يوم 6 أبريل من عام 1199م توفى ريتشارد الرابع، وسمى بـ “قلب الأسد” بسبب سمعته العسكرية، وشراسته في القتال، وقد ولد في 8 سبتمبر 1157 م، وفي عمر السادسة عشر قاد جيشًا وأخضع المتمردين على عرش أبيه هنري الثاني، ملك إنجلترا في بواتو، وقاد الحملة الصليبية الثالثة بعدما رحل فيليب الثاني، ملك فرنسا حينها لكن لم يستطع الاستيلاء على “أورشليم” أو مدينة القدس.
أعلن ريتشارد رسمياً دوق نورماندي في العشرين من يوليو عام 1189، ثم توّج ملكاً في دير وستمنستر في الثالث من سبتمبر من نفس العام، وبعد أن أصبح ريتشارد ملكًا، وافق هو وفيليب، على الذهاب في الحملة الصليبية الثالثة، لأن كليهما خشى أن يغتصب الآخر أراضيه في غيابه.
وبدأ في تجهيز الجيش الصليبي الجديد، فأنفق معظم ما في خزانة والده، وزاد الضرائب، ولجمع المزيد من الأموال، باع العديد من الألقاب الرسمية، والامتيازات، والأراضي للراغبين، واتخذ قرارات إدارية في أراضيه ثم انطلق في الحملة الصليبية في صيف 1190 م.
رسى ريتشارد بقواته في عكا في 8 يونيو 1191، وقدّم دعمه لابن مقاطعته البواتوي جي دي لوزينيان، الذي أرسل له الجنود لمساعدته في قبرص، وتحالف ريتشارد مع هيمفري الرابع، لورد تورون، والذي كان يتحدث اللغة العربية ويدين لـ “جي لوزينيان” بالولاء، ويتحدث العربية بطلاقة، فاستخدمه ريتشارد كمترجم وكدليل.
ساهم ريتشارد وقواته في الاستيلاء على عكا، وفي النهاية تفاوض كونراد من مونفيراتو مع صلاح الدين على شروط الاستسلام ورفع رايات الملوك على المدينة، واختلف ريتشارد مع ليوبولد الخامس دوق النمسا حول مشاركة إسحاق كومنينوس حاكم قبرص في الحملة الصليبية، فغادر ليوبولد الحملة الصليبية الثالثة فورًا، ثم غادر فيليب بعد ذلك بوقت قصير، وبعد مزيد من النزاعات مع ريتشارد حول وضع قبرص وتملك أورشليم، وجد ريتشارد نفسه -فجأة- بلا حلفاء.
استبقى ريتشارد 2.700 أسير مسلم كرهائن ضد صلاح الدين الأيوبي للوفاء بجميع شروط استسلام الأراضي حول عكا، وقبل أن يغادر فيليب، سلّم أسراه إلى كونراد، لكن ريتشارد أجبره على تسليمهم له، خشي ريتشارد أن يعرقله الأسرى عن التحرك بقواته من عكا، فأمر بإعدامهم جميعًا.
وبعد ذلك اتجه جنوبًا، وهزم قوات صلاح الدين الأيوبي في معركة أرسوف في 7 سبتمبر 1191، وفي نوفمبر 1191، بعد الاستيلاء على يافا، وتقدم الجيش الصليبي نحو القدس حتى وصل إلى بيت نوبا، على بعد 12 ميل من القدس، وكانت معنويات المسلمين في القدس منخفضة جدًا خشية سقوط المدينة بسرعة، إلا أن الطقس الذي كان سيئًا باردًا مع أمطار غزيرة وعواصف، بالإضافة لخوفه من أن يحاصر جيشه في القدس، دفعاه للانسحاب والعودة إلى الساحل، ثم حاول التفاوض مع صلاح الدين الأيوبي، إلا أنه لم ينجح في ذلك، وفي النصف الأول من عام 1192، حصّن هو وجنوده عسقلان.
اضطر ريتشارد بقبول كونراد كملك لأورشليم بعد أن تم انتخابه، ثم باع قبرص لجي دي لوزينيان، وبعد أيام في 28 أبريل 1192، اغتيل كونراد قبل تتويجه، ولم يُعرف من وراء الجريمة، إلا أن المؤرخين يشتبهون في تورط ريتشارد.
تقدم الجيش الصليبي مرة أخرى نحو القدس في يونيو 1192، ورغم أن المدينة كانت على مرمى البصر، إلا أنهم اضطروا للانسحاب بسبب الخلافات بين قادة الجيش، كان ريتشارد ومعظم قادة الجيش يريدون إجبار صلاح الدين الأيوبي على التخلي عن القدس من خلال مهاجمة قاعدة سلطانه مصر، في حين أصر قائد القوات الفرنسية هيو الثالث دوق بورجوندي على أن الهجوم المباشر على القدس يجب أن يتم.
قسّم هذا الشقاق الجيش الصليبي إلى فصيلين، ليس في قدرة أحدهما فرض رأيه على الآخر. وقال ريتشارد إنه سيصاحب أي هجوم على القدس فقط كجندي بسيط، ورفض قيادة الجيش، ودون قيادة موحدة، اضطر الجيش للانسحاب والعودة إلى الساحل.
بدأت فترة من المناوشات البسيطة مع قوات صلاح الدين في الوقت الذي تفاوض فيه ريتشارد وصلاح الدين الأيوبي على تسوية الصراع، كما علم ريتشارد بأن فيليب وشقيقه جون بدئا في التآمر ضده، ومع ذلك أصر صلاح الدين على هدم تحصينات عسقلان، التي صنعها رجال ريتشارد، وعدد قليل من النقاط الأخرى.
حاول ريتشارد محاولة أخيرة لتعزيز موقفه التفاوضي بمحاولة غزو مصر، لكنه فشل في النهاية، نفد الوقت أمام ريتشارد، وأدرك أنه ليس بإمكانه تأجيل عودته.
وتوصل مع صلاح الدين الأيوبي على تسوية في 2 سبتمبر 1192، اشتملت على هدم تحصينات عسقلان، والسماح للحجاج والتجار المسيحيين بدخول القدس، وتضمنت هدنة لمدة ثلاث سنوات.
أجبر الطقس السيء سفينة ريتشارد على أن تحط في كورفو، في أراضي الإمبراطور البيزنطي إسحاق الثاني، الذي اعترض على ضم ريتشارد لقبرص التي كانت أرض بيزنطية مسبقًا، وأبحر ريتشارد مع أربع مرافقين من كورفو، وأسر ريتشارد قبل عيد الميلاد عام 1192 بوقت قصير قرب فيينا من قبل ليوبولد الخامس دوق النمسا، الذي اتهم ريتشارد بالترتيب لقتل ابن عمه كونراد من مونفيراتو.
سجن ليوبولد ريتشارد في قلعة دورنشتاين، وصل خبر تحطم سفينة ريتشارد إلى إنجلترا، إلا أن الأوصياء على عرشه ظلوا لعدة أسابيع غير متيقنين من مكان وجوده، وفي 28 مارس 1193، تم تسليم ريتشارد للإمبراطور هنري السادس، الذي كان بحاجة للمال لتجهيز جيش للمطالبة بحقوقه في جنوب إيطاليا، فاحتجز ريتشارد لكي يحصل على فدية.
طلب الإمبراطور 150.000 قطعة فضية فدية لإطلاق سراح ريتشارد، وعملت أمه على جمع الفدية، وأرسلت مع سفراء الإمبراطور عبر ألمانيا، وفي 4 فبراير 1194، أطلق سراح ريتشارد.
وبعدما عاد ريتشارد إلى أراضيه، وجد أخيه جون استولى على نورماندي لكن سامحه وعاد إلى الحكم مرة أخرى، وفي مساء اليوم الخامس والعشرين من مارس عام 1199، كان ريتشارد يتجول حول محيط القلعة بدون ارتداء درعه، يتحقق من وضع جنوده المتواجدين فوق جدران القلعة، ويقضي وقتاً ممتعاً وهو ينظر إلى أحد الجنود الذي كان يحمل القوس والنشاب بيد واحدة.
صوّب هذا الجندي القوس تجاه ريتشارد، وقد لاقى هذا الفعل استحساناً من قبل الملك، إلّا أن رجلاً آخر رمى الملك بسهم ضرب كتفه الأيسر بالقرب من عنقه، وأٌدخل الملك خيمته.
وقام الجرّاح (الذي وصفه البعض بالجزّار) بإزالة السهم بطريقة غير احترافية على الإطلاق، ما أدى إلى تحول الجرح بشكل سريع إلى غرغرينة.
ويقال أن ريتشارد طلب إحضار قاتله إليه الذي اختلف في اسمه، فقيل بيير أو بيتر، وقال البعض أن اسمه جون، وعندما وقف بين يدي ريتشارد، اتضح له أنه مجرد صبي، وزعم هذا الصبي أن ريتشارد كان قد قتل أبيه وأخويه؛ فأراد قتل ريتشارد انتقاماً لذلك.
اعتقد الصبي أنه سيتعرض للإعدام، لكن ريتشارد أراد أن يكون رحيماً وهو على وشك توديع الحياة، فسامح الصبي على فعلته وقال له: أكمل حياتك، وبفضلي سترى نور الغد.
وقبل إطلاق سراح الصبي، أمر بإعطائه 100 شلن، وقام ريتشارد بتوريث جميع أراضيه لأخيه جون، أما المجوهرات فورثها لابن أخته أوتو.
وتوفي ريتشارد في السادس من أبريل عام 1199 في أحضان والدته، ووصفت وفاته بمصطلح الأسد الذي قٌتل من النملة وذلك يعزى إلى طريقة قتله.
ويقول أحد المؤرخين: «أثبت ريتشارد في آخر أعماله أن الشهامة كانت غير مثمرة خلال العصور الوسطى بهمجيتها ووحشيتها، حيث قام المرتزق الشائن ميركادير بسلخ جلد قاتل ريتشارد وتعليقه على القلعة فور وفاة ريتشارد.»
دُفن قلب ريتشارد في روان في نورماندي، ودُفنت أحشاؤه في شالو (المكان الذي توفي فيه)، أما باقي جسده فدُفن في كنيسة فونتفريد في أنجو بجانب أبيه.
وفي عام 2012، قام العلماء بتحليل ما تبقى من قلب ريتشارد واكتشفوا أنه قد تم تحنيطه باستخدام عدة مواد من ضمنها اللبان، وهي مادة ذات أهمية رمزية وذلك لأنها قُدمت عند ولادة المسيح وتحنيطه تم وفقاً للمسيحية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق