Translate

الخميس، 12 أبريل 2018

فتيات الرقص على المراكب النيلية

تتوجه الكثير من فتيات الشارع إلى منطقة كورنيش النيل، وسط القاهرة، حيث الفنادق الفخمة، و"المراسي المرتجلة". وهناك يحاولن بيع المناديل الورقية وأحياناً الورود، وإذا توفر لهن القليل من رأس المال، يسعين إلى بيع زجاجات المياه الغازية.

"فتيات الشارع"، اللواتي تركن بيوتهن بسبب حوادث العنف اﻷسري من ضرب واعتداء لفظي أو فعلي، وأخريات بسبب الفقر وحالات التفكك اﻷسري.
يتجمعن أسفل الجسور الضخمة، في العاصمة، وفي اﻷماكن المهجورة التي يخشى الكثيرون الاقتراب منها. وينطلقن في الشارع محاولات بيع أكياس المناديل الورقية أو التسول، ثم يعدن ليبتن في محطات المترو والحدائق العامة فرادى أو في المناطق أو المباني المهجورة إذا كن ضمن مجموعة.
لا يوجد إحصاء رسمي لعددهن لأنهن غير مثبتات لدى جهة ما، لكن عددهن في زيادة مستمرة بسبب حالات حمل السفاح وخروج فتيات جديدات للشارع يومياً، بحسب أحد إداريي جمعية نور الحياة لرعاية أطفال الشوارع بالقاهرة، والذي فضل عدم ذكر اسمه.
كثيراً ما يتعرضن ﻷسوأ استغلال ممكن، بدءاً من التسول وجمع التبرعات وصولاً إلى خطفهن وحجزهن فترات طويلة بغرض التناوب على اغتصابهن، وهو ما أكدته ثلاث فتيات 
هربت هند (15  سنة) - وليس هذا اسمها الحقيقي - من تنكيل إخوتها، متخيلة أن ما تحيا فيه هو جحيم لا تستطيع التأقلم معه أو الاستمرار فيه.
هي صغيرة وضئيلة الحجم، ترتدي عباءة سوداء، التقيناها على كورنيش النيل في أحد أماكن تجمعات فتيات الشارع.
تعرضت أثناء وجودها في الشارع خلال السنوات الخمس الماضية، لتنكيل أكبر وأشد، ليس أقلّه حملها مرات عدة وإجهاضها في كل مرة بسبب هزال جسدها وظروفها الصحية، وقسوة حياة الشارع التي لم ترحم ضعف جسدها ولا قلّة سنوات عمرها في هذه الحياة.
تعرضت هند لأنواع مختلفة من الاغتصاب سواء من أولاد الشوارع الذين هربوا من بيوتهم مثلها، مفضلين حياة الشارع على قسوة البيوت، أو من البلطجية الذين يتعرضون للفتيات في الشارع، ويخطفونهن مستخدمين الـ "توك توك" ويخزنونهن في أماكن مهجورة، بحسب وصفها.
والبلطجية في مصر هم تلك الفئة التي تعتدي على الآخرين بالقوة البدنية أو التهديد أو استخدام السلاح الأبيض، سواء للحصول على ما هو ليس من حقها، أو لإسداء خدمة لشخص بالاعتداء على آخرين مقابل أجر مادي.
وقد يُستعان بالبلطجية في حوادث سياسية لتسجيل انتصار على طرف آخر. يذكر تقرير صادر عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عام 2015، أن هناك حوالى 500 ألف بلطجي في محافظات مصر يعتدون بشتى الطرائق على الناس مقابل مبلغ من المال.
لم يكتفِ المغتصبون بجميع تلك العلامات الموغرة التي تركوها في نفس هند، بل فضل بعضهم أيضاً أن يحتفظ بعلامة من سلاحه الأبيض في وجهها لكي يتباهى بأنه اغتصبها. 

"مشتبه بنا بالضرورة"

بجرح غائر في وجهها تتحدث منال – 22 سنة - وليس هذا اسمها الحقيقي - عن عدم مقدرة الفتيات على الوقوف أمام المعتدين بأي شكل من الأشكال.
تقول أنهن لا يقدرن على الاقتراب حتى من قسم الشرطة، لأنهن مشتبه بهن في كل حال، فالمجتمع يحملهن ذنب أنهن تركن بيوت الأهل وهربن منها إلى الشارع.
تركت منال بيتها منذ أربع سنوات، بعدما عجزت عن الاستمرار في بيت زوجها بسبب عائلته وتسلط والدته عليها.
تقول أنها تخرج إلى الشارع بشعر مرسل لتشعر بالهواء يلفح وجهها، وبأنها حيّة، بعدما تتعرض للاغتصاب، ثم تتوجه إلى إحدى دور رعاية أطفال الشوارع لكي تتمكن من تناول المطعم والمشرب وتسترد جزءاً ممّا فقدته من صحتها، وجسدها الهزيل.

كاميليا...

تقول كاميليا أن عمرها 18 سنة، لكن العباءة السوداء اللامعة التي ترتديها والجرح الغائر في خدّها الأيمن الشاحب وصبغة شعرها الصفراء تجعلها تبدو أكبر بكثير من ذلك.
التقينا كاميليا أيضاً في أحد تجمعات فتيات الشارع بمنطقة وسط البلد.
بدأت كاميليا - ليس هذا اسمها الحقيقي - حياتها في الشارع منذ سنوات ست، بعد خلاف دبّ بينها وبين زوجة أبيها، انتهى بتركها المنزل.
حاولت أن تلتقط أنفاسها، قبل أن تفاجأ بأن خاطفها لم يكتفِ بالتنكيل بها، بل أَعمَلَ سلاحه الأبيض في وجهها، مسبباً لها جرحاً في خدها الأيمن.
تقول أنها نزفت وهي تسير في الشارع، ولم يعرض أحد عليها المساعدة. كانت تعرف جيداً أيضاً أن ما من مستشفى يقبلها، من دون أسئلة وأجوبة ستخرج بعدها مدانة أكثر من كونها ضحية.
وصلت إلى المكان الذي تبيت فيه وزميلاتها اللواتي أخذنها إلى إحدى العيادات الطبية. هناك تحصل العمليات غير المشروعة لخياطة الجروح، لكي لا يسألها أحد عن شيء.
يُقول أحمد جمال – الطبيب في أحد المستشفيات الحكومية - عن كاميليا وغيرها من الفتيات، أن لا مستشفى يقبلهن، على الرّغم من أن مهمة المستشفى إنقاذ حياة الناس أياً كانت ظروفهم. لكن هذا لا يحدث، فحالات كثيرة لا تصل إلى الأطباء، لأنّ مكاتب الاستقبال في المستشفيات تمنعها من دخولها، لعدم حيازة أوراق ثبوتية.
يضيف جمال أنه يجب فتح باب التحقيق في هذه الحالات حتى لا تقع مسؤوليتها على المستشفى، وهو ما لا ترحب الفتيات في أحيان كثيرة بأن يحدث، إما خوفاً من انتقام البلطجية منهن بعد خروجهن، أو من إعادتهن إلى بيوت أهاليهن على غير رغبتهن، أو حتى من أن يقع جزء من المساءلة القانونية عليهن.
ولا ينفي جمال أن هناك مستشفيات كثيرة تدفع تكلفة العلاج قبل أي شيء، لمجرد الشك في أن أياً من الحالات لن تتمكن من دفع هذه التكلفة المادية، على الرغم من أن كثراً يرفضون دخول المستشفى لهذا السبب.

ماذا تنتظرون؟

سعيد – أحد من يطلق عليهم أطفال الشوارع - وليس هذا اسمه الحقيقي - يصف زملاءه المغتصبين الذين يشوهون الفتيات بعد اغتصابهن، بأنهم "عيال مجنونة وفاضية".
يقسم سعيد ليؤكد كلامه، بأنه لا يفعل ذلك، وإن كان قد شارك من قبل في حادثة اغتصاب، لكنه ينتقد بشدة التشويه. وعن مبررهم في فعل ذلك.
يقول: "هما بيبقوا عاوزين يعلنوا أنهم أقوياء ورجالة". وبحسب سعيد، فإن كل منهم يتباهى بعدد الفتيات اللاتي يحملن علامته.
أحياناً، يترك المغتصب علامته في مكان غير ظاهر في جسد المغتصبة، لكي يفاجئ المغتصب التالي أو الزوج إذا كانت متزوجة عرفياً بأحدهم في الشارع، بحسب سعيد.
يختتم سعيد بسؤال فيه لوم، قائلاً: "أنتم منتظرين أيه من اللي تركتوهم في الشوارع سواء ولاد أو بنات نهبة للكلاب المسعورة بالشارع؟".
يتفق الدكتور سمير الشريف – الأستاذ في علم النفس - مع رأي سعيد اللائم، والذي لخصه بعبارة "ماذا تنتظرون؟"، حيث يؤكد الشريف أن هؤلاء الأولاد لديهم حنق لا يستهان به تجاه كل من أدى بهم إلى هذه النتيجة، بدءاً من أسرهم، وصولاً إلى كل ما يتعرضون له في الشارع من مظالم وإهانات، سواء من البلطجية أو من الشرطة أو بسبب اشمئزاز المارين في الشارع منهم.
ذلك الحنق – بحسب الشريف - هو ما يدفعهم إلى تجريح سيارات مركونة في جوانب الطرقات بآلات حادة، من دون حتى أن يعرفوا أصحابها، ومن دون أنه يفرقوا بين سيارة وأخرى.
وما سلوكهم هذا، إلّا لتفريغ الغضب في دواخلهم، والذي يدفعهم أيضاً إلى الاغتصاب وتشويه وجوه أو أجساد الضحايا. هذا مرض، وكل ما يرغبون فيه من تصرفاتهم هذه إثبات القوة والسلطة، والإحساس بأنهم قادرون على قهر شخص آخر، وأن هناك من هو أضعف منهم، ما يجعلهم في نظر أنفسهم أقوياء ويشعرهم بالرّضا.
يتابع الشريف: "هؤلاء الاولاد مظلومون تماماً، وإن تحولوا قساة غلاظ القلوب أو ظالمين، يظل كل هذا انتقاماً ممّا واجهوه من ظلم وقهر وإهانات في البيت والشارع، ومن الأسرة والمجتمع".

البيت هو السبب

تُجمع هند ومنال وكاميليا على معرفتهن بأنه في إمكانهن أن يعدن إلى بيوتهن وينتهي كل ما يتعرضن له من معاناة في الشارع، لكن ثلاثتهن لا يغفرن لأسرهن أنها السبب الأول في خروجهن إلى الشارع سواء من قسوة الإخوة أو زوجة الأب أو الأب نفسه، معللات ذلك بأن قسوة الغريب يمكن احتمالها في أي حال، أما قسوة القريب الذي يُفترض به الحنان والرعاية فلا تُحتمل أبداً.
تنقّل محمد علي – المختص الاجتماعي في جمعيات رعاية أطفال الشوارع - خلال مهنته بين جمعيات كثيرة ترعى هؤلاء الأطفال. يقول أن دور تلك الجمعيات محدود جداً، وربما هي عاجزة بالكامل عن توفير أكثر من ساعات رعاية أو تقديم المأكل أو الملبس أو جعل الأولاد يقومون بنشاطات معينة أو يتحدثون قليلًا عمّا يواجهونه من مصاعب في حياة الشوارع، وأحياناً تقدم مأوى دائماً لعدد محدد من الفتيات أو الفتيان، وفقاً لما تسمح به مقارهم.
يعتبر علي أن الحل يتمثل في وعي مجتمعي شامل، مصالحة اجتماعية تحدث مع الأولاد، حتى يقبلوا بإعادة تأهيلهم وانخراطهم في حياة سوية، "كثيراً ما نجد فتياناً وفتيات يهربون من المقار الدائمة، ويفضلون عليها حياة الشارع مرة أخرى". ويضيف أنّ لا تفسير لديه أكثر من أن هؤلاء الأولاد غير مهيئين لحياة طبيعية، ولا بد من عمل جبار لإعادة تأهيلهم.

غابة الشارع

"أول ما نزلت الشارع من 15 سنة كانت الحياة فيه صعبة أوي، دلوقتي بقى غابة"، هكذا تصف نسرين، وهو اسم مستعار، حياتها التي تتغير يومياً بسبب موجات الغلاء التي تدفع بعض الفقراء إلى الشارع وتزيد الناس عنفاً، برأيها.
التقاها رصيف22 في جمعية نور الحياة. هي في آخر عقدها الثاني، بيضاء البشرة، ترتدي عباءة ملونة وتضع على رأسها غطاءً، ويظهر على النصف الأيسر من وجهها أثر لحرق من حادث قديم.
تقول نسرين إنه أصبح من المستحيل الحفاظ على نفسها يوماً كاملاً من دون أن تتعرض لحادثة ضرب أو اغتصاب أو تحرش. وهو ما تؤكده إحدى العاملات في المركز، لأنها تستمع دوماً لقصص الفتيات.
"الرقص على المراكب النيلية من أهون الحاجات اللي ممكن تحصل لنا، بنطلع نرقص كام ساعة وناخد قرشين ونمشي"، تقول نسرين.
فهذا العمل، برأيها، من أكثر الأعمال التي تتيح لها كسب رزقها مع الحفاظ على كرامتها وجسدها. فهي وزميلاتها يرقصن بعباءات سوداء من دون أن يسمحن لأحد بتجاوز الحدود معهن. لا يخلو عملهن من سماع تعليقات ومعاكسات من بعض الركاب، لكن هذا، بحسب قولها، أمر مقدور عليه.
وتختم "عندما تعيش في الشارع وتتعرض لحوادث التحرش والاغتصاب، يكون من الجنون أن تتضايق من التعليقات الكلامية. نحاول وقف المتحرش عند حدّه وكفى".

ليست هناك تعليقات: