عندما تريد أجهزة المخابرات أن 'تصنع' عميلاً متخصصاً في الاغتيالات والتخريب، فهي تنزع من قلبه خلايا الحب والشفقة والندم، وتزرع مكانها الغلظة والقسوة والجفاف.
إلا أن نداء الطبيعة يظل يقاوم التطبع، فتنمو لدى بعض العملاء خلايا الحب وتتشكل من جديد، وحينما ينضج ذلك الإحساس الرائع المنزوع قسراً، يكون العميل تحت تأثيرث هشاً، ضعيفاً. . لا يملك زمام أموره.
حينئذ . . إما أن يعترف لحبيبته نادماً، أو قد يستسلم لتفاعلات صراعاته فينتحر. إنه صراع آخر بين الضلوع . . صراع مرير . . لا يحسه إلا الخونة والجواسيس. .
- جواسيس بلا قلب .
عرفنا كيف اتبعت الموساد شتى الأساليب لاقتفاء حركات المقاومة الفلسطينية، وقتلها في المهد، كذلك شرحنا بالتفصيل كيفية عمل الجاسوس المنفرد، وأخيراً نظام الشبكات التي يوجهها خبراء محترفون في الموساد.
وفي هذه القصة نتطرق معاً لملف آخر أكثر سخونة، وشديد الخطورة . . لعمليات الموساد القذرة في لبنان، وهو ما يعرف بشبكات 'التخريب –
DESTRUCTION' التي ينحصر نشاطها في بث الشقاق والعداوة، وزعزعة الاستقرار الداخلي بإشعال الفتن والضغائن بين العشائر.
وشبكات التخريب عمل مخابراتي مهم، نما وتعملق في القرن العشرين مع تطور استخدام المتفجرات، وبروز التنافس بين الأمم والامبراطوريات.
إنها شبكات خاصة جداً تظهر وتختفي وفقاً للمصالح والظروف السياسية، يقوم على إدارتها وتوجيهها نخبة من الخبراء على أعلى درجات الكفاءة والخبرة والذكاء ، تعمل بمباركة القيادة العليا – عسكرية أو سياسية – وتخضع لها مباشرة.
ولأن المهمة جد خطية، فجاسوس شبكات التخريب ينتقي بعناية فائقة. . وفق شروط صعبة معقدة .. حيث يتم إخضاعه لدورات تدريبية أشد تعقيداً عن تلك التي ينالها الجاسوس المكلف بجلب الأخبار .. فهو 'يغسل' تماماً لتنسلخ عنه مشاعر الانسانية .. وتخنق فيه عواطفه الفطرية .. وتجز إرادته فيتحول بعد 'غسله' الى 'روبوت' بلا قلب، يتحرك الوحش الكامن فيه بالأمر، ويسكن بداخله بالأمر.
لذا، فالسيطرة عليه تحتاج الى عقل خارق لتطويعه، وتغييب طبيعته، فالجاسوس قبل أي شيء بشر، يقسو ويحنو، ويتألم ضميره أحياناً، أو قد يصحو محاولاً التمرد على وحشيته، لكن، هذا لا يحدث كثيراً.
معنى ذلك أن هناك حالات حدثت، بالطبع هي حالات استثنائية جداً ونادرة، ولأنها كذلك، فهي مثار تحليلات ودراسات مطولة يعكف عليها المحللون.
وقد ظهر رأي يقول بأن أجهزة المخابرات عندما تريد أن 'تصنع' عميلاً متخصصاً في الاغتيالات والتخريب، تنزع خلايا الحب والشفقة والندم من قلبه، وتزرع مكانها الغلظة والقسوة والجفاف، إلا أن نداء الطبيعة يظل ييقاوم التطبع فتنمو لدى بعض العملاء خلايا الحب وتتشكل من جديد.
وحينما ينضج هذا الاحساس الرائع – المنزوع قسراً – معلناً عن نفسه صراحة وبعنف، يكون الجاسوس تحت تأثيره هشاً، ضعيفاً، معرضاً لإفشاء سره، أو قد يستسلم تماماً لتفاعلات صراعاته، فينتحر. !!
إن ملفات المخابرات والجاسوسية تحفظ لنا قصصاً عجيبة لا يصدقها عقل، تصف معاناة بعض هؤلاء القتلة الذين وهنوا وصرعهم التوتر والخوف والندم، فعاشوا أسوأ لحظات حياتهم الى أن كتبوا نهاياتهم بأيديهم.
وتذكرني الآن قصة 'بوجداني ستاسنسكي' رجل الاغتيالات الأول في جهاز المخابرات السوفييتية – الذي علموه في أكاديمية الجواسيس بموسكو كيف يكون آلة تسمع فتطيع، فلم يكن ليشعر قط بالأسف أو الندم، بعدما يقتل معارضي دولته بالسم الزعاف، حتى أنه كان ينام هادئاً دون أن تطارده أشباح ضحاياه، وانقضت سنوات وسنوات ويداه تقطر منهما دماء الأبرياء،الى أن تجف فجأة أمام دفقة الحب الأول في حياته، فتملكه ندم شديد، وبكى كطفل على صدر حبيبته الألمانية وهو يفشي لها بسره ومعاناته، واختفيا عن الأنظار منذ عام 1965، حيث لم يظهر لهما أثر حتى اليوم.
لقد تفوقت المخابرات السوفييتية عن سائر أجهزة المخابرات في هذا المجال، واحتفظت بالصدارة دائماً منذ بداية القرن الماضي وتليها المخابرات البريطانية فالفرنسية، الى أن ظهر الجستابو الرهيب في ألمانيا . . وأخيراً كانت المخابرات الأمريكية فالسافاك الإيراني .. لكن على حين فجأة ظهرت المخابرات الإسرائيلية، فتفوقت على جميع الأجهزة واحتلت رأس القائمة ولا زالت، واشتهرت بعبقريتها الفذة في ابتكار أعجب الوسائل الإجرامية في الإرهاب والمذابح والتصفيات الجسدية والتفجيرات. للدرجة التي دعت العديد من الدول الأجنبية للاستعانة بخبراتها في هذا المجال.
فمنذ قامت المنظمات الإرهابية في فلسطين، توسلت العنف الدموي مع المدنيين العزل، واستعانت بعلم نفس الإجرام في التعامل معهم لقمع إرادتهم وإصابتهم بما يشبه الذهول المصحوب برجفات الرعب، والهلع.
- بين الشرق والمغرب .
في عام 1965 عقد مؤتمر القمة العربي في القاهرة، الذي تقرر فيه تحويل روافد نهر الأردن، وبحثت فيه الإجراءات العسكرية الواجب اتخاذها من أجل مواجهة أي رد فعل إسرائيلي ضد عمليات التحويل . . فقدمت القيادة العربية المشتركة خطة موحدة . . تشرح الإمكانيات العسكرية التي يجب أن تتوافر لدى كل دولة من الدول العربية المتاخمة لإسرائيل، حتى إذالا ما وقع أي هجوم إسرائيلي يتصدى له رد جماعي عربي.
كان نصيب لبنان من هذه الخطة سرباً من الطائرات، وراداراً. . على اعتبار أنه يملك مناطق استراتيجية عسكرية مهمة على رؤوس قمم الجبال. وخوفاً من وقوع هجوم على لبنان يدمر طائراته وراداره، تقرر إعطاؤه أيضاً بطاريات صواريخ أرض / جو . وبعد أن وزعت الخطة انتقل البحث الى التكاليف . . وتحديد الجهات العربية التي ستتولى التمويل.
ولأسباب سياسية رفض لبنان شراء الأسلحة السوفييتية .. وطالب بإعطائه الثمن على أساس سعر السلاح السوفييتي ليشتري السلاح من فرنسا.
وبالفعل، سارت الأمور بعد ذلك بشكل طبيعي، وبدأ لبنان مفاوضاته مع فرنسا لشراء الميراج والرادار وصواريخ الكروتال، الى أن وقعت حرب 1967 فانقلبت كل المقاييس. . وتبدلت الظروف. . فألغيت القيادة العربية الموحدة من جهة، ومن جهة أخرى نسف مشروع تمويل الروافد بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية، وبالتالي، تخلت الدول العربية عن التزاماتها بدفع ثمن السلاح اللبناني.
ذلك أنه بعد تبدل الظروف عقب النكسة، وتبدل الاستراتيجية العسكرية العربية، بدأ التفكير اللبناني يتجه بالتشاور مع الدول العربية نحو إبدال السلاح الفرنسي بآخر سوفييتي يتوافق مع ظروف مرحلة ما بعد يونيو 1967، ومع أوضاع لبنان وظروفه، بحيث تكون لديه صواريخ نقالة وغير ثابتة تكون عرضة لعمليات نسف إسرائيلية.
وقوبل هذا التبدل في السياسة والتسليح بغضب أمريكي . . فقد رفض سيسكو مساعد وزير الخارجية الأمريكية مقابلة السفير اللبناني ثلاث مرات، ودفع الدكتور إلياس سابا وزير الدفاع الوطني اللبناني ثمن مغامرته بشراء أسلحة سوفييتية بأن أبعد عن منصبه.
وخلال عامي 1971، 1972، عاش لبنان مأساة خلافه مع الفلسطينيين، ووقعت حوادث مايو 1973 وتدهورت علاقاته مع الدول العربية، لكن هذه السياسة ما لبثت أن تبدلت بعد ذلك، وتساقطت نظرية الاعتماد على الحماية الأمريكية، وعاد لبنان بعد حرب أكتوبر الى اعتماد سياسته الأولى وهي سياسة الانفتاح على العرب، وعلى المقاومة الفلسطينية، واعتبار ما يتعرض له لبنان إنما هو قدره، وأن لابد من التنسيق مع العرب والمقاومة للذود عن أجوائه وسيادته. وتجلت هذه السياسة الجديدة بذهاب الرئيس سليمان فرنجية الى الأمم المتحدة ليقول كلمة العرب في القضية الفلسطينية، وتجلت أكثر بتخلي لبنان عن فكرة إخلاء المخيمات الفلسطينية من الأسلحة الثقيلة، وساد شعور ضمني بأن هذا السلام في المخيمات هو قوة للبنان، واللبنانيين.
لم تقف إسرائيل ساكنة أمام تلك التبدلات، فقد استشعرت بأن لبنان بدأ يسير بخطى ثابتة للانتقال من مرحلة الدولة 'المساندة' الى مرحلة الدولة 'المواجهة'، وبالتالي فإن هذا يسقط اتفاقية الهدنة التي وقعت بينهما عام 1949، وهذا التحول على أهميته البالغة جاء صريحاً في كلمة فيليب تقلا وزير الخارجية اللبناني أمام لجنتي الدفاع والخارجية بالبرلمان، حيث أكد على ضرورة أن يتسلح لبنان ويدافع ، ويحارب، إذ لم يعد له خيار سوى ذلك، لأن لإسرائيل أطماعها في لبنان سواء أكانت هناك مقاومة فلسطينية أو لم تكن.
- السفير الأمريكي المذلول .
وبينما خطوط السياسة اللبنانية الجديدة تتشكل .. كانت إسرائيل تراقب في قلق وحذر، فمعنى أن يلجأ لبنان الى 'الشرق' تلاحماً مع دول المواجهة أن تفتح جبهة عربية خامسة ضد إسرائيل، تضطرها الى تغيير استراتيجيتها العسكرية كلها، ويحل بذلك السخط الإسرائيلي والأمريكي على لبنان.
لقد كان الرئيس اللبناني سليمان فرنجية يعلم جيداً أن أسلحة جيشه قديمة ومهترئة، يعود عهد صناعتها الى ما قبل الحرب العالمية الثانية. . (!!) .. ويعلم ايضاً ان لا قبل للبنان بمحاربة إسرائيل، أو مواجهتها، أو صد هجماتها الاستعراضية. كان لا يزال يذكر ما قاله الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لمسؤول لبناني كبير، طلب منه احترام وضع لبنان الخاص. . وإبقائه خارج دائرة الصراع العربي الإسرائيلي.
لقد استرسل عبد الناصر في عرض وجهة نظره وأجاب: ' لا أريد أن أسأل الى متى يستطيع لبنان أن يتحمل عبء هذا الوضع الخاص. ؟ في مؤتمر الاسكندرية طلبتم مني أن أساند موقفكم يوم هاجمكم الرئيس العراقي عبد السلام عارف. . واتهمكم بأنكم تعيشون تحت حماية المظلة الدولية. . ولقد نجحت في عزلكم عن التزامات الدافع بحجة العودة الى برلمانكم.
لقد دفعت مصر كثيراً ثمن الالتزام بالمادة الأولى من الدستور . . والتي تقول بأن مصر جزء من الأمة العربية. والدستور اللبناني يقول 'لبنان ذو وجه عربي'، والالتزام بشعارات هذه العبارة لا يعني أن لبنان عربي في السلم، وعربي أثناء المطالبة بودائع البترول، وعربي لتأمين الخدمات التجارية والسياحية والسوق الحر، بل هو عربي أيضاً في أوقات الحرب'.
مقولة عبد الناصر تلك كانت تهز فرنجية من أعماقه، لذلك، دفع بلبنان للحضن العربي بكل قوته، متحدياً التهديدات الغربية بخنقه اقتصادياً، بل ومتحدياً مطالبة الأمريكيين له بعدم الاتجاه 'شرقاً' وإلا فسيطلقون عليه وحش إسرائيل وثعابينها. وفي أول رد فعل له، ثأر فرنجية لسفيره بأمريكا الذي أهانه سيسكو 'مساعد' وزير الخارجية ثلاث مرات، ورفض هو الآخر مقابلة السفير الأمريكي 'جودلي' مرات ومرات، برغم أنه يحمل رسالة هامة من الرئيس جيرالد فورد، يعرض فيها رغبته في زيارة لبنان، فأذل بذلك السفير الأمريكي، وأوقع فورد في حرج دولي بالغ، بل وحطم العنجهية الأمريكية التي احتلت بورتوريكو مائة سنة لأن ضابطاً من البحرية الأمريكية قد ضُرب في الشارع هناك.
لكل ذلك، أعطت أمريكا الضوء الأخضر لإسرائيل لتعربد في لبنان، وتضرب النبطية ضربات مستمرة متلاحقة، ويتسع نطاق ضرباتها لتشمل مخيمات اللاجئين حتى في بيروت نفسها.
وبدأ دور المخابرات الاسرائيلية في عرقلة التبدلات اللبنانية، وقطع خطوط التوافق والتمازج بين لبنان والعرب، مستغلة أزمة إحراج الرئيس الأمريكي ومذلة سفيره باللجوء لأسلوب شبكات 'التخريب' حيث رأت أنه الحل الأسرع، والأصوب، والأسهل، ذلك لأنها جربته كثيراً، ونجحت، ولها عشرات السوابق في ذلك أهمها فضيحة 'لافون' في مصر، وفضيحة تهديد وقتل علماء الصواريخ الألمان في مصر أيضاً.
وكان أن جندت اللبناني خميس أحمد بيومي – 34 عاماً – ودربته على أن يكون جاسوساً بلا قلب، منزوع المشاعر وحشياً في إجرامه، لتنفيذ سياستها التخريبية في لبنان والضرب بلا رحمة في الصميم.
- ضد لبنان نفسه .
بالقرب من جامع الزعتري على المدخل الشمالي لمدينة صيدا، ارتفعت البنايات الرائعة التي تقع على البحر مباشرة بطريق بوليفار، المتفرع من الطريق السريع صيدا – بيروت.
بإحدى هذه البنايات ولد خميس بيومي لأسرة ميسورة جداً كثيرة العدد، فوالده مقاول كبير يملك مكتباً فخماً يموج بعشرات الإداريين.
وفي محيط هذا الثراء عاش خميس مدللاً، مرفهاً ، منعماً، لا يعلم من أمر الدنيا سوى اللهو والسهر في حانات بيروت ومواخير صيدا برفقة من يماثلونه ثراء، وخواء، فنزف عمره بحثاً عن المتعة ومطاردة الحسان، متجاهلاً نصائح والده الذي فشل في الاعتماد عليه في إدارة أعماله، فتركه لحاله يائساً، غاضباً، على أمل أن يوماً سيأتي ويفيق الى نفسه.
لكن أمله لم يتحقق في حياته، إذ مات فجأة في حادث سيارة، وانخسفت الأرض بأسرته لما تبين لها أنه مدين بمبالغ طائلة للبنوك، وأفاق المُغيّب على واقعه المؤلم وقد صفعته الصدمة وزلزلته الكارثة، خاصة وقد تهرب منه أصدقاء الطيش وليالي النزق.
هكذا وجد نفسه العائل الوحيد لأمه ولإخوته الستة، وكان عليه، وهو الخاوي، أن ينبذ ماضيه ليعبر بهم خضم الفقر، والعوز، والمعاناة.
فعمل كأخصائي للعلاج الطبيعي بأحد مراكز تأهيل المعوقين بصيدا، وبعد مرور أربعة سنوات في العمل، اكتشف أنه كثور يجر صخرة يصعد بها الى الجبل، وفي منتصف المسافة تنزلق الصخرة، فيعاود الكرة من جديد دون أن يجني سوى الشقاء.
لذلك كره نفسه وكره واقعه، وفكر بالهجرة الى كندا وبذل جهداً مضنياً لكن محاولاته فشلت، فخيمت عليه سحابات الغضب واليأس، وانقلب الى إنسان قائط، عصبي، عدواني، مكروه في محيط عمله.
كانت كل هي حاله، الى أن سقط وهو في قمة ضعفه في مصيدة الموساد بلا مقاومة، وكانت قصة سقوطه سهلة للغاية، وجاءت بدون ترتيب أو تخطيط طويل. فذات صباح التقى بسيدة أرمينية مسنة، جاءت لتسأله عن إمكانية عمل علاج طبيعي لابنتها المعاقة بالمنزل، وأعطته العنوان لكي يزورها بعدما أطلعته على التقارير الصحية التي تشخص حالتها.
قرأ خميس في حديثها وملبسها علامات الثراء، فزار منزلها حيث كانت ترقد 'جريس' بلا حركة، طفلة في التاسعة من عمرها بعينيها شعاعات الأسى والبراءة. لعدة أسابيع . . داوم على زيارتها للعلاج الى أن تصادف والتقى بخالها 'كوبليان' تاجر المجوهرات ببيروت، فتجاذبا معاً أطراف الحديث، وقص خميس حكايته مع الثراء وليالي بيروت، وصراعه المرير مع الفقر لينفق على أسرته، وسأله كوبليان سؤالاً واحداً محدداً، عن مدى قدرته الإقدام على عمل صعب، بمقابل مادي كبير، فأكد خميس استعداده لعمل أي شيء في سبيل المال.
سافر كوبليان الى بيروت وقد خلف وراءه صيداً سهلاً، ضعيفاً، يأكله قلق انتظار استدعائه. . وما هي إلا أيام حتى فوجئ كوبليان بخميس جاء يسعى اليه في بيروت، يرجوه أن يمنحه الفرصة ليؤكد إخلاصه، فهو قد ضاق ذرعاً بالديون والحرمان ومتاعب الحياة.
رحب به عميل الموساد واحتفى به على طريقته، فقد أراد الشاب الحانق أن يجدد ذكرياته في حانات بيروت، ولم يكن الأمر سهلاً بالطبع فسرعان ما انجذب خميس لماضيه، وترسخت لديه فكرة العمل مع كوبليان كي لا يحرم من متع افتقدها ، فقد احضر له عميل الموساد احدى المجندات الاسرائيليات التي اجتازت عدد من الدورات في فن الممارسة والشذوذ الجنسي وكان يضع كاميرا سرية في داخل الشقة حيث التقطت العديد من الصور والتي استخدمت لاحقا من قبل الموساد في عملية التجنيد .
وكانت آلاف الليرات التي تنفق عليه في البارات دافعاً لأن تزيد من ضعفه وهشاشته، ونتيجة لحرمانه، ورغبته، لم يعارض مضيفه فيما عرضه عليه، وكان المطلوب منه حسب ما قاله، تهديد المصالح الأمريكية لموقفها مع إسرائيل ضد لبنان، وضدالعرب، ولما أنقده خمسة آلاف ليرة – دفعة أولى – قال له خميس إنه مع النقود ولو كان ضد لبنان نفسه.
- ترويض القتلة .
في إحدى الشقق ببيروت، أقام خميس أحمد بيومي ينفق من أموال الموساد على ملذاته، وتعهد به ضابط مخابرات إسرائيلي ينتحل شخصية رجل أعمال برتغالي اسمه 'روبرتو'، يجيد التحدث بالعربية، فدربه على كيفية تفخيخ المتفجرات وضبط ميقاتها، وكذلك التفجير عن بعد، وأساليب التخفي والتمويه وعدم إثارة الشبهات. كانت عملية إعداد العبوات الناسفة من مادة T.N.T شديدة الانفجار صعبة ومعقدة، تستلزم تدريباً طويلاً، خاصة وخميس لم يسبق له الالتحاق بالجيش، ولا يملك أية خبرات عسكرية تختصر دروس التدريب.
وفي أولى عملياته التخريبية، صدرت اليه الأوامر بتفجير السفارة العراقية ببيروت.
سكت خميس ولم يعلق، فقد تحسس جيبه المتخم بالنقود، وحمل حقيبة المتفجرات بعدما ضبط ميقاتها، وتوجه الى مبنى السفارة في هدوء وثقة، وغافل الجميع عندما خرج من المبنى بدون حقيبته التي تركها بالصالة الرئيسية خلف فازة ضخمة، ووقف عن بعد ينتظر اللحظة الحاسمة.
نصف الساعة وملأ الحي دوي الانفجار، وقتل تسعة بينهم خمسة لبنانيين ، ولاهثاً خائفاً عاد الى شقته، ولحق به روبرتو ليجده على هذا الحال، فيصفعه بعنف قائلاً انه يعرض نفسه بذلك للخطر.
وقف خميس مكانه ساكناً شاحباً، بينما تنهال عليه كلمات اللوم والتقريع والسباب، ومعنى سكونه ما هو إلا خضوع والشعور بندم، فالسيطرة عليه كانت مطلوبة عنفاً وليناً، ترهيباً وترغيباً، منحاً ومنعاً،فتلك أمور يجيدها خبراء السيطرة والالتفاف في أجهزة المخابرات، وهم أدرى الناس بكيفية التعامل مع الخونة والجواسيس.
ذلك أنهم يخضعون تصرفاتهم وردود أفعالهم وفقاً لنظريات علمية مدروسة ومحسوبة بدقة، وليس لمجرد هوى في النفس .. فترويض الخونة في شبكات التخريب أمر بالغ التعقيد والصعوبة بمكان . . !!
وعندما أذاع التليفزيون حادث التفجير، وملأت صور الضحايا والمصابين الشاشة، كان روبرتو يرقب خميس عن قرب، ويدرس تفاعلاته وانفعالاته، وكانت المسألة مجرد تدريب على وأد مشاعره، وقتل أية محاولة للرفض، أو التمرد، أو الندم. كانت إسرائيل تقصد من تفجير السفارة العراقية ببيروت إشعال الشقاق بين الدولتين، وتأجيج الخلاف بينهما، فالعراق كان يسعى وبشدة لتقوية أواصر العلاقة بين لبنان، والاتحاد السوفييتي، ويويد لبنان في خطواتها نحو الاتجاه الى 'الشرق'، وكانت إسرائيل تقصد أيضاً توجيه الاتهام الى المقاومة، مما يفقدها التأييد اللبناني والمساندة.
ونظراً لظروفه السيئة. . أغدقت الأموال على خميس بيومي فكفر بعروبته، وتحول بعد مدة ليست بالطويلة الى دموي يعشق القتل والدم، بل إنه استطاع تجنيد لبناني آخر اسمه 'جميل القرح' كان يعمل مدرساً وطرد من عمله لشذوذه مع تلاميذه الأطفال. فتصيده خميس وجره الى نشاطه التخريبي، وبارك روبرتو انضامه للشبكة، ولم يستغرق تدريبه هو الآخر وقتاً طويلاً، فلسابق خدمته في الجيش كان أكثر تفهماً لخطوات التدريب. . وأعمته الموساد بالأموال أيضاً فغاص لأذنيه في التفجير والتخريب وقتل الأبرياء.
هكذا انضم قاتل الى قاتل، وشكلا معاً في النهاية شبكة من الإرهاب هزت أعمالها بيروت.
- صواريخ السيارات .
وفي التاسعة صباح الثلاثاء 10 ديسمبر 1974 بينما عدد كبير من موظفي مكتب منظمة التحرير بمنطقة كورنيش المزرعة، يقومون بأعمالهم اليومية الاعتيادية، هزهم انفجار قوي، تبين أنه حدث في الطابق الأول من المبنى حيث يوجد معرض 'ذبيان وأيوب' للمفروشات. وعثر رجال الأمن على سيارة فيات '132' بيضاء اللون تقف على الرصيف المواجه. . ووجدوا على سطحها قاعدة لإطلاق أربعة صواريخ – آر . بي . جي – بلجيكية الصنع عيار '3' بوصة ونصف، مركزة على لوح خشبي متصل بأسلاك كهربائية منها انطلقت الصواريخ.
ووسع رجال الأمن دائرة التفتيش، فعثروا على بعد 65 متراً من السيارة الأولى، على سيارة ثانية فيات أيضاً. . وعلى سطحها صندوق خشبي آخر تخرج منه أسلاك كهربائية متصلة ببطارية السيارة.
أخليت مكاتب المنظمة وسكان البناية، وقبيل مجيء خبير المفرقعات، شوهد الصندوق الخشبي يفتح أتوماتيكياً لتنطلق منه ستة صواريخ آر . بي . جي، فتصيب مباشرة مكاتب المنظمة وتحطم واجهاتها ومحتوياتها.
في الوقت نفسه تقريباً، تعرض مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير، والكائن بالطابق الثاني من بناية الجكتور راجي نصر، في شارع كولومباني المتفرع من شارع أنور السادات، لهجوم صاروخي مماثل، إذ انفجرت أربعة صواريخ دفعة واحدة، انطلقت من على سطح سيارة 'أودي 180'، وعثر الى جانبها على غليون خشبي، وأسفرت العملية عن تدمير القسم الأكبر من مكتبة المركز التي تضم أكثر من 15 ألف كتاب وإصابة العديد من المواطنين والسيارات.
وبعد مرور عدة دقائق من هذه الانفجارات، تعرض مكتب شؤون الأرض المحتلة في الدور الأول من بناية الإيمان لصاحبها جعيفل البنا، والكائنة بشارع كرم الزيتون الى هجوم رابع مماثل بأربعة صواريخ.
لقد كان خميس أحمد بيومي ذا دور فعال في التفجيرات الأربعة، يشاركه جميل القرح وثلاثة جواسيس آخرين استطاع القرح تجنيدهم وضمهم الى الشبكة الارهابية، وكان أسلوب منصات صواريخ السيارات أسلوباً جديداً لم تعرفه بيروت من قبل، أو أية عاصمة عربية أخرى.
ولم يقف الأمر عند تفجير سفارة العراق ومكاتب المنظمات الفلسطينية، بل تعداه الى ما هو أبعد بكثير، إذ طالت الانفجارات الكنائس والمساجد لإثارة الفتن بين الطوائف، وإظهار عجز رجال الأمن اللبناني عن اكتشاف الجناة، أو إحباط المؤامرات التي تحاك فوق الأرض اللبنانية.
ولأسباب كثيرة، أولها أن الأجهزة اللبنانية ترى أن التعاون مع أجهزة الأمن الفلسطينية أمر معيب ومسيئ لسمعتها، وثانيها، أن الدولة اللبنانية لا تزال تفضل السياحة على الأمن، والسبب الثالث، التأرجح ما بين دولة المساندة ودولة المواجهة، لتلك الأسباب، كانت شبكة خميس بيومي والعديد من الشبكات التخريبية الأخرى، تعمل في لبنان بحرية مطلقة، وينسل أفرادها من بين رجال الأمن كالرمال الناعمة.
هكذا أوقعت شبكات التخريب لبنان في مستنقع عميق، وتأزمت العلاقة مع الفلسطينيين بسبب اللامبالاة اللبنانية في مطاردة العملاء ومحاكمتهم.
وحدث أن ألقت قوات الأمن الفلسطينية على بلجيكي قبل أيام من التفجيرات الأخيرة، بعدما تأكد لديها أنه جاسوس إسرائيلي، وأثناء التحقيق معه قامت القيامة، واشتد الضغط اللبناني لإطلاق سراحه، فسلموه للسلطات الأمنية مع ملف يحتوي اعترافاته، ليطلقوا سراحه بعد 24 ساعة.
أما الذين سمح للفلسطينيين بالتحقيق معهم، فقد اعترفوا اعترافات كاملة بأنهم عملاء للموساد، وثار الشيخ بهيج تقي الدين وزير الداخلية اللبناني للملاحقة الفلسطينية الدءوبة للجواسيس الأجانب، واشتدت الأزمة واستحكمت حلقاتها بعد موجة التفجيرات التي هزت لبنان كله، لدرجة توجيه نداء في الصحف يوم الجمعة 27 ديسمبر 1974 للذين يزرعون القنابل والصواريخ، أن يعلنوا 'الهدنة' لمدة 48 ساعة تبدأ قبل رأس السنة بيوم واحد، تماماً كما حدث في بريطانيا من قبل مع ثوار إيرلندا، وكتبت الصحف في لبنان أنه: أمام عجز الدولة عن إلقاء القبض على أي متهم بزرع القنابل، لا مفر لديها من أن تلجأ الى عاطفته الإنسانية، و 'ترجوه' أن يتوقف ليومين أما إذا لم يستجيب زارعو القنابل لرجاء الحكومة، فلا مانع من إعلان بيروت مدينة مفتوحة لمدة يومين، وليتحمل زارعو القنابل مسؤوليتهم أمام الضمير الإنساني، والتاريخ. '!!!'.
إنه أغرب نداء، ورجاء، لكن، هذه هي الحقيقة المؤلمة، هذا ما حدث بالفعل في لبنان عام 1974.
وفي التاسع من يناير 1975، وبينما الندف الثلجية البيضاء تتطاير في الهواء، ثم تتهادى كالرزاز لتستقر فوق الأرض، وعلى أسطح المنازل وأغصان الشجر، ألقى رجال الأمن الفلسطينيون القبض على خميس بيومي بشارع كورنيش المزرعة، عندما كان يرسم لوحة كروكية لأحد مباني المنظمة الفلسطينية.
وأثناء التحقيق معه استخدم كل أساليب المراوغة والدهاء. . واحتاط لعدة أيام كي لا يقع في المحظور، لكن الاستجواب المطول معه أصاب مقاومته في الصميم، وتلاشت رويداً رويداً خطط دفاعاته وهم يلوحون له باستخدام طرق التعذيب معه لانتزاع الحقيقة. . وبوعد منهم بعدم إيذائه اعترف بكل شيء، فألقى القبض على جميل القرح الذي مات بالسكتة القلبية قبلما يعترف بأسماء أعوانه الثلاثة الآخرين، هكذا كتبت لهم النجاة حيث لا يعرف خميس إلا أسماءهم الحركية، أما روبرتو فقد اختفى ولم يقبض عليه أبداً، وتسلمت السلطة اللبنانية خميس بيومي وقدمته للمحاكمة وعوقب بعشر سنوات في السجن، '!!'.
تلك كانت محصلة إحدى شبكات التخريب في لبنان، زرعتها إسرائيل لزعزعة استقراره، واستنفار العرب منه، وجره بعيداً عن 'المواجهة'، و 'الشرق'. فهل نجحت إسرائيل؟ ، عليكم أنت الإجابة.!!.
=========================================================================
أهم الجواسيس الإسرائيليين دخل الى الدول العربية كلاجىء فلسطيني
قبيل نشوب حرب الـ-48 عبر غامليئيل كوهين الحدود الى لبنان متقمصاً شخصية لاجىء فلسطيني ليكون جاسوسا في الدول العربية سنين طويلة. وعلى الرغم من موته ما زال الكشف عن جميع اعماله والمخاطر التي خاطرها صعباً. ألمؤرخ مئير بعيل: "لقد دس نفسه في اماكن لا يستهان بعددها في العالم العربي، ولم يسمع الجمهور عنه لأنه لم يكشف أبداً"
عوديد شالوم
لقد مر خبر وفاة غامليئيل كوهين، أحد مؤسسي وحدة المستعربين في منظمة "البلماح"، أمس في جهاز الاستخبارات. اما الذين عرفوه شخصياً في "الموساد" فهم قليلون. لقد كان الرجل متواضعاً ومستتراً لكن أجهزة المخابرات تناقلت مغامراته من جيل الى جيل، فقد تحول الى أسطورة وضرب فيه المثل. وقال مسؤول رفيع المستوى في "الموساد": "لقد كان بطلاً مجهولاً ولم يطلب المجد مع أنه كان يستحقه".
كان كوهن، في الثمانين من العمر عند وفاته، أول جاسوس إسرائيلي عمل في الدول العربية المجاورة. وقد تحولت مغامراته الى مثاليات في تاريخ الجاسوسية الإسرائيلية. ويقول كبار رجال المخابرات السابقون الآن بعد وفاته إنه مات مجهولاً كونه محترفاً، فلو لم يكن محترفاً لكشف وسمع عنه الجميع. ووصفوه بأنه أهم وكيل مخابرات في تاريخ إسرائيل.
وستحكى قصة كوهين وسيرة حياته المليئة بالمخاطر في يوم من الأيام. وحتى ذلك الحين يمكن الحديث عن مقتطفات من قصة حياته. ولد كوهين في سنة 1922 في دمشق لعائلة قوامها عشرة أفراد، حيث كان ابوه صاحب حانوت أحذية في السوق واب لعائلة متواضعة وسعيدة. وكان غامليئيل عضواً في حركة الشبيبة الصهيونية السرية وتلقى تعليمه في مدرسة "إليانس".
حيث اجاد اللغة العربية والفرنسية والعبرية، الأمر الذي سيساعده في عمله في المستقبل. وفي اواخر سنة 1943 بلغ الــ21 من عمره ترك دمشق برفقة ستة من اصدقائه قادماً الى إسرائيل، متجاوزين طرق ليست بطرق، ملتفين على الحواجز الكثيرة حتى وصلوا الى لبنان وهناك اعتقلهم ضابط لبناني لمدة شهر في مدينة صور. وجددوا مشوارهم الشاق بعد إطلاق سراحهم، لكنهم نجحوا هذه المرة بقطع الحدود والوصول الى قرية غلعادي، ومن هناك الى حيفا.
ولم يحقق كوهين ذاته في حيفا. لقد أراد تحقيق الحلم الصهيوني ولم تجذبه حياة المدينة. فانتقل الى كيبوتس حارود ليجرب حياة الكيبوتس، بناء على توصية اخيه شلومو الذي كان يسكن آنذاك في ماعوز حاييم. ثم بدأ تعليمه في معهد تحقيق الصهيونية في كيبوتس غفعات برنر، وهناك تعرف على فتاتين اعلمتاه بحماس شديد عن وجود مجموعة تأهيل مجندة تابعة لمنظمة "البلماح"، ستتخذ من كيبوتس بيت هعرابا مقراً لها.
لم يتردد كوهين في الانخراط بهذه المجموعة من فرط حبه لبلده الجديد. وقال رئيس الموساد السابق حاكا حوفي كوهين الذي كان احد أفراد المجموعة بأن كوهين كان يختلف عن الآخرين: "الاغلبية كانت من مواليد البلاد. كنا حيويون، تنبض الحياة فينا، لكن كوهين كان نحيفاً، قليل الكلام، منطويا على نفسه، لكني وجدت لديه حزم لم أجده عند كثيرين".
ولا يذكر حوفي بالتحديد متى اختفى كوهين من بيت هعرابا لكنه يذكر أن كوهين ترك المكان في سنة 1945 ولم يعرف الى أين وحتى متى.
واقترح يغئال ألون على كوهين الانضمام الى وحدة ألمستعربين التي اقامها. وقالت زوجته عليزا التي لم تعرفه آنذاك أنه حدثها عن امتحانات القبول التي أجريت له في اللغة العربية وآدابها وفي معرفته للعقلية العربية. لقد كان قسم صغير ولم يحظى الكثيرون في الخدمة فيها. أما الذي تم قبوله فيها فكان عليه أن يتعلم القرآن والتوجيه وعمل الدوريات وجمع المعلومات الاستخبارية قبل العملية. واطلع زوجته على زياراته للقرى العربية في شمال البلاد ومركزها وكيف دخل المساجد وأقام العلاقات والشبكات وجس نبض الناس واطلع المسؤولين عنه على كل ذلك.
سافر كوهين بضع شهور قبل حرب الـ 48 الى بيروت لإقامة خلية لجمع المعلومات. ويذكر حوفي بأنه التقى بكوهين في حيفا واصفاً ذلك: "كان لقاء غريب جداً لقد ارتدى بدلة رسمية فاخرة وعرف أحدنا الآخر على الفور، شعرت بأنني لا يجب أن اتوجه اليه وفعلاً ظني كان في مكانه فقد انتقل كوهين الى الجهة الثانية من الشارع ولم ينظر إلي. فهمت أنه كان في مهمة سرية، واستوعبت لماذا تركنا واختفى".
وصل كوهين الى بيروت متقمصاً شخصية لاجىء فلسطيني من عائلة محترمة. حجز غرفة في الفندق وانتقل فيما بعد الى السكن مع عائلة مسيحية في منطقة فرن الشباك التي يسافرون عبرها الى دمشق. وكان يخرج يومياً ويتجول في شوارع بيروت لكنه تجنب الأحياء التي سكن فيها يهود خوفاً من أن يعرفه أحد.
ورجع الى البلاد بعد شهر واحد وطلب من المسؤولين 600 ليرة لبنانية من أجل استئجار دكان للملابس، وكان قيمة هذا المبلغ آنذاك كبيرة جداً. واقام هناك وبحذر شديد الشبكة في لبنان. كل ما تعرفه زوجته عنه هو ما اطلعها عليه وما قرأت من أقواله في الصحف. لم يكن ثرثاراً.
لقد فشل في بيع الملابس، فقام بشراء صفقة ملابس عصرية لكن أهل الحي محافظون وقسم منهم متدينون. فحول المكان الى دكان للحلوى ومن ثم الى مصنع حلوى صغير. انضم اليه في تلك الفترة كل من كارميلي ويتسحاق شوشان وحفقوق كوهين لاحقاً.
كان لكل واحد منهم عمله، واحد عمل مع كوهين في الحلوى، وآخر سائق تاكسي. وبعثوا كل يوم تقارير عن مواقع عسكرية وعن ميناء بيروت ومعسكرات جيش وعناوين شخصيات لبنانية مشهورة. وقد تشعبت علاقات كوهين وتطورت حتى شقيق رئيس لبنان في تلك الفترة، بشارة الخوري.
*مصادر اسرائيلية
===============================================
القصة الكاملة للجاسوس عدنان ياسين
كان الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في مكتبه في شارع يوغرطة في أحد أحياء العاصمة التونسية حين اتصل به الرئيس زين العابدين بن على صباح يوم الاثنين 25 أكتوبر 1993 طالبا منه رفع الحصانة الدبلوماسية عن"عدنان ياسين" الذي يحمل صفة رئيس شعبه في سفارة دولة فلسطين في تونس بسبب ضلوعه في قضية تجسس خطيرة . وعندما استفسر عرفات من بن على عن الموضوع وافق على الفور وأبدى كل استعداد للتعاون. فقال بن على أن وحدات خاصة من الشرطة ستتوجه علي الفور إلى مقر السفارة فلسطين في شارع باستور . وفي منتصف الطريق تقدمت باتجاه السفارة أربع سيارات مدنية ترجل منها رجال أمن بلباس مدني طوق بعضهم مبني السفارة و دخل البعض الأخر حيث كان عدنان يجلس في أحد مكاتبها في الطابق الأرضي ولم يكن أحد في المكتب يعرف أسباب اعتقال المسؤول الفلسطيني ومع رويات كثيرة ترددت عن أن سبب اعتقاله هو تجارته بالعملة المزورة و مصادرة مخدرات من منزله إلا أن عمليات تفتيش دقيقة للسفارة,ولمنازل عدد من القادة الفلسطينيين ومنزل "عدنان ياسين"نفسه ,سرعان ما أخذت أبعادا كبيرة.ولعب نبأ اكتشاف جهازي إرسال ,الأول مثبت في كرسي والأخر في جهاز إضاءة , دوراً في إحداث الصدمة الكبيرة ,لا سيما أن عدنان ياسين ,وحسب قول أحد زملائه في العمل ,كان مسئولا عن أشياء كثيرة ومتشابكة بحكم وجوده في مكتب المنظمة في تونس على مدى 23عاماً وقد تجمعت بين يديه أشياء ومهام متراكمة من إصدار شهادات الميلاد وحتى شهادة الوفاة و الإشراف على تكفين الموتى ودفنهم إلى علاقته بوزارة الداخلية والجمارك ,وما ينتج عن ذلك من معرفته بدخول وخروج كل ضيف على القيادة الفلسطينية سواء كان ذلك في السر أم في العلن....
وفيما كانت عمليات تفتيش المكاتب والمقرات مستمرة ,كان الرئيس عرفات يدقق في تقارير أولية وصلته عن نشاط عدنان ياسين من أجهزة الأمن التونسية وكان من بين الأشياء التي تسلمها تسجيلات لمكالمة هاتفية .كان عدنان يجريها مع "حليم الصاوى "ضابط الاتصال المصري الأصل الذي كان حلقة اتصال بين عدنان و المقر الرئيسي لجهاز الاستخبارات الإسرائيلية "الموساد" في إسرائيل ,وكان حليم قدم نفسه لعدنان حسب اعترافاته للجنة التحقيق التي شكلت من حكم بلعاوي"وزير الداخلية الفلسطيني حالياً",وعبد الله الإفرنجي سفير فلسطين في ألمانيا ,واللواء أمين الهندي رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية الحالي,والساعد الأيمن للشهيد أبو إياد, ,ومجيد الآغا محافظ رفح حالياُ. بأنه رجل أعمال وعرض عليه المساعدة أثناء وجوده في باريس لمتابعة علاج زوجته المصابة بمرض السرطان وسنحت ظروف تواجد الاثنين في فندق ميرديان الباريسي لتبادل الأحاديث في قضايا عامة عرف من خلالها حليم الصاوى أن عدنان في مكتب المنظمة.و في إحدى السهرات طلب عدنان من حليم مساعدته لإيجاد وظيفة لابنه الذي يتابع دروسه في ألمانيا.
****عملية قبرص
ومع تردد عدنان حسب ما يقول في اعترافاته ,نجح حليم في تجنيده للتجسس لمصلحة خلف شمال الأطلسي وليس الموساد, وكانت المعلومات التي طلبت منه في بداية الأمر معلومات عامة انطباعات أكثر من كونها تقارير . وقال عدنان أن تجنيده تم في عام 1990.
وتؤكد المخابرات الفلسطينية أن عدنان ياسين لعب دوراً بارزاً في إعطاء معلومات لجهاز الموساد لاغتيال ثلاثة قادة بارزين في قبرص وهم (أبو حسن محمد بحيصي ، حمدي سلطان ، مروان كيالي ) بعد أن غادروا تونس متوجهين إلى قبرص للإشراف على تنظيم عدد من الخلايا العاملة داخل الأراضي المحتلة ، وقد أعتبر اغتيالهم في حينها بأنه من أبرز الضربات الموجعة التي تلقاها جهاز القطاع الغربي داخل حركة فتح ، ولم يستبعد مسئول في اللجنة المركزية لحركة فتح أن يكون نشاط ياسين لمصلحة الموساد امتدت سنوات طويلة .
وأن عدنان ياسين لم يكن ليصل إلى هذا المستوى من التعامل مع الموساد على استعمال أجهزة متطورة وحبر سري ورسائل بالشفرة لو لم يكن مر قبلها في مراحل عدة .
ولهذا فان ربط اسمه بقضايا أخرى مثل اغتيال" عاطف بسيسو " رجل الامن الأول والابن المدلل للرئيس عرفات ، والذي وصفه الرئيس ياسر عرفات برجل الامن القومي ، والكشف عن زيادة جورج حبش لفرنسا واغتيال (أبو جهاد خليل الوزير ) ليس مستبعدا ، لانه كان من القلائل جداً الذين يطلعون على تحركات المسئولين الفلسطينيين بحكم إشرافه ومعرفته بأسماء المسافرين ورحلاتهم .
ويتذكر مسئول في اللجنة المركزية لحركة فتح أحد الاجتماعات التي عقدتها اللجنة ويقول : أن عرفات قال للمجتمعين أن دنيس روس الموفد الأمريكي الخاص بمفاوضات السلام طلب منه عقد الاجتماع في مقر السفارة الامريكية أثناء زيارته الأخيرة لتونس بسبب وجود أجهزة تصنت ، إلا أن أعضاء اللجنة المركزية وخصوصا الرئيس عرفات رفضوا عقد الاجتماع في السفارة نظرا إلى ما يتضمنه ذلك من معان ، واستنتج المسئولون الفلسطينيون إن الأمريكيين على علم بعمليات التجسس التي تقوم بها المخابرات الإسرائيلية منذ زمن ، ولكن منذ أن وقعت المنظمة الاتفاق مع إسرائيل . رأى المسئولون الأمريكيون أنه يجب وضع حد لهذا النشاط.
وكشف عبد الله الإفرنجي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح وعضو لجنة التحقيق وسفير دولة فلسطين في ألمانيا ، بعض الاعترافات التي أدلى بها ياسين في الأيام الأولى من اعتقاله ، حيث قال : إن اعترافات ياسين الأولية ثغرات كبيرة فهو حاول أن يقلص الفترة التي عمل فيها لمصلحة الموساد ، إذا قال أنها تعود إلى ثلاث سنوات فقط ، وهي تاريخ انتقلت زوجته للعلاج في باريس وتعرفته على حليم الصاوي . وواضح أن حجم المعلمات التي أدلى بها ياسين حتى هذه الفترة ليس قليلاً فهناك جواسيس لم يتم اكتشافهم في ألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا وحتى في دول عربية على رغم أننا نعترف بأنهم نجحوا في تجنيد عناصر جديدة .
** معلومات سياسية
واوضح الإفرنجي أن تزويد ياسين بأجهزة إرسال وتسجيل لوضعها في مكتب السيد محمود عباس الذي يشرف على ملف المفاوضات مع إسرائيل . يعني أن ياسين بعيد بشكل أو بآخر عن مصادر المعلومات . ولهذا لا نريد أن نقلل من أهمية عملية الكشف أو نبالغ في حجم الدور الذي قام به . لكن الأكيد أن حرص إسرائيل على الحصول على تفاصيل موقف المنظمة من المفاوضات من خلال استماعها إلى ما يجري من حوارات في مكتب أبو مازن آنذاك . يعني أن إسرائيل لا تنوي تنفيذ عمليات اغتيال بقدر ما هي حريصة على معرفة تفاصيل الموقف والتوجهات الفلسطينية في عملية السلام . وذكر الإفرنجي أن ياسين سلم الكرسي وجهاز الإضاءة في مكتب أبو مازن في 3 أكتوبر سنة 1193وان اكتشاف عملية التجسس لم يستغرق أكثر من ستة أسابيع بفضل الحذر التونسي والفلسطيني وعمليات الكشف الدوري على مقرات ومكاتب منظمة التحرير وأجهزتها المختلفة . ونفي الإفرنجي أن تكون المخابرات الألمانية أو الفرنسية زودت الحكومة التونسية أو جهاز الأمن الفلسطيني بأية معلومات عن نشاط ياسين.
** محطة الاستقبال ومطاردة عدنان ياسين للقائد الأمني عاطف بسيسو في باريس :
وعن حجم جهاز التصنت والإرسال الذي عثر عليه في كرسي أبو مازن قال : الإفرنجي أن بطارية الجهاز من النوع المتطور وهي صالحة لمدة 5سنوات وثبت باتجاه محطة استقبال مزروعة في الأراضي التونسية . الأمر الذي يثبت وجود أشخاص آخرين قد يكون ياسين على معرفة بهم . كما أن جهاز الإضاءة الذي كان موضوعا على مكتب أبو مازن يحتوي على جهاز تسجيل تتم تعبئة بطاريته بشكل أتوماتيكي بحكم توصيل السلك الكهربائي في المكتب . وقال عضو لجنة التحقيق الفلسطينية أن مهمة عدنان الرئيسية كانت وضع الأجهزة في المكان المناسب . ولم يستبعد الإفرنجي إن يكون لياسين صلة باغتيال عاطف بسيسو القيادي البارز في الأمن الفلسطيني والذي اغتاله الموساد في باريس في فندق ميرديان وهو الفندق الذي تعرف فيه ياسين على ضابط الاتصال حليم الصاوي . ومما قاله الإفرنجي أن عدنان التقى بالشهيد عاطف بسيسو في فندق الميرديان في فندق الميرديان قبل عام من اغتياله وانه خلال الفترة التي كان يتواجد فيها الشهيد عاطف في باريس قبل اغتياله بأيام كان على اتصال بعدنان في تونس ليساعده على إدخال سيارة له اشتراها من فرنسا وذلك بحكم اختصاص عدنان وصلاته بالجمارك والسلطات التونسية المعنية.
واعترف الإفرنجي بحجم الإمكانات الهائلة التي يستخدمها جهاز الموساد ، وقال إن أجهزة للتصنت والتجسس تم العثور عليها إلا إنها لم تكن بأهمية الجهاز الجهاز الذي زرع في كرسي أبو مازن ، وقال : أن ياسين اعترف بأن الموساد طلب منه تقديم وثائق مختلفة . لكنه كان يعجز عن ذلك بعد أن تقلصت صلاحياته في العاميين الماضيين لاسباب مسلكية تعود إلى إدمانه الكحول الأمر الذي أكده حكم البلعاوي.
ويؤكد مستشار مقرب من الرئيس ياسر عرفات أنه لم يعثر على أي جهاز تصنت في مكتب عرفات أو في أي من المقرات التي يتردد عليها. وأكد أن الكرسي المجهز وجهاز الإضاءة وأشياء أخرى وصلت إلى تونس في اليوم الذي تم فيه توقيع الاتفاق الفلسطيني الإسرائيلي . ووفقا لاعتراف ياسين فانه لم ينشط سوى في الأشهر الأخيرة وأبرز إنجازاته التجسسية وضع الكرسي وجهاز الإضاءة ونقل ياسين قوله للمحققتين انه لم يستعمل الحبر السري الذي أعطي له على الاطلاق وتقول شخصية فلسطينية مطلعة أن جهاز ياسين الهاتفي وضع تحت المراقبة من قبل جهاز الأمن التونسي قبل أكثر من شهرين من اعتقاله ، ولدى اعتقاله اسمعه رجال الامن صوته وهو يتحدث على الهاتف مع ضابط الاتصال . الأمر الذي دفعه فوراً إلى الاعتراف وطلب معاملته كضابط في الموساد وعدم تسليمه إلى منظمة التحرير.
**30 ألف دولار فقط
ووصل حجم الأموال التي تلقاها ياسين في السنوات الثلاث الماضية قبل اعتقاله إلى حوالي 30 ألف دولار وهو مبلغ زهيد قياسا ً مع نوعية الحياة التي كان يعيشها في تونس وحجم الأموال التي يتلقاها من المنظمة لدفع نفقات علاج زوجته .ويعرض مسئول كبير في جهاز الامن الإسرائيلي تصورا لنشاط ياسين التجسسي فيقول:انه لابد أن يكون قطع مرحلة متقدمة في العمل لمصلحة الموساد واجتاز اختبارات من النوع الذي تلجأ إليه الاستخبارات الإسرائيلية لمعرفة ما إذا كان العميل يعمل لمصلحة جهة أخرى. ولاختبار صدقه في تعامله معها ، كما أن استعمال الحبر الكربوني السري وأجهزة التصنت والتدريب على استعمالها يستوجب المشاركة في دورات خاصة . حتى ولو كانت قصيرة ومتقطعة . وقال انه عثر في منزل ياسين على أقلام للحبر السري وأربعة أقلام تصنت عادية.
** هكذا أصبح الجاسوس عدنان ياسين لاجئا سياسيا في السويد:
انه عدنـان ياسين الملقب بـ أبو هانـي ، مـن مـواليد بـلدة السافرية – فلسطين عام 1948. متزوج من ابنة عمه وله منها 3اولاد ، جهاد وهاني وعايدة، كما يشرف على كفالة طفلين لشقيق زوجته الذي استشهد خلال سنوات الحرب اللبنانية . يقيم في تونس منذ عام 1970، انضم إلى حركة فتح عام 1968.
لقد فاجئنا " سمدارييري" الكاتـب الإسـرائيلي عندمـا أعلن بتاريخ 3/1/2004 أن عدنان ياسين حصل على اللجوء السياسي في السويد ولكننا لم نفاجئ عندما يعلن الموساد الإسرائيلي أن الجاسوس ياسين اصبح في إسرائيل .
حلق عدنان ياسين شنبه قبل أن يصعد في نهاية صيف 2003إلى طائرة شركة طيران أوربية متوجها لمحطة جديدة في حياته ، إذا أعد له مسبقا حق اللجوء السياسي في السويد .
نقل عميل الموساد ، والذي كان الجميع على قناعة خلال عقد كامل بأن منظمة التحرير الفلسطينية قامت بإعدامه ، نقل تحت سرية تامة إلى سيارة تابعة للمخابرات الجزائرية نقلته إلى باب الطائرة برفقة اثنين من الحراس وذلك لضمان نقله بسرية تامة ، وحتى لا يستغل طرف ما الفرصة ويقوم باغتياله.
ولا ريب في أن هناك أسباب كثيرة تدعو ياسين البالغ من العمر 56 عاماً الذي كان ينقل لإسرائيل منذ مطلع التسعينات معلومات موثوقة للتخوف على حياته. وقال دبلوماسي إسرائيلي كبير " وجدت وبصورة دائمة إمكانية مهاجر أمني وخصوصا في حالة مثل حالة ياسين ".
** الهجرة ..والسويد
تستوعب السويد سنويا خمسين ألفا من المهاجرين الجد د نصفهم سياسيون وثلث هؤلاء فلسطينيين .
أطلق سراح ياسين من الإقامة الجبرية في منزله التي كان يخضع لها في الجزائر وحصل على جواز سفر جديد وهوية جديدة ، وكانت السويد خيارا ً طبيعياً له .
اختفى ياسين في عنوانه الجديد ، بعيدا عن المدن الكبرى وكما يبدو ستكون هذه محطته الأخيرة قبل أن يكون الموساد بتهربيه إلى إسرائيل في القريب العاجل كما هو متوقع ، بعد جولة طويلة من التنقلات خلال حياته امتدت على ثلاث قارات وسبع دول.
** لماذا لم يتم إعدامه ؟؟؟
هاجر عدنان ياسين من فلسطين المحتلة إلى بيروت وانضم في شبابه إلى منظمة التحرير الفلسطينية ، وترك لبنان متوجها إلى تونس كبقية المقاومين الفلسطينيين ، ولكنه غادر تونس إلى أوربا حيث أغري بالعمل لصالح " الموساد" وبعد اكتشافه أعتقا وأجري تحقيق معه وقدم لمحاكمة مغلقة وحكم عليه بالسجن المؤبد وسجن ثلاث أعوام في تونس ونقل بعدها إلى الجزائر . وفي نهاية المطاف قدمت له حياته كهدية فقط بفضل أنظمة قضائية دولية لم تمكن منظمة التحرير الفلسطينية من إصدار حكم بالإعدام عليه في دوله أخرى.
** اهتمامات الموساد بالجاسوس عدنان ياسين :
لقد طلب الموساد عدة مرات من منظمة التحرير الفلسطينية تسليمها الجاسوس عدنان ياسين , و قد اهتمت بقضيته اهتماما كبيرا و سخرت لها وسائل الإعلام الإسرائيلية , و اعترفت رسميا بأن عدنان ياسين هو رجل الموساد في منظمة التحرير الفلسطينية .و لكن رواياتها تختلف عن رواية المحققين مع ياسين , و إن كانت قريبة نوعا ما .
حيث يقول خبراء الموساد أن ياسين وصل في كانون الثاني عام 1991 برفقة زوجته سميحة إلى مستشفى في فرانكفورت تلقي علاج كيماوي من السرطان الذي أصيبت به زوجته , و كان ياسين يائسا و معنوياته متردية , و تفاجأ عندما التقى طبيبا يتحدث العربية و عرف نفسه لياسين باسم جورج وقال بأنه من أصل لبناني , و اقترح الطبيب إيضاح طابع العلاج لياسين وزوجته و دعاهما إلى الكافتيريا و أجريا معه حديثا هناك , ورغم لغته العربية غير الأصلية ذات لكنة أجنبية لم يشك ياسين بأنه إسرائيلي لأنه أبدى اطلاعا واسعا على كل ما يدور بين الجابين بسرعة كبيرة .و خرجا سويا من المطعم وانضم إليهم أصدقاء جورج ورجال الأعمال " نمر " و " ريكاردو " و" أبو اصطيف " وجميعهم يتحدثون العربية .
و عندما اشتكى ياسين خلال الحديث عن المبالغ الباهظة التي يتقاضاها المستشفى لمعالجة زوجته تجند الثلاثة لتغطية المصاريف و اقترح" نمر" على ياسين إقامة شركة أعمال تجارية مشتركة يعمل فيها ياسين ممثل مبيعات في تونس .
دخل ياسين بعيون مفتوحة إلى فخ العسل وتحول خلال سنوات إلى مصدر معلومات لمستخدميه إذ نقل إليهم بطواعية تامة جدول سفريات كل من الرئيس عرفات و مساعديه أبو مازن وأبو علاء وآخرين , و جميع جدول نشاطاتهم العلنية و السرية و أسماء الإسرائيليين الذين يزورون تونس .
"كان ياسين يحتفظ بقائمة الزوار الأجانب و يعمل على إدخالهم إلى تونس بدون تأشيرات سفر, بما في ذلك الإسرائيليين الذين يصلون سرا إلى تونس " .
(و قد أبلغ الموساد مما دفعهم للطلب منهم أسماء الإسرائيليين الذين يزورون تونس ) .
شكلت العلاجات الطبية الدورية لزوجة ياسين تغطية مناسبة لسفرياته إلى أوروبا , و هكذا تمكن الموساد من معرفة ولادة القتال السري الإسرائيلي الفلسطيني في أوسلو , وحذره "ريكاردو" إذا ألقوا القبض عليك يا عدنان و هذا لم يحدث كما أبلغه ريكاردو قل لهم أن ممثلي مجلس الاتحاد الأوروبي هم الذين طالبوك بتقديم هذه المعلومات .
قام ياسين و بتوجيه من الموساد وبمهمة خاصة بتاريخ 13 أيلول عام 1993 في اليوم الذي تم التوقيع فيه على الاعتراف المتبادل بين إسرائيل و منظمة التحرير الفلسطينية في حديقة البيت الأبيض , إذ استغل غياب أحد قباطنة الحدث الاحتفالي " أبو مازن" من اجل إعداد مفاجأة له إذ أدخل إلى مكتبه قطعتي أثاث جديدتين تم شرائهما من محل صغير في فرنسا .
كان ياسين مسئولا عن إدخال وإخراج الشخصيات الهامة إلى تونس ومعالجة شئون جوازات سفرهم مع السلطات التونسية (بما في ذلك الزائرين من إسرائيل ) و عمل على توفير المعدات المكتبية وصيانة أجهزة التصوير و الفاكسات وآلات تقطيع الوثائق السرية .
و أدرك ياسين بأن المقعد الطبي الذي تم شراؤه من باريس بسعر تنزيلات ومصباح الطاولة الأزرق الذي قدم كهدية إضافة لشراء المقعد سيبديان الفرحة في نفس أبو مازن الذي كان يعاني من آلام ظهر مزمنة , لكن أبو مازن لم يعرف شيئا واحدا , لقد عملت أيادي خفية بالاهتمام بالمقعد قبل نقله إلى الشحن من ميناء فرساي . حيث وضعت أجهزة تنصت حساسة تعمل من خلال جسد الجالس على المقعد , تلتقط كل كلمة تخرج من فمه أو تقال بمحيطه , كما أن المصباح الأزرق لم يعد فقط للإضاءة إذ يؤدي إضاءته إلى تشغيل أجهزة تنصت صغيرة توثق المكالمات وتثبت مضامينها إلى كل مهتم بذلك .
و قد كشف النقاب عن أجهزة التنصت بعد أربعة أسابيع في ظروف محرجة جدا و ذلك عندما زل لسان شمعون بيرس وزير خارجية إسرائيل آنذاك , خلال مباحثات طابا التي أجراها مع أبو مازن و عرض معلومات عن حديث مغلق أجراه الرئيس عرفات مع أبو مازن و أبو غنيم و سارع أبو مازن بتقديم تقريره للرئيس عرفات الذي انزعج كثيرا من التنصت الإسرائيلي . وكان دوما كما أسلفت يقول" على أجهزة الأمن الفلسطينية أن لا تغمض أعينها ، فنهاية مرحلة وبدء مرحلة جديدة لا تعني أن إسرائيل أصبحت طرفا يعتمد عليه".
** ليلة الاعتقال:-
بعد عدة أيام من زلة لسان بيريز وصل تونس طاقم من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (C.I.A ) للتحضير لزيارة وارن كريستوفر وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية سابقاً ، وعندما طالب عملاء( C.I.A) إجراء فحوص دقيقة من أجل منع إمكانية قيام أوساط غير مخولة بنصب أجهزة تنصت في مكتب الرئيس ياسر عرفات طلب أبو مازن منهم فحص مكتبه وقال أبو مازن " كشف النقاب على الفور عن أجهزة التنصت " . ووصل في نفس الليلة ضباط أمن فلسطينيون إلى فيلا ياسين وأعتقلوه هو وابنه هاني .
واختفى الطبيب جورج وكأن الأرض ابتلعته ، كما اختفى رجال الأعمال الثلاثة وأغلق محل الأثاث الصغير في باريس .
وعثر لدى ياسين عند اعتقاله على مبلغ 30 ألف دولار وسيارتين فاخرتين وحساب بنكي كبير ، وتم الحكم عليه بالسجن لمدة 25 عاما كما حكم على ابنه هاني بالسجن لمدة 5 أعوام بتهمة التعاون مع والده ، واتضح بعد فترة قصيرة من ذلك بأن ياسين هو الذي حذر من مخطط اغتيال " إسحاق شامير " رئيس الحكومة الإسرائيلية وذلك من خلال الإسرائيلي " رفائيل ابراهام " الذي زار تونس وتلقى مبلغ 33 ألف دولار مقابل تنفيذ هذه المهمة . واعتقل ابراهام فور نزوله من الطائرة في مطار بن غوريون في كانون الأول عام 1992.
ونقل ياسين إلى سجن فلسطيني في منطقة حمام الشط بتونس وسمح له مرة واحدة فقط عام 1996 بزيارة وداع لزوجته قبل وفاتها بمرض السرطان في مستشفى بتونس . ونقل ياسين سراً إلى الجزائر وتقرر بعد فترة من الزمن البحث عن ملجا سياسي له في أوربا ، ولأدى التدخل الإسرائيلي إلى ضمان استيعاب ياسين في السويد.
==========================================================ضابط مصري يكشف عملاء الموساد الذين يدخلون مصر تحت مظله الحمايه الدبلوماسيه
انه محمود نور الدين واحد من فرسان الظل , الذى عاش ومات دون أن يسمع الكثيرون عنه , وقد يرجع ذلك لطبيعه التنظيم الذى قام بإنشاؤه ..
ومحمود نور الدين دبلوماسي وضابط مخابرات مصرى, قرر الإستقاله من عمله, وإن لم يترك حياه المخابرات بالكامل, إذ لم يكن قرار إستقالته إلا خطوة أولى فى طريق تكوين تنظيم سرى بإسم "ثورة مصر" .. وقد إستهدف التنظيم تصفيه عملاء الموساد الذين يدخلون مصر تحت مظله الحمايه الدبلوماسيه ,وهذا النوع من التجسس (العلنى) إستخدمته المخابرات الإسرائيليه والأمريكيه ضد مصر فى فترات عديدة كان أكثرها ظهورا عام 1985 .
وتوجد العديد من الشواهد والظواهر التى تؤكد تعاون سفراء أمريكا وإسرائيل مع جواسيس علنين أو متخفين فى الداخل, دون أن تستطيع السلطات (الرسميه) المصريه إتخاذ إجراءات ضدهم نظرا لما يتمتعون به من حمايه دبلوماسيه كفلتها لهم القوانين الدوليه ...
عمل نور الدين لمدة 20 عاما في إنجلترا بالسلك الدبلوماسي المصري بالإضافة إلى دائرة المخابرات، وهو حاصل على وسام للشجاعة أثناء حرب أكتوبر 1973.
لكنه قرر بشكل مباغت الاستقالة من عمله بعد أن زار الرئيس السادات القدس المحتلة عام 1977, وركز جهوده على نشر مجلة معادية للسادات في لندن.
وبين عامي 1980 و1983 تعاون نور الدين مباشرة مع صديقه القديم خالد عبد الناصر نجل الرئيس الراحل، وعاد كلاهما إلى مصر في 1983. وخلال ستة أشهر، بدأ نور الدين تنظيمه المسلح السري الذي أطلق عليه "ثورة مصر".
وكان الهدف الرئيسي للتنظيم تصفيه الكوادر الجواسيس العاملين تحت غطاء السلك الدبلوماسي، لكن بصورة غير رسميه حتى لا تقع مصر فى أزمات دبلوماسيه أو ما شابه ...
وبعد عدة عمليات ناجحة، وجد نور الدين نفسه بين المطرقه والسندان ... فمن ناحيه تبحث عنه المخابرات الإسرائيليه (الموساد) بصفته خطرا على عملائها فى مصر, ومن ناحيه أخرى تبحث عنه السلطات المصريه بصفته مهددا لسلامه أشخاص تحت المظله الدبلوماسيه ... كان الوضع صعبا للغايه .. إلا أن رجل المخابرات المحنك لم يتنازل عن هدفه السامى فى إصطياد الجواسيس ...
وهكذا إستمر تنظيم ثورة مصر فى إثارة جنون الموساد بعد عملياته الناجحه الواحدة تلو الأخرى . كان الموساد بكل عيونه وجواسيسه ومحترفيه يفاجأ بضربات نور الدين الموجعه الواحدة تلو الأخرى , وكان إسم تنظيم ثورة مصر يذاع فى وسائل الإعلام مقرونا بعمليات تصفيه للموساد فى مصر منها عمليه قتل مسئول الأمن فى السفارة الإسرائيليه ( زيفى كدار ) الذى أعلن تنظيم ثورة مصر قتله فى يونيو 1985.
وكذلك قتل (ألبرت أتراكش) المسئول السابق عن الوساد فى إنجلترا والذى كان يعمل فى مصر , وتم قتله فى أغسطس من نفس العام , وأيضا الهجوم على سيارة إسرائيليه أمام معرض القاهرة الدولي بمدينة نصر فى العام التالى مباشرة ...
إلا أن نور الدين لم يكتفى بهذا القدر من العمليات , بل إمتد نشاطه ليشمل الأمريكيين , وكان يعلم بحكم عمله السابق فى المخابرات المصريه أن الولايات المتحدة هى حليفه إسرائيل , فإستهدف 3 عاملين فى السفارة الأمريكيه فى القاهرة فى مايو 1987 .
وهكذا دخلت المخابرات الأمريكيه فى دوامه البحث عن تنظيم ثورة مصر وقائدة محمود نور الدين ...
كان الأمر يزداد صعوبه فى وجه تنظيم ثورة مصر الذى تقوم 3 أجهزة مخابرات بتعقبه .. المصريه والأمريكيه والإسرائيليه ...
وكانت المخابرات الأمريكيه على إستعداد لدفع ثروة مقابل أى معلومه عن التنظيم ...
وللأسف جائتهم المعلومات على طبق من فضه ...
كان لمحمود نور الدين شقيق يدعى عصام , كان يعتبر الرجل رقم 2 فى التنظيم , إلا أن عصام إنحرف و إتجه إلى طريق الإدمان ورفاق السوء .. وهدد عصام أخيه نور الدين بفضح أمر التنظيم للمخابرات إذا لم يعطه أموالا ليشترى بها المخدرات , فلم يكن من نور الدين إلا أن أطلق الرصاص على قدمه كإنذار له على عدم الوشايه بالتنظيم ..
إلا أن المخدرات لعبت فى أحد الأيام بعقل عصام , وخيل له الشيطان أن طريقا مفروشا بالورود أمامه إذا قام بالإبلاغ عن شقيقه محمود.
إتصل عصام بالسفارة الأمريكيه فى القاهرة , وما أن قال لعامل الإتصال أنه الرجل الثانى فى تنظيم ثورة القاهرة وطلب موعدا للقاء السفير حتى إنقلبت السفارة رأسا على عقب ...
وفى غرفه مغلقه ضمت السفير الأمريكى وعصام نور الدين ومسئول المخابرات الأمريكيه وأخر من الموساد , وبعد إجراءات تفتيش طويله لعصام , وبعد تكثيف الحراسه على السفارة كما لو أنها حصن حصين , بدأ عصام على مدار الساعات الأربع يشرح للجميع كيفيه عمل تنظيم ثورة مصر ...
كان يشرح لهم كيف يقومون بالعمليات ...
ومصادر التمويل ...
وطرق التنفيذ ..
كل شىء ...
أضاف لذلك قيامه بالإتصال أمام مسئولى السفارة بعدد من أعضاء التنظيم لضمان مصداقيه كلامه , ثم ختم سيمفونيه خيانته لأسرته الكبيرة ( الوطن ) وأسرته الصغيرة ( أخيه ) بتقديم ( نوته ) تحتوى على أسماء جميع رجال التنظيم وأرقام هواتفهم وعناوينهم ....
وفى النهايه طلب عصام من السفير ثمن كل هذة المعلومات الثمينه ...
طلب ثمن الخيانه ...
وكان الثمن نصف مليون دولار وجنسيه أمريكيه ....
وأوهمه السفير ( كاذبا ) بأن كل طلباته ستكون مجابه ...
وسقط تنظيم ثورة مصر فى ساعات معدودة ...
وبدلا من مكافأته، سلم الأمريكيين عصام إلى السلطات المصرية وحوكم وتمت إدانته بـ 15 سنة في السجن، لكن تم فصله عن باقي أعضاء التنظيم بعد ان وسم بالخائن.
وتمت محاكمه أعضاء التنظيم, وشملت التهم الموجهة إليهم:
1. القيام بأنشطة عرضت علاقات البلاد بالحكومات الأجنبية للخطر.
2. إغتيال دبلوماسي إسرائيلي في المعادي في 4 يونيو 1984.
3. قتل دبلوماسي إسرائيلي في 20 أغسطس 1985.
4. الهجوم ضد السرادق الإسرائيلي في معرض القاهرة التجاري عام 1986.
5. إغتيال الملحق الثقافي الإسرائيلي وجرح إثنان من رفقاء وزير السياحة الإسرائيلي الذي كان يزور السرادق.
6. محاولة إغتيال دبلوماسي أمريكي في 26 مايو 1987.
وكانت حصيلة العمليات: قتيلان إسرائيليان، ستة جرحى إسرائيليين وأثنين أمريكيين.
وحوكم نور الدين مع 10 من المتهمين، من بينهم خالد جمال عبد الناصر، الذي كان خارج البلاد في ذلك الوقت، وحوكم غيابيا بتهم بتمويل المجموعة وتجهيز الأسلحة، لكن تمت تبرئته وأربعة آخرين.
وتم تصوير المتهمين خلال المحاكمة كإرهابيين ومدمنو مخدرات.
ووضع محمود نور الدين فى السجن ليقضى فيه 11 عاما بعد أن حكم عليه بعقوبة 25 عاما قبل أن يلقى ربه في سجن طره جراء الحمى وبعد أن رفضت سلطات السجن تحويله إلى مستشفى متخصص لإخضاعه لفحوص مدققة لا يمكن أن تجري في مستشفى السجن، طبقا لبيان أصدرته المنظمة المصرية لحقوق الإنسان.
وفي 16 سبتمبر 1998 شيع جثمان محمود نور الدين في وداع مهيب عشية الذكرى العشرون لإتفاقيات كامب ديفيد التي أرست أسس العلاقات المصرية الإسرائيلية، وهي الإتفاقية التي أقسم نور الدين على محاربتها.
وعلى الرغم من الحضور الأمني الواضح والمكثف، هتف المشيعون بهتافات معادية لإسرائيل وأحرق العلم الإسرائيلي خلال الجنازة.
ويبقى أسم نور الدين في الأذهان .. مهما اختلفنا معه .. كبطل
جاسوس عربي يهرب بطائرته الى اسرائيل مقابل مليون دولار
لقد أضفت الدعاية الإعلامية الصهيونية المركزة على العمليات الاستخباراتية الإسرائيلية الأخيرة، أشكالاً أسطورية خارقة رفعت من اسم الموساد، ووضعته على قائمة أجهزة المخابرات في العالم. وكان معنى طلب الـ c.i.a. التعاون والتنسيق، هو الثقة العالية التي يوليها جهاز المخابرات المركزية في الموساد، وفي قدرة رجالها على ابتداع أعجب الحيل، وأشدها غرابة لإنجاز مهام صعبة معقدة.
فعملية اختطاف النازي الأسبق – أدولف إيخمان – من الأرجنتين، وبالطريقة المثيرة التي رسمتها الدعاية، تحير أمامها كبار رجال المخابرات في شتى الأمم، واعتبرت العملية لغرابتها ولدقة الرصد والتنفيذ والتمويه، عملاً مخابراتياً عبقرياً لا ترقى أجهزة الاستخبارات الكبرى لمستواه.
لكل هذه الاعتبارات، كان مائير عاميت يدرك مدى ثقة رجال المخابرات الأمريكية بالموساد، وحاجتهم اليها في الوصول لأسرار الميج 21، ونظراً للتعاون الوثيق بينهما وتشابك المصالح والاهتمامات، فقد كانت الرغبة مشتركة يحدها هدف واحد، وإيمان عميق بالأمن والتفوق.
وفي مكتبه بضاحية لانجلي [8]، استقبل جون ميكون ضيفه – عاميت – بحفاوة، وأطلعه على تقرير السفير الأمريكي في بغداد، عن رغبة الحكومة العراقية في إرسال ستة عشر طياراً حربياً لأمريكا، لنيل دورات تدريبية في زيادة الكفاءة وقيادة التشكيل، وقال لعاميت بأن الطيارين العراقيين سيتدربون لأربعة أشهر في قاعدة تكساس الجوية، وأن وصولهم للبلاد سيكون في مستهل العام الجديد، 1965.
وأوضح ميكون، أنه اقترح لتدريبهم قاعدة تكساس [9] بالذات لدواع أمنية تساعد كثيراً على استقطاب أحدهم وتوريطه. ولما أطلع عاميت على قائمة أسماء الطيارين، قرر العودة على الفور لإسرائيل لجمع المعلومات عنهم، من خلال ما يتوافر لديهم من معلومات، ومن خلال عملائهم ببغداد.
وبرغم برودة الطقس في ديسمبر 1964، كانت الحرارة مرتفعة بشرايين الموساد، فتذيب جليد الجمود في أجهزة الكمبيوتر الحديثة التي طورها "بنمان" [10] وخصصت حجرة خاصة لبعضها، حوت ملفات دقيقة عن الطيارين العرب في مصر وسوريا والعراق.
الزلزال
منه تولى عاميت قيادة الموساد، وكان يضع آمالاً كبيرة في جاسوسين لإسرائيل في كل من مصر وسوريا، وقد كانا وقتذاك في أوج نشاطيهما التجسسي في خدمة الصهيونية، داخل أهم بلدين عربيين يهددان أمن إسرائيل ويطوقانها.
ففي مصر . . زرع وولفجانجد لوتز ، وبواسطة الساتر الذي اتخذه لنفسه – تربية الخيول وتعليم الفروسية – تغلغل داخل طبقات المجتمع الراقي، ووطد علاقاته ببعض ضباط الجيش ورجالات السياسة والدبلوماسيين، وبمعاونة زوجته "وولترود" في التجسس، استطاع أن يمد الموساد بمعلومات حيوية خطيرة، وأن يسهم بشكل ملحوظ، في عملية إرهاب العلماء الألمان في مصر، وكان بحثه دءوباً لتصيد طيار مصري، وعلى مدى خمس سنوات في القاهرة، فشل في ذلك فشلاً ذريعاً، وكانت إجاباته دائماً: "إن الطيارين المصريين من الصعب اقتحامهم واللعب بعقولهم، فهم يحيون حياة معيشية رغدة، ويعاملوا باحترام زائد يفوق الوصف".
أما في سوريا . . فكان هناك إيلي كوهين الجاسوس الداهية الذي أطلق عليه في إسرائيل "سيد جواسيس الموساد". كان إيلي كوهين أيضاً على اتصال بالضباط السوريين وبقيادات عليا في قصر الرئاسة، على رأسهم الرئيس السوري اللواء أمين الحافظ.
وطوال ثلاثة أعوام وثمانية أيام في دمشق، صادفه أيضاً الفشل في الإيقاع بطيار سوري، يقبل الهرب بطائرته الميج 21 لإسرائيل. . وساق لرؤسائه في الموساد الأسباب نفسها التي ساقها لوتز. . وكان ذلك الأمر يؤرقه كثيراً. .فقد وصلت ثقته بنفسه في سوريا الى درجة الهوس.. تلك الثقة التي هي دائماً مكمن الخطر. .وعلاممة لقرب لحظة السقوط.
أما في العراق. . فبرغم ازدياد النشاط التجسسي الإسرائيلي، واجه عملاء الموساد في بغداد صعوبات كبيرة في تجنيد طيار عراقي . .وكثف "عزرا ناجي زلخا" ) – أكثر جواسيس الموساد دموية – جهده لذات الغرض بلا فائدة. . لكنه أمد إسرائيل بما لم تحلم به أبداً أو تصدقه، فقد استطاع الحصول على معلومات وصور وخرائط لشبكات الصواريخ العراقية، ومرابض الطائرات الحربية وعنابرها، وعبأ كيساً بالخلطة الأسفلتية للمرات، بخلاف الوثائق واللوحات الهندسية للقواعد الأرضية والجوية، وهجّر أكثر من مائة وأربعون يهودياً الى إسرائيل عبر إيران.
وحين عاد مائير عاميت الى تل أبيب، يفيض بهجة ونشوة، صفعته الفاجعة ومادت به الأرض، وتقوض منبع الأسرار الذي كان يتدفق من دمشق.
ففي الثامن عشر من يناير 1965، سقط إيلي كوهين في قبضة أحمد السويداني مدير فرع المخابرات السورية، وارتطمت آمال الموساد بالخوف. فها هو سيد الجواسيس في الأغلال، وها هي ناديا كوهين – زوجته – تصم صراخاتها الآذان، فيهرع إليها بن جوريون وكبار رجال الدولة، وهزت المأساة إسرائيل هزاً من الأعماق، فأمين الحافظ الذي خدعه كوهين كان على قمة السلطة في سوريا، وحتماً سينتقم لكرامته.
لذلك نسى عاميت – مؤقتاً – أمر الميج 21 وانشغل بإيلي كوهين، وبجواسيس الموساد الآخرين الذين بثوا رسائلهم المليئة بالخوف والهلع، وكان على عاميت ورجاله مسؤولية تهدئتهم، وتسكين روعهم. فسقوط جاسوس يصيب زملاءه الآخرين في ذات البلد بالرعب، وهذا مدعاة لأن يعرضهم للسقوط السهل السريع.
ومع المحاولات الدولية العديدة لإنقاذ كوهين، رفض السوريون مجرد مناقشة الأمر، وطرد وزير الداخلية السوري من مكتبه أحد المسؤولين الدوليين، عندما تقدم بعروض مغرية مقابل إنقاذ رقبة كوهين.
كانت سحابات القلق تخيم على الموساد، وتتوالى الرسائل الى سائر العملاء تأمرهم بالتوقف عن العمل، وتوخي الحذر واتباع وسائل الأمن لحماية أنفسهم، لكن يبدو أن بعضهم فقد أعصابه، وأصبح عرضة للسقوط المدوي، السريع.
وبدلاً من أن يزف رئيس الـ c.i.a.، جون ميكون، لنظيره عاميت، قرب وصول الطيارين العراقيين في 18 فبراير، أخبره عن كارثة سقوط جاسوسين سوريين ، يعدان من أمهر رجالهم في دمشق، وكانت الضربات المتتالية تزيد عاميت تآكلاً، وهو الذي يبحث عن ضربة هائلة، تصنع له تاريخاً في الموساد، كما فعل إيسير هاريل من قبله.
لكن عاميت لم يكن يدري ما تخبئه له الأقدار، وكانت تنتظره "ضربة" بالفعل، سحقت بقية ما لديه من جلد، وجرفته الى جُب مظلم عميق يأخذ بمجامعه.
فبعد خمسة وثلاثون يوماً فقط من سقوط إيلي كوهين، وفي 22 فبراير 1965، سقط وولفجانج لوتز في القاهرة ومعه زوجته، وسبقطوهما تسقط أيضاً عزيممة جواسيس بنو صهيون في كل مكان، وتغوص إرادتهم الى الحضيض، ويستدعي رئيس الوزراء عاميت ويوبّخه بشدة، ويتهمه بالكسل والغباء، واصفاً إياه بأنه شتينكزم جدير بالازدراء، ويبدي ليفي أشكول ندمه الشديد لأنه وثق به، مهدداً صراحة بطرده كالكلب الأبرص والمجيء بإيسير هاريل ثانية مكانه.
لم يكن عاميت يكره أحداً أكثر من هاريل، إنه الخصم اللدود الذي يتربص به، ويتحين الفرصة للانقضاض عليه في أية لحظة، وها هي الضربات المؤثرة تتلاحق، وتكاد تعصف بمستقبله، وتعجل بالاستغناء عن خدماته، ليضيف هاريل مجداً جديداً الى أمجاده، ويسطع نجمه من جديد في الآفاق، فيثوب عاميت غيظاً وغضباً، وهو يكاد يفقد عقله، واتزانه.
لذلك .. أسرع يائساً مهموماً الى صديقه ميكون، المهموم أيضاً، يتلمس عنده بعض الأمل، ويتدارس مع مساعده، رأى كلاين، خطوات العملية 007، خاصة وقد وصل الطيارين العراقيين لأمريكا بالفعل، يحيط بهم سياج من الأمن العراقي، المستتر في هيئة طباخين وإداريين.
هذه المرة. . عاميت الى تل أبيب، يحمل صورة فوتوغرافية لكل طيار عراقي من أعضاء البعثة، وملف متكامل عن كل واحد منهم، فيختصر بذلك مساحة واسعة من الوقت في البحث والدراسة والتحليل.
وفي واحدة من أشرس المعارك السرية التي خاضها عاميت، عزم على اللعب بكل الأوتار، والسبل، وما كان يملك من هذا ولا ذاك سوى لعبة واحدة.. أجادت الموساد استخدامها وكانت نتائجها مدهشة.
إنها لعبة الجنس، فلا شيء سواها يلين لها الحديد وينصهر، فنساء الموساد الفاتنات في انتظار إشارة البدء، بعدها يطبقن نظريات الإثارة التي أجدنها، واحترفنها بمهارة تفوق الوصف، وكان المطلوب أولاً مراقبة الطيارين العراقيين في أمريكا، وملاحظة سلوكهم، واختيار اثنين منهم فقط يتم التركيز عليهما، والدفع بصواريخ بشرية تفجر فيهما المقاومة، والإرادة، وتنزع منهما جذور خلايا العقل والرشاد.
وبعد دراسات تحليلية ساعد على بنائها خبراء متخصصون، نتيجة مراقبات دقيقة للطيارين العراقيين، استقر الرأي حول ثلاثة منهم، هم:
• النقيب طيار شاكر محمود يوسف . .
وكان مغامراً، ينتهز أجازاته لتصيد الفتيات في أماكن اللهو، ويعشق الجنس الى حد الإدمان، بالرغم من زواجه في بغداد. لهذا السبب وقع الاختيار عليه، لكونه صيد سهل امتلاكه.
• الملازم أول طيار حامد ضاحي. .
وكان متديناً خجولاً لا يصاحب الفتيات. .ولا يقيم علاقات جنسية . .لكنه لم يكن انطوائياً منعزلاً.. بل كان يرتاد البارات ونوادي الليل وإن كان لا يشرب الخمر.
وقع الاختيار عليه أيضاً لأنه يفتقد الى الخبرة في العلاقات الخاصة، ويسهل تطويعه بواسطة فتاة رومانسية حالمة.
• النقيب طيار منير روفا. .
وهو الطيار الوحيد المسيحي بين الطيارين العراقيين، وكان على رأس القائمة في بداية الفرز الأولى، بسبب سهولة استغلال لعبة العقائد والأقليات في عالم الجاسوسية. . لكن لوحظ انكماشه الملفت وملازمته للقاعدة الجوية حتى أنه لا يغادرها في أجازاته الأسبوعية، والتصاقه الدائم بقائد البعثة لكي يحظى بتقرير ممتاز في السلوك، مما يمنحه فرصاً أكبر مستقبلاً في الميزات والترقي.
وظل منير روفا المطلوب رقم واحد لوقت طويل، لكن لما فشلت تقريباً كل الفرص المتاحة كي يتحرر روفا بعض الشيء، أو يبتعد عن الرقابة المفرطة التي تحاصره، استبعد من القائمة، وانحصر الاختيار في النهاية على زميليه شاكر وحامد.. وكان أيضاً – كروفا – من طياري الميج 21، حيث يسعى شاكر للحصول على دورة قائد تشكيل، ويتدرب حامد لزيادة كفاءته كقائد طائرة حربية نفاثة.
قصة الجاسوس بيومي .. من اوكار الدعارة الى اوكار الموساد
جندت إسرائيل المواطن اللبناني خميس أحمد بيومي (34 عاماً) ودربته على أن يكون جاسوساً بلا قلب، منزوع المشاعر وحشياً في إجرامه، لتنفيذ سياستها التخريبية في لبنان والضرب بلا رحمة في الصميم. وبدأ دور المخابرات الإسرائيلية في عرقلة التطورات اللبنانية، وقطع خطوط التوافق والتمازج بين لبنان والعرب، باللجوء الى أسلوب شبكات التخريب، حيث رأت أنه الحل الأسرع والأسهل، ذلك لأنها جرّبته كثيراً ونجحت فيه، ولها عشرات السوابق في ذلك أهمها فضيحة 'لافون' وتهديد علماء الصواريخ الألمان وقتلهم في مصر.
تعود حكاية بيومي الى الواجهة مع صدور كتاب جديد يكشف كيف جند 'الموساد' المواطن اللبناني الذي تحول الى 'جاسوس بلا قلب'. وهنا ان اجمع ما نشرته سابقا عن قصة الجاسوس بيومي وعن ما نشر في الكتاب الذي صدر مؤخرا حتى يستطيع القارئ ان يفهم قصة هذا الجاسوس بالتفصيل .
فى إحدى البنايات المطلة على البحر مباشرة في طريق بوليفار، ولد خميس لأسرة ميسورة وافرة العدد، فوالده مقاول كبير يملك مكتباً فخماً يموج بعشرات الإداريين، وفي محيط هذا الثراء عاش مدللاً مرفهاً ومنعماً، لا يعلم من أمر الدنيا سوى اللهو والسهر في مقاهي بيروت وصيدا برفقة من يماثلونه ثراء، فقضى سنين عمره بحثاً عن المتعة ومطاردة النساء، متجاهلاً نصائح والده الذي فشل في الاعتماد عليه في إدارة أعماله، فتركه لحاله يائساً منه، غاضباً عليه، على أمل أن يأتي يومٌ ويفيق إلى نفسه.
لكن أمله لم يتحقق في حياته، إذ مات الوالد فجأة في حادث سيارة، وتبين لأسرته أنه مدين بمبالغ طائلة للبنوك، وأفاق خميس على واقعه المؤلم وقد صفعته الصدمة وزلزلته الكارثة، خصوصا وقد تهرب منه أصدقاء السوء فوجد نفسه فجأة العائل الوحيد لأمه وإخوته الستة، وكان عليه أن ينبذ ماضيه ليقيهم مرارة الفقر والعوز والمعاناة.
عمل خميس اختصاصياً للعلاج الطبيعي في أحد مراكز تأهيل المعوقين في صيدا، وبعد مرور أربع سنوات في العمل، اكتشف أنه مثل الثور الذي يجر صخرة يصعد بها إلى الجبل، وفي منتصف المسافة تنزلق الصخرة، فيعاود الكرة من جديد من دون أن يجني سوى الشقاء، لذلك كره نفسه وواقعه، وفكر فى الهجرة إلى كندا وبذل جهداً مضنياً لكن محاولاته فشلت، فخيمت عليه سحابات الغضب واليأس، وانقلب إلى إنسان عصبي وعدواني، وأصبح مخلوقا ضعيفا عاجزا عن المقاومة وسط حالة الفشل التي تلفّه من الجهات كافة.
- في شباك الجاسوسيّة .
ذات صباح التقى خميس بسيدة أرمينية مسنّة، جاءت لتسأله عن إمكان عمل علاج طبيعي لابنتها المعاقة في المنزل، وأعطته العنوان لكي يزورها بعدما أطلعته على التقارير الصحية التي تشخّص حالتها. وجد خميس في حديثها وملبسها علامات الثراء، فزار منزلها حيث كانت ترقد 'غريس' بلا حركة، طفلة في التاسعة من عمرها في عينيها شعاعات الأسى والبراءة.
ظل خميس مداومًا على زيارتها للعلاج إلى أن التقى بخالها 'كوبليان' تاجر المجوهرات في بيروت، فتجاذبا معاً أطراف الحديث، وقص خميس حكايته مع الثراء وليالي بيروت، وصراعه المرير مع الفقر لينفق على أسرته، وسأله كوبليان سؤالاً محدداً، عن مدى قدرته على الإقدام على عمل صعب بمقابل مادي كبير، فأكد خميس استعداده لعمل أي شيء في سبيل المال.
سافر كوبليان إلى بيروت وقد خلف وراءه صيداً سهلاً، ضعيفاً، يكاد يفتك به قلق انتظار استدعائه، وما هي إلا أيام حتى فوجئ كوبليان بقدوم خميس يرجوه أن يمنحه الفرصة ليؤكد إخلاصه، فهو ضاق ذرعاً بالديون والحرمان ومتاعب الحياة. رحب به عميل الموساد واحتفى به على طريقته، وهيأ له الفرصة لكي يجدد ذكرياته أيام الثراء، ولم يكن الأمر سهلاً بالطبع فسرعان ما انجذب خميس لماضيه، وترسخت لديه فكرة العمل مع كوبليان كي لا يُحرم من متع افتقدها.
كانت آلاف الليرات التي تُنفق عليه دافعاً الى زيادة ضعفه وهشاشته، ونتيجة لحرمانه لم يعارض مضيفه في ما عرضه عليه، وكان المطلوب منه حسب ما قاله، تهديد المصالح الأميركية لموقفها مع إسرائيل ضد لبنان، وضد العرب، ولما أعطاه خمسة آلاف ليرة – دفعة أولى – قال له خميس إنه مع النقود ولو ضد لبنان نفسه.
- مفخّخات ومتفجّرات .
أقام خميس في إحدى شقق بيروت، ينفق من أموال الموساد على ملذاته، وتعهّده ضابط مخابرات إسرائيلي ينتحل شخصية رجل أعمال برتغالي اسمه 'روبرتو'، يجيد التحدث بالعربية، فدربه على كيفية تفخيخ المتفجرات وضبط أوقاتها، وكذلك التفجير عن بعد، وأساليب التخفي والتمويه وعدم إثارة الشبهات.
كانت عملية إعداد العبوات الناسفة من مادة T.N.T شديدة الانفجار صعبة ومعقدة، تستلزم تدريباً طويلاً، خصوصا أن خميس لم يسبق له الالتحاق بالجيش ولا يملك أية خبرات عسكرية تختصر دروس التدريب.
في أولى عملياته التخريبية، أصدرت إليه الأوامر بتفجير السفارة العراقية في بيروت. سكت خميس ولم يعلق، فقد تحسس جيبه المتخم بالنقود. حمل حقيبة المتفجرات بعدما ضبط وقتها وتوجه إلى مبنى السفارة بهدوء وثقة، وغافل الجميع عندما خرج من المبنى من دون حقيبته التي تركها في الصالة الرئيسة خلف قطعة ضخمة، ووقف عن بعد ينتظر اللحظة الحاسمة.
نصف ساعة وملأ الحي دويّ الانفجار، قُتل تسعة بينهم خمسة لبنانيين. عاد خميس إلى شقته لاهثا يلفه الخوف والذعر، ولحق به روبرتو ليجده على هذه الحال، فصفعه بعنف قائلاً إنه يعرض نفسه بذلك للخطر.
وقف خميس مكانه ساكناً شاحباً، فيما انهالت عليه كلمات اللوم والتقريع والسباب، فالسيطرة عليه كانت مطلوبة عنفاً ولينا، ترهيباً وترغيباً، منحاً ومنعاً، وتلك أمور يجيدها خبراء السيطرة والالتفاف في أجهزة المخابرات، وهم أدرى الناس بكيفية التعامل مع الخونة والجواسيس، فهم يخضعون تصرفاتهم وردود أفعالهم وفقاً لنظريات علمية مدروسة ومحسوبة بدقة، وليس لمجرد هوى في النفس، فترويض الخونة في شبكات التخريب أمر بالغ التعقيد والصعوبة.
عندما أذاع التلفزيون حادث التفجير وملأت صور الضحايا والمصابين الشاشة، كان روبرتو يراقب خميس عن قرب، ويدرس تفاعلاته وانفعالاته، وكانت المسألة مجرد تدريب على وأد مشاعره وقتل أية محاولة للرفض أو التمرد، أو الندم.
قصدت إسرائيل من تفجير السفارة العراقية في بيروت إشعال الشقاق بين الدولتين وتأجيج الخلاف بينهما، فالعراق كان يسعى وبشدة الى تقوية أواصر العلاقة بين لبنان والاتحاد السوفياتي، ويؤيد لبنان في خطواته نحو الاتجاه إلى الكتلة الشرقية. قصدت إسرائيل كذلك توجيه الاتهام إلى المقاومة، مما يفقدها التأييد اللبناني والمساندة.
نظراً الى ظروفه السيئة، أُغدقت الأموال على خميس فكفر بعروبته وتحول بعد مدة قصيرة إلى دموي يعشق القتل والدم، بل واستطاع تجنيد لبناني آخر اسمه جميل القرح كان يعمل مدرساً وطُرد من عمله لشذوذه مع تلاميذه الأطفال، فتصيّده خميس وجرّه إلى نشاطه التخريبي، وبارك روبرتو انضمامه للشبكة. لم يستغرق تدريبه وقتاً طويلاً، فبسبب خدمته في الجيش كان أكثر تفهماً لخطوات التدريب، كذلك أعمته الموساد بالأموال أيضاً فغاص لأذنيه في التفجير والتخريب وقتل الأبرياء، فشكل الاثنان معاً شبكة إرهابية هزت عملياتها بيروت.
- صواريخ السيّارات .
في التاسعة من صباح الثلثاء 10 كانون الثاني ( ديسمبر) 1974 وبينما عدد كبير من موظفي مكتب منظمة التحرير في منطقة كورنيش المزرعة، يقومون بأعمالهم اليومية الاعتيادية، هزهم انفجار قوي، تبين أنه حدث في الطابق الأول من المبنى حيث معرض 'ذبيان وأيوب' للمفروشات، وعثر رجال الأمن على سيارة فيات 132 بيضاء اللون تقف على الرصيف المواجه، ووجدوا على سطحها قاعدة لإطلاق أربعة صواريخ آر . بي . جي بلجيكية الصنع عيار 3.5 بوصة، مركّزة على لوح خشبي متّصل بأسلاك كهربائية انطلقت منها الصواريخ.
وسّع رجال الأمن دائرة التفتيش، فعثروا على بعد 65 متراً من السيارة الأولى، على سيارة ثانية من ماركة 'فيات' أيضاً، وعلى سطحها صندوق خشبي آخر تخرج منه أسلاك كهربائية متصلة ببطارية السيارة.
أُخليت مكاتب المنظمة وسكان البناية، وقبيل مجيء خبير المفرقعات، شوهد الصندوق الخشبي يفتح أتوماتيكياً لتنطلق منه ستة صواريخ آر . بي . جي، أصابت مباشرة مكاتب المنظمة وتحطّم واجهاتها ومحتوياتها.
في الوقت نفسه تقريباً، تعرض مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير، والكائن بالطابق الثاني من بناية الدكتور راجي نصر، في شارع كولومباني المتفرع من شارع أنور السادات، لهجوم صاروخي مماثل، إذ انفجرت أربعة صواريخ دفعة واحدة، انطلقت من على سطح سيارة 'أودي 180'، وعثر إلى جانبها على غليون خشبي، وأسفرت العملية عن تدمير القسم الأكبر من مكتبة المركز التي تضم أكثر من 15 ألف كتاب وإصابة الكثير من المواطنين والسيارات.
بعد مرور دقائق عدة من تلك الانفجارات، تعرض مكتب شؤون الأرض المحتلة في الدور الأول من بناية الإيمان لصاحبها جعيفل البنا، والكائنة في شارع كرم الزيتون، لهجوم رابع مماثل بأربعة صواريخ.
كان خميس ذا دور فاعل في التفجيرات الأربعة، يشاركه جميل القرح وثلاثة جواسيس آخرين استطاع القرح تجنيدهم وضمهم إلى الشبكة الإرهابية، وكان أسلوب منصات صواريخ السيارات أسلوباً جديداً لم تعرفه بيروت من قبل، أو أية عاصمة عربية أخرى.
لم يقف الأمر عند تفجير سفارة العراق ومكاتب المنظمات الفلسطينية، بل تعداه إلى ما هو أبعد بكثير، إذ طالت الانفجارات الكنائس والمساجد لإثارة الفتن بين الطوائف، وإظهار عجز رجال الأمن اللبناني عن اكتشاف الجناة، أو إحباط المؤامرات التي تحاك فوق الأراضي اللبنانية.
ولأسباب كثيرة، أولها أن الأجهزة اللبنانية ترى أن التعاون مع أجهزة الأمن الفلسطينية أمر معيب ومسيء لسمعتها، وثانيها، أن الدولة اللبنانية لا تزال تفضّل السياحة على الأمن، والسبب الثالث هو التأرجح ما بين دولة المساندة ودولة المواجهة. كانت شبكة خميس بيومي وشبكات تخريبية عدة أخرى تعمل في لبنان بحرية مطلقة، وينسل أفرادها من بين رجال الأمن كالرمال الناعمة، فأوقعت تلك الشبكات لبنان في مستنقع عميق، وتأزمت العلاقة مع الفلسطينيين بسبب اللامبالاة اللبنانية في مطاردة العملاء ومحاكمتهم.
في تلك الأثناء، كانت سلطات الأمن الفلسطينية ألقت القبض على بلجيكي، بعدما تأكد لها أنه جاسوس إسرائيلي، وأثناء التحقيق معه قامت القيامة واشتد الضغط اللبناني لإطلاق سراحه، فسلموه للسلطات الأمنية مع ملف يحتوي اعترافاته، ليطلقوا سراحه بعد 24 ساعة!!.
- الأمن والهدنة .
أما الذين سُمح للفلسطينيين بالتحقيق معهم، فقد اعترفوا اعترافات كاملة بأنهم عملاء للموساد، وثار الشيخ بهيج تقي الدين وزير الداخلية اللبناني للملاحقة الفلسطينية الدؤوبة للجواسيس الأجانب، واشتدت الأزمة واستحكمت حلقاتها بعد موجة التفجيرات التي هزت لبنان كله، لدرجة توجيه نداء في الصحف يوم الجمعة 27 ديسمبر (كانون الأول) 1974 للذين يزرعون القنابل والصواريخ، أن يعلنوا الهدنة لمدة 48 ساعة تبدأ قبل رأس السنة بيوم واحد!!، تماماً كما حدث في بريطانيا سابقاً مع ثوار إيرلندا، وكتبت الصحف في لبنان أنه أمام عجز الدولة عن إلقاء القبض على أي متهم بزرع القنابل، لا مفر لديها من أن تلجأ إلى عاطفته الإنسانية، وترجوه أن يتوقف ليومين، أما إذا لم يستجب زارعو القنابل لرجاء الحكومة، فلا مانع من إعلان بيروت مدينة مفتوحة لمدة يومين، وليتحمل زارعو القنابل مسؤوليتهم أمام الضمير الإنساني، والتاريخ.
في التاسع من يناير (كانون الثاني) 1975، ألقى رجال الأمن الفلسطينيون القبض على خميس بيومي في شارع كورنيش المزرعة، عندما كان يرسم لوحة كروكية لأحد مباني المنظمة الفلسطينية، وأثناء التحقيق معه استخدم كل أساليب المراوغة والدهاء التي تدرب عليها، واحتاط لأيام عدة كي لا يقع في المحظور، لكن الاستجواب المطوّل معه أصاب مقاومته في الصميم، وتلاشت تدريجياً خطط دفاعاته وهم يلوحون له باستخدام طرق التعذيب معه لانتزاع الحقيقة، فاعترف بكل شيء، وقُبض على جميل القرح الذي مات بالسكتة القلبية قبلما يعترف بأسماء أعوانه الثلاثة الآخرين، أما روبرتو فقد اختفى ولم يُقبض عليه، وتسلمت السلطات اللبنانية بيومي وقدمته للمحاكمة وعوقب بعشر سنوات في السجن!!!.
كيف سقط هذا الجاسوس في شباك الموساد ؟
قصة الجاسوس الذي قتل الطيارالعراقي لرفضه التعامل مع اسرائيل
عندما رآها مقبلة هتف في نفسه: "يا الهي . . من أي سماء أتيت؟ . . ومن أي بطن ولدت؟ . . أمثلك يمشي على الأرض مثلنا ويلوك الشعير ؟؟".
ولكي يفوز بها، اشترط أبوها مهراً غالياً.. خيانة الوطن. فتزوجها. . واستطاعت بأنوثتها الطاغية، أن تجند "جيشاً" من الخونة.
ومثلما قتلت زوجها عشقاً.. وخضوعاً. . قادها هو بنفسه الى حبل المشنقة، ليخنق الحب والجمال . . والحياة.
ويسدل الستار على أغرب قصة حب بين ثعبان وحية. . داخل حجرة الإعدام. . !!
كلهم عيزرا
بانكشاف أمر الدكتور عيزرا خزام وأعوانه، توالى سقوط شبكات الموساد في العراق، نتيجة الخطأ الجسيم في نظام الاتصال بين الشبكات.
ذلك الخطأ الذي أفاد العراقيين، ومكنهم بسهولة من كشف تسع شبكات دفعة واحدة، مما أحدث فراغاً مخابراتياً كبيراً في إسرائيل، بسبب توقف سيل المعلومات عن الحياة المختلفة في العراق.
كان "عيزرا ناجي زلخا" أحد هؤلاء الرؤوس.. واحداً من أشرس الجواسيس وأمهرهم، الذين قادوا الصراع بالأدمغة بين المخابرات الاسرائيلية والمخابرات العراقية. .
فهو يهودي عراقي، ماكر كالثعلب، وديع كالأرنب، شرس كالنمر ذو ألف مخلب، سهل جداً أن يتلون كالحرباء وفقاً للظروف والمواقف، لكنه على كل حال ثعباني الخطر، قلما يفلت مخلوق من لدغته.
ولد عيزرا ناجي زلخا بالموصل شمالي العراق أو يناير 1927، وحصل على شهادة متوسطة أهلته للعمل موظفاً في أرشيف وزارة التجارة ببغداد.
تعرف بمعلمة يهودية اسمها "ملاذ" في المعبد اليهودي، لا تحمل قدراً كبيراً من الجمال، لكنها رقيقة تفيض عذوبة وحناناً. . فأحبها بإخلاص وتزوجا عام 1952، وعاشا معاً هانئين ترف حولهما السعادة، الى أن أصيبت فجأة بالحمى التيفودية التي سرعان ما فتكت بها، ورحلت بعد عام واحد من الزواج، فعاش حياته من بعدها وحيداً، مهموماً، منشغلاً عن متع الحياة بالسباحة في بحر الذكريات.
أشفق عيله نفر من صحبه، وفي محاولة لمساعدته ليخرج من محنته، دفع دفعاً للعمل فترة مسائية بأحد المختبرات الطبية، فاستنزفه العمل ليل نهار، لكنه برغم ذلك، ظل وفياً لزوجته الراحلة، لم يغتنم فرصة واحدة للتجاوب مع اية امرأة أخرى تتقرب اليه.
وفي أحد الأعياد اليهودية، حمل باقة زهور الى قبرها، استند برأسه الى جدار القبر، وهجمت عليه الذكريات كالأعاصير. فاستغرقته تماماً، وتلبد حاله لينخرط في بكاء مرير، حفرت دموعه التخينة أخدودين نازفين على خديه.
التفت فجأة الى صاحب اليد الحانية التي تربت على كتفه، فوجد رجلاً قارب الستين نحت الزمن آثاره على وجهه. جذبه الكهل فمشى الى جواره يقص عليه حكايته، وأحزانه فتأثر الرجل وطالبه بالصبر، وأخذ يقص هو الآخر حكايات ومأثورات ليخفف عنه، ثم حدثه عن نفسه وعن زوجته فائقة الجمال، التي ماتت هي الأخرى في شبابها وهي تلد، فلم يعثر على من تماثلها جمالاً، وعاش بلا زوجة واهباً حياته لابنته الوحيدة التي أنجبها.
كان اليهودي الكهل – واسمه "بوشاط – يعمل تاجراً متجولاً بين أحياء بغداد الشعبية، يبيع بضائعه المختلفة بالأجل، فاشتهر بين النساء الفقيرات اللاتي أقبلن على سلعه، باسمات فرحات بحديثه العذب، ومداعباته الرقيقة لأطفالهن.
وكانت زيارة عيزرا لبوشا لأول مرة. . بداية مثيرة لقصة من قصص الحب، والجاسوسية، والتوحش.
فبوشا التاجر المتوسط الحال، وقع منذ زمن في شرك الجاسوسية، وانضم لإحدى الخلايا السرية التي تعمل لصالح إسرائيل. وكانت مهمته جمع المعلومات عن فقراء اليهود في الأحياء الشعبية، ظروفهم المعيشية، وأعدادهم، وتعليمهم، وحرفهم، واتجاهات الرأي عندهم في مسألة الهجرة. فكان لذلك يكثف من زياراته للأحياء اليهودية ليكتب تقاريره عنهم. ويتردد على القبور لتصيد الأخبار من أفواه المكلومين، دون أن تعلم ابنته بنشاطه التجسسي، أو يحاول هو جرها الى العمل معه.
ذهب عيزرا مطمئناً الى صديقه الجديد بوشا الذي استقبله بترحاب كبير، وصارحه بأنه مغتبط لوفائه العظيم لزوجته الراحلة مثله. ونادى على ابنته، فأقبلت. . أقبلت "روان". . كأنما أقبلت معها رائعات الحياة جميعها، وتجمعت في وجهها الرائق الصافي الساحر.
كالأبله فغر فاه، لا يصدق أن هناك من بني البشر من هي بمثل ذلك الجمال الفتان.
مدت يدها مرحبة بالضيف فارتبك عقله، إذ سلب بريق عينيها النجلاوين ما بقي عنده من إدراك. ومست أصابعها يده فمست فؤاده. . ووجدانه.. حتى النخاع. . وهتف في نفسه:
"يا الهي . . من أي سماء أتيت. . ؟ ومن أي بطن ولدت.. ؟ أمثلك يمشي على الأرض مثلنا ويلوك الشعير .. ؟. . !!"
رجع عيزرا الى مسكنه إنساناً آخر، يشعر في قرارة نفسه بأن ابنة بوشا دحرته، وانتصرت على ذكرى الراحلة. فها هي قدماه تقودانه رغماً عنه الى "روان". وها هو القلب يدق كلما ذكرها في خياله، أو جلس قبالتها، إن شرايينه عادت تنبض بالعشق من جديد، في تحنان وانتعاش، حتى الحياة كلها من حوله، تبدلت فيها الصور. . وتجملت.
زار بوشا ذات مساء وكانت روان بمفردها . . دعته ابنة السابعة عشر للدخول فلبى، وجلس اليها كالتلميذ الغبي البليد الذي يجهل النطق والكلام.
تمنى لحظتئذ أن يصارحها بحبه. أن يضمها بين أحضانه ويدفن رأسه بين شعرها المنسدل كأستار الليل، أن يلثم أناملها وراحة يدها، ويتأمل هذا الوجه الساحر عن قرب.
استجمع جرأته وسألها هل تقبل به زوجاً، ضحكت كطفلة بريئة ملأى أنوثة، وقالت له: إن هذا الأمر بيد والدها لا بيدها، فصارح بوشا برغبته، ولحظتها. . ضحك العجوز ساخراً، وسأله كم ديناراً يملك مهراً لها؟
فأجابه عيزرا بأنه يدخر ألف دينار، ولديه سكناً وعملاً حكومياً، وراتبه يفي بمتطلبات الحياة الزوجية.
قهقه اليهودي الذي يدرك مدى هيامه بابنته، وأخبره أن مهر ابنته الوحيدة عشرة آلاف لا تنقص ديناراً واحداً.
وجم عيزرا العاشق الموله، وغادر المنزل مقهوراً، تسبح روان بدمه وتسيطر على عقله، وفؤاده، وأعصابه.
مرت به ليال طويلة مريرة وهو يفكر ما العمل؟ وصدق حدس بوشا عندما زاره عيوزرا عراضاً ألفي دينار مهراً لروان.
سأله العجوز بخبث عن مصدر الألف الثانية فقال إنه تقدم الى العمل بطلب "سلفة" تخصم من راتبه. ولما رفض طلبه للمرة الثانية، عرض عيزرا أن يستكتبه صكاً بألف دينار أخرى. لكن بوشا وافق أن تكون قيمة الصك ثمانية آلاف دينار.. على شرط.
سأله عيزرا عن شرطه الأخير، فأحكم اليهودي الخبير خنقة الشد، عندما عرض عليه مساعدته في إقناع من يعرفهم من اليهود للهجرة الى إسرائيل، فإن تحديد موعد زواجهما مرهون بمدى ما يبذله من جهد في هذا المجال.
وافق عيزرا على الفور طالما أزيلت عثرة المهر، أما مسألة هجرة اليهود فذاك أمر واجب ولا يعد تضحية في نظره. فالدولة اليهودية كانت عبر إذاعتها العربية، تبث دعايتها ليل نهار بأحقية يهود العالم في أرض الميعاد. وهو كيهودي. . تمنى أن يسافر لإسرائيل ليراها فقط قبل أن يقرر. فالدعاية المضادة في الإعلام العربي، كانت تصف إسرائيل أنها دولة الإرهاب والمذابح، وتصور الحياة بها كأنها الجحيم، وتنشر الكثير من الحوادث المؤسفة، تفضح إدعاءات إسرائيل التي واجهت كل ذلك بالرفض والاستنكار، متهمة الإعلام العربي بأنه يكذب، ويدعي، ويتحايل، لخداع اليهود، والكذب عليهم ليحجموا عن الهجرة.
كانت الحرب الدعائية دائماً في حالة غليان لا يتوقف. وكان إيمان عيزرا ناجي زلخا بقضية الوطن – إسرائيل – مزعزعاً. فهو ما عرف سوى العرق وطناً. . آمناً، يضم عشرات الآلاف من اليهود على أرضه، وينعمون جميعاً بالحرية والأمن.
وتساءل: لما لا تكون إسرائيل صادقة فيما تدعيه؟ أن اليهود عاشوا على أرض فلسطين منذ آلاف السنين، ولهم حق تاريخي في فلسطين. فلماذا يحاربهم العرب؟
ثم ماذا سيخسر ليكسب روان. . ؟ إن مجرد "إقناع" بعض اليهود بالهجرة ليس بالأمر الصعب. فالفقراء الذين سيتكلم معهم، يحسون بالضيق لسوء أحوالهم المعيشية، وقد يروا في الهجرة مخرجاً لهم من أزمتهم . إذن. . ماذا سيخسر؟
هكذا استطاع بوشا اصطياد عميل جديد للموساد، يعمل "مجاناً" عن قناعة . . واثقاً من إخلاصه للعمل، لكي يفوز بابنته الرائعة بعد ذلك. . !!
كانت تعرف
في تلك الفترة التي تأهب فيها عيزرا للعمل. . حدث انقلاب كبير على الساحة العربية. إذ وقع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، واحتلت إسرائيل شبه جزيرة سيناء، وبتدخل الولايات المتحدة انسحبت الجيوش المعتدية.
كان احتلال سيناء أمراً مدهشاً لليهود العرب، فقد ارتابوا كثيراً من قبل في قدرة الجيش الاسرائيلي على مواجهة الجيوش العربية، وتراجعوا عن فكرة الهجرة، ثقة في القوة الرادعة العربية.
أما وقد حدث العدوان واحتلال سيناء ثم الانسحاب – فقد اهتزت الصور . . واعتقد أكثر اليهود فهماً لأمور السياسة، أن العرب فوجئوا بالقوة العسكرية الإسرائيلية.. وهم بلا شك يستعدون، ويتحينون الفرصة المناسبة لضرب إسرائيل والقضاء عليها بعدما أضحت خطراً على المنطقة كلها.
هذا الرأي انتشر كانتشار النار في الهشيم بين اليهود العرب في سائر الأقطار. وبدلاً من الثقة في القدرة اليهودية، انعكس الأمر، وتحول احتلال سيناء الى نكسة مدمرة لاستراتيجية إسرائيل السياسية والعسكرية. . فتراجع أكثر اليهود عن رأيهم، وبالتالي. . أخفقت محاولات كثيرة للتأثير على اليهود وحثهم على الهجرة.
لهذا تعمدت المخابرات الاسرائيلية إذاعة حديث إبراهام دار بطل عملية "توشيا" وهي أجرأ عملية قام بها بتهريب 65 يهودياً من بورسعيد إبان العدوان الثلاثي – وكان المقصود بإذاعة حديثه عبر الراديو لعدة أيام مغزى مخابراتي.
واكب ذلك مقتل تاجر يهودي عراقي بيد لصين اقتحما داره. وأشاع عملاء الموساد أن العملية مدبرة لبث الرعب في قلوب اليهود.
انتهز بوشا حادث مقتل اليهودي لإثارة حمية عيزرا .. وتهيئة المناخ النفسي لإيقاظ حماسته. فانفعل عيزرا بغريزته كيهودي حامل لفيروس الخيانة، وأخلص كثيراً في عمله.
وإن هي إلا شهور قليلة حتى كان رصيده اثنتي عشرة أسرة يهودية، تمكن من إقناعها بالهرب الى إيران.. ومنها الى إسرائيل، ورحلة الهرب كثيراً ما كانت تبدأ من الشمال الشرقي، حيث يقوم فيها بعض العملاء من الأكراد بدور رئيسي وفعال. إذ يقودون الهاربين عبر الجبال والسهول والممرات الوعرة الى الحدود الإيرانية. . حيث يتعهدهم حرس الحدود وضباط الموساد.
هكذا ابتدأ عيزرا العمل، بداخله إحساس بالبطولة، والفخر بقدراته الخداعية التي مكنته من مؤازرة إسرائيل. فاستهوته اللعبة الخطرة المصيرية.. وقطع فيها شوطاً منحه الثقة في ألا يتراجع، لذلك كافأه بوشا بحق عندما زوجه روان.
أيام جميلة وعيزرا في العسل يمتص النعيم مصاً. . ويخوض بحور اللذات سابحة وغرقاً بين أحضان عروسه. ولم تكد تمر فترة وجيزة حتى مات بوشا .. فمات بالتالي الدين الذي صكه.
وأثناء تشييع جنازته، اقترب منه رجل لا يعرفه.. همس له ببضع كلمات واختفى. وعاد الى منزله تشوبه ملامح القلق. وسألته روان عما بداخله فصارحها بأمر أبيها ومعاونته له في تهريب اليهود. "إذن أنت بطل". . هكذا كان تعليقها وهي تعانقه، وتفجر القنبلة التي كان يمسكها بيده عندما قالت: كنت أعرف.
لقد اختصرت الطريق عليه. . وطالما هو بطل في نظرها فكل شيء يهون.
وفي مقهى قاسم جاءه الرجل الغامض. . منحه خمسمائة دينار وطلب منه أن يتلاقيا بعد أسبوع في ذات المكان والساعة.
إنه أحد عملاء الموساد في العراق. مهمته تدريب الجواسيس الجدد، وحصد المعلومات منهم وتجميعها، والربط بين الشبكات.
توالت لقاءاتهما بأماكن مختلفة ببغداد، وأخضع عيزرا لدورات في فنون التجسس. وفي غضون مرحلة قصيرة تعلم الكثير . . وأقبل على مهنته في شغف بالغ وقد تخرج في مدرسة الموساد جاسوساً مدرباً ملماً بهذا العالم المثير العجيب. . عالم الجاسوسية.
لقد انصب عمل عيزرا على تكثيف جهوده لتهريب يهود العراق. . وفي خلال عامين تمكن من تهريب أكثر من أربعمائة منهم الى عبادان عبر شط العرب. وسلك في ذلك أساليب شيطانية أنجحت مهمته، برغم التواجد الأمني المشدد، فأصبح بذلك أمهر جواسيس الموساد في بغداد.
وبينما عيزرا يتقدم في عمله بنجاح، كانت روان مشغولة بأمر فشلها في الإنجاب، يملؤها الحنين الى طفل يضيء حياتها.
وبرغم صمت زوجها وعدم اهتمامه بالأمر، إلا أنها سعت للأطباء واهتمت بالوصفات الشعبية دون فائدة. فأكلها الهم ومزقها الأسى، وحدثتها نفسها أن تفاتح زوجها برغبتها في الهرب معاً لإسرائيل، حيث تدوالت الأقاويل إمكان علاجها هناك.
لقد ظلت كثيراً تقلب هذه الفكرة في رأسها الى أن تشجعت وعرضت الفكرة عليه، فثار رافضاً في البداية ثم عاد وطلب منها الانتظار حتى "يأذنوا" له بالهرب. وانتهز الفرصة وتكلم مع مندوب الاتصال الذي يلتقي به في مواعيد محددة. فطلب منه مهلة ليعرض الأمر على رؤسائه في الموساد.
بالطبع لم يكن من السهل على الموساد أن تسحب عيزرا بعدما اتقن عمله وأجاده بحرفية عظيمة .. فعملية سحب العملاء تخضع لحسابات معقدة أهمها أن تصل درجة ثقة العميل في نفسه الى حد الغرور. . مما قد يوقعه في خطأ فادح يكشفه، نتيجة الثقة الزائدة في قدراته، والاستخفاف بقدرات رجال الأمن في القطر الذي زرع فيه. لم يصل عيزرا الى حد الخوف عليه بعد. فالمنتظر منه لا زال آتٍ بالطريق. . ولا بد من استغلاله و "استهلاكه" قبل الإذن له بالتوقف، أو السماح له بالمغادرة.
جاءه الرد كما كان متوقعاً. . فحزن كثيراً لأجل روان، وتملكه الزهو عندما أعلم بأنه منح رتبة عسكرية في الجيش الاسرائيلي، تضمن له ولأسرته معاشاً محترماً عندما ينتهي من مهمته ويفر الى إسرائيل. وأخضع لدورة تدريبية جديدة لتعلم كيفية استعمال اللاسلكي في الإرسال بعدما سلموه جهازاً لاسلكياً متطوراً. . ولا يمكن رصده بأجهزة تتبع الذبذبات التي لم تكن موجودة أصلاً بالعراق.
بذلك .. وثق عيزرا في أهمية دوره لخدمة مصالح إسرائيل في العراق، فطور كثيراً من مهامه التجسسية لتشمل جمع التقارير المهمة التي يحصل عليها من عمله في وزارة التجارة.
أيضاً نجح في تنمية علاقاته ببعض المسؤولين، وطلب الإذن بتجنيد ما يراه منهم فلم يأذنوا له. وبقدر ذهول مرؤوسيه في الموساد لمهارته في البث اللاسلكي.. أذهلهم أكثر تغلغله داخل فئات المجتمع وإرسال تقارير غاية في الأهمية عن الاقتصاد والزراعة. . وأصبحت المعلومات التي يبثها الى تل أبيب تقيم في الفئة (أ) التي تستحق عن جدارة مكافآت مالية ضخمة اتخمت بها جيوبه وبدلت نظام حياته وإنفاقه.
أشفق عيزرا على حال روان التي انزوت بين همومها بسبب حنينها الى طفل. فعرض عليها من باب "التسلية" مشاركته . . أيضاً. . طمعاً في المزيد من أموال الموساد، وكان المطلوب منها أن تبدي بشاشة لموظف بوزارة الخارجية صادقة أخيراً.
بدت المهمة صعبة في البداية، فهي لم تعرف بعد حدود تلك البشاشة، إذ ترك لها تقدير الموقف بنفسها. . وهذا يعد إذناً لها بأن تمشي في الطريق الى نهايته. .
وطني أكثر من اللازم
حاولت روان ببساطة الأنثى المثيرة التي تعد أمراً. . وبسهولة شديدة أوقعت الموظف المسيحي في حبائلها.. فأوهمته بأنها تحبه، وبأنها أصبحت لا تفكر بالهرب الى إسرائيل من أجل أن تظل الى جانبه.
انزعج "كامل" عند سماع اسم "إسرائيل" ولكي تذهب عقله وتشل تفكيره، أسلمت له نفسها فانزلق بين أحضانها يحسو الخمر نشواناً. . لا ينفك يطلب المزيد والمزيد. وهل امرأة صغيرة رائعة مثلها يشبع منها رجل . .؟ أو يفيق من سكره. . ؟
ففي غيبة الإدراك أعلنها كامل صريحة بأنه معها في أي مكان. . ولو في إسرائيل . . ولما تأكدت من إتمام سيطرتها عليه. . طلبت منه الثمن. . ثمن دخولهما إسرائيل.. فتدفقت الوثائق والتقارير من أرشيف الوزارة السري. . وكلما سلمها عشرات الوثائق الخطيرة ادعت بسخرية تفاهتها.
ومرت بهما الأيام وقل حديثها عن الحب والهرب. . إذ شغل الحديث عن مغامراته لجلب الوثائق كل المساحة بينهما.
لقد أدرك كامل بأنه وقع لأذنيه في بئر الخيانة. . فانغمس غصباً عنه لا يستطيع التراجع أو الخلاص. .
واستلذت روان اللعبة. . والمغامرة، والقتل بسلاح أنوثتها، إنها لعبة مثيرة ترضي غرورها. . وتبعدها عن التفكير في الإنجاب. فانساقت في الطريق وقد استهواها العمل واستغرقها.
أما عيزرا فلم يضيع وقتاً طويلاً في الثناء على شريكته الجديدة. إذ كلفها باصطياد ملازم أول مطار بغداد مغرور ببزته الرسمية وبالسيارة الحكومية التي تذهب به وتجيئه كل يوم.
ولأنه يسكن بالمنزل المواجه. . كان الأمر هيناً جداً. . عندما أشهرت روان أسلحتها الأنوثية الفتاكة في وجهه، فاستسلم. . وتقرب الى عيزرا الذي هيأ له المناخ الصحي للسقوط .. فسقط الشاب الصغير بلا تفكير .. وتدفقت من خلاله المعلومات الأكثر سرية عن المطار، وطائرات الشحن المحملة بالمعدات العسكرية، التي تفرغها بداخل حظائر خاصة تخضع لإجراءات أمنية صعبة، وكذا، وأعداد الخبراء السوفييت والتشيك الذين يتوافدون ويغادرون، والرحلات السرية لطائرة الرئاسة.
معلومات أشد سخونة كان يبثها عيزرا فتثير شهية الإسرائيليين.. وتدهشهم جرأة عميلهم الذي امتلك قلباً من فولاذ . . لا يقهره خوف .. أو يرتجف رعباً إذا ما قرأ بالصحف العراقية عن سقوط جواسيس للموساد أو إعدامهم.
كانت التحذيرات تجيئه آمرة إياه بألا يقرأ تلك الأخبار "الكاذبة" التي يروجها العراقيون. لكنه لم يكن يأبه لتلك المخاوف، بل كان يقرأ ليستفيد من الأخطاء التي أدت لسقوط الجواسيس، فيتجنبها، وتتضاعف بذلك خبراته. . وثروته.. بفضل حسه الأمني. . وبالمعلومات الثمينة التي يحصل عليها بفضل جسد زوجته. خاصة وقد أخبرهم بأمر انضمامها الى العمل.. وقدراتها الفائقة على السيطرة وتجنيد عملاء جدد. فكان ردهم بأنهم يقدرون ذلك. . وأن روان قد تم منحها هي الأخرى رتبة ملازم أول في جيش الدفاع الإسرائيلي . . تقديراً لتعاونها المشرف .. !!
ولأسبابا أمنية بحتة .. اشترى عيزرا منزلاً جديداً من طابق واحد في حي الكاظمية . . كان بالمنزل حديقة خلفية ذات أشجار كثيفة. . وباب يؤدي الى منطقة مهجورة مليئة بالأحراش. . وبواسطة تلسكوب مكبر كان "يمسح" المنطقة المحيطة المؤدية الى منزله قبل خروجه. . أو قبل زيارة عميل مهم.
هذا المنزل تحول الى غرفة عمليات خطيرة.. وتتم فيه عملية السيطرة على من يراد تجنيدهم.
وخلال ثلاث سنوات من انخراط روان في الجاسوسية. . استطاعت وحدها تجنيد ثلاثة عشر موظفاً عاماً في مواقع مهمة. أربعة منهم ضباط برتب مختلفة في الجيش العراقي.. وضابط بأمن المطار. . وستة آخرين يشغلون مناصب إدارية بالوزارات المختلفة. جميعهم سقطوا في قبضة روان بفضل لغة الجسد والإثارة. وتدفقت بواسطتهم أسرار العراق أولاً بأول الى إسرائيل.
وحدث أن نصبت روان شباكها حول طبيب بالجيش يحمل رتبة نقيب.. وكانت خطة استدراجه بواسطة أحد العملاء لتوقيع الكشف على زوجها. إذ تهيأت الحية الرقطاء وبدت كأن الفتنة كلها حلت بذاك الجسد.. فطابت ثمارها شوقاً لقاطفها.
ولما جاء الطبيب الأعزب تسمر مكانه.. وبدا كطفل جائع تتلوى أعضاؤه وترتجف. . فثوبها العريان لم يخف من مفاتنها أكثر مما كشف، وجسدها الأملود كان ينادي: أيها الجائع المبهوت. . هيا . . تذوق اللذات براكين من الفوران. . قناطير من النعيم السرمدي، والقطف.
وكمثل سابقيه. . فقد الطبيب مقاومته وغرق فيها عشقاً وذوباناً . وشوقاً الى الذروة . . فلم تكن تمنحه إلا بمقدار . . حتى تجيء اللحظة التي يفقد فيها العقل تماماً، فتبدأ معه المبادلة. . فكل شيء له مقابل.. وثمن.
ولما جاءت لحظة المكاشفة. . والسقوط. . لم يصدق النقيب الطبيب حسين علي عبد الله أنه بين أحضان جاسوسة محترفة، في وكر للجواسيس، فانتفض بين أحضانها وقد غاصت نشوته وقام فزعاً يرتدي ملابسه ويتوعدها بمصير مظلم.
هددته بتسجيلاته الجنسية معها فرد عليها بأنه رجل ولا عار عليه فهي تؤكد رجولته. هددته ثانية بما تفوه به في السياسة والعسكرية وأن مستقبله بيدها. فبصق عليها قائلاً إنهم سيكافئوه بالترقية لأنه سلمهم جاسوسة إسرائيلية. وهجم عليها محاولاً تكبيلها واقتيادها للسلطات، لكنه فوجئ بعيزرا أمامه يشهر مسدسه.
أحس بخطئه الكبير كرجل عسكري، فقد كان يجب عليه مسايرتها حتى يخرج من بيت الأفاعي. لكنه "كان يعتقد" أنهما بمفردهما.
لم يترك له عيزرا فرصة للتعامل معه. بل انطلقت الرصاصات الى رأسه، وتناثرت شظايا عظام جمجمته على جدران الغرفة.
صرخت روان في هلع.. وكتمت صراخها عندما بحلق فيها غاضباً. . بعينين ترسلان نظرات كاللهيب، وتكورت ترتجف في أنين خافت. .
أخذ عيزرا يسبها لأنها عجزت عن السيطرة عليه كسابقيه.. وتسرعت كثيراً في مكاشفته ثقة في جمالها.
وبخوف يشع رعباً دافعت عن نفسها، مؤكدة له بأنها طوعته جدياً لكنه "وطني مخلص أكثر من اللازم" وظلا طوال الليل يحفران قبره في الحديقة الخلفية. . ثم أهالا التراب فوق الجثة. . وانكمشت روان يفتك بها الهلع. . فهي تنام بين أحضان قاتل. . وعلى بعد خطوة من فراشها. . يرقد قتيل.
الطيار القتيل
. . حلت الكآبة بالحية تفتت عقلها. . لكن الثعبان السام لم يكن ليستسلم. . فالمجد ينتظره في إسرائيل . . وهو الآن يصنع تاريخه..
ومضى الجاسوس الداهية في طريقه قدماً تحفه الثقة ويملؤه الغرور. تسع سنوات كان لا يكل ولا يخاف. . وأعوانه منتشرون في كل مؤسسات العراق الحيوية . . يمدونه بما يذهل الإسرائيليين من معلومات عن أحشاء العراق، وشرايين الحياة المختلفة به.
وفي رسالة التكليف التي تلقاها بواسطة الراديو. . كان الأمر مختلفاً عليه. فقد كان المطلوب تجنيد طيار عسكري عراقي – وبأي ثمن – يقبل الفرار بطائرته الحربية ميج 21 الى إسرائيل.
بدأ عيزرا رحلة البحث عن طيار خائن. . ومن خلال الخونة العسكريين أعضاء شبكته، تعرف عيزرا – بشكل يبدو عفوياً – بالنقيب طيار شاكر محمود يوسف ، المولود في "محلة حسن جديد باشا" عام 1936، وسبق له أن التحق بدورات تدريبية في موسكو ولندن لزيادة كفاءته كطيار للميج 21 القتالية الاعتراضية التي ترعب إسرائيل.
التقى به عيزرا وزوجته في إحدى الحفلات. . وحاولت روان بأسلحتها الأنثوية الطاغية أن تلفت انتباهه لكنه تجاهلها. . فاغتاظت وتملكها الضيق وشكت في كونها أنثى لا ترد. حتى إذا ما استجمعت نفسها بعدها بأيام، أعلنت عيزرا بقرار اعتزالها مهمة اصطياد عراقيين جدد.
لكنه فاجأها ذت مساء حينما جاء وبرفقته شاكر، وأسر لها بأن الطيار الشاب تجاهلها في الحفل لوجود زوجته معه، وأن "الوسيط" استدرج شاكر ورأى منه الرغبة في التعرف اليها.. فتظاهر بمصاحبته وبدأت الاتصالات بينهما.
وما كادت روان تسترجع من جديد ثقتها في جاذبيتها وسحرها. . وتوشك أن تسيطر على أعصاب الطيار الولهان، حتى سافر فجأة الى أمريكا للحصول على دورة في "قيادة التشكيل" في تكساس.
هناك تولت المخابرات المركزية أمره. . فدفعت بحية أخرى في طريقه. . جيء بها خصيصاً على وجه السرعة من النمسا حيث تعمل كممرضة بالمستشفى الأمريكي بفيينا.
إنها "كروثر هلكر". . فاتنة الحسن طاغية الجمال .. التي عملت كمشرفة في نادي الطيارين الشرقيين في قاعدة التدريب الجوية بتكساس. . ونصبت شباكها حول شاكر يوسف فوقع في حبائلها لا حول له ولا قوة. فقد كان يريدها عشيقة مؤقتة بأمريكا، بينما كانت تريده زوجاً لتكتمل الخطة. . رفض رغبتها بالطبع لأنه متزوج ويحب زوجته. لكنها لم تيأس . . وظلت تحاول . . مرات ومرات الى أن فشلت. . ووضح جيداً جهل الموساد و الـسي اي اي ، فالعسكريون العرب محظور عليهم الزواج بأجنبيات.
لكن تملكت الاسرائيليين والأمريكان رغبة عارمة في السيطرة عليه وتجنيده. . ليهديهم سر أسرار الطائرة السوفييتية اللغز .. ولما عاد الى بغداد دون أن يحقق حلمهم. . طارت كروثر خلفه ونزلت بفندق بغداد الدولي واتصلت به.
ولأنها حضرت لأجله – تحرج كشرقي – واستأجر لها شقة مفروشة بمنطقة الكرادة الشرقية تطل على نهر دجلة. وأخذ يتردد عليها خفية، محاولاً إقناعها بالعودة لأنه متزوج ويعول طفلاً فلم تنصت اليه.
وعندما حدثته عن "منظمة السلام العالمي" المهتمة بنشر السلام حول العالم، صرخ فيها وهددها بأن تسافر فوراً خارج العراق، وإلا فهو مضطر لإبلاغ السلطات بسعيها لتجنيده لصالح جهات أجنبية.
عند ذلك . . ولأنها تحمل تصريحاً بالقتل، رأت أنه لا بد من تصفيته في أسرع وقت خشية افتضاح الأمر. وتنكشف بذلك نوايا الأمريكيين والإسرائيليين، فيمنع الطيارون الذين أوفدوا في بعثات للخارج من قيادة الميج 21، وصدرت الأوامر لعيزرا ناجي زلخا بالتخلص من النقيب الطيار شاكر يوسف.
وهنا قد يتساءل البعض:
ما علاقة عيزرا جاسوس الموساد بكروثر هلكر جاسوسة الـ c.i.a.؟
الإجابة بسيطة جداً. . فالموساد والـ c.i.a. ترتبطان معاً بعلاقات وثيقة ترسمها المصالح والنوايا المشتركة. وسواء جند طيار عربي بواسطة الموساد أو بواسطة الـ c. I.a. فسوف يهرب بطائرته الى إسرائيل، ليفحصها الأمريكان.
من هنا . . لجأت الـ c.i.a. لمعاونة الموساد في تصفية شاكر بواسطة عملائها ببغداد. وبثت الموساد امراً عاجلاً لعيزرا بالاتصال بكروثر التي تجيد العربية، وتم الاتفاق بينهما على الخطة..
وأثناء زيارة النقيب شاكر الأخيرة لهلكر بالشقة المفروشة، عمد كما في المرات السابقة الى ترك سيارته على بعد شارعين تحسباً لأي طارئ، واحتدم النقاش بينهما فهددته بأفلام وصور جنسية أخذت لهما في أمريكا فلم يهتم.
وفي آخر محاولة لإبقائه حياً، عرضت عليه مليون دولار ثمناً لطائرة الميج 21 يفر بها لإسرائيل، فلطمها على وجهها لطمة قوية انبثق لها الدم من فمها. وقبل أن يخرج من الحجرة ثائراً لإبلاغ السلطات، فاجأه عيزرا بطلقات مسدسه الكاتم للصوت، وسقط شاكر في الحال قبلما يتمكن من استعمال مسدسه.
وبينما هلكر تعد حقيبتها للحاق بالطائرة المتجهة الى لندن، انشغل عيزرا بإزالة الآثار والبصمات، وجر جثة الطيار لأسفل السرير ملفوفة ببطانية، ثم فتح أجهزة التكييف .. وغادر الشقة.
اكتشفت الجثة في 6 يوليو 1965 بعد وقوع الجريمة باسبوع. كان عيزرا في ذلك الوقت يمضى أسوأ أيام حياته على الإطلاق. إذ نشرت الصحف العراقية نبأ مقتل كروثر هلكر بأحد فنادق لندن في ظروف غامضة، بعد يومين من مغادرتها لبغداد، وصرح مسؤول أمني أن الجثة وجدت ممزقة، وبها ثلاثون طعنة بعدد سنين عمرها، هكذا تخلصت الـ c.i.a. من كروثر لإخفاء معالم الجريمة الى الأبد. فماذا عنه هو؟
دارت الدنيا بعيزرا وضاقت به على وسعها. وصور له خياله أن الموساد سوف تقتله أيضاً لأنه ستراً للجريمة. . وما كان يعلم أن أسلوب قتل العملاء بعد انتهاء مهامهم تستخدمه الـ c.i.a. فقط. أما الموساد فالجواسيس لديها بمثابة أبطال عظماء تفخر بهم وتخلدهم. لم يكن يعلم ذلك عندما عطّل جهاز اللاسلكي. واختبأ بإحدى الشقق لا يخرج هو أو روان إلا للضرورة.
وبعد احتفالات رأس السنة . . وما إن هلت أيام يناير 1966 الأولى، حتى انكشف أمر شبكته ضمن الشبكات التسع .. وجرى البحث عنه وتعقب آثاره في كل العراق.
كان يجهل أمر البحث عنه من قبل جهاز المخابرات – المكتب الثاني – فعلاقته بأعوانه كانت منقطعة طوال تلك الشهور الخمسة.
ولأن المجرم دائماً يحوم حول مسرح جريمته، تصادف أن توجه وروان لمنزل الكاظمية حيث يخبئ أجهزة التجسس. فاطمأن على وجودها، وفي المساء قاد سيارته وحده الى منزل بوشا القديم، فنام مرهقاً حتى الفجر، وأسرع بالعودة الى روان مرة أخرى وما كان يدري بما ينتظره.
ففي غبش الفجر اقتحمت المنزل قوات الأمن، وكانت روان بمفردها كالشبح.. متكورة كجنين ببطن أمه. . فلم تبد أية دهشة أوتصعق للمفاجأة.
سألوها عن عيزرا قالت بهدوء: "لن يتأخر"..
واعترفت من تلقاء نفسها بأنها جاسوسة إسرائيلية، استطاعت أن تجند جيش من اليهود العراقيين وسائر الملل بالغواية والجنس. وأرشدت عن مقبرة الضابط الطبيب بالحديقة الخلفية، وقادتهم الى مخبأ سري بداخله جهاز اللاسلكي المعطل وكتاب الشفرة وعدة كاميرات سرية، وأفلام ووثائق لم تبعث بعد للموساد.
كانت سيارات الأمن قد اختفت من المكان الذي بدا طبيعياً. واختبأ عدة ضباط بداخل المنزل ينتظرون الثعبان الكبير. وما أن جاء وخطا خطوات قليلة الى الداخل حتى هوجم وكبل في الحال.. واقتيد الى مكان سري للاستجواب، فاعترف اعترافات تفصيلية بنشاطه لمدة عشر سنوات لصالح الموساد، وسدت اعترافاته ثغرات عديدة كانت تحول دون الوصول لبقية الشبكات.
وبينما هو بالقفص، بانتظار سماع الحكم بإعدامه وروان شنقاً مع تسع آخرين، وبالرصاص خمسة عسكريين، نظرت اليه روان وقد أكلها الهزال وبرزت عظام وجهها، وقالت له إنها تشعر بالأسف على كل شيء. . لكنها سعيدة جداً لعدم إنجابهما أطفال يتعذبون من بعدهما طوال حياتهم. . حيث سيصيح الناس في كل شوارع بغداد: هؤلاء أبناء الثعبان والحية.. !!
تعويض الهزيمة العربية بأفلام إباحية للموساد
أفاد تقرير نشرته صحيفة يديعوت احرنوت الإسرائيلية، ان موقف الرأي العام العربي من إسرائيل بسبب سياستها تجاه الفلسطينيين، لا ينسحب على المواقع الإباحية الإسرائيلية على الإنترنت التي تشهد وفقا للتقرير ارتفاعا في عدد المتصفحين العرب ومن دول إسلامية تصف بأنها معادية لإسرائيل مثل إيران.
ويمكن للشبان العرب الذين يكرهون الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية الإسرائيلية الاستخبارية مثل الموساد، أن يشاهدوا أفلاما جنسية، تظهر فيها نساء بملابس الجيش الإسرائيلي أو يعرفن بأنهن عميلات للموساد، وهن يمارسن الجنس بأوضاع مختلفة، مقابل أموال يدفعونها، ليروا الإسرائيليات في مثل هذه الأوضاع، في ما يعتبر انه يشكل عزاء لهم لعدم قدرة حكوماتهم على هزيمة إسرائيل، خلال حروب عديدة.
وبهذه الطريقة يعوض الشبان العرب عن هزيمة الجيوش العربية، برؤية المجندات الإسرائيلية في أوضاع تعتبر مخلة ومهينة وجالبة للعار في الثقافة العربية.
وحسب أصحاب المواقع الإباحية الإسرائيلية، فانه تم تسجيل ارتفاع نسبة مرتادي مواقعهم من الدول العربية، ووفقا للإحصائيات فان من بين 2-10% من متصفحي المواقع الإباحية الإسرائيلية هم من تونس والأردن ومصر والاراضي الفلسطينية، وهو ما جعل بعض المواقع تفكر في تقديم خدماتها باللغة العربية.
وقال نير شهار، الذي يدير الموقع المسمى (راتوف) أي الرطب، ان الشركة صاحبة الموقع تنتج افلاما إباحية بطلاتها من المجندات وعميلات الموساد والشرطيات.واضاف أنه تبين، بأنه يوجد طلب على هذا النوع من الأفلام، حتى في البلدان التي تصنف بأنها عدوة صلبة لإسرائيل.
وقال ان الأكثر شعبية من أفلام الفيديو الإباحية لدى المستخدمين العرب، فيلم عن عالم الذرة الإسرائيلي، مردخاي فعنونو الذي كشف أسرار مفاعل ديمونا الإسرائيلي، بعد انشقاقه وهربه إلى الخارج، ولكن جهاز الموساد تمكن من جلبه إلى البلاد، بعد أن أوقعت به عميلة للموساد أوهمته بأنها تحبه، واستدرجته من بريطانيا إلى إيطاليا، وهناك تم تخديره، حيث لم يصح على نفسه إلا في إسرائيل، والفيلم الإباحي يعرض التحقيق مع فعنونو وكأنه جرى باستخدام الوسائل المثيرة.
واضاف شهار، أنه تم خلال الأشهر القليلة رصد ارتفاع عدد الذين يتصفحون الموقع من البلدان التي ليست لها علاقة بإسرائيل مثل: إيران، والعراق، والكويت، وكذلك مصر.
وقال إنه بسبب هذا الطلب المتزايد، تمت إضافة خدمة باللغة العربية إلى الموقع، واضاف "نتلقى العديد من الرسائل باللغة العربية، التي تتضمن شكرا لنا، او استفسارات مثل إذا كانت اللواتي يظهرن في الأفلام هن مجندات فعلا في الجيش الإسرائيلي".
ويتوجه هذا الموقع خصوصا إلى العرب الخليجيين، ويطلب منهم شراء عضوية في الموقع عبر بطاقات الاعتماد، أو كود الدفع والمشاهدة بوساطة الهاتف الجوال، حيث يتم تزويد المشترك برقمه السري الذي يخوله الدخول إلى الموقع، ومشاهدة الأفلام.
ولجلب المزيد من المستخدمين العرب، تركز المواقع على الدعاية التحفيزية، مثل عرض لأفلام تقول إنها لفتيات "تل أبيب المغنجات اللواتي يمارسن الجنس بدون توقف وبمختلف الأوضاع"، أو تقديم دعاية لأفلام عن "جنديات إسرائيليات بملابس عسكرية بمشاهد جنس رهيبة" وكذلك عن "شقراوات من القدس" أو "عربيات إسرائيليات"، أو "ممثلات عربيات مشهورات في مشاهد ساخنة".
أما غيل نفتالي مالك ومشغل موقع آخر يقدم خدمات جنسية بالعبرية، قال إنه رغم تزايد عدد المستخدمين العرب، إلا انه لم تتم إضافة نسخة عربية للموقع، وعلل ذلك بالقول، إن المستخدمين العرب لن يحتاجوا للغتهم ليعرفوا ماذا يقدم الموقع، لان مشاهدة الصور والكليبات الإباحية لا تحتاج إلى لغة لكي يفهمها المستخدم-حسب قوله.
ويقول مشغلو موقع دومينا، اكثر مواقع الجنس الإسرائيلية شعبية، ان اكثر من 10% من زوار الموقع من المتحدثين بالعربية.
وقال تساهي، أحد مشغلي المواقع الإباحية في إسرائيل، ان العلاقة بين هذه المواقع والمستخدمين العرب هي اقتصادية بحتة، وأنها لن تفضي لأي رسالة مثل تحقيق التفاهم المشترك بين إسرائيل وأعدائها. واضاف ان "الأفلام الإباحية لن تحقق السلام، ولكن على الأقل نحصل من خلالها على بعض الأموال التي تدخل جيوبنا من اعدائنا".
جاسوس فوق القانون
" روبرتو بيترو" جاسوس فوق القانون
ولد لأب يهودي إيطالي وأم هنغارية، وعاش سني مراهقته في الشمال بمدينة "تريستا" الساحرة المطلة على بحر الإدرياتيك، وخدعته الدعاية اليهودية عن أفران الغاز التي التهمت ستة ملايين يهودي في ألمانيا، وبهرته شعارات الصهيونية والحياة الرغدة لليهود في إسرائيل، فهاجر اليها مع أمه رينالدا بعد وفاة أبيه.
هناك خدم في جيش الدفاع الإسرائيلي ثم في جهاز الشين بيت "الأمن الداخلي"، وأظهر كفاءة عالية في قمع الفلسطينيين، وتجنيد بعض الخونة منهم لحساب الجهاز بعد إجادته التامة للغة العربية.
لكن حادثاً مفاجئاً قلب حياته بعد ذلك رأساً على عقب، إذ ضبط أمه عارية في أحضان يهودي يمني، تمكن من الهرب بسرواله تاركاً بقية ملابسه، فأصيب بنكسة نفسية كبيرة، إذ كانت أمه تمثل لديه صورة رائعة لكل معاني الحب والكمال، ولم يتصور أن امرأة مثلها في التاسعة والأربعين، قد تسعى الى طلب الجنس، وتتعاطاه مع السائق اليمني.
لحظتئذ. . قرر ألا يعيش في تل أبيب، وقدم استقالته من عمله وحمل حقيبته عائداً الى مسقط رأسه، عازماً على أن يعيش بقية حياته أعزباً، فطالما خانت أمه فلا أمان ولا ثقة بامرأة أخرى.. !!
لكن مايك هراري ضابط الموساد الإسرائيلي الذي كان يبحث عن ذوي الكفاءات المخلصين لـ "يطعم" بهم أقسام الموساد المختلفة، جد في البحث عن "روبرتو بيترو" حتى أدركه في تريستا، إلا أنه فشل في إقناعه بالعودة معه الى إسرائيل، وتركه أربعة أشهر ورجع اليه ثانية ليخبره بوفاة أمه، ويجدد دعوته له بالعمل معه في الموساد.
استطاع هراري بعد جهد العودة بروبرتو الى تل أبيب، وألحقه فوراً بأكاديمية الجواسيس ليتخرج منها بعد ستة أشهر جاسوساً محترفاً، يجيد كل فنون التجسس والتنكر والتمويه والقتل، عنده القدرة على تحمل صنوف التعذيب المختلفة، وأساليب الاستجواب الوحشية لإجباره على الاعتراف، إذا ما سقط في قبضة المخابرات العربية.
فقد اكتشف خبراء الموساد مقدرته الفذة على مقاومة الألم، الى جانب ذكائه الشديد وإجادته الإقناع بوجهه الطفولي البريء، الذي يخفي قلباً لا يعرف الرحمة.
كل هذا. . يضاف الى خبرته التي لا حدود لها في عالم الإلكترونيات، وتكنولوجيا الاتصالات، وموهبته الفائقة في تطوير أجهزة اللاسلكي، التي يستخدمها الجواسيس في بث رسائلهم.
ومنذ وصل روبرتو لفندق ريجنسي، تتبعه السيارة الماسكوفيتش، وعقله لا يكف عن التفكير في من ذا الذي يراقبه ويقتفي أثره؟ أيكون ضابط مخابرات عراقياً ؟ أم أحد أعضاء الشبكة؟
استبدل ملابسه على عجل وخرج من باب الفندق يمسح المكان بعيني صقر باحثاً عن الماسكوفيتش فلا يجد لها أثراً، وفي شارع السعدون توقف أمام إحدى الفترينات وتأكد من خلال زجاجها العاكس بأن هناك من يراقبه، فاختفى فجأة بمدخل إحدى البنايات وتسمر مكانه في الظلام، وبعد برهة يدلف شبح مسرعاً فيصطدم به، وقبل أن تهوي على رأسه قبضة روبرتو الحديدية، يصيح الشبح على الفور: "مولتي تشاو".
إنها كلمة السر المتفق عليها، ليس في بئر السلم، ولكن بمكتب الخدمات العامة، الواقع على بعد عدة بنايات ويمتلكه إبراهام موشيه، الذي كان يراقب روبرتو بنفسه، وأوشك الأخير ان يحطم فكه بقبضته.
الحب المحرم
لم يكن موشيه يهودياً عراقياً فحسب، بل زعيماً محترفاً لشبكة جاسوسية إسرائيلية داخل العراق، استطاع أن يمد نشاطه حتى الكويت وسوريا، متخذاً من عمله في التجارة والاستيراد ستاراً يخفي وراءه حقيقته، وكانت له قصة مثيرة تستحق منا أن نسردها، ونتتبع معاً كيف انجرف مستسلماً في تيار "الخيانة" منذ صباه، مضحياً بكل شيء في سبيل الوصول الى مأربه، ضارباً عرض الحائط بالأمانة والشرف.
كانت بدايته في ضاحية دوما بالقرب من دمشق. ولد لأم يهودية سورية، وأب يهودي عراقي يعمل دباغاً للجلود، امتلك ناصية الحرفة، وأقام مدبغة في بغداد بعد ستة أعوام من العمل الجاد في سوريا، إذ هرب فجأة الى موطنه الأصلي ومعه أسرته الصغيرة، بعد ما اتهم باغتصاب طفل مسيحي دون العاشرة، فعاش في بغداد يحاصره الخوف من مطاردة أسرة الغلام أو السلطات السورية. لكنه لم يرتدع بعد هذه الحادثة، إذ واجهته هذه المرة تهمة اغتصاب طفل آخر في بغداد.
ولأنه أثرى ثراء فاحشاً، دفع مبلغاً كبيراً لوالد الطفل رقيق الحال، فتبدلت الأقوال في محضر الشرطة، وخرج موشيه ببراءته، ليمارس شذوذه على نطاق أوسع مع غلمان مدبغته، الى أن وجدت جثته ذات يوم طافية بأحد الأحواض المليئة بالمواد الكيماوية المستخدمة في الدباغة، وكان ابنه إبراهام وقتئذ في الثانية عشرة من عمره، وأخته الوحيدة ميسون على أعتاب السابعة.
باعت أمها المدبغة وهربت بثمنها الى مكان مجهول مع السمسار اليهودي الذي جلب لها المشتري، وتركتهما يواجهان مصيرهما لدى عمهما البخيل، ويتذوقان على يديه صنوف القهر والقسوة كل لحظة.
وأمام تلك المعاناة. . ترك إبراهام مدرسته، والتحق بالعمل كصبي بورشة لسبك الفضة يمتلكها تاجر يهودي، بينما عملت أخته كخادمة بمنزل عمها مقابل الطعام، واكتشف إبراهام ميلا لديه للسرقة، فمارس هوايته بحذر شديد في سرقة المعدن الخام قبل سبكه ووزنه دون أن يلحظه أحد.
وما أن بلغ مرحلة المراهقة باندفاعها وطيشها، حتى ظهرت عنده أعراض الشذوذ كوالده، وإن كانت تختلف في الأسلوب والاتجاه، وكانت ضحيته الأولى..أخته التي كان ينام معها في فراش واحد بإحدى الحجرات المنعزلة، فكان يحصل منها على نشوته الكاملة وهي تغط في سبات عميق.
وذات ليلة . . استيقظت ميسون على غير العادة، ولاذت بالصمت المطبق تجاههه عندما أحست به يتحسس جسدها، فهو شقيقها الذي يحنو عليها، ويجيئها بالملابس الجديدة والحلوى، ويدافع عنها ضد جبروت عمه وزوجته، ويطلب منها دائماً الصبر على قسوة الظروف، طائراً بها في رحلات خيالية بعيداً عن منزل عمهما، فكانت لكل ذلك تسكت عليه.
ولما ظهرت عليها صفات الأنثى وعلتها مظاهر النضوج، استشعرت لذة مداعباته التي أيقظت رغباتها، فتجاوبت معه على استحياء شديد في البداية، الى أن استفحل الأمر بينهما للمدى البعيد العميق، فهرب بها الى البصرة، بين أمتعتهما صندوق عجزا عن حمله، كان بداخله خام الفضة الذي سرقه على مدار عشر سنوات كاملة من العمل بالمسبك.
وهناك . . معتمداً على خبرته الطويلة، أقام مسبكاً خاصاً به بحصيلة مسروقاته، واكتسب شهرة كبيرة بين التجار، وأثرى ثراء فاحشاً بعد أربع سنوات في البصرة.
كانت ميسون في ذلك الوقت قد تعدت التاسعة عشرة، جميلة يانعة تحمل صفات أمها الدمشقية، ذات جسد ملفوف أهيف، ووجه أشقر تتوجه خيوط الذهب الناعمة، عيناها الناعستان كحبتي لؤلؤ تتوسطهما فيروزتان في لون البحر، وفم كبرعم زهرة يكتنز بالاحمرار والرواء، وأنوثة طاغية تشتهيها الأعين وما ذاقها إلا إبراهام.
بيد أن الحب له طعم آخر، ولسع بديع يداعب الخيال، فتعزف الخفقات سيمفونية رائعة من أغاني الحياة.
فعندما أحبت ميسون جارها وتمكنت منها المشاعر، هربت كأمها مع الحبيب الى أقصى الشمال. . الى الموصل، فتزوجته مخلفة وراءها إبراهام يلعق الذكريات ويكتوي بنار الوحدة، تنهشه أحزانه فيتخبط مترنحاً، وتميد به الخطوات تسعى الى حيث لا يدري، ويتحول الى إنسان بائس.. ضعيف وحيد.
في هذا المناخ يسهل جداً احتواؤه بفتاة أخرى، تشفق عليه وتقترب منه عطوفة رقيقة، وهذا بالفعل ما حدث، إذ قربته "راحيل" اليها، ولازمته في قمة معاناته للدرجة التي يصعب عليه الابتعاد عنها.
ولأنها ابنة يهودي يعمل لحساب الموساد، وكان لها دور فعال في نشاطه التجسسي، استطاعت أن تضمه بسهولة الى شبكة والدها. ولم لا. . ؟ إنه خائن بطبعه منذ الصغر، استلذ الخيانة عشر سنوات مع صاحب المسبك، وخان الشرف والأمانة عندما انتهك حرمة أخته، ذابحاً عفافها غير مبال بالدين أو القيم، فإن مثله معجون بالخيانة، ليس يصعب عليه أن يخون الوطن أيضاً، فكل القيم عنده طمست معالمها وغطاها الصدأ.
لقد بدت سهلة رحلته مع الجاسوسية بعدما تزوج من راحيل، وأخضع لدورات عديدة صنعت منه جاسوساً، فانتقل الى بغداد ليمارس مهامه الجديدة. ولم يكن يدرك أبداً أن شبكته التي سيكونها فيما بعد، ستكون أشهر شبكات الجاسوسية في العراق قاطبة.
شاخص الداهية
في بغداد استأجر إبراهام منزلاً رائعاً، وافتتح مكتباً وهمياً للتجارة بشارع السعدون، والتحق بأحد المعاهد المختصة بتعليم اللغة الإنجليزية، وجند أول ما جند شاباً يهودياً يعمل مترجماً للغة الروسية، له علاقات واسعة بذوي المناصب الحساسة في الدولة، كثير السفر الى موسكو بصحبة الوفود الرسمية، كان دائماً ما يجيء محملاً بالسلع والكماليات، معتمداً على إبراهام في تصريفها.
كان تجنيده بعيداً تماماً عن الجنس أو المال. إذ كان "شوالم" غالباً ما يحكي لإبراهام أسرار سفرياته وتفاصيل ما يدور هناك بين الوفدين العراقي والسوفييتي، ولم يكن يخطر بباله أن أحاديثه مع إبراهام كانت كلها مسجلة.
وعندما استدرجه ذات مرة للخوض في ادق الأسرار، تشكك شوالم في نواياه فامتقع وجهه واستبد به الخوف، وعلى الفور عالجه ابراهام بالحقيقة، وأكد له بأنه استفاد كثيراً من أحاديثه ونقلها حرفياً للإسرائيليين، فحاول الشاب أن يفلت بجلده من مصيدة الجاسوسية، لكن شرائط التسجيل المسجلة بصوته كبلته، فخضع مضطراً لابتزاز عميل الموساد.
كانت تجربته الأولى الناجحة قد زادته ثقة في نفسه، وأخذ يبتز شوالم الى آخر مدى.
فمن خلاله تعرف إبراهام على مهندس يهودي، يعمل بأحد مصانع الأسمنت في بغداد، تردد كثيراً، على منزله برفقة شوالم في بادئ الأمر، ثم بمفرده بعد ذلك حيث شاغلته راحيل برقة متناهية، وأوحت اليه نظراتها وابتساماتها السحرية بعالم آخر من المتعة، لكنها لم تعطه شيئاً مما أراد، وايضاً لم تتجاهله، فحيره أمرها كثيراً، وما بين شكوكه في تصرفاتها حياله، واستغراقه في تفسيرها، أدمن رؤيتها طامعاً فيما هو أكثر، ليستسلم في النهاية صاغراً، ويستجيب لأوامرها عندما طلبت منه معلومات عن المواقع العسكرية التي تتسلم حصص الأسمنت.
وعندما سلمته أربعمائه دينار مقابل خدماته، صدمته الحقيقة التي تكشفت له، فهونت عليه الأمر وشرحت له الكثير عن واجب اليهود إزاء وطنهم الجديد، إسرائيل، وأمام فتنتها القاتلة لم يتبرم أو يعترض، بل تطوع – إرضاء لها – بجلب المعلومات الحيوية دون تكليف منها، عازفاً عن العمل بمقابل مادي لقاء خدماته، على أمل الهجرة الى إسرائيل في أقرب فرصة، وتوفير فرصة عمل له هناك.
ولما أدركت هي ما يصبو اليه، لعبت على أوتار أمنيته، ووعدته بتحقيقها في التقريب العاجل.
استتر إبراهام خلف مكتبه التجاري، وزيادة في التمويه . . قام بشحن كمية من فاكهة البرتقال الى الكويت، بواسطة سيارة نقل كبيرة "برادة" يقودها سوري عربيد من السويداء، يعشق الخمر العراقي (1) والنساء، له زوجة سورية في درعا، وأخرى عراقية في المقدادية، وثالثة إيرانية في كرمشاه.
كان السائق زنديقاً لا ديانة له، اسمه "خازن" وشهرته "شاخص" لشخوص واضح في عينيه، استطاع هذا الخازن أن ينال ثقة ابراهام خلال فترة وجيزة من العمل لديه في نقل الفاكهة الى الكويت، ولأنه سائق فقط على البرادة، تسلل إبراهام الى عقله ووجدانه، ووعده بأن يمتلك مثلها إذا أخلص اليه "وتعاون" معه.
في إحدى زياراته لزوجته السورية، تمكن شاخص من الحصول على بعض المعلومات التي تتصل بالتحركات العسكرية السورية على الجبهة، وبعض القواعد الجوية التي تطورت منشآتها وتحصيناتها، كما وطدد علاقته بأحد المتطوعين في الجيش السوري من أقرباء زوجته، استطاع بواسطة الهدايا التي أغدقها عليه، أن يتعرف من خلاله على أسرار هامة، تمس أموراً عسكرية روتينية ويومية، قام بنقلها الى ابراهام بأمانة شديدة، فمنحه مبلغاً كبيراً شجعه على أن يكون أكثر إخلاصاً في البحث عن المعلومات العسكرية، ليس في سوريا فحسب، بل وفي الكويت أيضاً.
كانت الكويت في ذلك الوقت إمارة صغيرة غنية، سمحت للعديد من العراقيين والإيرانيين بالإقامة وبعض حقوق المواطنة (2)، فضلاً عن العديد من أبناء الجنسيات العربية الأخرى الذين تواجدوا بها منذ سنوات طويلة. ومن بين هؤلاء كانت توجد نفوس ضعيفة يسهل شراؤها، خاصة أولئك الذين يشعرون بالدونية وبأنهم مواطنون من الدرجة الأدنى.
استطاع خازن أن يستثمر ذلك جيداً في شراء ذمم بعضهم، وحصل على معلومات دقيقة عن أنواع الأسلحة المتطورة في الكويت، ومخازنها، ونظم التدريب عليها، وعدد المنخرطين في الجيش الكويتي، وبعثات الطيارين في الدول المختلفة. وامتد نشاطه الأفعواني الى دول الخليج العربي وإماراته الأخرى. فمكن بذلك ابراهام من تجميع ملفات كاملة، تحوي الكثير من المعلومات العسكرية والاقتصادية والتجارية عن الكويت ومنطقة الخليج.
ميسون عادت
تحير ضباط الموساد في أمر عميلهم أبراهام، فإخلاصه يزيد كثيراً عن الحد المعهود، ونشاطه التجسسي يتطور ويمتد ليشمل بخلاف العراق دول الخليج وسوريا. وكان لا بد من حمايته كي لا يغتر بنفسه فيكشف أمره، وحمايته ليست بالطبع بواسطة حراس مسلحين، وإنما بتدريبه تدريباً خاصاً لرفع الحس الأمني لديه، والوصول بكفاءته كجاسوس محترف الى درجة أعلى في الخبرة والمهارة، فاستدعى للسفر الى عبادان على وجه السرعة، حيث كان ينتظره خبيران من الموساد أحدهما روبرتو بيترو، جاء خصيصاً من أجله لأنه يحمل ترخيصاً تجارياً، لم تواجهه مشكلة في مغادرة العراق.
مكث أبراهام معهما تسعة عشر يوماً، أخضع أثناءها لدورات مكثفة في كيفية فرز المعلومات وتنقيتها، والسيطرة على هذا الكم الهائل من العملاء الذين يدينون بالولاء لإسرائيل، هذا فضلاً عن تدريبه على كيفية الإرسال بالشفرة، بواسطة جهاز لاسلكي متطور أمدوه به وجهاز راديو لاستقبال الأوامر. ورجع إبراهام الى العراق يزهو بالحفاوة التي قوبل بها، وبالتدريب الجيد الذي ناله، وبالأموال الطائلة التي ما حلم بمثلها يوماً.
سرت راحيل بالهدايا الثمينة التي حملها اليها. وجهاز الراديو الرانزستور الحديث بين أمتعته، والذي هو في الأصل جهاز لاسلكي تتعدى قيمته عشرات الآلاف من الدولارات وفي أولى رسائله الى الموساد طمأنهم على وصوله بسلام، وبثهم تحيات زوجته، وتلقى رداً يفيد استلام رسالته، وتمنياتهم الطيبة لهما بعمل موفق.
في الحال شرع إبراهام في الاتصال بأعضاء الشبكة، وطلب منهم معلومات محددة كل حسب تخصصه، وأمدهم بآلاف الدناتير ليغدقوها على عملائهم، فأثبت كفاءة عالية في إدارة شبكته بمهارة.
وذات يوم بينما كان في الموصل، لم يصدق عينيه وهو يقف وجهاً لوجه أمام ميسون في أحد الميادين، وحين ألجمتها المفاجأة أسرعت بالفرار وسط الزحام تتلفت خلفها، بينما غادر سيارته الماسكوفيتش ملهوفاً وأسرع وراءها، تمر برأسه ألوان من الذكريات البعيدة لم يستطع نسيانها. فلما أدركها، ملتاعة صرخت، فطمأنتها نظراته المليئة بالحب والشوق، ومشت معه الى السيارة ترتعد، وقد انحبست الكلمات في حلقومها.
وفي الطريق الى منزلها.. عاتبها كثيراً، وشكا لها قسوة المعاناة التي عايشها من بعد هروبها، وعلى المقود هجمت عليه أشجانه، وغلبته دموعه فاستسلم لها، في حين شهقت أخته باكية تستعطفه، وترجوه أن ينسى ما كان بينهما، وأشارت الى بطنها المنتفخ قائلة إنه الابن الثالث لها.
لكن يهودياً خائناً وشاذاً مثله، لم يكن مؤهلاً لأن يستجيب لرجفة الخوف والضعف عند عشيقته الأولى في حياته .. أخته. فما إن وصلا الى منزلها، وكان خالياً من زوجها، إلا وطالبها بحمل مستلزماتها وولديها والعودة معه الى بغداد. رفضت ميسون مسترحمة، فانهال عليها ضرباً وركلاً غير مبال بصراخ الصغيرين، وأمام إصرارها على الرفض طالبها بحقه . . فيها. . !!
ألم نقل بأنه يهودي خائن، تبرأت منه النخوة واعتلاه الجمود؟ .. هكذا نال ما أراده منها، مدعياً بأنه حق مكتسب وواجب عليها أن تؤديه كلما طلبها.
رجع بغداد مكدراً ليجد راحيل تعاني آلام الحمل الأول في شهوره الأخيرة. وبعد أسبوع يأخذها في الفجر الى المستشفى، فتلد جنيناً ميتاً سرعان ما تلحق به هي الأخرى بسبب حمى النفاث، كأنما أراد الله أن يقطع ذريته الى الأبد، ويحرمه من مشاعر الأبوة فيظل وحيداً كشجرة جافة بلا جذور، تطيح بها الأنواء فتتكسر.
ولأول مرة منذ هجرته ميسون في البصرة، تفتك به الوحدة وتعتصره الأحزان، فتخنق لديه مباهج الحياة، وتبثه اللوعة تكوي عظامه وتزلزل عقله، فيفقد شهيته للعمل، وينزوي في ضعف يسربله الخوف والوهن، وتفر منه اندفاعات الجرأة الى حيث لا مستقر.
اللاسلكي المهشم
في تل أبيب اجتمع ضابط الارتباط بمرؤوسيه، وقرأ عليهم رسالة عاجلة بثت في بغداد تقول: "دوف: أمر بظروف نفسية معقدة. . لا أستطيع الاستمرار في العمل. . لن أكون ذا نفع لكم من الآن . . ابعثوا بمن يقود المجموعة . . سأنتظر ردكم بلا أوامر في الميعاد شالوم".
وجم الجميع، فإشارات الراسلة ورموزها السرية صحيحة، بما يفسر عدم وقوع العميل في قبضة المخابرات العراقية، ماذا حدث إذن؟
كانت هناك شكوك في فحوى الرسالة، فهي إحدى المرات القلائل، الوحيدة التي يتسلم فيها الموساد رسالة غامضة كهذه من عميل نشط. وفسر البعض ذلك بأنه ربما كشف أمره واعترف بكل شيء، وضبط بنوتة الشفرة رموز الاستهلال والختام السرية المتفق عليها. لكن ضابط الارتباط استبعد ذلك، فالعميل يحفظ الرموز جيداً عن ظهر قلب ودرب كثيراً على ذلك في عبادان، ولو أن أمره قد انكشف وأجبر على بث الرسالة، لعكس الأرقام. وكان لابد من معرفة حقيقة الوضع في العراق.
عندئذ بعثوا اليه برسالة مغلوطة سرعان ما جاءهم رده يطلب إعادة البث مرة أخرى، ولما عجز عن فك رموزها، أيقن أن هناك خطأ ما، فبث رسالة تأكيدية أخرى ضمنها إشارت سرية بديلة أراحتهم وطمأنتهم.
على الفور أرسلوا اليه بإيراني خبيث، يدعى طباطباني حبرون يعمل لحسابهم في طهران، تسلل الى العراق بأوراق مزورة تحمل اسم رضائي عبد الرضا، التقى بإبارهام الذي كان شارد الذهن منكسر المزاج، واستطاع بعد لأي أن يعيد اليه توازنه، ويقنعه بالاستمرار في العمل، خاصة وإسرائيل في تلك الفترة كانت تمر بظروف مختلفة، بعدما انتصرت على العرب في حرب يونيو 1967، هذه الظروف كانت تستدعي العمل بجد ترقباً لرد عربي وشيك، قد يدمر إسرائيل ويقضي عليها.
لقد وعده طباطباني بحياة رغدة في إسرائيل بعد انتهاء مهامه، فحرك فيه روح الحمية والعداوة ضد العراقيين، الذين أمدوا الجيوش العربية بالسلاح والعتاد لضرب إسرائيل، فلما نجح الخبيث في مهمته مع الجاسوس المحبط، عاد من حيث أتى، فلقد استرد إبراهام طاقته ومواهبه من جديد، ومارس الجاسوسية على أوسع نطاق، الى أن وقع حادث خطير زلزل كل شيء.
فبينما كان يحمل جهاز اللاسلكي متوجهاً به الى مخبئه بسطح منزله – وقد انتهى لتوه من بث رسالة لتل أبيب – زلت قدمه على السلم، فسقط منه الجهاز الثمين وتبعثرت محتوياته الداخلية.
حينئذ أصيب أبراهام بالفزع، واعتراه اضطراب رهيب. وكتب على الفور رسالة بالحبر السري الى الموساد في أثينا، يطلعهم على الخبر الصاعقة، وكانت صاعقة بالفعل وقد أصابت العقول المتابعة في تل أبيب.
وعقد على الفور اجتماع ضم نخبة من خبراء الموساد، اتخذ فيه قرار نهائي بإرسال روبرتو بيترو الى بغداد لإصلاح الجهاز المعطل.
اطلع ضابط الموساد على المهمة التي كلف بها، وحسب الخطة الموضوعة سافر الى روما حيث تسلم وثيقة سفر إيطالية، وتمت تغطية شخصيته الجديدة كمندوب لشركة انتراتيكو الايطالية للمقابض، حيث سجل اسمه في جميع الدوائر، توقعاً السؤال عنه من قبل مكتب المخابرات العراقية في روما.
فما إن وطأت قدماه مطار بغداد الدولي، حتى كانت عيون مخابراتها ترصده عن بعد. فالجواسيس في تلك الفترة كانوا كمرتادي دور السينما، لا عدد لهم، أغلبهم من يهود العراق الذين ينعمون بالأمن، وأبوا إلا أن يعترفوا بإسرائيل وطناً أولاً لهم. فباعوا أمن العراق وهتكوا ستره، ونقبوا عن أسراره لحساب الموساد.
حصاد المشانق
ما إن رصدت أعين المخابرات العراقية مطاردة إبراهام لروبرتو حتى كثفت من رقابتها، فهناك أمر ما يجمعهما معاً. وتأكد لهم ذلك من لقاء بئر السلم بشارع السعدون. وبينما البحث يجري في روما عن حقيقة روبرتو المجهول، كانت الأجهزة اللاقطة قد زرعت بمكتب إبراهام، الذي تسلل اليه روبرتو دون أن يلحظ وقوف سيارة "فان" سوداء ذات ستائر غليظة، بداخلها أحدث أجهزة التنصت التي تنقل أنفاس من بالمكتب، إضافة الى عربة جهاز تتبع الذبذبات اللاسلكية التي جيء بها من موسكو. فقد كانت تطوف بالمكان بلا انقطاع.
بعد قليل سمع بوضوح رنين جرس الباب، ووقع أقدام تتحرك، وفجأة . . انبعث صفير حاد عطل عملية التنصت. فخبير الموساد المدرب، وبحسه الأمني العالي، أدار جهاز التشويش الذي جلبه معه، تحسباً.
وعلى مدار تسعة أيام في بداية عام 1968، لم تسفر المراقبة عن شيء ذي قيمة، فإبراهام ماكر للغاية، وضيفه يقوم بمناورات عجيبة للتخفي استدعت تغيير فرق المراقبة والرصد كل عدة ساعات، فضلاً عن جهاز التشويش الإلكتروني الطنان، الذي أفشل عملية التسجيل.
وبالرغم من ان التحريات التي جاءت من روما أكدت بأن روبرتو إيطالي لا شك في ذلك، لكن الأمر كان يبدو محيراً حقاً، فالساعات التي كان يقضيها بالمكتب مع إبراهام، كانت دائماً تثير شهية الاقتحام.
وبينما كان الجو مشحوناً بالقلق والاضطراب، فجأة، ودون توقع. . التقط جهاز كشف الذبذبات اللاسلكية إشارات متقطعة لا تكتمل، تبث لاسلكياً من منطقة السعدون، فصرخ أحد الخبراء قائلاً إنها تشبه إشارات جهاز لاسلكي معطل، ويجري إصلاحه وتجربته، وعلى الفور صدرت أوامر عليا بمداهمة المكان. وكانت المفاجأة كما توقعها الضابط العراقي، حيث وجد روبرتو منهماً في إصلاح اللاسلكي، وإبراهام يرقبه عن قرب. .
صعق العميلان. . ولهول الصدمة تسمرا في مكانيهما، فانقض عليهما الرجال وكبلوهما واقتيدا مغميان لمبنى المخابرات، حيث جرى استجوابهما في ذات ليلة، فيعترف ابراهام بكل شيء، بينما التزم روبرتو الصمت رغم التعذيب المميت الذي لاقاه، كأن جسده قد من صخر، لا رابطة بينه وبين مخه.
وبعد ثلاث ليال من التجويع والعطش انهار روبرتو تماماً، وأقر بأنه ضابط مخابرات إسرائيلي، جاء لمهمة إصلاح الجهاز "فقط" لا للتجسس ضد العراق؟!
وأسفر التحقيق مع العميلين عن مفاجآت عجيبة لم تخطر ببال العراقيين أبداً، فقد تبين أن شبكة إبراهام تضم 36 جاسوساً، هم في مجموعهم خليط عجيب من يهود عراقيين، وإيرانيين، وإسرائيليين من جنسيات مختلفة، ألقى القبض على غالبيتهم في غضون أربعة أيام، وقدموا الى المحكمة العسكرية العليا، وكانت هي المرة الأولى، في تاريخ الجاسوسية الإسرائيلية في العراق، التي يحاكم فيها ستة وثلاثون جاسوساً، تضمهم شبكة جاسوسية واحدة.
وبقدر سعادة رجال المخابرات العراقية لضبط هذه الشبكة الخطيرة، كانت الصدمة قاسية جداً في إسرائيل، وأمهر رجالها يعدمون في سبتمبر 1968 ببغداد، غير آسفة تحصدهم المشانق والبنادق.
إنها صدمة ما بعدها صدمة، إذ أفقدت الموساد الثقة بأن رجالها أذكى رجال المخابرات في العالم، وتأكد لها بما لا يدع مجالاً للشك، أن هناك في العراق، وفي سائر الوطن العربي، رجال أشد ذكاء وضراوة وخبرة، بما يؤكد استمرار حروب الجاسوسية والمخابرات بين العرب وإسرائيل، حروب شعواء ينتصر فيها الأقوى، والأمهر، والأذكى، والأشرس، ويندحر فيها المريض الضعيف !!
" روبرتو بيترو" جاسوس فوق القانون
ولد لأب يهودي إيطالي وأم هنغارية، وعاش سني مراهقته في الشمال بمدينة "تريستا" الساحرة المطلة على بحر الإدرياتيك، وخدعته الدعاية اليهودية عن أفران الغاز التي التهمت ستة ملايين يهودي في ألمانيا، وبهرته شعارات الصهيونية والحياة الرغدة لليهود في إسرائيل، فهاجر اليها مع أمه رينالدا بعد وفاة أبيه.
هناك خدم في جيش الدفاع الإسرائيلي ثم في جهاز الشين بيت "الأمن الداخلي"، وأظهر كفاءة عالية في قمع الفلسطينيين، وتجنيد بعض الخونة منهم لحساب الجهاز بعد إجادته التامة للغة العربية.
لكن حادثاً مفاجئاً قلب حياته بعد ذلك رأساً على عقب، إذ ضبط أمه عارية في أحضان يهودي يمني، تمكن من الهرب بسرواله تاركاً بقية ملابسه، فأصيب بنكسة نفسية كبيرة، إذ كانت أمه تمثل لديه صورة رائعة لكل معاني الحب والكمال، ولم يتصور أن امرأة مثلها في التاسعة والأربعين، قد تسعى الى طلب الجنس، وتتعاطاه مع السائق اليمني.
لحظتئذ. . قرر ألا يعيش في تل أبيب، وقدم استقالته من عمله وحمل حقيبته عائداً الى مسقط رأسه، عازماً على أن يعيش بقية حياته أعزباً، فطالما خانت أمه فلا أمان ولا ثقة بامرأة أخرى.. !!
لكن مايك هراري ضابط الموساد الإسرائيلي الذي كان يبحث عن ذوي الكفاءات المخلصين لـ "يطعم" بهم أقسام الموساد المختلفة، جد في البحث عن "روبرتو بيترو" حتى أدركه في تريستا، إلا أنه فشل في إقناعه بالعودة معه الى إسرائيل، وتركه أربعة أشهر ورجع اليه ثانية ليخبره بوفاة أمه، ويجدد دعوته له بالعمل معه في الموساد.
استطاع هراري بعد جهد العودة بروبرتو الى تل أبيب، وألحقه فوراً بأكاديمية الجواسيس ليتخرج منها بعد ستة أشهر جاسوساً محترفاً، يجيد كل فنون التجسس والتنكر والتمويه والقتل، عنده القدرة على تحمل صنوف التعذيب المختلفة، وأساليب الاستجواب الوحشية لإجباره على الاعتراف، إذا ما سقط في قبضة المخابرات العربية.
فقد اكتشف خبراء الموساد مقدرته الفذة على مقاومة الألم، الى جانب ذكائه الشديد وإجادته الإقناع بوجهه الطفولي البريء، الذي يخفي قلباً لا يعرف الرحمة.
كل هذا. . يضاف الى خبرته التي لا حدود لها في عالم الإلكترونيات، وتكنولوجيا الاتصالات، وموهبته الفائقة في تطوير أجهزة اللاسلكي، التي يستخدمها الجواسيس في بث رسائلهم.
ومنذ وصل روبرتو لفندق ريجنسي، تتبعه السيارة الماسكوفيتش، وعقله لا يكف عن التفكير في من ذا الذي يراقبه ويقتفي أثره؟ أيكون ضابط مخابرات عراقياً ؟ أم أحد أعضاء الشبكة؟
استبدل ملابسه على عجل وخرج من باب الفندق يمسح المكان بعيني صقر باحثاً عن الماسكوفيتش فلا يجد لها أثراً، وفي شارع السعدون توقف أمام إحدى الفترينات وتأكد من خلال زجاجها العاكس بأن هناك من يراقبه، فاختفى فجأة بمدخل إحدى البنايات وتسمر مكانه في الظلام، وبعد برهة يدلف شبح مسرعاً فيصطدم به، وقبل أن تهوي على رأسه قبضة روبرتو الحديدية، يصيح الشبح على الفور: "مولتي تشاو".
إنها كلمة السر المتفق عليها، ليس في بئر السلم، ولكن بمكتب الخدمات العامة، الواقع على بعد عدة بنايات ويمتلكه إبراهام موشيه، الذي كان يراقب روبرتو بنفسه، وأوشك الأخير ان يحطم فكه بقبضته.
الحب المحرم
لم يكن موشيه يهودياً عراقياً فحسب، بل زعيماً محترفاً لشبكة جاسوسية إسرائيلية داخل العراق، استطاع أن يمد نشاطه حتى الكويت وسوريا، متخذاً من عمله في التجارة والاستيراد ستاراً يخفي وراءه حقيقته، وكانت له قصة مثيرة تستحق منا أن نسردها، ونتتبع معاً كيف انجرف مستسلماً في تيار "الخيانة" منذ صباه، مضحياً بكل شيء في سبيل الوصول الى مأربه، ضارباً عرض الحائط بالأمانة والشرف.
كانت بدايته في ضاحية دوما بالقرب من دمشق. ولد لأم يهودية سورية، وأب يهودي عراقي يعمل دباغاً للجلود، امتلك ناصية الحرفة، وأقام مدبغة في بغداد بعد ستة أعوام من العمل الجاد في سوريا، إذ هرب فجأة الى موطنه الأصلي ومعه أسرته الصغيرة، بعد ما اتهم باغتصاب طفل مسيحي دون العاشرة، فعاش في بغداد يحاصره الخوف من مطاردة أسرة الغلام أو السلطات السورية. لكنه لم يرتدع بعد هذه الحادثة، إذ واجهته هذه المرة تهمة اغتصاب طفل آخر في بغداد.
ولأنه أثرى ثراء فاحشاً، دفع مبلغاً كبيراً لوالد الطفل رقيق الحال، فتبدلت الأقوال في محضر الشرطة، وخرج موشيه ببراءته، ليمارس شذوذه على نطاق أوسع مع غلمان مدبغته، الى أن وجدت جثته ذات يوم طافية بأحد الأحواض المليئة بالمواد الكيماوية المستخدمة في الدباغة، وكان ابنه إبراهام وقتئذ في الثانية عشرة من عمره، وأخته الوحيدة ميسون على أعتاب السابعة.
باعت أمها المدبغة وهربت بثمنها الى مكان مجهول مع السمسار اليهودي الذي جلب لها المشتري، وتركتهما يواجهان مصيرهما لدى عمهما البخيل، ويتذوقان على يديه صنوف القهر والقسوة كل لحظة.
وأمام تلك المعاناة. . ترك إبراهام مدرسته، والتحق بالعمل كصبي بورشة لسبك الفضة يمتلكها تاجر يهودي، بينما عملت أخته كخادمة بمنزل عمها مقابل الطعام، واكتشف إبراهام ميلا لديه للسرقة، فمارس هوايته بحذر شديد في سرقة المعدن الخام قبل سبكه ووزنه دون أن يلحظه أحد.
وما أن بلغ مرحلة المراهقة باندفاعها وطيشها، حتى ظهرت عنده أعراض الشذوذ كوالده، وإن كانت تختلف في الأسلوب والاتجاه، وكانت ضحيته الأولى..أخته التي كان ينام معها في فراش واحد بإحدى الحجرات المنعزلة، فكان يحصل منها على نشوته الكاملة وهي تغط في سبات عميق.
وذات ليلة . . استيقظت ميسون على غير العادة، ولاذت بالصمت المطبق تجاههه عندما أحست به يتحسس جسدها، فهو شقيقها الذي يحنو عليها، ويجيئها بالملابس الجديدة والحلوى، ويدافع عنها ضد جبروت عمه وزوجته، ويطلب منها دائماً الصبر على قسوة الظروف، طائراً بها في رحلات خيالية بعيداً عن منزل عمهما، فكانت لكل ذلك تسكت عليه.
ولما ظهرت عليها صفات الأنثى وعلتها مظاهر النضوج، استشعرت لذة مداعباته التي أيقظت رغباتها، فتجاوبت معه على استحياء شديد في البداية، الى أن استفحل الأمر بينهما للمدى البعيد العميق، فهرب بها الى البصرة، بين أمتعتهما صندوق عجزا عن حمله، كان بداخله خام الفضة الذي سرقه على مدار عشر سنوات كاملة من العمل بالمسبك.
وهناك . . معتمداً على خبرته الطويلة، أقام مسبكاً خاصاً به بحصيلة مسروقاته، واكتسب شهرة كبيرة بين التجار، وأثرى ثراء فاحشاً بعد أربع سنوات في البصرة.
كانت ميسون في ذلك الوقت قد تعدت التاسعة عشرة، جميلة يانعة تحمل صفات أمها الدمشقية، ذات جسد ملفوف أهيف، ووجه أشقر تتوجه خيوط الذهب الناعمة، عيناها الناعستان كحبتي لؤلؤ تتوسطهما فيروزتان في لون البحر، وفم كبرعم زهرة يكتنز بالاحمرار والرواء، وأنوثة طاغية تشتهيها الأعين وما ذاقها إلا إبراهام.
بيد أن الحب له طعم آخر، ولسع بديع يداعب الخيال، فتعزف الخفقات سيمفونية رائعة من أغاني الحياة.
فعندما أحبت ميسون جارها وتمكنت منها المشاعر، هربت كأمها مع الحبيب الى أقصى الشمال. . الى الموصل، فتزوجته مخلفة وراءها إبراهام يلعق الذكريات ويكتوي بنار الوحدة، تنهشه أحزانه فيتخبط مترنحاً، وتميد به الخطوات تسعى الى حيث لا يدري، ويتحول الى إنسان بائس.. ضعيف وحيد.
في هذا المناخ يسهل جداً احتواؤه بفتاة أخرى، تشفق عليه وتقترب منه عطوفة رقيقة، وهذا بالفعل ما حدث، إذ قربته "راحيل" اليها، ولازمته في قمة معاناته للدرجة التي يصعب عليه الابتعاد عنها.
ولأنها ابنة يهودي يعمل لحساب الموساد، وكان لها دور فعال في نشاطه التجسسي، استطاعت أن تضمه بسهولة الى شبكة والدها. ولم لا. . ؟ إنه خائن بطبعه منذ الصغر، استلذ الخيانة عشر سنوات مع صاحب المسبك، وخان الشرف والأمانة عندما انتهك حرمة أخته، ذابحاً عفافها غير مبال بالدين أو القيم، فإن مثله معجون بالخيانة، ليس يصعب عليه أن يخون الوطن أيضاً، فكل القيم عنده طمست معالمها وغطاها الصدأ.
لقد بدت سهلة رحلته مع الجاسوسية بعدما تزوج من راحيل، وأخضع لدورات عديدة صنعت منه جاسوساً، فانتقل الى بغداد ليمارس مهامه الجديدة. ولم يكن يدرك أبداً أن شبكته التي سيكونها فيما بعد، ستكون أشهر شبكات الجاسوسية في العراق قاطبة.
شاخص الداهية
في بغداد استأجر إبراهام منزلاً رائعاً، وافتتح مكتباً وهمياً للتجارة بشارع السعدون، والتحق بأحد المعاهد المختصة بتعليم اللغة الإنجليزية، وجند أول ما جند شاباً يهودياً يعمل مترجماً للغة الروسية، له علاقات واسعة بذوي المناصب الحساسة في الدولة، كثير السفر الى موسكو بصحبة الوفود الرسمية، كان دائماً ما يجيء محملاً بالسلع والكماليات، معتمداً على إبراهام في تصريفها.
كان تجنيده بعيداً تماماً عن الجنس أو المال. إذ كان "شوالم" غالباً ما يحكي لإبراهام أسرار سفرياته وتفاصيل ما يدور هناك بين الوفدين العراقي والسوفييتي، ولم يكن يخطر بباله أن أحاديثه مع إبراهام كانت كلها مسجلة.
وعندما استدرجه ذات مرة للخوض في ادق الأسرار، تشكك شوالم في نواياه فامتقع وجهه واستبد به الخوف، وعلى الفور عالجه ابراهام بالحقيقة، وأكد له بأنه استفاد كثيراً من أحاديثه ونقلها حرفياً للإسرائيليين، فحاول الشاب أن يفلت بجلده من مصيدة الجاسوسية، لكن شرائط التسجيل المسجلة بصوته كبلته، فخضع مضطراً لابتزاز عميل الموساد.
كانت تجربته الأولى الناجحة قد زادته ثقة في نفسه، وأخذ يبتز شوالم الى آخر مدى.
فمن خلاله تعرف إبراهام على مهندس يهودي، يعمل بأحد مصانع الأسمنت في بغداد، تردد كثيراً، على منزله برفقة شوالم في بادئ الأمر، ثم بمفرده بعد ذلك حيث شاغلته راحيل برقة متناهية، وأوحت اليه نظراتها وابتساماتها السحرية بعالم آخر من المتعة، لكنها لم تعطه شيئاً مما أراد، وايضاً لم تتجاهله، فحيره أمرها كثيراً، وما بين شكوكه في تصرفاتها حياله، واستغراقه في تفسيرها، أدمن رؤيتها طامعاً فيما هو أكثر، ليستسلم في النهاية صاغراً، ويستجيب لأوامرها عندما طلبت منه معلومات عن المواقع العسكرية التي تتسلم حصص الأسمنت.
وعندما سلمته أربعمائه دينار مقابل خدماته، صدمته الحقيقة التي تكشفت له، فهونت عليه الأمر وشرحت له الكثير عن واجب اليهود إزاء وطنهم الجديد، إسرائيل، وأمام فتنتها القاتلة لم يتبرم أو يعترض، بل تطوع – إرضاء لها – بجلب المعلومات الحيوية دون تكليف منها، عازفاً عن العمل بمقابل مادي لقاء خدماته، على أمل الهجرة الى إسرائيل في أقرب فرصة، وتوفير فرصة عمل له هناك.
ولما أدركت هي ما يصبو اليه، لعبت على أوتار أمنيته، ووعدته بتحقيقها في التقريب العاجل.
استتر إبراهام خلف مكتبه التجاري، وزيادة في التمويه . . قام بشحن كمية من فاكهة البرتقال الى الكويت، بواسطة سيارة نقل كبيرة "برادة" يقودها سوري عربيد من السويداء، يعشق الخمر العراقي (1) والنساء، له زوجة سورية في درعا، وأخرى عراقية في المقدادية، وثالثة إيرانية في كرمشاه.
كان السائق زنديقاً لا ديانة له، اسمه "خازن" وشهرته "شاخص" لشخوص واضح في عينيه، استطاع هذا الخازن أن ينال ثقة ابراهام خلال فترة وجيزة من العمل لديه في نقل الفاكهة الى الكويت، ولأنه سائق فقط على البرادة، تسلل إبراهام الى عقله ووجدانه، ووعده بأن يمتلك مثلها إذا أخلص اليه "وتعاون" معه.
في إحدى زياراته لزوجته السورية، تمكن شاخص من الحصول على بعض المعلومات التي تتصل بالتحركات العسكرية السورية على الجبهة، وبعض القواعد الجوية التي تطورت منشآتها وتحصيناتها، كما وطدد علاقته بأحد المتطوعين في الجيش السوري من أقرباء زوجته، استطاع بواسطة الهدايا التي أغدقها عليه، أن يتعرف من خلاله على أسرار هامة، تمس أموراً عسكرية روتينية ويومية، قام بنقلها الى ابراهام بأمانة شديدة، فمنحه مبلغاً كبيراً شجعه على أن يكون أكثر إخلاصاً في البحث عن المعلومات العسكرية، ليس في سوريا فحسب، بل وفي الكويت أيضاً.
كانت الكويت في ذلك الوقت إمارة صغيرة غنية، سمحت للعديد من العراقيين والإيرانيين بالإقامة وبعض حقوق المواطنة (2)، فضلاً عن العديد من أبناء الجنسيات العربية الأخرى الذين تواجدوا بها منذ سنوات طويلة. ومن بين هؤلاء كانت توجد نفوس ضعيفة يسهل شراؤها، خاصة أولئك الذين يشعرون بالدونية وبأنهم مواطنون من الدرجة الأدنى.
استطاع خازن أن يستثمر ذلك جيداً في شراء ذمم بعضهم، وحصل على معلومات دقيقة عن أنواع الأسلحة المتطورة في الكويت، ومخازنها، ونظم التدريب عليها، وعدد المنخرطين في الجيش الكويتي، وبعثات الطيارين في الدول المختلفة. وامتد نشاطه الأفعواني الى دول الخليج العربي وإماراته الأخرى. فمكن بذلك ابراهام من تجميع ملفات كاملة، تحوي الكثير من المعلومات العسكرية والاقتصادية والتجارية عن الكويت ومنطقة الخليج.
ميسون عادت
تحير ضباط الموساد في أمر عميلهم أبراهام، فإخلاصه يزيد كثيراً عن الحد المعهود، ونشاطه التجسسي يتطور ويمتد ليشمل بخلاف العراق دول الخليج وسوريا. وكان لا بد من حمايته كي لا يغتر بنفسه فيكشف أمره، وحمايته ليست بالطبع بواسطة حراس مسلحين، وإنما بتدريبه تدريباً خاصاً لرفع الحس الأمني لديه، والوصول بكفاءته كجاسوس محترف الى درجة أعلى في الخبرة والمهارة، فاستدعى للسفر الى عبادان على وجه السرعة، حيث كان ينتظره خبيران من الموساد أحدهما روبرتو بيترو، جاء خصيصاً من أجله لأنه يحمل ترخيصاً تجارياً، لم تواجهه مشكلة في مغادرة العراق.
مكث أبراهام معهما تسعة عشر يوماً، أخضع أثناءها لدورات مكثفة في كيفية فرز المعلومات وتنقيتها، والسيطرة على هذا الكم الهائل من العملاء الذين يدينون بالولاء لإسرائيل، هذا فضلاً عن تدريبه على كيفية الإرسال بالشفرة، بواسطة جهاز لاسلكي متطور أمدوه به وجهاز راديو لاستقبال الأوامر. ورجع إبراهام الى العراق يزهو بالحفاوة التي قوبل بها، وبالتدريب الجيد الذي ناله، وبالأموال الطائلة التي ما حلم بمثلها يوماً.
سرت راحيل بالهدايا الثمينة التي حملها اليها. وجهاز الراديو الرانزستور الحديث بين أمتعته، والذي هو في الأصل جهاز لاسلكي تتعدى قيمته عشرات الآلاف من الدولارات وفي أولى رسائله الى الموساد طمأنهم على وصوله بسلام، وبثهم تحيات زوجته، وتلقى رداً يفيد استلام رسالته، وتمنياتهم الطيبة لهما بعمل موفق.
في الحال شرع إبراهام في الاتصال بأعضاء الشبكة، وطلب منهم معلومات محددة كل حسب تخصصه، وأمدهم بآلاف الدناتير ليغدقوها على عملائهم، فأثبت كفاءة عالية في إدارة شبكته بمهارة.
وذات يوم بينما كان في الموصل، لم يصدق عينيه وهو يقف وجهاً لوجه أمام ميسون في أحد الميادين، وحين ألجمتها المفاجأة أسرعت بالفرار وسط الزحام تتلفت خلفها، بينما غادر سيارته الماسكوفيتش ملهوفاً وأسرع وراءها، تمر برأسه ألوان من الذكريات البعيدة لم يستطع نسيانها. فلما أدركها، ملتاعة صرخت، فطمأنتها نظراته المليئة بالحب والشوق، ومشت معه الى السيارة ترتعد، وقد انحبست الكلمات في حلقومها.
وفي الطريق الى منزلها.. عاتبها كثيراً، وشكا لها قسوة المعاناة التي عايشها من بعد هروبها، وعلى المقود هجمت عليه أشجانه، وغلبته دموعه فاستسلم لها، في حين شهقت أخته باكية تستعطفه، وترجوه أن ينسى ما كان بينهما، وأشارت الى بطنها المنتفخ قائلة إنه الابن الثالث لها.
لكن يهودياً خائناً وشاذاً مثله، لم يكن مؤهلاً لأن يستجيب لرجفة الخوف والضعف عند عشيقته الأولى في حياته .. أخته. فما إن وصلا الى منزلها، وكان خالياً من زوجها، إلا وطالبها بحمل مستلزماتها وولديها والعودة معه الى بغداد. رفضت ميسون مسترحمة، فانهال عليها ضرباً وركلاً غير مبال بصراخ الصغيرين، وأمام إصرارها على الرفض طالبها بحقه . . فيها. . !!
ألم نقل بأنه يهودي خائن، تبرأت منه النخوة واعتلاه الجمود؟ .. هكذا نال ما أراده منها، مدعياً بأنه حق مكتسب وواجب عليها أن تؤديه كلما طلبها.
رجع بغداد مكدراً ليجد راحيل تعاني آلام الحمل الأول في شهوره الأخيرة. وبعد أسبوع يأخذها في الفجر الى المستشفى، فتلد جنيناً ميتاً سرعان ما تلحق به هي الأخرى بسبب حمى النفاث، كأنما أراد الله أن يقطع ذريته الى الأبد، ويحرمه من مشاعر الأبوة فيظل وحيداً كشجرة جافة بلا جذور، تطيح بها الأنواء فتتكسر.
ولأول مرة منذ هجرته ميسون في البصرة، تفتك به الوحدة وتعتصره الأحزان، فتخنق لديه مباهج الحياة، وتبثه اللوعة تكوي عظامه وتزلزل عقله، فيفقد شهيته للعمل، وينزوي في ضعف يسربله الخوف والوهن، وتفر منه اندفاعات الجرأة الى حيث لا مستقر.
اللاسلكي المهشم
في تل أبيب اجتمع ضابط الارتباط بمرؤوسيه، وقرأ عليهم رسالة عاجلة بثت في بغداد تقول: "دوف: أمر بظروف نفسية معقدة. . لا أستطيع الاستمرار في العمل. . لن أكون ذا نفع لكم من الآن . . ابعثوا بمن يقود المجموعة . . سأنتظر ردكم بلا أوامر في الميعاد شالوم".
وجم الجميع، فإشارات الراسلة ورموزها السرية صحيحة، بما يفسر عدم وقوع العميل في قبضة المخابرات العراقية، ماذا حدث إذن؟
كانت هناك شكوك في فحوى الرسالة، فهي إحدى المرات القلائل، الوحيدة التي يتسلم فيها الموساد رسالة غامضة كهذه من عميل نشط. وفسر البعض ذلك بأنه ربما كشف أمره واعترف بكل شيء، وضبط بنوتة الشفرة رموز الاستهلال والختام السرية المتفق عليها. لكن ضابط الارتباط استبعد ذلك، فالعميل يحفظ الرموز جيداً عن ظهر قلب ودرب كثيراً على ذلك في عبادان، ولو أن أمره قد انكشف وأجبر على بث الرسالة، لعكس الأرقام. وكان لابد من معرفة حقيقة الوضع في العراق.
عندئذ بعثوا اليه برسالة مغلوطة سرعان ما جاءهم رده يطلب إعادة البث مرة أخرى، ولما عجز عن فك رموزها، أيقن أن هناك خطأ ما، فبث رسالة تأكيدية أخرى ضمنها إشارت سرية بديلة أراحتهم وطمأنتهم.
على الفور أرسلوا اليه بإيراني خبيث، يدعى طباطباني حبرون يعمل لحسابهم في طهران، تسلل الى العراق بأوراق مزورة تحمل اسم رضائي عبد الرضا، التقى بإبارهام الذي كان شارد الذهن منكسر المزاج، واستطاع بعد لأي أن يعيد اليه توازنه، ويقنعه بالاستمرار في العمل، خاصة وإسرائيل في تلك الفترة كانت تمر بظروف مختلفة، بعدما انتصرت على العرب في حرب يونيو 1967، هذه الظروف كانت تستدعي العمل بجد ترقباً لرد عربي وشيك، قد يدمر إسرائيل ويقضي عليها.
لقد وعده طباطباني بحياة رغدة في إسرائيل بعد انتهاء مهامه، فحرك فيه روح الحمية والعداوة ضد العراقيين، الذين أمدوا الجيوش العربية بالسلاح والعتاد لضرب إسرائيل، فلما نجح الخبيث في مهمته مع الجاسوس المحبط، عاد من حيث أتى، فلقد استرد إبراهام طاقته ومواهبه من جديد، ومارس الجاسوسية على أوسع نطاق، الى أن وقع حادث خطير زلزل كل شيء.
فبينما كان يحمل جهاز اللاسلكي متوجهاً به الى مخبئه بسطح منزله – وقد انتهى لتوه من بث رسالة لتل أبيب – زلت قدمه على السلم، فسقط منه الجهاز الثمين وتبعثرت محتوياته الداخلية.
حينئذ أصيب أبراهام بالفزع، واعتراه اضطراب رهيب. وكتب على الفور رسالة بالحبر السري الى الموساد في أثينا، يطلعهم على الخبر الصاعقة، وكانت صاعقة بالفعل وقد أصابت العقول المتابعة في تل أبيب.
وعقد على الفور اجتماع ضم نخبة من خبراء الموساد، اتخذ فيه قرار نهائي بإرسال روبرتو بيترو الى بغداد لإصلاح الجهاز المعطل.
اطلع ضابط الموساد على المهمة التي كلف بها، وحسب الخطة الموضوعة سافر الى روما حيث تسلم وثيقة سفر إيطالية، وتمت تغطية شخصيته الجديدة كمندوب لشركة انتراتيكو الايطالية للمقابض، حيث سجل اسمه في جميع الدوائر، توقعاً السؤال عنه من قبل مكتب المخابرات العراقية في روما.
فما إن وطأت قدماه مطار بغداد الدولي، حتى كانت عيون مخابراتها ترصده عن بعد. فالجواسيس في تلك الفترة كانوا كمرتادي دور السينما، لا عدد لهم، أغلبهم من يهود العراق الذين ينعمون بالأمن، وأبوا إلا أن يعترفوا بإسرائيل وطناً أولاً لهم. فباعوا أمن العراق وهتكوا ستره، ونقبوا عن أسراره لحساب الموساد.
حصاد المشانق
ما إن رصدت أعين المخابرات العراقية مطاردة إبراهام لروبرتو حتى كثفت من رقابتها، فهناك أمر ما يجمعهما معاً. وتأكد لهم ذلك من لقاء بئر السلم بشارع السعدون. وبينما البحث يجري في روما عن حقيقة روبرتو المجهول، كانت الأجهزة اللاقطة قد زرعت بمكتب إبراهام، الذي تسلل اليه روبرتو دون أن يلحظ وقوف سيارة "فان" سوداء ذات ستائر غليظة، بداخلها أحدث أجهزة التنصت التي تنقل أنفاس من بالمكتب، إضافة الى عربة جهاز تتبع الذبذبات اللاسلكية التي جيء بها من موسكو. فقد كانت تطوف بالمكان بلا انقطاع.
بعد قليل سمع بوضوح رنين جرس الباب، ووقع أقدام تتحرك، وفجأة . . انبعث صفير حاد عطل عملية التنصت. فخبير الموساد المدرب، وبحسه الأمني العالي، أدار جهاز التشويش الذي جلبه معه، تحسباً.
وعلى مدار تسعة أيام في بداية عام 1968، لم تسفر المراقبة عن شيء ذي قيمة، فإبراهام ماكر للغاية، وضيفه يقوم بمناورات عجيبة للتخفي استدعت تغيير فرق المراقبة والرصد كل عدة ساعات، فضلاً عن جهاز التشويش الإلكتروني الطنان، الذي أفشل عملية التسجيل.
وبالرغم من ان التحريات التي جاءت من روما أكدت بأن روبرتو إيطالي لا شك في ذلك، لكن الأمر كان يبدو محيراً حقاً، فالساعات التي كان يقضيها بالمكتب مع إبراهام، كانت دائماً تثير شهية الاقتحام.
وبينما كان الجو مشحوناً بالقلق والاضطراب، فجأة، ودون توقع. . التقط جهاز كشف الذبذبات اللاسلكية إشارات متقطعة لا تكتمل، تبث لاسلكياً من منطقة السعدون، فصرخ أحد الخبراء قائلاً إنها تشبه إشارات جهاز لاسلكي معطل، ويجري إصلاحه وتجربته، وعلى الفور صدرت أوامر عليا بمداهمة المكان. وكانت المفاجأة كما توقعها الضابط العراقي، حيث وجد روبرتو منهماً في إصلاح اللاسلكي، وإبراهام يرقبه عن قرب. .
صعق العميلان. . ولهول الصدمة تسمرا في مكانيهما، فانقض عليهما الرجال وكبلوهما واقتيدا مغميان لمبنى المخابرات، حيث جرى استجوابهما في ذات ليلة، فيعترف ابراهام بكل شيء، بينما التزم روبرتو الصمت رغم التعذيب المميت الذي لاقاه، كأن جسده قد من صخر، لا رابطة بينه وبين مخه.
وبعد ثلاث ليال من التجويع والعطش انهار روبرتو تماماً، وأقر بأنه ضابط مخابرات إسرائيلي، جاء لمهمة إصلاح الجهاز "فقط" لا للتجسس ضد العراق؟!
وأسفر التحقيق مع العميلين عن مفاجآت عجيبة لم تخطر ببال العراقيين أبداً، فقد تبين أن شبكة إبراهام تضم 36 جاسوساً، هم في مجموعهم خليط عجيب من يهود عراقيين، وإيرانيين، وإسرائيليين من جنسيات مختلفة، ألقى القبض على غالبيتهم في غضون أربعة أيام، وقدموا الى المحكمة العسكرية العليا، وكانت هي المرة الأولى، في تاريخ الجاسوسية الإسرائيلية في العراق، التي يحاكم فيها ستة وثلاثون جاسوساً، تضمهم شبكة جاسوسية واحدة.
وبقدر سعادة رجال المخابرات العراقية لضبط هذه الشبكة الخطيرة، كانت الصدمة قاسية جداً في إسرائيل، وأمهر رجالها يعدمون في سبتمبر 1968 ببغداد، غير آسفة تحصدهم المشانق والبنادق.
إنها صدمة ما بعدها صدمة، إذ أفقدت الموساد الثقة بأن رجالها أذكى رجال المخابرات في العالم، وتأكد لها بما لا يدع مجالاً للشك، أن هناك في العراق، وفي سائر الوطن العربي، رجال أشد ذكاء وضراوة وخبرة، بما يؤكد استمرار حروب الجاسوسية والمخابرات بين العرب وإسرائيل، حروب شعواء ينتصر فيها الأقوى، والأمهر، والأذكى، والأشرس، ويندحر فيها المريض الضعيف !!
أمينة المفتي. أشهر جاسوسة عربية للموسـاد -التليفون المجهول
بشارع كيريا في تل أبيب اجتمع عدد من الخبراء في مبنى الموساد، للوصول الى قرار حاسم بعودة أمينة الى بيروت من جديد، أو الاكتفاء بخدماتها وإبقائها في إسرائيل. لقد قرأوا جميعاً تقريراً وافياً عن العميلة الثائرة . . والتي صنفت من الفئة "أ" - وهذه الفئة من الجواسيس يتدرج تحتها كل من يعملون في البلاد العربية بدون أي غطاء دبلوماسي يحميهم - ووصف التقرير أمينة بأنها تعاني من اضطرابات شخصية، وتمتلك القدرة التي تمكنها من الانتقال من أحد جوانب الموقف الى جانب آخر، وهو ما يعرف في علم النفس باسم الاتجاه المجرد ABSTRACT ATTITUDE، وتتنامى لديها أعراض الكآبة نتيجة لومها الدائم لنفسها، باعتبار أن ما حدث لزوجها كانت هي السبب فيه، وعندما تزداد الأعراض حدة تصبح أكثر اكتئاباً وتخوفاً، مما ينمي مشاعر "الاتهام بالذات" S ELF CONDEMINATION - لديها - والمريض في هذه الحالة في يأس خطير لأنه مهموم بالماضي، ويحس أن لا أمل ألبتة في المستقبل بسبب الفعلة التي ارتكبها. هذه المشاعر القلقة المحملة باليأس والبؤس، عادة ما تعتصر المريض، وقد تقوى عنده نزوة الانتحار. وأشار التقرير الى أن حالة أمينة هذه لا ينصح فيها بعلاج العقاقير، حيث لن تنتظر التحسن طوال مدة العلاج، بقدر ما تشعر بالتحسن والهدوء في عملها بالموساد. ففي ذلك إقناع لها على أن ما تؤديه من عمل، يمثل لديها قمة الثأر لما ارتكبته بحق موشيه. وبناء عليه . . رأى فريق من خبراء الموساد أن أمينة، ربما تشعر بالزهو E LATION في عملها، فتتخلى عن حذرها وتنكشف. لكن الأغلبية رأت أنها جديرة بالعمل في بيروت، ومع حصولها على دورات تدريبية مكثفة، ستكون أكثر حذراً. . وإقبالاً . . وشغفاً. وانتهى الاجتماع بالموافقة على عودتها للبنان، وذل بعد موافقة ريفي رامير رئيس الموساد. هكذا تحدد لها أن تستمر وتواصل توغلها بين القيادات الفلسطينية، وجاءوا بها الى المبنى المركزي حيث جلس اليها أحد كبار الرسامين، ومن خلال وصفها لعلي حسن سلامة، استطاع أن يرسم صوراً تقريبية له. وتعهد بها اثنان من الضباط الخبراء، أحدهما تولى تدريبها على استعمال أحدث ما ابتكره العلم في مجال أجهزة اللاسلكي. وتقرر لها بث رسائلها مرتين أسبوعياً يومي الخميس والاثنين، وتلقي الرسائل من تل أبيب كل ثلاثاء في الحادية عشرة ودقيقتين مساء. كانت أمينة طوال فترة تدريبها المكثفة في حالة سعادة غامرة. فهي ستزداد خبرة تمكنها من إجادة عملها، وبالتالي يكون انتقامها عظيماً فتستريح نفسها ويهدأ بالها.
وفي الثالث من أكتوبر 1973 غادرت تل أبيب الى فيينا، حيث تسلم منها عميل الموساد جواز سفرها الإسرائيلي، وسلمها الجواز الأردني مع تذكرة سفر الى بيروت فجر اليوم التالي. هذه المرة. . عندما دخلت شقتها في فيينا لتمكث بها عدة ساعات، لاحظت أن ابتسامة موشيه لازالت مرتسمة كما هي. بل كانت نظراته أكثر بهجة واطمئناناً. وقبلما تغادر شقتها الى المطار بثوان.. انتفضت فجأة عندما دق جرس التليفون، وتسمرت مكانها للحظة.. ثم اتجهت صوب الكابل فنزعته.. وانطلقت في شوق للعمل .. للثأر. تحمل بين أمتعتها جهز راديو يحمل ماركة عالمية معروفة، هو بالأصل جهاز لاسلكي أكثر تطوراً ولا يمكن اكتشافه. وبحقيبة يدها كانت تحتفظ بالمصحف الشريف . . وقد نزعت عدة صفحات منه واستبدلت بصفحات أخرى تحمل الشفرة.
نفيه شالوم
وما إن خطت أمينة عدة خطوات بمطار بيروت الدولي، متجهة الى حيث يتحرك السير بحقائب الركاب، حتى صدمت بشدة لمشهد شاب يقتاده رجال الأمن. وبينما تتابع المشهد . . فوجئت بيد قوية تربت على كتفها من الخلف. فصدرت عنها صرخة مكتومة هلوعة، وسقطت في الحال حقيبة يدها على الأرض. وأوشكت هي على السقوط. لكنها بكل ما تملك من قوة - تماسكت .. واستدارت لتصطدم بوجه صديقها مارون الحايك، تغطي وجهه نظارته الشمسية السوداء. . وينسدل شعره اللامع لقرب كتفيه. تنفست الصعداء . . وودت لو أن تصفعه بقوة . . وتظل هكذا تصفعه حتى ينقشع الخوف الذي حل بأعماقها من جديد، وأعادها الى تلك الحالة الأولى التي غادرت بسببها بيروت الىتل أبيب. وفي بشاشة مصطنعة سألته.
- أوه . . أيها الماكر . . أكنت معي على اللوفتهانزا قادماً من فيينا . .؟
خلع نظارته مبتسماً وهو يضغط على كفها ضغطاً ذا مغزى وأجاب:
- بحثت عنك كثيراً في بيروت فلم أجدك . . وكنت أمني نفسي بأن نمضي معاً أسبوعاً خيالياً في نيقوسيا.
- نيقوسيا . .؟ نطقتها وقد كست وجهها بالدهشة.
- سألت عنك مانويل وخديجة وحارس البناية . .
ضاربة صدره بيديها وقد افتعلت التحسر:
- مجنون . . مجنون . . (!!) لماذا لم تخبرني قبلها بوقت كاف. .؟ كم كنت مشوقة لرحلة كهذه معك.
غمز بطرف عينيه ضاحكاً وقال:
- سنتدبر الأمر عما قريب أيتها الأنثى الشقية. أنظري .. ها هي حقائبي وصلت الآن.
ولأن لبنان بلد سياحي حر . . فأمور التفتيش في المطارات والمواني شكلية جداً. ولا تخضع لرقابة صارمة كما في سائر البلاد العربية، على اعتبار ان التدقيق الزائد يسيىء الى السواح .. الذين هم عماد الاقتصاد وأحد أسباب الرخاء. لذلك . . لم ينتبه رجال الجمارك لجهاز اللاسلكي المدسوس بحقيبة أمينة. فبيروت كانت في تلك الفترة في أوج انفتاحها. . وسوقاً رائجة لتجارة السلاح . . والمخدرات. . والرقيق الأبيض . . والجواسيس.
وفي الساعات الأولى من صباح 6 أكتوبر 1973، أطلقت أمينة أولى إشارات البث اللاسلكي الى تل أبيب: (آر. كيو. أر. وصلت بسلام. الأمير الأحمر في أوروبا. تعرفت بضابط فلسطيني يدعى أبو ناصر. وعدني مارون بأن يأخذني معه الى مبنى الهاتف المركزي. غادر جورج حبش الى تونس سراً. رجاله يقاتلون سبعة من رجال حواتمة. أبو عمار بالبيت مصاباً بالبرد. شحنة أدوية وصلت سراً من رومانيا للقيادة. يوجد نقص كبير في الأنتي بيوتكس. تحياتي. نفيه شالوم "واحة السلام").
استقبلت الموساد رسالة أمينة بشيء من الاطمئنان والفرح. فالرسالة كانت واضحة الشفرة بلا أخطاء. والأخبار التي حوتها هامة جداً استدعت دخولها الى غرفة التحليل والمتابعة على الفور. وسرعان ما تسلمت أمينة أول رسالة بثت اليها من إسرائيل: (تهانينا بالوصول. اهتمي بتحركات الأمير. أبو ناصر خبيث جداً فاحذريه. لا تهتمي بمارون الآن. من يطبب أبو عمار "عرفات". ماذا ببطن الباخرة كيفين في صيدا. نريد معلومات عن مخازن الأسلحة بمخيم البداوي في طرابلس. ومراكز التدريب الجديدة في قلعة شقيف).. وبينما تهيأت العميلة الاسرائيلية للتحرك . . مدفوعة بشوق جارف الى العمل. انطلقت شرارة الحرب وعبر المصريون خط بارليف المنيع، وعمت مظاهرات الفرح بيروت. وكما بكى رأفت الهجاء بكاءً مراً في إسرائيل إثر هزيمة 1967، انهارت أمينة المفتي في 1973. تناقض عجيب بين الحالين. فتلك هي النفس البشرية في اندفاع الوطنية - أو الخيانة، الحب الجارف - أو الكره المقيت.
الحية الشوهاء
نشطت أمينة المفتي في عملها التطوعي كطبيبة عربية تجوب أنحاء لبنان، وجاسوسة إسرائيلية تمد الموساد بالمعلومات الحيوية عن تحركات الفدائيين في الجنوب، الذين شحنتهم انتصارات الجيوش العربية فازدادوا استبسالاً وضراوة. وعاد علي حسن سلامة من أوروبا لترتيب خطط العمليات الجديدة. فالعدو فقد السيطرة على نفسه . . وعلى اتزانه . . والضربات القوية تترك آثارها بوضوح على وجهه المشوه.
هكذا انطلق رجال المقاومة في الجنوب اللبناني يضربون في العمق الاسرائيلي بلا كلل . . واستدعى ذلك من أمينة أن تترك بيروت الى صور. . ومعها جهاز اللاسلكي الخطير، حيث عكفت على بث رسائلها يومياً. . والتي وصلت في أحيان كثيرة الى خمس رسائل مهددة حياتها للخطر. واضطرت الموساد أمام سيل رسائلها الى فتح جهاز الاستقبال على التردد المتفق عليه، لساعات طويلة على مدار اليوم.
هكذا كانت أمينة المفتي تنتقم . وتفرغ شحنات غضبها في رسائل يومية مبثوثة قد تعرضها للانكشاف والسقوط. لكنها لم تكن تستمع لنداءات الخوف أبداً. إذ اندفعت بجرأة أكثر، وحملت جهاز اللاسلكي في جولة لها بمنطقة بنت جبيل على مسافة خمسة كيلو مترات من الحدود الإسرائيلية، هناك فوجئت ببعض زعماء الجبهات الفلسطينية، برفقة أبو إياد (1) يتفقدون جبهة القتال ويصيحون في الجنود فيثيرون حماستهم. لحظتها .. تملكها الحقد والغضب .. وبمنتهى الجرأة اختلت بنفسها داخل أحد الكهوف.. وبثت رسالة عاجلة الى الموساد . (أي. كيو. أر. عاجل جداً وهام. أبو إياد وقيادات الجبهات في بنت جبيل. موقعهم مائة وخمسون متراً شرق القبة العلوية بجوار فنطاس المياه بين شجرتي الصنوبر. اضربوا الموقع كله ودمروا السيارات الجيب والليموزين. سأكون على بعد معقول منهم. سأفتح الجهاز لأربعة دقائق. نفيه شالوم).
وجاءها الرد قبل ثوان من انتهاء المهلة: (ابتعدي عن الرتل وانبطحي أرضاً عند ظهور الطائرات). أغلقت أمينة الجهاز بعدما ترجمت الرسالة. واستعدت لتشهد بنفسها المجزرة. لكن يا لحظها السيء.. لقد لعب القدر لعبته وتحرك رتل السيارات باتجاه الشمال. بينما وقفت عميلة الموساد تتحسر .. وتقلب عينيها في السماء بانتظار الطائرات. خمس دقائق تمر.. عشر دقائق.. عشرون دقيقة. لم تستطع الصبر ففتحت جهاز اللاسلكي وهي تلعن الانتظار وبثت رسالتها (آر.كيو.آر. تحرك الهدف الى الشمال طريق تبنين منذ 21 دقيقة. سيارة أبو إياد سوبارو سوداء. نفيه شالوم) وما إن بثت رسالتها وأغلقت الجهاز، حتى لمحت طائرتي ميراج تطلقان صواريخ السيد وندر، والقنابل زنة الألف رطل. ورأتهما ترتفعان الى عنان السماء ثم عادتا للانقضاض من جديد وهذه المرة بفتح خزانات النابالم الحارقة. كل ذلك وهي ما تزال بالكهف ترقب تناثر الأجساد البشرية كالشظايا في الهواء، فيصدر عنها فحيحاً رهيباً كحية شوهاء، وتضحك في هستيريا مجنونة مشبعة بالحسرة والشماتة. حسرة انعتاق أبو إياد ورفاقه، وشماتة الهزيمة لبضع جنود امتزجوا بالتراب والدم والسلاح.
هكذا حملت أمينة جهاز اللاسلكي بحقيبتها في تجوالها بالجنوب اللبناني، طوال معركة أكتوبر 1973، متنقلة بين المستشفيات الميدانية والمواقع العسكرية. . تسعف الجرحى من المصابين بداء وشاياتها. . وتستمد من الحقد جرأتها وقوتها. وكانت بذلك أول جاسوس للموساد يعمل بجرأة اسطورية داخل بلد عربي. لم يفعلها إيلي كوهين الذي زرع في سوريا قبلها بسنوات قليلة، وكان مرشحاً لمنصب نائب رئيس الجمهورية السورية، برغم تجواله بين شتى الوحدات العسكرية والقواعد السرية في الجولان، وإقامته المطولة بمنطقة الجبهة، بل إنه برغم حجم الثقة في نفسه، لم يحمل أبداً جهاز اللاسلكي خارج المنزل. كان فقط يبث رسائله بشكل يومي الى الموساد. لم يفعلها أيضاً المقدم فاروق ابراهيم الفقي، الضابط المخابراتي العسكري المصري الذي جندته هبة سليم، وتسبب في تدمير كل قاعدة عسكرية جديدة كان يتم بناؤها بمنطقة القناة.
إذا كان يحتفظ بجهاز اللاسلكي بمنزله، ويبث للموساد أولاً بأول عن مواقع الصوراريخ والرادارات، والمطارات، لم تفعلها انشراح التي أنقذها السادات من الإعدام أيام كامب دايفيد، وكانت تجوب منطقة القناة مع زوجها وأولادها كل يوم بحثاً عن الجديد. كانت أمينة المفتي أجرأهم جميعاً قلباً وأعصاباً. مدفوعة برغبة مجنونة في الانتقام والثأر، لا برغبة المغامرة.
تقول أمينة في مذكراتها التي بلغت صفحاتها ستمائة صفحة:
(منذ حملت معي جهاز اللاسلكي لأول مرة الى الجنوب، وشاهدت بنفسي هجوم الميراج الإسرائيلي على الموقع الفلسطيني، بغرض تدميره وتصفية أبو إياد وأعوانه، وقد تملكني إحساس رائع بعملي. . إحساس بالزهو وجدت فيه لذة كبرى تفوق كل لذة. ومنذ تلك الحادثة في 11 أكتوبر 1973، وأنا أحمل الجهاز الصغير بحقيبتي، بجواره المصحف ذي الجراب والشفرة. كنت أكتب رسالتي أولاً على ورقة منزوعة من بلوك نوت، ثم أقف بسيارتي في مكان أطمئن فيه من العابرين، وأسحب هوائي الجهاز وأقوم بالبث لدقائق. أحياناً كثيرة كنت أبث الرسالة الواحدة مرتين للتأكيد، وأحرق الورقة وأعاود القيادة الى مكان آخر. وبفضل تصريح المرور الموثق، الذي وقعه عرفات شخصياً، كنت أجوب بأمان شتى المواقع العسكرية الفلسطينية في الجنوب. وأطلع بنفسي على أنواع الأسلحة وكميات الذخائر بالمخازن، ومعسكرات التدريب السرية. لقد حالفني الحظ كثيراً عندما وثق بي القادة الفلسطينيون، لأنني كنت أبدو متحمسة جداً لقضيتهم، وحقهم في الكفاح لاسترداد الأرض المغتصبة. للدرجة التي دعت أبو إياد لأن يطلب مني إلقاء خطبة حماسية في الجنود المعسكرين بالقرب من مخيم البرج الشمالي في الجنوب من صور. يومئذ . . ألقيت خطبة رائعة . . تتدفق منها الوطنية ومعاني العروبة. لقد أجدت تماماً عندما صعّدت من انفعالي فبكيت .. بكيت وأنا أصف مشاهد القتل والقصف والانكساب على وجوه الأطفال اليتامى، بكيت حقيقة وأنا أحثهم على الانتقام والثأر والكفاح . . وما كنت أبكي إلا لفقد موشيه الحبيب . . وبرودة الحياة من حولي بدونه. والثورة المصطحبة بالغضب في أوردتي وشراييني. . ونبضي . . ضد هؤلاء الأوغاد الذين أذلوني . . وأترعوني كئوس الوحدة . . والصمت . . والعدم . كان انفعالي مثالياً، ظن الجنود والقادة أنه إيمان مني بقضيتهم . . فبكوا . . وعندما بحثت عن منديل بحقيبتي اصطدمت يدي بجهاز اللاسلكي المغلق. . !!).
قانون العنف
انتهت حرب أكتوبر 1973 بوقف إطلاق النار، إثر مفاوضات شرسة ورحلات مكوكية قام بها هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي. وانعقد مؤتمر القمة العربي في الجزائر، وتم التوصل الى صيغة رسمية تقدم بها السادات كانت مفاجئة للجميع، وهي أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وموافقة مصر وسوريا - دولتا المواجهة - على قرار مجلس الأمن رقم 328 الذي ينص على عودة السلام الدائم والعادل في الشرق الأوسط. ولم يرتح الجناح العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية لذلك على الإطلاق. وأقرت المنظمة مواصلة الكفاح المسلح بناء على رغبة "الثورة الفلسطينية". وفي 25 نوفمبر بدأ أول عمل فدائي فلسطيني، حيث تم اختطاف طائرة جامبو نفاثة تابعة للخطوط الجوية الهولندية KLM، كانت في طريقها من بيروت الى طوكيو مروراً بنيودلهي. تحمل على متنها 244 راكباً وثلاثة من الفدائيين الفلسطينيين الذين طالبوا بإطلاق سراح سبعة من زملائهم في قبرص، وألا تمنح هولندا تراخيص مرور لليهود السوفييت الذين في طريقهم لإسرائيل، ووعدت الشركة KLM - بألا تنقل سلاحاً لإسرائيل وانتصر الفدائيون انتصاراً مذهلاً، وتكررت عملية اختطاف طائرة أخرى لنفس الشركة بعدها بأيام. وفي 17 ديسمبر 1973 في مطار روما أطلق عدد من الفدائيين نيران مدافعهم الكلاشينكوف بصورة جنونية داخل صالة المطار المزدحمة. ويختطفون طائرة 707 تابعة لشركة بان أمريكان كانت راسية على الممر، وفجروا قنابلهم الفوسفورية بالطائرة فاحترق عدد كبير من الركاب، ثم جرى الفدائيون ومعهم بعض الرهائن واختطفوا إحدى طائرات شركة لوفتهانزا - بوينج 737 - والتي كانت على وشك الاقلاع، وحطت بهم في أثينا. . وكانت مطالبهم الإفراج عن زملاء لهم من منظمة أيلول الأسود. ومع بدايات العام الجديد 1974 - شكلت عدة منظمات فلسطينية ما يسمى بجبهة الرفض. وكان المتحدث الرسمي باسم الجبهة هو الدكتور جورج حبش زعيم الجبهة الشعبية، وبطل عمليات خطف الطائرات الإسرائيلية الأول.
كانت الضغوط شديدة جداً على أمينة المفتي خلال تلك الفترة. فالعمليات الفدائية الفلسطينية أربكت إسرائيل وزعزعت أمنها تماماً. بل وأصيبت بالعدوان غالبية دول أوروبا المساندة لإسرائيل. فالفلسطينيون أرادوا الإعلان عن وجودهم بشتى الطرق، بما فيها العنف من خطف وتفجير. فالعدو لم يكن يملك سلاحاً أبداً سوى العنف. وإذا كانت إسرائيل اعتمدت العنف قانوناً لها، فالفلسطينيون أيضاً رأوا الحل في ذات السلاح. . دون غيره. . وكان لتسارع الأحداث والعمليات الفلسطينية، الأثر البالغ في انتشار سحب الخوف السوداء فوق رؤوس الاسرائيليين. وفقدت الموساد بذلك خاصية مهمة طالما التصقت بها، وهي أنها حامية الدولة. وسخر الجميع من هيبة الموساد التي سقطت . ومن الدكتور "إبريش فولات" صاحب كتاب "ذراع إسرائيل الطويلة" الذي قال: "إن الموساد أسطورة من الأساطير الخفية، إنها تجعل العدو يرتجف . . وتمنح الاسرائيليين القدرة على النوم في هدوء". "لقد انعكس الوضع الآن. . وأصبح الشعب الإسرائيلي كله يرتجف عند سماع أزيز طائرة، أو عند فرقعة إطار سيارة، أو انفجار عادم دراجة بخارية مسرعة". وانتقل الضغط العصبي الى أمينة المفتي في بيروت . . فالأوامر كثيرة والمطلوب منها كثير ويفوق الوصف . لذلك اضطرت للانتقال تماماً الى الجنوب اللبناني، واستأجرت شقة بمنطقة الشجرة في صور - على مسافة عشرين كيلو متراً من الحدود الإسرائيلية - اتخذت منها مركز انطلاق لاستكشاف تحركات الفلسطينيين. واتصلت بأبو ناصر الضابط الفلسطيني الذي سبق أن حذرتها الموساد منه في أولى رسائل البث اللاسلكية.
لقد استخدمت معه أسلوب "الإثارة". وهو أسلوب يدفع المرء لأن يخرج ما عنده دون أن يطلب منه ذلك. واستطاعت أن تدفعه دفعاً لأن يفصح عن عملية فدائية ستتم في اليوم التالي داخل الأراضي الاسرائيلية.
صرخت وهي متهللة بالفرح: كيف؟ . . إنكم لشجعان حقاً عندما تنقلون عملياتكم الى قلب الدولة اليهودية . . لكن . . في ذلك خطر جسيم على رجالكم. أجابها مزهواً بأن كل شيء معد، وتم التخطيط لكل احتمالات الطقس بدقة متناهية. حاولت أن تعرف مكان الهجوم وكيفية التسلل، لكن الضباط الفلسطيني الحذر لم يتفوه بأكثر من ذلك.
ولم تلح هي فربما يتشكك بها. وبثت رسالتها في الليل الهادئ الى الموساد: (آر. كيو. أر. عملية فدائية ستنفذ غداً داخل الأراضي الاسرائيلية. التسلل بطريق البحر. نفيه شالوم).
وفي اليوم التالي - 11 من أبريل 1974 - اقتحمت وحدة من رجال الكوماندوز مدينة كريات شمونة الاسرائيلية، وفتحوا نيران مدافعهم بكثافة فقتلوا ثمانية عشر إسرائيلياً وأصابوا أكثر من 48 بجروح، وصرح مسؤول فلسطيني: أن هذه ما هي إلا بداية حملة للقوى الثورية داخل إسرائيل، لإعاقة الحل السلمي العربي.
كانت مفاجأة مؤلمة لأمينة وللموساد معاً. فالعملية الفدائية كانت ضربة شديدة في رأس إسرائيل. وتخوفت العميلة من أبو ناصر الخبيث الذي ضللها. . فاتصلت به لتهنئه بنجاح العملية، وتلح عليه في الإكثار من مثلها. فطمأنها بأن هناك عمليات قادمة ستكون أكبر . . وأشرس.
وظلت تطارده مستخدمة أسلوبها في الإثارة الى أن نجحت في دعوته لقضاء سهرة ببيتها. وهيأت له نفسها وأنواعاً عديدة من الخمر، حتى إذا ما تمكن السكر منه انطلق لسانه متباهياً بعبقريته العسكرية . . وكيف أنه جهز فريقاً من أكفأ رجال الكوماندوز، للتسلل الى داخل الحدود الاسرائيلية، لضرب مدينة نهاريا الساحلية بالصواريخ. التقطت أمينة الخبر دون تعليق. وكل ما فكرت فيه لحظتئذ هو كيف تحتويه أكثر وأكثر فيزداد انطلاقاً. . وجوعاً. . فتتبعثر منه الأسرار وتندفع بعنف كالشلال. وما كان بيدها إلا أن تمثل دور العشيقة القلقة. واستحضار نبرة الدفء المصطنعة والمشوبة بالخوف. لكنه . . وهو الغارق حتى نهايته في بحور اللذة . . لم تنفك عقد انطلاقه كلها فيعلن عن خباياه. . أو عملياته المرتقبة بالتفصيل. فكان حديثه المتقطع غامضاً.. مبهماً.. يفتقر الى معلومة واحدة مؤكدة.
هكذا تعلم أبو ناصر وتدرب في المخابرات العسكرية . . وأجاد الاحتماء بالحس الأمني العالي حتى في أقصى حالات ضعفه الانساني. واستشاطت العميلة غضباً. . فالخبر هكذا يبدو ناقصاً جداً ومبتوراً وهي لم تعتد على ذلك. فقد اعتادت جلب المعلومات والأسرار من مصادرها بدقة. لكنها صادفت رجلاً محصناً. . منيعاً . . يبخل بالكلام والكشف عن عمله. لذلك . . ما إن غط في نوم عميق حتى قامت الى حيث ملابسه في حذر بالغ . . وفتشت جيوبه حريصة على ترتيب محتوياتها. فمثل هذا الرجل الدقيق في عمله، يكون دقيقاً أيضاً في ترتيب مكتبه وملفاته. . وما بداخل جيوبه. وبينما تقلب أوراق محفظته الجلدية، استوقفتها وريقة كتب بها عدة كلمات مرعبة، أخرجتها عن حرصها فصدرت عنها صرخة سرعان ما حبستها بحلقومها . . وارتعشت يدها غصباً عنها وهي تكتب ما قرأته بورقة أخرى دستها بمخبأ سري داخل حذائها. وتمددت الى جوار النائم المكدود . . تردد كلمات الوريقة في أعماقها: "تل أبيب من 9 الى 25 مايو / 500 كيلو TNT / ش بلفور، ش كيديم / ش أرليخ وأكليتوس / ثم اليركون ورعنان / عدد "5" فرق 17 فولكس سوبار وشفر / يافا".
اليوم المرير
وفي مبنى الموساد . . كانت الوجوه مرهقة . . خائفة . . متوترة. فالعمليات الفدائية اشتدت وطأتها . . والمعومات المتاحة بعيدة عن التفاصيل. ومنذ صدرت الأوامر لأمينة باستدراج أبو ناصر بحرص، كانت رسائلها تجيء مشوهة . . بخيلة . كأنما يتعمد الضابط الفلسطيني ذلك، وهو ما يعني أن العميلة وقعت تحت بؤرة الشك . . أو أنها انكشفت فعلاً . فخبر التسلل الأخير عبر البحر كان حقيقياً من حيث التوقيت. . لا المكان. أما خبر عملية تل أبيب . . فكان أكثر شكاً . . وغموضاً. . ورعباً. بل هو الرعب نفسه . . والدمار كله لإسرائيل.
هكذا يمر الوقت ثميناً. . يحمل بين دقاته انفجارات الموت البطيء. ورجال الموساد يقلبون الأمر في ارتباك، ويخضعونه للتحليل الدقيق. لكنهم عجزوا عن الوقوف على إجابات مقنعة. . وحاصرتهم تساؤلات محيرة أزادتهم إرهاقاً. . وجنوناً. . وإمعاناً في مزيد من الحرص . . صدرت الأوامر لأمينة بمغادرة صور الى بيروت فوراً. والتوقف نهائياً عن جلب المعلومات أو بث الرسائل. لكن العميلة الغاضبة العنيدة . . بثت رسالة اليهم قلبت الموازين كلها . . وأذهبت بعقول الكبار قبل الصغار في الموساد. إذ زفت اليهم أمينة خبراً عن تسلل سبعة فدائيين في غبش الفجر، يحملون أسلحة الـ آر.بي.جيه، ومدافع الكلاشينكوف القاذفة، والقنابل الهنغارية، وكميات من عجائن المتفجرات، بقصد تفجير مستعمرة جيشر هازيف (على بعد ستة كيلومترات شمالي نهاريا) بمناسبة عيد إسرائيل القومي. فانطلقت قوات الأمن تطوق المستعمرة، وانتشرت نقاط التفتيش بكل الطرق، ومع أولى تباشير الخامس عشر من مايو 1974، كانت المعركة الشرسة قد بدأت، ولكن بمنطقة أخرى أبعد عن تصورهم . . وتوقعهم.
وكانت العملية هذه المرة في قرية معالوت. حيث حاصر الفدائيون السبعة القرية، وأمطروها بوابل من قذائفهم الصاروخية، وسيطروا تماماً على سكانها والطرق المؤدية اليها، كما دمروا عدة سيارات عسكرية حاولت الالتفاف لعزلهم عن القرية. وبعد ستة ساعات ونصف أسفرت المعركة عن إصابة 117 إسرائيلياً بينهم 25 قتيلاً . . ووقفت جولدا مائير أمام كاميرات التليفزيون في الكنيست وهي تكفكف دموعها وتقول:
"اليوم . . عيد ميلاد دولتنا الخامس والعشرين . . وقد أحاله الإرهابيون الى يوم مرير بالنسبة لإسرائيل".
لم تنصت أمينة المفتي لأوامر رؤسائها في الموساد بالتوقف - مؤقتاً - عن العمل. فما كان ذلك إلا لأجل حمايتها، لكنها كانت ككتلة الثلج التي ذاب ما حولها، فهوت مندفعة لا يجرؤ إنسان على إيقافها . . أو التصدي لها. كانت تحمل روحها على كفها. ولا تهتم بالخطر أو تحسب له حساباً. وفي لحظة . . استجمعت جرأتها في عنف . . وطلبت من مارون الحايك أن يزورها بشقتها في بيروت. فأسرع اليها يمني نفسه بوليمة فسق مثيرة، لكنه ما إن دلف الى الصالون، حتى وقف مذهولاً . . وقد تجمدت الدماء في عروقه . . وتعلقت عيناه الجاحظتان بنجمة داوود الزرقاء على الحائط.
الشركاء
- إجلس أيها الأبله . . (!!) قالتها أمينة في لهجة حاسمة ، مرعبة.
- أنتِ . .؟!!
- نعم . . إسرائيلية.
تلفت الرجل الهلع حواليه وهو يرتعد:
- ماذا تريدين مني . . ؟
- بدأنا المشوار معاً . . ولا بد أن نكمله معاً حتى النهاية.
- مشوار . . ؟ معاً. . ؟ أنا لم أبدأ . . أنا لا أعرف . . أنا . . أنا . .
- لا تكن مراوغاً أنها النتن، فأنت تعلم جيداً أنك تعمل معي لصالح الموساد. وحياتك وحياة اسرتك رهن إشارة واحدة مني.
- يا يسوع . . انقذني . . خلصني. .
وبينما جسده ينتفض كالطير المذبوح . . كانت تنثر أمامه عشرات الصور التي تجمعهما معاً في أوضاع فاضحة، وتفتح جهاز التسجيل ليجيء صوته وهو يدلي بأرقام التليفونات السرية للقادة الفلسطينيين، فاقشعر بدنه وتصبب عرقاً. . وقال خاضعاً في صوت يسيل منه الرعب:
- وماذا بيدي يا سيدتي . .
الموساد تريد منك تعاوناً أكثر.
- كيف . .؟
- سأعرّفك.
- أن لا أفهم بالسياسة.
- ولكنك تحب الخمر والجنس والمال.
- أنا غبي . . تعس.
- ستدفع لك الموساد مائتين وخمسين ليرة كل شهر.
- أرجوك سيدتي . . الموساد . .؟
- كلب مثلك يجب أن يكون وفياً لأسياده.
انفتح على حين فجأة باب إحدى الغرف . . فالتفت مارون وهو يرتعد . . وصدر عنه صرخة تفيض هلعاً عندما رأى ثلاثة رجال ذوي نظارات سوداء ووجوه جامدة . . كانوا وقفوا متجاورين وأيديهم الى الخلف كالتماثيل. مرت ثوان كالدهر لم ينطق أحدهم بكلمة . . بينما مارون يتمتم بما يشبه البكاء.
- ماذا تقول يا مارون . .؟ قالت أمينة بلهجة كالأمر.
- ماذا تريدون مني؟
- أتكره إسرائيل؟
- أنا لا أكره أحداً . . لا . . لا .. بل أكره عرفات . . نعم . . أكره عرفات ورئيسي في العمل . . ماذا تريدون؟
- أولاً . . وقّع هنا . . إنه إقرار بالصداقة والتعاون.
تناول مارون الورقة وأراد قراءتها . . لكنها صرخت فيه بعنف، وقد انتهزت فرصة وقوعه تحت السيطرة والشلل العقلي الفجائي الذي أصابه، صفعته بشدة على وجهه والشرر يتطاير من عينيها، فتملكه الفزع وقفز واقفاً يتحسس وجهه، فأطبقت على كل ما بقي لديه من إدراك وهي تهدده بأن فريقاً من الموساد يحاصر بنته . . ورصاص الفلسطينيين يتهدد صدره، وبحسم صرخت فيه أن يوقّع . . فوقّع على الورقة والقلم يرتعش كالبندول بين أصابعه . وأردفت:
- أريد زيارة الغرفة السرية بالسنترال المركزي التي حدثتني عنها. وسوف أقوم بالتناوب - أنا وأنت - بتسجيل المكالمات بين القيادات الفلسطينية ..!!
- تسجيل . .؟
- نعم . . ألم تسمع أيها الغبي عن العمليات الفدائية داخل إسرائيل. . ؟
- أنا لا أقرأ في السياسة . .
- ولن تقرأ على قبرك: "طوبى للذي تختاره يا رب".
- بإمكاني التنصت أثناء نوبات عملي ولكن . .
- ستتعلم جيداً كيف تسجل المكالمات أنت ومانويل عساف.
- مانويل . .؟
- ألا تكفي مائة ليرة؟
- مائة ليرة . . ؟
- هو يبيع امرأته بليرة.
- . . . . . .
- هذه مهمتك أنت . . ولا دخل لي بها.
كان المسكين كالفأر المذعور الذي وقع في المصيدة، سنوات طويلة من حياته مرت به وهو يستمرئ المغامرة ويستلذ اصطياد الفرائس. ولم يتوقع يوماً أن تجيء لحظة ينقلب فيها حاله، ويصبح هو الفريسة المرتجفة، بين يدي امرأة كانت الى عهد قريب ناعمة . . مثيرة . . رقيقة . . انقلبت فجأة الى وحش مسعور، تنبعث رائحة الموت في لفتاتها . . ويسمع له وقع في صوتها الشيطاني الرهيب.
بشارع كيريا في تل أبيب اجتمع عدد من الخبراء في مبنى الموساد، للوصول الى قرار حاسم بعودة أمينة الى بيروت من جديد، أو الاكتفاء بخدماتها وإبقائها في إسرائيل. لقد قرأوا جميعاً تقريراً وافياً عن العميلة الثائرة . . والتي صنفت من الفئة "أ" - وهذه الفئة من الجواسيس يتدرج تحتها كل من يعملون في البلاد العربية بدون أي غطاء دبلوماسي يحميهم - ووصف التقرير أمينة بأنها تعاني من اضطرابات شخصية، وتمتلك القدرة التي تمكنها من الانتقال من أحد جوانب الموقف الى جانب آخر، وهو ما يعرف في علم النفس باسم الاتجاه المجرد ABSTRACT ATTITUDE، وتتنامى لديها أعراض الكآبة نتيجة لومها الدائم لنفسها، باعتبار أن ما حدث لزوجها كانت هي السبب فيه، وعندما تزداد الأعراض حدة تصبح أكثر اكتئاباً وتخوفاً، مما ينمي مشاعر "الاتهام بالذات" S ELF CONDEMINATION - لديها - والمريض في هذه الحالة في يأس خطير لأنه مهموم بالماضي، ويحس أن لا أمل ألبتة في المستقبل بسبب الفعلة التي ارتكبها. هذه المشاعر القلقة المحملة باليأس والبؤس، عادة ما تعتصر المريض، وقد تقوى عنده نزوة الانتحار. وأشار التقرير الى أن حالة أمينة هذه لا ينصح فيها بعلاج العقاقير، حيث لن تنتظر التحسن طوال مدة العلاج، بقدر ما تشعر بالتحسن والهدوء في عملها بالموساد. ففي ذلك إقناع لها على أن ما تؤديه من عمل، يمثل لديها قمة الثأر لما ارتكبته بحق موشيه. وبناء عليه . . رأى فريق من خبراء الموساد أن أمينة، ربما تشعر بالزهو E LATION في عملها، فتتخلى عن حذرها وتنكشف. لكن الأغلبية رأت أنها جديرة بالعمل في بيروت، ومع حصولها على دورات تدريبية مكثفة، ستكون أكثر حذراً. . وإقبالاً . . وشغفاً. وانتهى الاجتماع بالموافقة على عودتها للبنان، وذل بعد موافقة ريفي رامير رئيس الموساد. هكذا تحدد لها أن تستمر وتواصل توغلها بين القيادات الفلسطينية، وجاءوا بها الى المبنى المركزي حيث جلس اليها أحد كبار الرسامين، ومن خلال وصفها لعلي حسن سلامة، استطاع أن يرسم صوراً تقريبية له. وتعهد بها اثنان من الضباط الخبراء، أحدهما تولى تدريبها على استعمال أحدث ما ابتكره العلم في مجال أجهزة اللاسلكي. وتقرر لها بث رسائلها مرتين أسبوعياً يومي الخميس والاثنين، وتلقي الرسائل من تل أبيب كل ثلاثاء في الحادية عشرة ودقيقتين مساء. كانت أمينة طوال فترة تدريبها المكثفة في حالة سعادة غامرة. فهي ستزداد خبرة تمكنها من إجادة عملها، وبالتالي يكون انتقامها عظيماً فتستريح نفسها ويهدأ بالها.
وفي الثالث من أكتوبر 1973 غادرت تل أبيب الى فيينا، حيث تسلم منها عميل الموساد جواز سفرها الإسرائيلي، وسلمها الجواز الأردني مع تذكرة سفر الى بيروت فجر اليوم التالي. هذه المرة. . عندما دخلت شقتها في فيينا لتمكث بها عدة ساعات، لاحظت أن ابتسامة موشيه لازالت مرتسمة كما هي. بل كانت نظراته أكثر بهجة واطمئناناً. وقبلما تغادر شقتها الى المطار بثوان.. انتفضت فجأة عندما دق جرس التليفون، وتسمرت مكانها للحظة.. ثم اتجهت صوب الكابل فنزعته.. وانطلقت في شوق للعمل .. للثأر. تحمل بين أمتعتها جهز راديو يحمل ماركة عالمية معروفة، هو بالأصل جهاز لاسلكي أكثر تطوراً ولا يمكن اكتشافه. وبحقيبة يدها كانت تحتفظ بالمصحف الشريف . . وقد نزعت عدة صفحات منه واستبدلت بصفحات أخرى تحمل الشفرة.
نفيه شالوم
وما إن خطت أمينة عدة خطوات بمطار بيروت الدولي، متجهة الى حيث يتحرك السير بحقائب الركاب، حتى صدمت بشدة لمشهد شاب يقتاده رجال الأمن. وبينما تتابع المشهد . . فوجئت بيد قوية تربت على كتفها من الخلف. فصدرت عنها صرخة مكتومة هلوعة، وسقطت في الحال حقيبة يدها على الأرض. وأوشكت هي على السقوط. لكنها بكل ما تملك من قوة - تماسكت .. واستدارت لتصطدم بوجه صديقها مارون الحايك، تغطي وجهه نظارته الشمسية السوداء. . وينسدل شعره اللامع لقرب كتفيه. تنفست الصعداء . . وودت لو أن تصفعه بقوة . . وتظل هكذا تصفعه حتى ينقشع الخوف الذي حل بأعماقها من جديد، وأعادها الى تلك الحالة الأولى التي غادرت بسببها بيروت الىتل أبيب. وفي بشاشة مصطنعة سألته.
- أوه . . أيها الماكر . . أكنت معي على اللوفتهانزا قادماً من فيينا . .؟
خلع نظارته مبتسماً وهو يضغط على كفها ضغطاً ذا مغزى وأجاب:
- بحثت عنك كثيراً في بيروت فلم أجدك . . وكنت أمني نفسي بأن نمضي معاً أسبوعاً خيالياً في نيقوسيا.
- نيقوسيا . .؟ نطقتها وقد كست وجهها بالدهشة.
- سألت عنك مانويل وخديجة وحارس البناية . .
ضاربة صدره بيديها وقد افتعلت التحسر:
- مجنون . . مجنون . . (!!) لماذا لم تخبرني قبلها بوقت كاف. .؟ كم كنت مشوقة لرحلة كهذه معك.
غمز بطرف عينيه ضاحكاً وقال:
- سنتدبر الأمر عما قريب أيتها الأنثى الشقية. أنظري .. ها هي حقائبي وصلت الآن.
ولأن لبنان بلد سياحي حر . . فأمور التفتيش في المطارات والمواني شكلية جداً. ولا تخضع لرقابة صارمة كما في سائر البلاد العربية، على اعتبار ان التدقيق الزائد يسيىء الى السواح .. الذين هم عماد الاقتصاد وأحد أسباب الرخاء. لذلك . . لم ينتبه رجال الجمارك لجهاز اللاسلكي المدسوس بحقيبة أمينة. فبيروت كانت في تلك الفترة في أوج انفتاحها. . وسوقاً رائجة لتجارة السلاح . . والمخدرات. . والرقيق الأبيض . . والجواسيس.
وفي الساعات الأولى من صباح 6 أكتوبر 1973، أطلقت أمينة أولى إشارات البث اللاسلكي الى تل أبيب: (آر. كيو. أر. وصلت بسلام. الأمير الأحمر في أوروبا. تعرفت بضابط فلسطيني يدعى أبو ناصر. وعدني مارون بأن يأخذني معه الى مبنى الهاتف المركزي. غادر جورج حبش الى تونس سراً. رجاله يقاتلون سبعة من رجال حواتمة. أبو عمار بالبيت مصاباً بالبرد. شحنة أدوية وصلت سراً من رومانيا للقيادة. يوجد نقص كبير في الأنتي بيوتكس. تحياتي. نفيه شالوم "واحة السلام").
استقبلت الموساد رسالة أمينة بشيء من الاطمئنان والفرح. فالرسالة كانت واضحة الشفرة بلا أخطاء. والأخبار التي حوتها هامة جداً استدعت دخولها الى غرفة التحليل والمتابعة على الفور. وسرعان ما تسلمت أمينة أول رسالة بثت اليها من إسرائيل: (تهانينا بالوصول. اهتمي بتحركات الأمير. أبو ناصر خبيث جداً فاحذريه. لا تهتمي بمارون الآن. من يطبب أبو عمار "عرفات". ماذا ببطن الباخرة كيفين في صيدا. نريد معلومات عن مخازن الأسلحة بمخيم البداوي في طرابلس. ومراكز التدريب الجديدة في قلعة شقيف).. وبينما تهيأت العميلة الاسرائيلية للتحرك . . مدفوعة بشوق جارف الى العمل. انطلقت شرارة الحرب وعبر المصريون خط بارليف المنيع، وعمت مظاهرات الفرح بيروت. وكما بكى رأفت الهجاء بكاءً مراً في إسرائيل إثر هزيمة 1967، انهارت أمينة المفتي في 1973. تناقض عجيب بين الحالين. فتلك هي النفس البشرية في اندفاع الوطنية - أو الخيانة، الحب الجارف - أو الكره المقيت.
الحية الشوهاء
نشطت أمينة المفتي في عملها التطوعي كطبيبة عربية تجوب أنحاء لبنان، وجاسوسة إسرائيلية تمد الموساد بالمعلومات الحيوية عن تحركات الفدائيين في الجنوب، الذين شحنتهم انتصارات الجيوش العربية فازدادوا استبسالاً وضراوة. وعاد علي حسن سلامة من أوروبا لترتيب خطط العمليات الجديدة. فالعدو فقد السيطرة على نفسه . . وعلى اتزانه . . والضربات القوية تترك آثارها بوضوح على وجهه المشوه.
هكذا انطلق رجال المقاومة في الجنوب اللبناني يضربون في العمق الاسرائيلي بلا كلل . . واستدعى ذلك من أمينة أن تترك بيروت الى صور. . ومعها جهاز اللاسلكي الخطير، حيث عكفت على بث رسائلها يومياً. . والتي وصلت في أحيان كثيرة الى خمس رسائل مهددة حياتها للخطر. واضطرت الموساد أمام سيل رسائلها الى فتح جهاز الاستقبال على التردد المتفق عليه، لساعات طويلة على مدار اليوم.
هكذا كانت أمينة المفتي تنتقم . وتفرغ شحنات غضبها في رسائل يومية مبثوثة قد تعرضها للانكشاف والسقوط. لكنها لم تكن تستمع لنداءات الخوف أبداً. إذ اندفعت بجرأة أكثر، وحملت جهاز اللاسلكي في جولة لها بمنطقة بنت جبيل على مسافة خمسة كيلو مترات من الحدود الإسرائيلية، هناك فوجئت ببعض زعماء الجبهات الفلسطينية، برفقة أبو إياد (1) يتفقدون جبهة القتال ويصيحون في الجنود فيثيرون حماستهم. لحظتها .. تملكها الحقد والغضب .. وبمنتهى الجرأة اختلت بنفسها داخل أحد الكهوف.. وبثت رسالة عاجلة الى الموساد . (أي. كيو. أر. عاجل جداً وهام. أبو إياد وقيادات الجبهات في بنت جبيل. موقعهم مائة وخمسون متراً شرق القبة العلوية بجوار فنطاس المياه بين شجرتي الصنوبر. اضربوا الموقع كله ودمروا السيارات الجيب والليموزين. سأكون على بعد معقول منهم. سأفتح الجهاز لأربعة دقائق. نفيه شالوم).
وجاءها الرد قبل ثوان من انتهاء المهلة: (ابتعدي عن الرتل وانبطحي أرضاً عند ظهور الطائرات). أغلقت أمينة الجهاز بعدما ترجمت الرسالة. واستعدت لتشهد بنفسها المجزرة. لكن يا لحظها السيء.. لقد لعب القدر لعبته وتحرك رتل السيارات باتجاه الشمال. بينما وقفت عميلة الموساد تتحسر .. وتقلب عينيها في السماء بانتظار الطائرات. خمس دقائق تمر.. عشر دقائق.. عشرون دقيقة. لم تستطع الصبر ففتحت جهاز اللاسلكي وهي تلعن الانتظار وبثت رسالتها (آر.كيو.آر. تحرك الهدف الى الشمال طريق تبنين منذ 21 دقيقة. سيارة أبو إياد سوبارو سوداء. نفيه شالوم) وما إن بثت رسالتها وأغلقت الجهاز، حتى لمحت طائرتي ميراج تطلقان صواريخ السيد وندر، والقنابل زنة الألف رطل. ورأتهما ترتفعان الى عنان السماء ثم عادتا للانقضاض من جديد وهذه المرة بفتح خزانات النابالم الحارقة. كل ذلك وهي ما تزال بالكهف ترقب تناثر الأجساد البشرية كالشظايا في الهواء، فيصدر عنها فحيحاً رهيباً كحية شوهاء، وتضحك في هستيريا مجنونة مشبعة بالحسرة والشماتة. حسرة انعتاق أبو إياد ورفاقه، وشماتة الهزيمة لبضع جنود امتزجوا بالتراب والدم والسلاح.
هكذا حملت أمينة جهاز اللاسلكي بحقيبتها في تجوالها بالجنوب اللبناني، طوال معركة أكتوبر 1973، متنقلة بين المستشفيات الميدانية والمواقع العسكرية. . تسعف الجرحى من المصابين بداء وشاياتها. . وتستمد من الحقد جرأتها وقوتها. وكانت بذلك أول جاسوس للموساد يعمل بجرأة اسطورية داخل بلد عربي. لم يفعلها إيلي كوهين الذي زرع في سوريا قبلها بسنوات قليلة، وكان مرشحاً لمنصب نائب رئيس الجمهورية السورية، برغم تجواله بين شتى الوحدات العسكرية والقواعد السرية في الجولان، وإقامته المطولة بمنطقة الجبهة، بل إنه برغم حجم الثقة في نفسه، لم يحمل أبداً جهاز اللاسلكي خارج المنزل. كان فقط يبث رسائله بشكل يومي الى الموساد. لم يفعلها أيضاً المقدم فاروق ابراهيم الفقي، الضابط المخابراتي العسكري المصري الذي جندته هبة سليم، وتسبب في تدمير كل قاعدة عسكرية جديدة كان يتم بناؤها بمنطقة القناة.
إذا كان يحتفظ بجهاز اللاسلكي بمنزله، ويبث للموساد أولاً بأول عن مواقع الصوراريخ والرادارات، والمطارات، لم تفعلها انشراح التي أنقذها السادات من الإعدام أيام كامب دايفيد، وكانت تجوب منطقة القناة مع زوجها وأولادها كل يوم بحثاً عن الجديد. كانت أمينة المفتي أجرأهم جميعاً قلباً وأعصاباً. مدفوعة برغبة مجنونة في الانتقام والثأر، لا برغبة المغامرة.
تقول أمينة في مذكراتها التي بلغت صفحاتها ستمائة صفحة:
(منذ حملت معي جهاز اللاسلكي لأول مرة الى الجنوب، وشاهدت بنفسي هجوم الميراج الإسرائيلي على الموقع الفلسطيني، بغرض تدميره وتصفية أبو إياد وأعوانه، وقد تملكني إحساس رائع بعملي. . إحساس بالزهو وجدت فيه لذة كبرى تفوق كل لذة. ومنذ تلك الحادثة في 11 أكتوبر 1973، وأنا أحمل الجهاز الصغير بحقيبتي، بجواره المصحف ذي الجراب والشفرة. كنت أكتب رسالتي أولاً على ورقة منزوعة من بلوك نوت، ثم أقف بسيارتي في مكان أطمئن فيه من العابرين، وأسحب هوائي الجهاز وأقوم بالبث لدقائق. أحياناً كثيرة كنت أبث الرسالة الواحدة مرتين للتأكيد، وأحرق الورقة وأعاود القيادة الى مكان آخر. وبفضل تصريح المرور الموثق، الذي وقعه عرفات شخصياً، كنت أجوب بأمان شتى المواقع العسكرية الفلسطينية في الجنوب. وأطلع بنفسي على أنواع الأسلحة وكميات الذخائر بالمخازن، ومعسكرات التدريب السرية. لقد حالفني الحظ كثيراً عندما وثق بي القادة الفلسطينيون، لأنني كنت أبدو متحمسة جداً لقضيتهم، وحقهم في الكفاح لاسترداد الأرض المغتصبة. للدرجة التي دعت أبو إياد لأن يطلب مني إلقاء خطبة حماسية في الجنود المعسكرين بالقرب من مخيم البرج الشمالي في الجنوب من صور. يومئذ . . ألقيت خطبة رائعة . . تتدفق منها الوطنية ومعاني العروبة. لقد أجدت تماماً عندما صعّدت من انفعالي فبكيت .. بكيت وأنا أصف مشاهد القتل والقصف والانكساب على وجوه الأطفال اليتامى، بكيت حقيقة وأنا أحثهم على الانتقام والثأر والكفاح . . وما كنت أبكي إلا لفقد موشيه الحبيب . . وبرودة الحياة من حولي بدونه. والثورة المصطحبة بالغضب في أوردتي وشراييني. . ونبضي . . ضد هؤلاء الأوغاد الذين أذلوني . . وأترعوني كئوس الوحدة . . والصمت . . والعدم . كان انفعالي مثالياً، ظن الجنود والقادة أنه إيمان مني بقضيتهم . . فبكوا . . وعندما بحثت عن منديل بحقيبتي اصطدمت يدي بجهاز اللاسلكي المغلق. . !!).
قانون العنف
انتهت حرب أكتوبر 1973 بوقف إطلاق النار، إثر مفاوضات شرسة ورحلات مكوكية قام بها هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي. وانعقد مؤتمر القمة العربي في الجزائر، وتم التوصل الى صيغة رسمية تقدم بها السادات كانت مفاجئة للجميع، وهي أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وموافقة مصر وسوريا - دولتا المواجهة - على قرار مجلس الأمن رقم 328 الذي ينص على عودة السلام الدائم والعادل في الشرق الأوسط. ولم يرتح الجناح العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية لذلك على الإطلاق. وأقرت المنظمة مواصلة الكفاح المسلح بناء على رغبة "الثورة الفلسطينية". وفي 25 نوفمبر بدأ أول عمل فدائي فلسطيني، حيث تم اختطاف طائرة جامبو نفاثة تابعة للخطوط الجوية الهولندية KLM، كانت في طريقها من بيروت الى طوكيو مروراً بنيودلهي. تحمل على متنها 244 راكباً وثلاثة من الفدائيين الفلسطينيين الذين طالبوا بإطلاق سراح سبعة من زملائهم في قبرص، وألا تمنح هولندا تراخيص مرور لليهود السوفييت الذين في طريقهم لإسرائيل، ووعدت الشركة KLM - بألا تنقل سلاحاً لإسرائيل وانتصر الفدائيون انتصاراً مذهلاً، وتكررت عملية اختطاف طائرة أخرى لنفس الشركة بعدها بأيام. وفي 17 ديسمبر 1973 في مطار روما أطلق عدد من الفدائيين نيران مدافعهم الكلاشينكوف بصورة جنونية داخل صالة المطار المزدحمة. ويختطفون طائرة 707 تابعة لشركة بان أمريكان كانت راسية على الممر، وفجروا قنابلهم الفوسفورية بالطائرة فاحترق عدد كبير من الركاب، ثم جرى الفدائيون ومعهم بعض الرهائن واختطفوا إحدى طائرات شركة لوفتهانزا - بوينج 737 - والتي كانت على وشك الاقلاع، وحطت بهم في أثينا. . وكانت مطالبهم الإفراج عن زملاء لهم من منظمة أيلول الأسود. ومع بدايات العام الجديد 1974 - شكلت عدة منظمات فلسطينية ما يسمى بجبهة الرفض. وكان المتحدث الرسمي باسم الجبهة هو الدكتور جورج حبش زعيم الجبهة الشعبية، وبطل عمليات خطف الطائرات الإسرائيلية الأول.
كانت الضغوط شديدة جداً على أمينة المفتي خلال تلك الفترة. فالعمليات الفدائية الفلسطينية أربكت إسرائيل وزعزعت أمنها تماماً. بل وأصيبت بالعدوان غالبية دول أوروبا المساندة لإسرائيل. فالفلسطينيون أرادوا الإعلان عن وجودهم بشتى الطرق، بما فيها العنف من خطف وتفجير. فالعدو لم يكن يملك سلاحاً أبداً سوى العنف. وإذا كانت إسرائيل اعتمدت العنف قانوناً لها، فالفلسطينيون أيضاً رأوا الحل في ذات السلاح. . دون غيره. . وكان لتسارع الأحداث والعمليات الفلسطينية، الأثر البالغ في انتشار سحب الخوف السوداء فوق رؤوس الاسرائيليين. وفقدت الموساد بذلك خاصية مهمة طالما التصقت بها، وهي أنها حامية الدولة. وسخر الجميع من هيبة الموساد التي سقطت . ومن الدكتور "إبريش فولات" صاحب كتاب "ذراع إسرائيل الطويلة" الذي قال: "إن الموساد أسطورة من الأساطير الخفية، إنها تجعل العدو يرتجف . . وتمنح الاسرائيليين القدرة على النوم في هدوء". "لقد انعكس الوضع الآن. . وأصبح الشعب الإسرائيلي كله يرتجف عند سماع أزيز طائرة، أو عند فرقعة إطار سيارة، أو انفجار عادم دراجة بخارية مسرعة". وانتقل الضغط العصبي الى أمينة المفتي في بيروت . . فالأوامر كثيرة والمطلوب منها كثير ويفوق الوصف . لذلك اضطرت للانتقال تماماً الى الجنوب اللبناني، واستأجرت شقة بمنطقة الشجرة في صور - على مسافة عشرين كيلو متراً من الحدود الإسرائيلية - اتخذت منها مركز انطلاق لاستكشاف تحركات الفلسطينيين. واتصلت بأبو ناصر الضابط الفلسطيني الذي سبق أن حذرتها الموساد منه في أولى رسائل البث اللاسلكية.
لقد استخدمت معه أسلوب "الإثارة". وهو أسلوب يدفع المرء لأن يخرج ما عنده دون أن يطلب منه ذلك. واستطاعت أن تدفعه دفعاً لأن يفصح عن عملية فدائية ستتم في اليوم التالي داخل الأراضي الاسرائيلية.
صرخت وهي متهللة بالفرح: كيف؟ . . إنكم لشجعان حقاً عندما تنقلون عملياتكم الى قلب الدولة اليهودية . . لكن . . في ذلك خطر جسيم على رجالكم. أجابها مزهواً بأن كل شيء معد، وتم التخطيط لكل احتمالات الطقس بدقة متناهية. حاولت أن تعرف مكان الهجوم وكيفية التسلل، لكن الضباط الفلسطيني الحذر لم يتفوه بأكثر من ذلك.
ولم تلح هي فربما يتشكك بها. وبثت رسالتها في الليل الهادئ الى الموساد: (آر. كيو. أر. عملية فدائية ستنفذ غداً داخل الأراضي الاسرائيلية. التسلل بطريق البحر. نفيه شالوم).
وفي اليوم التالي - 11 من أبريل 1974 - اقتحمت وحدة من رجال الكوماندوز مدينة كريات شمونة الاسرائيلية، وفتحوا نيران مدافعهم بكثافة فقتلوا ثمانية عشر إسرائيلياً وأصابوا أكثر من 48 بجروح، وصرح مسؤول فلسطيني: أن هذه ما هي إلا بداية حملة للقوى الثورية داخل إسرائيل، لإعاقة الحل السلمي العربي.
كانت مفاجأة مؤلمة لأمينة وللموساد معاً. فالعملية الفدائية كانت ضربة شديدة في رأس إسرائيل. وتخوفت العميلة من أبو ناصر الخبيث الذي ضللها. . فاتصلت به لتهنئه بنجاح العملية، وتلح عليه في الإكثار من مثلها. فطمأنها بأن هناك عمليات قادمة ستكون أكبر . . وأشرس.
وظلت تطارده مستخدمة أسلوبها في الإثارة الى أن نجحت في دعوته لقضاء سهرة ببيتها. وهيأت له نفسها وأنواعاً عديدة من الخمر، حتى إذا ما تمكن السكر منه انطلق لسانه متباهياً بعبقريته العسكرية . . وكيف أنه جهز فريقاً من أكفأ رجال الكوماندوز، للتسلل الى داخل الحدود الاسرائيلية، لضرب مدينة نهاريا الساحلية بالصواريخ. التقطت أمينة الخبر دون تعليق. وكل ما فكرت فيه لحظتئذ هو كيف تحتويه أكثر وأكثر فيزداد انطلاقاً. . وجوعاً. . فتتبعثر منه الأسرار وتندفع بعنف كالشلال. وما كان بيدها إلا أن تمثل دور العشيقة القلقة. واستحضار نبرة الدفء المصطنعة والمشوبة بالخوف. لكنه . . وهو الغارق حتى نهايته في بحور اللذة . . لم تنفك عقد انطلاقه كلها فيعلن عن خباياه. . أو عملياته المرتقبة بالتفصيل. فكان حديثه المتقطع غامضاً.. مبهماً.. يفتقر الى معلومة واحدة مؤكدة.
هكذا تعلم أبو ناصر وتدرب في المخابرات العسكرية . . وأجاد الاحتماء بالحس الأمني العالي حتى في أقصى حالات ضعفه الانساني. واستشاطت العميلة غضباً. . فالخبر هكذا يبدو ناقصاً جداً ومبتوراً وهي لم تعتد على ذلك. فقد اعتادت جلب المعلومات والأسرار من مصادرها بدقة. لكنها صادفت رجلاً محصناً. . منيعاً . . يبخل بالكلام والكشف عن عمله. لذلك . . ما إن غط في نوم عميق حتى قامت الى حيث ملابسه في حذر بالغ . . وفتشت جيوبه حريصة على ترتيب محتوياتها. فمثل هذا الرجل الدقيق في عمله، يكون دقيقاً أيضاً في ترتيب مكتبه وملفاته. . وما بداخل جيوبه. وبينما تقلب أوراق محفظته الجلدية، استوقفتها وريقة كتب بها عدة كلمات مرعبة، أخرجتها عن حرصها فصدرت عنها صرخة سرعان ما حبستها بحلقومها . . وارتعشت يدها غصباً عنها وهي تكتب ما قرأته بورقة أخرى دستها بمخبأ سري داخل حذائها. وتمددت الى جوار النائم المكدود . . تردد كلمات الوريقة في أعماقها: "تل أبيب من 9 الى 25 مايو / 500 كيلو TNT / ش بلفور، ش كيديم / ش أرليخ وأكليتوس / ثم اليركون ورعنان / عدد "5" فرق 17 فولكس سوبار وشفر / يافا".
اليوم المرير
وفي مبنى الموساد . . كانت الوجوه مرهقة . . خائفة . . متوترة. فالعمليات الفدائية اشتدت وطأتها . . والمعومات المتاحة بعيدة عن التفاصيل. ومنذ صدرت الأوامر لأمينة باستدراج أبو ناصر بحرص، كانت رسائلها تجيء مشوهة . . بخيلة . كأنما يتعمد الضابط الفلسطيني ذلك، وهو ما يعني أن العميلة وقعت تحت بؤرة الشك . . أو أنها انكشفت فعلاً . فخبر التسلل الأخير عبر البحر كان حقيقياً من حيث التوقيت. . لا المكان. أما خبر عملية تل أبيب . . فكان أكثر شكاً . . وغموضاً. . ورعباً. بل هو الرعب نفسه . . والدمار كله لإسرائيل.
هكذا يمر الوقت ثميناً. . يحمل بين دقاته انفجارات الموت البطيء. ورجال الموساد يقلبون الأمر في ارتباك، ويخضعونه للتحليل الدقيق. لكنهم عجزوا عن الوقوف على إجابات مقنعة. . وحاصرتهم تساؤلات محيرة أزادتهم إرهاقاً. . وجنوناً. . وإمعاناً في مزيد من الحرص . . صدرت الأوامر لأمينة بمغادرة صور الى بيروت فوراً. والتوقف نهائياً عن جلب المعلومات أو بث الرسائل. لكن العميلة الغاضبة العنيدة . . بثت رسالة اليهم قلبت الموازين كلها . . وأذهبت بعقول الكبار قبل الصغار في الموساد. إذ زفت اليهم أمينة خبراً عن تسلل سبعة فدائيين في غبش الفجر، يحملون أسلحة الـ آر.بي.جيه، ومدافع الكلاشينكوف القاذفة، والقنابل الهنغارية، وكميات من عجائن المتفجرات، بقصد تفجير مستعمرة جيشر هازيف (على بعد ستة كيلومترات شمالي نهاريا) بمناسبة عيد إسرائيل القومي. فانطلقت قوات الأمن تطوق المستعمرة، وانتشرت نقاط التفتيش بكل الطرق، ومع أولى تباشير الخامس عشر من مايو 1974، كانت المعركة الشرسة قد بدأت، ولكن بمنطقة أخرى أبعد عن تصورهم . . وتوقعهم.
وكانت العملية هذه المرة في قرية معالوت. حيث حاصر الفدائيون السبعة القرية، وأمطروها بوابل من قذائفهم الصاروخية، وسيطروا تماماً على سكانها والطرق المؤدية اليها، كما دمروا عدة سيارات عسكرية حاولت الالتفاف لعزلهم عن القرية. وبعد ستة ساعات ونصف أسفرت المعركة عن إصابة 117 إسرائيلياً بينهم 25 قتيلاً . . ووقفت جولدا مائير أمام كاميرات التليفزيون في الكنيست وهي تكفكف دموعها وتقول:
"اليوم . . عيد ميلاد دولتنا الخامس والعشرين . . وقد أحاله الإرهابيون الى يوم مرير بالنسبة لإسرائيل".
لم تنصت أمينة المفتي لأوامر رؤسائها في الموساد بالتوقف - مؤقتاً - عن العمل. فما كان ذلك إلا لأجل حمايتها، لكنها كانت ككتلة الثلج التي ذاب ما حولها، فهوت مندفعة لا يجرؤ إنسان على إيقافها . . أو التصدي لها. كانت تحمل روحها على كفها. ولا تهتم بالخطر أو تحسب له حساباً. وفي لحظة . . استجمعت جرأتها في عنف . . وطلبت من مارون الحايك أن يزورها بشقتها في بيروت. فأسرع اليها يمني نفسه بوليمة فسق مثيرة، لكنه ما إن دلف الى الصالون، حتى وقف مذهولاً . . وقد تجمدت الدماء في عروقه . . وتعلقت عيناه الجاحظتان بنجمة داوود الزرقاء على الحائط.
الشركاء
- إجلس أيها الأبله . . (!!) قالتها أمينة في لهجة حاسمة ، مرعبة.
- أنتِ . .؟!!
- نعم . . إسرائيلية.
تلفت الرجل الهلع حواليه وهو يرتعد:
- ماذا تريدين مني . . ؟
- بدأنا المشوار معاً . . ولا بد أن نكمله معاً حتى النهاية.
- مشوار . . ؟ معاً. . ؟ أنا لم أبدأ . . أنا لا أعرف . . أنا . . أنا . .
- لا تكن مراوغاً أنها النتن، فأنت تعلم جيداً أنك تعمل معي لصالح الموساد. وحياتك وحياة اسرتك رهن إشارة واحدة مني.
- يا يسوع . . انقذني . . خلصني. .
وبينما جسده ينتفض كالطير المذبوح . . كانت تنثر أمامه عشرات الصور التي تجمعهما معاً في أوضاع فاضحة، وتفتح جهاز التسجيل ليجيء صوته وهو يدلي بأرقام التليفونات السرية للقادة الفلسطينيين، فاقشعر بدنه وتصبب عرقاً. . وقال خاضعاً في صوت يسيل منه الرعب:
- وماذا بيدي يا سيدتي . .
الموساد تريد منك تعاوناً أكثر.
- كيف . .؟
- سأعرّفك.
- أن لا أفهم بالسياسة.
- ولكنك تحب الخمر والجنس والمال.
- أنا غبي . . تعس.
- ستدفع لك الموساد مائتين وخمسين ليرة كل شهر.
- أرجوك سيدتي . . الموساد . .؟
- كلب مثلك يجب أن يكون وفياً لأسياده.
انفتح على حين فجأة باب إحدى الغرف . . فالتفت مارون وهو يرتعد . . وصدر عنه صرخة تفيض هلعاً عندما رأى ثلاثة رجال ذوي نظارات سوداء ووجوه جامدة . . كانوا وقفوا متجاورين وأيديهم الى الخلف كالتماثيل. مرت ثوان كالدهر لم ينطق أحدهم بكلمة . . بينما مارون يتمتم بما يشبه البكاء.
- ماذا تقول يا مارون . .؟ قالت أمينة بلهجة كالأمر.
- ماذا تريدون مني؟
- أتكره إسرائيل؟
- أنا لا أكره أحداً . . لا . . لا .. بل أكره عرفات . . نعم . . أكره عرفات ورئيسي في العمل . . ماذا تريدون؟
- أولاً . . وقّع هنا . . إنه إقرار بالصداقة والتعاون.
تناول مارون الورقة وأراد قراءتها . . لكنها صرخت فيه بعنف، وقد انتهزت فرصة وقوعه تحت السيطرة والشلل العقلي الفجائي الذي أصابه، صفعته بشدة على وجهه والشرر يتطاير من عينيها، فتملكه الفزع وقفز واقفاً يتحسس وجهه، فأطبقت على كل ما بقي لديه من إدراك وهي تهدده بأن فريقاً من الموساد يحاصر بنته . . ورصاص الفلسطينيين يتهدد صدره، وبحسم صرخت فيه أن يوقّع . . فوقّع على الورقة والقلم يرتعش كالبندول بين أصابعه . وأردفت:
- أريد زيارة الغرفة السرية بالسنترال المركزي التي حدثتني عنها. وسوف أقوم بالتناوب - أنا وأنت - بتسجيل المكالمات بين القيادات الفلسطينية ..!!
- تسجيل . .؟
- نعم . . ألم تسمع أيها الغبي عن العمليات الفدائية داخل إسرائيل. . ؟
- أنا لا أقرأ في السياسة . .
- ولن تقرأ على قبرك: "طوبى للذي تختاره يا رب".
- بإمكاني التنصت أثناء نوبات عملي ولكن . .
- ستتعلم جيداً كيف تسجل المكالمات أنت ومانويل عساف.
- مانويل . .؟
- ألا تكفي مائة ليرة؟
- مائة ليرة . . ؟
- هو يبيع امرأته بليرة.
- . . . . . .
- هذه مهمتك أنت . . ولا دخل لي بها.
كان المسكين كالفأر المذعور الذي وقع في المصيدة، سنوات طويلة من حياته مرت به وهو يستمرئ المغامرة ويستلذ اصطياد الفرائس. ولم يتوقع يوماً أن تجيء لحظة ينقلب فيها حاله، ويصبح هو الفريسة المرتجفة، بين يدي امرأة كانت الى عهد قريب ناعمة . . مثيرة . . رقيقة . . انقلبت فجأة الى وحش مسعور، تنبعث رائحة الموت في لفتاتها . . ويسمع له وقع في صوتها الشيطاني الرهيب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق