتف فقد وضعت كل منهن المخرج الكبير أمام طريق واحد ليست له فروع أو بدائل، وهو طريق الزواج! لكن المثير أن عروض الزواج التي كان نيازي قد وافق عليها كانت مع ممثلات ناشئات الفرق بين عمر كل منهن وعمره كان يزيد على 55 عاماً. الأولى اسمها منى إسماعيل والثانية هالة رياض، الأولى جاء ذكرها على لسان شهود من فنانين كبار ومعروفين (فاروق الفيشاوي وليلى حمادة) ومدربة الأسود محاسن الحلو، أكدوا أن مصطفى كان يعيش قصة حب أسطورية مع الممثلة الناشئة منى إسماعيل، توَّجها بالزواج العرفي منها. لكن الفنانة الناشئة والتي كانت تتمتع بسحر خاص وأنوثة متوحشة أو هي على وشك الانفجار، أنكرت قصة الزواج العرفي، لكنها اعترفت أنه كان يحبها بجنون وهو حب ليست مسؤولة عنه وإلا كانت مسؤولة عن مئات المعجبين بها. أما الممثلة الناشئة هالة رياض وعمرها 23 سنة فقد جاء في أقوالها ما يلي:
- اسمي هالة نيازي رياض، واسم نيازي هو الذي منحني إياه المخرج الكبير بعدما وعدني بأنه سيتبناني حتى أحصل على النجومية على يديه. زارنا الأستاذ نيازي مصطفى في شقتنا في المعادي يوم الخميس الماضي، قبل الحادث بثلاثة أيام وطلب يدي من أسرتي. حتى لا يشعر الأستاذ الكبير بالحرج أخذت الأمر على سبيل المزاح لأن عمره في هذا الوقت 76 عاماً وأنا في العام الثالث والعشرين، وشعرت أسرتي بأنه غضب من مزاحي وفهم أنه رفض غير مباشر للزواج، ولم أره بعد ذلك حتى سمعت خبر مصرعه.
وحكاية بهيجة
اسم امرأة أخرى قفز في التحقيقات والتحريات بعدما جاء على لسان الطباخ للمرة الأولى، كان قد أكد أن السيدة بهيجة هي مصففة الشعر الخاصة بنيازي مصطفى وكانت تمضي معه ساعات طويلة داخل الشقة لصبغ شعره باللون الأسود. لكن تحريات أخرى أضافت أن علاقة خاصة كانت تربط المجني عليه ببهيجة، ما دفع زوجها نبيل زكي إلى التشاجر معها مرات كثيرة وإصراره في جلسات الصلح كافة بينه وبين زوجته على ألا تتردد على بيت مصطفى، ما جعل الألسن تتخيل ما يعرفه الزوج ولا يريد البوح به أمام الناس! فعلاً، استجوبنا نبيل زكي وزوجته بهيجة فترات طويلة من دون الوصول إلى أية نتائج تفيد التحقيق. وتكرر هذا مع أكثر من 20 امرأة متزوجة كانت على علاقة بالمخرج الكبير واشتركت النيابة في توجيه الأسئلة إليهن. لكن المفاجأة أن ثلاثاً منهن كان الزوج ينتظرها خارج حجرة التحقيقات ليلقي عليها يمين الطلاق. ربما لقي بعض النساء المصير نفسه لمجرد أن اسم كل منهن كان في أجندة المجني عليه وسبق اتصاله بها أو اتصالها به، فلم يحتمل الأزواج أن تظل زوجة أي منهم في عصمته بعدما دخلت دائرة الشبهات.
ثلاثة أشهر كاملة لم يذق فيها ضباط المباحث طعم النوم واتسعت فيها دائرة الاشتباه للاستماع إلى أكثر من ثلاثمئة شخص نصفهم على الأقل من النساء… لا أدلة… ولا قرائن… ما دفع النيابة في النهاية إلى حفظ التحقيق. لا أنكر أن هذه النهاية الدرامية للحادث كانت صفعة على وجه المباحث… على أن يُعاد فتح الملفات بعد ثلاث سنوات، أي في سبتمبر 1989. كانت مفاجأة مدوية أعادت إلى الأذهان حكاية لغز مصرع نيازي مصطفى!
من داخل السجن
كانت المفاجأة داخل سجن ليمان طرة حينما فوجئ العقيد مفتش مباحث السجون أحمد كامل بأحد السجناء يطلب مقابلته لأمر خطير. وافق الضابط واستدعى السجين أحمد حمدي الذي بادر الضابط قائلاً:
- عندي معلومات مهمة جداً عن حادث مصرع المخرج نيازي مصطفى… ضميري يؤنبني وأريد أن أعترف على جريمتي التي شاركني فيها رجل وامرأة.
اهتم الضابط بالاعتراف الخطير وطلب من السجين أن يشرح اعترافه بالأسماء، قال:
- كنت على علاقة بالسيدة لولا زوجة الكوافير نبيل زكي، كان المخرج الكبير يختارها هي بالذات لتلوين شعره ويعتز بها للغاية، وكان زوجها صديقي أيضاً، وكثيراً ما كان يتشاجر مع زوجته لشكوكه في علاقتها بنيازي، وكانت ترد عليه بأنه ينفق عليها وعليه فهو الذي اشترى لهما شقة شارع جامعة الدول العربية من دون أن يطلب منها ثمن العلاقة بأكثر من أن تجالسه وتلاطفه وتستمع إلى همومه. ذات يوم، التقت أهدافنا نحن الثلاثة. أنا أريد المال، ونبيل زوج لولا يريد التخلص من المخرج الكبير… ولولا نفسها لا ترفض لي طلباً وتريد أن تثبت في الوقت نفسه ولاءها لزوجها. نفذنا الجريمة بمهارة شديدة، لكن ضميري يعذبني خلف الأسوار العالية وقررت الاعتراف بالتفاصيل. أرجو أن تسمع النيابة أيضاً أقوالي هذه وتأمر بسرعة ضبط وإحضار نبيل ولولا قبل أن يعرفا بأنني اعترفت ويهربان.
* لكن الطباخ قال إن اسم الكوافيرة هو بهيجة!
** لم تكن بهيجة تستخدم سوى اسم شهرتها وهو لولا.
أمام النيابة كرر أحمد حمدي اعترافاته أمام مصطفى جاويش وكيل أول النيابة وطلب إجراء مواجهة بينه وبين لولا وزوجها.
وأكد لنا وكيل النيابة أنه لا يجب الاستهانة مطلقاً بما اعترف به السجين لأن نفي مصفف الشعر وزوجها في التحقيقات الأولى لا ينهض دليلاً على براءتها! وعلى رغم هذا التصريح إلا أن النيابة، ومع الجهد الكبير الذي بذلته، لم تستطع تقديم أدلة إدانة ضد لولا وزوجها. أخيراً، صرح اللواء منصور عيسوي مدير أمن الجيزة في هذا الوقت بأن اعترافات السجين أحمد حمدي لم تكن سوى الكذب بعينه لأن تحريات مباحث الجيزة توصلت إلى أن السجين أدلى بهذه الاعترافات كي يتمكن من الخروج مرات عدة من السجن ليتردد على النيابات ويرى الدنيا. وربما كان يفكر في محاولة للهروب من السجن أثناء تردده على النيابة بعدما صدرت ضده أحكام بالسجن لمدة 50 عاماً، وأضاف اللواء عيسوي أن إدعاءات السجين تختلف تماماً مع معاينة النيابة لمسرح الحادث وقت وقوع الجريمة، وأن هذه الإدعاءات لا تخرج في معظمها عن قراءاته الصحف الصادرة بعد الحادث.
للمرة الثانية أغلقت النيابة الملف الخطير تحت عنوان «يُحفظ» وكانت آخر صفحاته تتعلق بتاجر العملة السجين الذي أراد أن ينتقم من أصدقائه القدامى، أو كان يفكر في الهروب من السجن. عموماً، ما زلنا حتى الآن نعاني من هذا الملف لأنه يكاد يكون نموذجاً للجريمة الكاملة، وهو نوع من الجرائم لم تعرفه مصر غير ثلاث أو أربع مرات طوال 50 عاماً، وربما يكون لنا عودة إلى هذا النوع من هذه الجرائم على صفحات وفوق سطور هذه الأوراق التي ستمثل في النهاية جزءاً من تاريخ ضابط مباحث في خدمة أمنية طالت 40 عاماً. أتمنى على رغم مرور هذه السنوات كافة على حادث مصرع نيازي مصطفى أن أعرف قاتله قبل أن أفارق الحياة، فالمؤكد أنه مات مقتولاً وهذا ما أكدته لي جارته في الشقة السفلى حينما أدلت بشهادتها قائلة:
- سمعت أصواتا في شقة المخرج وأصواتا غريبة وأقداماً تجرى فوق سقف حجرتي التي تقع تحت أرضية حجرة جاري المخرج، لكن هذه الأصوات اختفت تماماً بعد عشر دقائق وهدأ كل شيء وعاد إلى طبيعته!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق