Translate

الاثنين، 19 نوفمبر 2018

خالد محيي الدين في «الآن أتكلم».. تحدث متأخرًا ولم يستفض

يقدم لنا ناشر كتاب خالد محيى الدين "الآن أتكلم" فى تقديمه للكتاب تلخيصا دقيقا لأهم الموضوعات التى يتضمنها الكتاب، ولقيمته، وقيمة مؤلفه؛ إذا يذكر أن "لشهادة خالد محيى الدين عما حدث فى ثورة 23 يوليو 1952 قيمة فريدة، تنبع أساسا من طبيعة شخصية كاتب هذه المذكرات. فخالد محيى الدين من الستة الأوائل الذين شكلوا تنظيم الضباط، وكان فى العمل السياسى أقربهم إلى عبد الناصر، فضلا عن أنه كان صاحب موقف واضح من قضية الديمقراطية انتهى به للاستقالة من مجلس قيادة الثورة، كما كان له موقفه الفكرى المميز.
ومع أن مذكرات خالد محيى الدين تجيء بعد 40 عاما من قيام الثورة، إلا أنها تتضمن قدرا كبيرا من الأسرار ينشر لأول مرة مثل: لماذا عارض عبد الناصر التقيد ببرنامج التنظيم؟ حقيقة العلاقة مع أمريكا، علاقة عبد الناصر وخالد محيى الدين بالإخوان والشيوعيين، صلة السادات بالسفارة البريطانية، تأثر عبد الناصر باستقالة أتاتورك ومظاهرات الأتراك لإثنائه عنها.
الدلالة الأولى التى يقدمها لنا تقديم الناشر- مركز الأهرام للترجمة والنشر، بمؤسسة الأهرام- أن الطبعة الأولى للكتاب الصادرة فى سنة 1992، تأتى متأخرة عن الأحداث التى تتناولها كثيرا، وبعرض مذكرات خالد محيى الدين على المذكرات المماثلة للضباط الأحرار؛ سواء منهم من شغلوا عضوية "مجلس قيادة الثورة"، أو الذين كانوا فى الطبقات التالية للقيادة، نتأكد من أن خالد محيى تكلم متأخرا عن الكثيرين، وحق له أن يطلق على مذكراته هذا الاسم المعبر "الآن أتكلم"؛ فلطالما كان هذا السؤال يطرح عليه: لماذا لا تتكلم؟
سبق خالد محيى الدين من "القيادة" فى كتابة ونشر مذكراتهم كل من: محمد نجيب "كنت رئيسا لمصر"، عبد المنعم عبد الرءوف "أرغمت فاروق عن التنازل"، مذكرات عبد اللطيف البغدادى، مذكرات كمال الدين حسين، وإذا أضفنا كتاب أنور السادات "البحث عن الذات" يبدو "خالد" متأخرا كثيرا، وظل السؤال بعد أن تكلم: لماذا لم يكمل؛ إذ إنه توقف فى كتابه عند سنة 1955 ولم يكمل الكلام، وبدا أن مبرره فى ذلك غير مقنع إذا ذكر أنه تكلم عما عاينه وشارك فيه من المراحل المبكرة من الإعداد للثورة وحتى خروجه من الحكم، ذلك لأنه وإن كان فعلا قد خرج فعليا من سلطة الحكم إلا أنه ظل مشاركا فى النظام السياسى الذى أنشأه الضباط الأحرار، فشارك فى صحافة السلطة وفى منظماتها المحلية والدولية، وفى مجلسها التشريعى "مجلس الأمة"، بل أنه الوحيد من بين قادة 23 يوليو الذى ظل محافظا على علاقة ما- تتراوح دراجات حرارتها تبعا للتقلبات فى مزاج القيادة- بالنظام السياسى، فهو مثلا الوحيد الذى انتخب فى المجالس التشريعية فى ظل حكم: جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسنى مبارك.
وقد مثلت مذكرات خالد محيى الدين "الآن أتكلم" خاتمة لسلسلة من المذكرات لضباط يوليو، يبرز منها: جمال منصور "فى الثورة والدبلوماسية"، محمد عبد الفتاح أبو الفضل "كنت نائبا لرئيس المخابرات"، حسين حمودة "أسرار حركة الضباط الأحرار والإخوان المسلمين"- 1985- وبنشره لتلك المذكرات أصبح السؤال الأبرز متعلقا بالصامتين؛ وأبرزهم بلا شك زكريا محيى الدين (1918 – 2012)- وهو كما هو معروف ابن عمه- فقد تكرر سؤاله مئات المرات طوال العقدين اللذين أعقبا صدور "الآن أتكلم"، لماذا لا تتكلم، فأنت "مخزن أسرار" يوليو، وقد بقيت مشاركا فى الحكم، ولم تنسحب، أو تطرد، أو يتم تحجيمك، حتى وفاة جمال عبد الناصر.
وإذا عدنا إلى تقديم الناشر فيمكننا أن نتبين -كما سنجد تأكيدا لذلك فى مذكرات عدد من الضباط- محورية دور خالد محيى الدين فى الإعداد وبناء تنظيم الضباط الأحرار، وفى كل الأحداث التى أعقبت نجاحهم فى السيطرة على السلطة، وحتى خروجه من مجلس الثورة فيما عرف تاريخيا بـ"أزمة مارس 1954" أو "أزمة الديمقراطية" فى توصيف آخر، ويبدو أن هذه الأزمة التى لازمت النظام السياسى المصرى من وقتها وحتى الآن كانت بالنسبة لخالد محيى الدين مسألة غير واضحة تماما منذ البداية، إذ يبدو متناقضا منطقيا فى طرحه للمسألة تاريخيا، لكنه فى الواقع العملى؛ ولأنه كان مشاركا فى النظام السياسى من خارج سلطة الحكم، بدت أفعاله فى الممارسة العملية منحازة بالفعل للممارسة الديمقراطية المقيدة والمحكومة بمحددات قاطعة.
خالد محيى الدين الذى وصفه السادات مهاجما؛ فى ذروة أزمة مارس، بأنه "الصاغ الأحمر" كإشارة إلى انتمائه التنظيمى لأحد تنظيمات الحركة الشيوعية المصرية -حدتو- التى منحت ضباط يوليو تأييدا غير مشروط، فى حين منحتهم تنظيمات أخرى تأييدا مشروطا، وعارضتهم غيرها ووصفت حركتهم منذ البداية بأنها "انقلاب عسكرى"، خالد ربما يكون التعبير "الإنسانى المثالى" عن تناقضات ضباط يوليو، فقد تنقل -كما جمال عبد الناصر- بين عضوية جماعة الإخوان المسلمين وبين التنظيمات الشيوعية، كما تتبدى تناقضاته هذه فى مسار خياراته بعد خروجه من مجلس قيادة الثورة، مرورا برئاسته لتحرير صحيفة مسائية "المساء" وعضوية مجلس الأمة، دون أن يعود أبدا إلى السلطة فى أى من مواقعها التنفيذية، وقد امتدت تلك العلاقة "الفريدة" مع السادات أيضا.
ولأن مذكرات خالد محيى الدين تتوقف عند عام 1955 فهى، كما مذكرات محمد نجيب، تعتبر من وجهة نظر "عريضة دعوى" ضد رفاق السلاح، أو "عريضة دفاع" فى مواجهة هجومهم.
قربه من جمال عبد الناصر ليس طبعا بقوة قرب عبد الحكيم عامر-ليس هناك من فكر فى أن ينافس عامر فى هذا أبدا- لكنه يبرز فى مذكراته هذا القرب ذا الأبعاد الإنسانية والفكرية، ورغم أنه من أصغر أعضاء القيادة، فقد لعب بالفعل أدوارا بالغة الأهمية، وهو رافق عبد الناصر فى "جولاته" على التنظيمات السياسية: العلنية والسرية.
بعض ما ذكره خالد كذبه مقربون من عبد الناصر، فما زال سامى شرف، مدير مكتب عبد الناصر مصرا على إنكار أن عبد الناصر أقسم يمين السمع والطاعة، وبايع حسن البنا، ذكر خالد وقائع الاتصال، والعضوية، والانفصال هكذا: فيذكر عن علاقتهما-  (هو وعبد الناصر بجماعة الإخوان المسلمين): "حاول حسن البنا أن يشدنا إلى الجماعة برباط وثيق، وتقرر ضمنا أنا وجمال عبد الناصر إلى الجهاز السرى للجماعة ربما لأننا الأكثر فعالية وتأثيرا فى المجموعة".
ويضيف: "المهم اتصل بنا صلاح خليفة وأخذنا أنا وجمال عبد الناصر إلى بيت قديم فى حى الدرب الأحمر باتجاه السيدة زينب، وهناك قابلنا عبد الرحمن السندى المسئول الأول للجهاز السرى للإخوان فى ذلك الحين، وأدخلونا إلى غرفة مظلمة تماما واستمعنا إلى صوت أعتقد أنه صوت صالح عشماوى ووضعنا فى يدنا على مصحف ومسدس، ورددنا خلف هذا الصوت يمين الطاعة للمرشد العام فى المنشط والمكره (الخير والشر) وأعلنا بيعتنا التامة الكاملة والشاملة له على كتاب الله وسنة رسوله".
وعن بداية؛ وسبب، الانفصال يقول: "وقفت الجماعة ضد اللجنة الوطنية للطلبة والعمال- التى كانت تقاوم سلطة رئيس الوزراء إسماعيل صدقى فى منتصف الأربعينيات- وحاولت أن تشكل جماعة أخرى بالتعاون مع إسماعيل صدقي وبدءنا نحس أنهم مثل أي سياسيين آخرين يفضلون مصلحتهم ومصلحة جماعتهم على ما ينادون به من مبادئ وعلى مصلحة الوطن وتحادثت طويلا مع جمال عبد الناصر حول علاقتنا بالجماعة وأفضى جمال لى بمخاوفه من أن الجماعة تستخدمنا كضباط لمصالحها الذاتية وليس لمصلحة الوطن وأفضيت له بمشاعرى واتفقنا أننا قد تورطنا أكثر مما يجب مع هذه الجماعة وأنه يجب أن ننسحب منها...لكنه لا يمكن أن أقول إننا فى يوم كذا انسحبنا من الجماعة فقط أصبحت الشكوك تملؤنا وأصبحنا على غير وفاق وغير متحمسين وبدأنا نتباعد أنا وجمال وربما بدأت الجماعة هي أيضا تستشعر أننا لا نمتلك الولاء الكافي فبدأت تتباعد عنا....وتدريجيا يأتي عام 1947 ليجد علاقتنا جمال وأنا وقد أصبحت باهتة تماما مع جماعة الإخوان".
وإذا كان الموضوع الأساسى الذى يشغل بؤرة الاهتمام بمذكرات خالد محيى اليدن متعلقا بأزمة مارس، فإن تأكيد خالد أن جمال عبد الناصر طلب من أعضاء مجلس الثورة تكوين تنظيم سري للتخلص من الإخوان و الشيوعيين و طبقة الباشوات الرجعية فى مرحلة مبكرة تشير إلى الخطط التى وجدت سبيلها إلى التنفيذ بوسائل متنوعة، ويلتقى خالد مع عبداللطيف البغدادى وكمال الدين حسين فى تأكيدهم أن عبد الناصر كان ضد الديمقراطية على طول الخط، وأنه هو الذى مول مظاهرات عمال النقل التى جابت شوارع وسط القاهرة هاتفة "لتسقط الديمقراطية وتحيا الثورة"، وذكر خالد أن عبد الناصر قال له "هذا الإضراب كلفني أربعة آلاف جنيه"، وذكر ايضا أن عبد الناصر هو الذى دبر وأمر بتنفيذ الانفجارات الستة التي حدثت في الجامعة وفي جروبي وفي مخزن الصحافة بمحطة سكة حديد القاهرة لإثارة مخاوف الناس من الديمقراطية وللإيحاء بأن الأمن سيهتز وأن الفوضى ستسود إذا مضوا في طريق الديمقراطية.

وبينما لا يتجاوز خالد محيى الدين العام 1955 بالحديث عن ذهابه إلى "المنفى" حيث اتفق هو وجمال عبد الناصر؛ عقب انتصار عبد الناصر وباقى أعضاء مجلس قيادة الثورة فى "معركة الديمقراطية"؛ بإزاحة محمد نجيب عن رئاسة الجمهورية ومجلس قيادة الثورة وإزاحة خالد محيى الدين عن رئاسة الوزراء، على أن يقيم خارج مصر (سويسرا) -لفترة حتى تستقر الأوضاع- وهو ما حدث بالفعل ليمكنه بعدها العودة، فإن بعض ما يذكره بمثابة تلميحات وإشارات خاطفة إلى أحداث لم يتطرق لها، هكذا يمكننا أن نفهم من حديثه عن "تأثر عبد الناصر باستقالة أتاتورك ومظاهرات الأتراك لإثنائه عنها"، حيث يبدو وكأنه تعليق خافت على تنحى عبد الناصر عقب هزيمة 5 يونيو وخروج مظاهرات فى 8 و9 يونيو تطال عبد الناصر بالعودة عن التنحى.

ليست هناك تعليقات: