على بعد 60 كيلومترًا جنوب الإسكندرية، تقع مدينة دمنهور، عاصمة محافظة البحيرة، التى يحل عيدها القومي، اليوم؛ والذى يوافق اليوم الذى رحل فيه الإنجليز عن مصر، بعد هزيمتهم على أرض البحيرة، فى رشيد.. فى معركة يحكيها التاريخ، فى 19 سبتمبر عام 1807، والمعروفة تاريخيًا بحملة «فريزر» عام 1807، وهو يوم من الأيام البطولية فى التاريخ الإنساني، إذ تغلب مواطنوا رشيد، بأسلحتهم البيضاء، وأدواتهم المنزلية، والزيت المغلي، على حملة مدججة بالسلاح والذخيرة، مستخدمين الحيلة فى الاختباء فى المنازل، كتمويه للحملة الإنجليزية، التى ظنت أن أهالى رشيد فروا قبل مجيئهم، وأنهم تسلموا المدينة دون حرب؛ وما إن مرت الحملة فى شوارع رشيد زاهين بانتصارهم الوهمي، رُفِعَ الأذانُ كإشارة لبدء الهجوم الشعبى على الحملة، فخرج الرجال من مخابئهم بالسكاكين، والنساء من شرفاتهم بالزيت المغلى والمياه الساخنة؛ وظلت رحى الحرب دائرة، حتى وصل المدد من أهالى دمنهور، ومن محافظ الإسكندرية محمد كريم، الذين جاءوا حاملين الأسلحة والبارود، حيث فوجئت الحملة الإنجليزية بالرصاص يخترق أجسادهم من كل ناحية، وانتهت المعركة مخلفة حوالى 170 قتيلا إنجليزيا من ضمنهم أحد القواد الذى يدعى «ويكوب»، وفر الباقى منهم خارج المدينة؛
المدينة الباسلة.. حكايات على الربابة وشهادات فى الكتب:
أثبتت دمنهور، عبر تاريخها، أنه لا مركزية فى القاهرة، ففيها أيضًا كان يجتمع رموزُ الفكر والثقافة، وزارها الكثيرون أيضًا من الرحالة المسلمين، أمثال بن جبير، بن بطوطة، بن دقماق والزبيدي، حيث تناولوا فى كتاباتهم ما تحويه من مساجد وخانات ومزارع، كما كتبوا عن المعارك الدموية التى جرت على أرضها، إضافة إلى كونها أقدم المدن المصرية القديمة على الإطلاق.
وتعتبر دمنهور واحدة من أقدم ثلاث مدن مأهولة فى العالم، بعد دمشق وأريحا، ويقال إنها بلد النبى إدريس «إخنوخ»، حيث يقول المفكر الموسوعى الراحل الدكتور عبدالوهاب المسيري، إن المصريين رمزوا للنبى إدريس بمعبودهم حورس، لذا يمكننا القول بأن جذور المدينة تمتد حتى السماء الرابعة، حيث رفع اللهُ النبى إدريس، ويعود تاريخ بنائها إلى الألف السابعة قبل الميلاد، أى قبل تسعة آلاف عام، كما كانت عاصمة لمملكة الغرب، قبل توحيد القطرين، على يد نارمر «مينا»، سنة 3200 قبل الميلاد.
ومن السير الشعبية التى كانت تغنى كسيرة أبوزيد الهلالي، ولكنها اندثرت، كان شاعر الربابة خلف الغباري، الذى حكى لنا شعرًا مغنى عما عاصره بشأن «مذبحة عرب هوارة»، فيذكر الدكتور أحمد صادق الجمال، فى كتابه «الأدب الشعبى المصرى فى مصر المملوكية»، أن المعارك بدأت عندما نزلت قبيلة هوارة أرض مصر، عام 1377، وكانت منازلهم فى منطقة البحيرة وتحديدا «دمنهور».
وكانت لهم الإمرة على عربانها، ظل هذا الأمر حتى قام زعيم الهوارة، «بدر بن سلام»، بهجمة شرسة على دمنهور، عام 1380، فنهبوا بيوتها، وخربوا أسواقها، فأرسل لهم الأمير «برقوق» الأتابكي، من ردَّهم على أعقابهم، وقتلوا من الهوارة الكثير، ثم جاءوا بالأسرى والأغنام والأسلاب إلى القاهرة، وفى هذا اليوم خرج أهل مصر جميعًا للفرجة.
.
وتحدث الشاعر خلف الغبارى أيضًا عن استعداد الجيش لمواجهة العرب الهوارية، وكيف بدأوا سيرهم من المعادى إلى دمنهور، ولما استراحوا فى منتصف المسافة، ذهب القائد «آيتمش» المكلف من الأتابكى «برقوق»، ليقص أثر العربان، وكمنوا لهم حتى إذا فارقوا خيامهم رجع إليهم الأتراك، بقيادة «آيتمش»، ولعبوا فيهم بالسيوف عند انتصاف الليل، وأجبروا من تبقى منهم على التقهقر جنوبًا، حيث نقل على إثرها معظم الهوارة إلى الصعيد، ليجيء من نسلهم شيخ عرب الصعيد «همام الهواري».
الأولى فى تاريخ مصر.. حكاية معاهدة دمنهور
لعل أبرز ما نسى فى تاريخ المدينة «معاهدة دمنهور»، فهى أول معاهدة تم إبرامها فى تاريخ مصر الحديث، حيث وقعت بتاريخ 14 سبتمبر سنة 1807م، بين كل من «محمد على باشا» والى مصر وحاكمها القوى ومؤسس الأسرة العلوية، و«الجنرال شربروك» نائبًا عن الجنرال فريزر، قائد الحملة الإنجليزية على مصر، والتى عُرفت فى التاريخ بحملة فريزر.
ونصت المعاهدة على جلاء الحملة الإنجليزية عن الإسكندرية، فى موعد غايته 19 سبتمبر سنة 1807، مقابل إطلاق سراح جميع الأسرى من الجنود الإنجليز المحتجزين فى دمنهور، وذلك بعد أن دخل الوالى محمد على بجيشه إلى دمنهور، لتبدأ بعدها مرحلة التفاوض مع قادة الحملة، والتى انتهت بتوقيع معاهدة دمنهور.
ودخل الإنجليز مصر من الأساس بناءً على خيانة محمد بك الألفي، زعيم المماليك، واتفاقه مع الإنجليز على خلع محمد على باشا، فحاول دخول دمنهور بجيشه والسيطرة عليها، لكنه فشل لمقاومة أهل دمنهور الباسلة له، فمات مشلولًا بالفالج، فضرب المثل بدمنهور يومها «البلد اللى فلجت القرد» أو «اللى فلجت الألفي».
عمرو ابن العاص.. وقصة حى الصاغة
ويعتبر من أبرز الأحياء القديمة بدمنهور «حى الصاغة»، بالقرب من مسجد التوبة، أشهر مساجد المدينة، وثانى مسجد بنى فى مصر وإفريقيا، بعد جامع عمرو بن العاص، ذلك المسجد بناه قائد الفتح العربى عمرو بن العاص، عندما فتح المدينة للمرة الثانية، بعد ارتداد أهلها ومحاربتهم له، فترك فيهم بعضَ الصحابة، وبنى لهم ذلك المسجد ليضمن عدم ارتدادهم للمرة الثالثة.
ومن هؤلاء الصحابة الذى تركهم عمرو بن العاص، «سالم الجيشي»، صاحب المسجد والمقام المسمى باسمه فى شارع الجيشي، وأيضًا «عطية أبوالريش»، صاحب مسجد ومقام «أبوالريش» فى الحى المسمى باسمه أيضًا، والذى يقام له فى المدينة مولد كبير، يأتى له وفود من جميع أنحاء الجمهورية كل عام.
حسنين الحصافى.. شيخ الطريقة التى انتسب إليها «حسن البنا»
على أطراف المدينة يقع مسجد العارف بالله حسنين الحصافى؛ شيخ الطريقة التى انتسب إليها المرشد الأول والمؤسس لجماعة الإخوان الإرهابية، حسن البنا، المولود بمركز المحمودية، بجوار دمنهور، حيث أخذ العهد على يد أحد أبناء الشيخ حسنين الحصافى، وكانت الطريقة هى إلهامه الأول، فى تأسيس جماعته، حيث تأثر بالطريقة فى العهد المأخوذ على المريد أو المنتسب، والسرية والكتمان.
وأمضى «البنا» فى دمنهور فترةً كبيرة، قبل أن يتم نقله إلى الإسماعيلية، وتم إنشاؤه فى عهد الخديو عباس حلمى الثاني، وتقوم على إحياء السنة النبوية الشريفة، ومحاربة البدع والمخالفات الشرعية، وتم هدم المسجد عام 1982، وأعيد بناؤه من جديد، على الطراز الآسيوي، وافتتح المسجد سنة 1987، وبجواره تقع مدافن المسلمين فى المدينة، يتوسطها مقام الشيخ الحصافى وولديه.
فى دمنهور يوجد ثورة 28 يناير
على قمة شارع الصاغة بدمنهور، لافتة رخامية على واجهة جامع الزواوي، الذى يُعتقد أنه يرقد فيه جثمان شيخ مغربي، قدم من مدينة «زواو»، وكتب على تلك اللافتة ما يلي: «فى هذا المكان قتل الطفل البريء، محمد محمد رزق المسلماني، فى مظاهرات يوم 28 يناير 1936»، وعن هذه الواقعة قال المؤرخون، إن دمنهور لعبت دورًا وطنيًا مهمًا، فى أحداث انتفاضة 1935، وما تبعها من تطورات، سيطرت على مجريات العمل السياسى والحركة الوطنية والطلابية.
ويقال إن تلك المظاهرات التى جابت المدينة، حجبت كل الأضواء عن المدن المصرية الأخرى، لما اتسمت بها تلك الأحداث من عنف ودموية، ابتداءً من 16 نوفمبر 1935، وحتى 30 يناير 1936، حيث قدمت دمنهور شهيدين من أبنائها فى سبيل الوطن، وهما «محمود حمزة الرومي»، الطالب بمدرسة الزراعة المتوسطة بدمنهور، والذى استشهد فى مظاهرات الاثنين 27 يناير 1936، على خلفية أحداث انتفاضة 1936، والذى تذكر وقائع دمنهور أن جنازته كانت شعبية.
وكذا الشهيد محمد محمد رزق المسلماني، 8 سنوات، والذى استشهد فى مظاهرة مساء الثلاثاء 28 يناير 1936، بعد عودة المشاركين فى جنازة الشهيد «الرومي»، حيث تم القبض على ما يقرب من 70 متظاهرًا.
حسن عاصي.. فوال دمنهورى أدمنت الأسرة المالكة خلطته:
وإذا توغلنا قليلًا فى شارع الصاغة، نجد دكانًا كُتب عليه بخط الثُلُث، على شكل نقوش خشبية بارزة «على حسن عاصي»، وهو أشهر دكاكين الفول، ليس فى دمنهور، بل فى مصر آنذاك، أسسه الشيخ «على حسن عاصي»، سنة 1920، جاءت شهرته كونه المورد المعتمد لقصر السلطانة «ملك»، زوجة السلطان حسين كامل، بمنطقة جبارس، مركز إيتاى البارود.
وفى سنة 1937 تم إستدعاؤه خصيصًا للسفر إلى مرسيليا بفرنسا، للإشراف على إعداد وتجهيز الفول المدمس، الخاص بإفطار الملك «فاروق الأول»، عند عودته بالباخرة النيل، لتولى سلطاته الدستورية بحكم مصر، فى يوليو سنة 1937، وكان يرسل يوميًا قدرة الفول الفضية، بالقطار إلى قصر المنتزه بالإسكندرية لزوم إفطار جلالة الملك فاروق، والذى كان يعشق الفول المدمس، المعد بواسطة الشيخ على عاصي.
وكانت ترسل أيضًا إلى قصر عابدين بالقاهرة، حال تواجد الملك هناك، وتمت صناعتها من الفضة الخالصة، بورش مدرسة دمنهور الصناعية، حيث كانت توضع فى سلة مصنوعة من البامبو، ومكسوة بالحرير، نجد عليها اسم حسن عاصى بدمنهور، مشغولًا على الكسوة الخارجية للسلة.
وبمناسبة مولد الأمير أحمد فؤاد الثاني، فى يناير 1952؛ قام الشيخ على عاصي، بإهداء قدرة ذهبية إلى الملك فاروق، وتمت صناعتها من الذهب الخالص، بمدرسة دمنهور الصناعية، وإلى عهد قريب، كانت القدرة الذهبية من ضمن مقتنيات قصر المنتزه بالإسكندرية.
«قهوة المسيري».. صالون مثقفى البحيرة:
ونمر بمقهى المسيرى التاريخي، الكائن بشارع الأميرة فوقية «حاليًا شارع 23 يوليو» بدمنهور، والتى أسسها الأديب القهوجى «عبدالمعطى المسيري»، فى بداية ثلاثينيات القرن الماضي، حيث انتقل بها من مجرد، مقهى لاحتساء الشاى والقهوة، إلى واحدة من أهم مصادر الإشعاع الثقافى والأدبى بالندوات واللقاءات الأدبية، التى كانت تُعقد بين جنباتها، وتنافس فى شهرتها المقاهى الكبيرة فى القاهرة والإسكندرية، حيث كانت ملتقى لأعلام الأدب والصحافة والسياسة والفن.
كما كانت شاهدة على كل الأحداث السياسية، ومجرياتها فى دمنهور، خلال حقبة الثلاثينيات وحتى ستينيات القرن الماضي، ولعبت دورًا مهمًا فى الحركة الوطنية ضد الاحتلال البريطانى لمصر، ومقر لجمع التبرعات لمساعدة الجيش المصري، أثناء حرب فلسطين الأولى سنة 1948، ومنها خرجت المظاهرات ضد الاحتلال البريطانى سنة 1951، وخاصة بعد إلغاء معاهدة سنة 1936.
زارها العديد من عمالقة الأدب والشعر والصحافة ورواد القصة، وجلسوا بين جنباتها، واستلهموا من شخصياتها وروادها بعض شخصيات وأفكار قصصهم ورواياتهم، وعلى سبيل المثال، فقد زارها الشاعر أحمد محرم، صاحب «الإلياذة الإسلامية»، والذى كان لا يقل موهبة ولا شعرًا عن أبناء جيله من الشعراء، أمثال أحمد بك شوقي، وحافظ إبراهيم.
أيضًا كان يجلس عليها الشاعر على الجارم، والأديب الكبير يحيى حقي، صاحب رائعة «قنديل أم هاشم وسارق الكحل، وتوفيق الحكيم، والذى كتب «يوميات نائب فى الأرياف»، عن ذكرياته بدمنهور، ومحمود تيمور ابن عائلة تيمور، التى ملأت مصر فنًا وثقافةً، وكانت فى صدارة رواد المسرح المصري، أيضًا أديب نوبل العالمى «نجيب محفوظ»، والذى ترجع عائلته إلى مدينة رشيد، بالقرب من دمنهور.
وكذا الأستاذ محمود أمين العالم، والروائى والقاص محمد عبدالحليم عبدالله، الذى توفى كمدًا فى دمنهور، بعدما عامله سائق تاكسى بطريقة سيئة، أيضًا حافظ محمود، مؤسس جمعية القلم الأدبية، ومؤسس نقابة الصحفيين، ولا ننسى نظير جيد «البابا شنودة الثالث»، بابا الإسكندرية والكرازة المرقسية السابق، والذى كان راهبًا بإحدى أديرة وادى النطرون بالبحيرة، والشاعر الغنائى إسماعيل الحبروك ابن دمنهور، والروائى يوسف القعيد، ابن إيتاى البارود، بجوار دمنهور.
أيضًا الروائى الكبير خيرى شلبي، صاحب رواية الوتد، وصحراء المماليك، والعديد من المجموعات القصصية، منها: «قداس الشيخ رضوان»، و«أنس الحبايب»، وقال «خيرى شلبي»، فى أحد اللقاءات الأدبية، قبل وفاته: إنه درس فى المرحلة الثانوية بدمنهور، وأقام بها، أيضًا كتب رواية «وكالة عطية»، والتى تقع أحداثها فى دمنهور، والتى لم يحدد مكانها حقيقيًا حتى الآن.
وتعد قهوة المسيري، هى المكان الذى نشأ فيه الموسوعى «عبدالوهاب المسيري»، وتشكل بثقافته، نظرًا لقرابته من مؤسس القهوة عبدالمعطى المسيري، كما زارها الرئيس الراحل أنور السادات، سنة 1957.
وفى السنوات القليلة الماضية؛ تحول المقهى إلى قهوة بلدي، يعرض أفلام مقاولات قديمة وجديدة، وجولات مصارعة حرة، وبدلًا من أن تنير مثل العقود الماضية برموزها، أغلقت حاليًا استعدادًا لإزالة العقار، وإسدال الستار على ملمح مهم من تاريخ المدينة.
من الصيدلة للرهبنة.. حكاية «يوسف إسكندر» أبو الكيمياء:
وفى وسط المدينة؛ حيث «ميدان الساعة» نجد «صيدلية مصر»، التى أنشأها الصيدلى «يوسف إسكندر»، فى الأربعينيات من القرن الماضي، وحسب شهادة المعاصرين من أبناء البلدة، كان ودودًا عطوفًا، فعالًا للخير.
كان يصرف الدواء بمقابل زهيد، لبعض الجمعيات الخيرية، ومنها جمعية المحافظة على القرآن الكريم، التى كانت تُقابل صيدليته، على الرغم من كونه مسيحيًا، وسرعان ما أغلقها عام 1948، ليلبى نداء الإنجيل، ويترهبن ليصبح اسمه «متى المسكين»، لتؤول ملكيتها إلى غيره، وتتعاقب عليها الحقب، ولا تزال من أشهر الصيدليات بدمنهور حتى الآن
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق