من خالط أوذي
من رزقه الله تعالى العلم ، و النظر في سير السلف ، رأى أن هذا العلم ظلمة ، و جمهور العالم على غير الجادة ، و المخالطة لهم تضر و لا تنفع .
فالعجب لمن يترخص في المخالطة ، و هو يعلم أن الطبع لص يسرق منالمخالطة .
و إنما ينبغي أن تقع المخالطة للأرفع و الأعلى في العلم و للعمل ليستفاد منه .
فأما مخالطة الدون فإنها تؤذي ، إلا أن يكون عامياً يقبل من معمله ، فينبغي ، أن يخالط بالإحتراز .
و في هذا الزمان إن وقعت المخالطة للعوام فهم ظلمة مستحكمة ، فإذا ابتلى العالم بمخالطتهم فليشمر ثياب الحذر ، و لتكن مجالسته إياهم للتذاكرة و التأديب فحسب .
و إن وقعت المخالطة للعلماء فأكثرهم على غير الجادة ، مقصودهم صورة العلم لا العمل به . فلا تكاد ترى من تذاكره أمر الآخرة ، إنما شغلهم الغيبة ، و قصد الغلبة ، و إجتلاب الدنيا .
ثم فيهم من الحسد للنظراء ما لا يوصف . و إن وقعت المخالطة للأمراء ، فذاك تعرض لفساد الدين .
لأنه إن تولى لهم ولاية دنيوية فالظلم من ضروراتها ، لغلبة العادة عليهم و الإعراض عن الشرع .
و إن كانت ولاية دينية كالقضاء ، فإنهم يأمرونه بأشياء لا يكاد يمكنه المراجعة فيها ، و لو راجع لم يقبلوا .
و أكثر القوم يخاف على منصبه ، فيفعل ما أمر به و إن لم يجبر .
و ربما رأيت في هذا الزمان أقواماً يبذلون المال ليكونوا قضاة ، أو شهوداً و مقصودهم الرفعة .
ثم أكثر الشهود يشهد على من لا يعرفه ، و يقول إنه معروف و يدري أنه كذاب ، و إنما عرف لأجل حبة يعطاها .
و كم قد وقعت شهادة على غير المشهود عليه ، و على مكره .
و إن وقعت المخالطة للمتزهدين فأكثرهم على غير الجادة ، و على خلاف العلم ، قد جعلوا لأنفسهم نواميس ، فلا يتنسمون و لا يخرجون إلى سوق ، و يظهرون التخشع الزائد و كله نفاق .
و فيهم من يلبس الصوف تحت ثيابه ، و ربما لوح بكمه ليرى . و قد حكي عن طاهر بن الحسين أنه قال لبعض المتزهدين : مد كم قدمت العراق ؟ قال دخلتها منذ عشرين سنة ، و أنا منذ ثلاثين سنة صائم .
قال : سألناك مسألة فأجبت : عن اثنتين .
و بيت الصوفية أربطة فهي خوارج على المساجد . وهي دكاكين كريهةيقعد فيها الكسالى عن الكسب مع القدرة عليه ، و يتعرضون بالقعود للصدقات ، و لأحوال الظلمة . و قد أراحوا أنفسهم من إعادة العلم .
و أكثرهم لا يصلي نافلة ، و لا يقوم الليل ، بل يهمهم المأكول و المشروب و الرقص .
و قد اتخذوا سنناً تخالف الشريعة فهم يلبسون المرقع لا من فقر . و هذا قبيح . لأنه ليس عندهم من أمارات الزهد سوى الملبس الدون ، فثيابهم تصيح نحن الزهاد ، و باقي أفعالهم المستورة تفضحهم إذا اطلع عليها .
فالمطبخ دائر ، و الحمام و الحلوى كثيرة ، و الطيب و الدعة ، و الكبر حاصل بذلك الزي .
و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم لمالك بن فضيلة و قد رآه أشعت الهيئة أما لك مال ؟ قال : بلى من كل المال آتاني الله عز وجل ! قال : فإن الله عز وجل إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن ترى عليه .
و من أخلافهم تنفير الناس عن العلم ، يزعمون ألا حاجة إلى الوسائط و إنما هو قلب و رب .
و لهم من الأقوال و الأفعال المنكرات ما قد ذكرته في تلبيس إبليس .
آه لو كان للزمان عمر لاحتاج كل يوم إلى مائة درة ، لا بل كان يستعمل السيف في هؤلاء الخوارج .
و هم داخل البلد لا قدرة للعلماء عليهم ، إذ قولهم فيهم لا يقبل .
فمن رزقه الله سبحانه النظر في سير السلف ، و وفقه للإقتداء بهم ، آثر أن يعتزل عن أكثر الخلق ، و لا يخالطهم ، فإنه من خالط أوذي .
و من دارى يسلم من المداهنة . فالنصح اليوم مردود .
صيد الخاطر لابن الجوزي -
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق