ومن روب المحاماة الأسود الذي مازال منتشرا إلي باروكة القاضي البيضاء التي ظلت لأكثر من 300 سنة غطاء رأس القاضي في بريطانيا مع الملابس الخاصة التي يرتديها (روب أرجواني وشال اسود وحزام اسود ورباط ابيض حول الرقبة ووشاح أحمر وقلنسوة قرمزية اللون وعباءة من الفرو) وفوق ذلك كله وهو ما كان يميز القضاة في بريطانيا باروكة مجعدة بيضاء اللون تصنع من شعر الخيل وكانوا يجلبونه خصيصا من خيول الارجنتين دون تفسير واضح لماذا هذه الخيول الأرجنتينية بالذات
انتهت علي كل حال واحدة من أعرق تقاليد المحاكم البريطانية فقد تخلي القضاة عن باروكات الشعر المستعارة والعباءات السوداء، وبدلا من الملابس الكلاسيكية القديمة أصبح القضاة يرتدون زيا جديدا من تصميم البريطانية بيتي جاكسون والذي وصفه البعض بأنه يشبه ملابس افلام ستار تريك الخيالية فهي مصنوعة من الصوف لونه ازرق نيلي مزينة بقطع من القطيفة علي الاكمام والصدر. وبالنسبة للقضاة من النساء هناك ياقة بيضاء بكسرات يمكن رفعها بسهولة.
وقد سبق إلغاء الزي التقليدي السابق للقضاة في بريطانيا جدل طويل فبينما سانده البعض علي أساس أنه يميز القاضي بطلة وقور تختلف عن كل الجالسين في القاعة وتجعل العين عندما تقع عليه تعرف علي الفور أنه هو هذا القاضي فقد عارضه فريق أكبر علي أساس أنه زي قديم انتهي عصره الذي بدأ في الثمانينيات من القرن السابع عشر بينما الزي الجديد يقترب من روح القرن الحادي والعشرين، وفي مواجهة هذا الجدل تم الإحتفاظ لقضاة المحاكم الجنائية بالملابس التقليدية وبالشعر المستعار بكل ما يسببه لهم من مضايقات مثل العرق والحكة في فصل الصيف، وقد قال أحدهم تأكيدا لقراره الاحتفاظ بالزي القديم: "إن الباروكات تخفي ملامح القاضي وهو ما يعتبر مهما من الناحية الامنية"
والقضية وإن كانت تبدو بسيطة إلا أنها تثير جدلا كبيرا في أوساط القضاة وكبار المحامين بين مؤيد ورافض. فهي لا تمس تقليدا عمره 300 عام بكل ما يتضمنه من إرث حضاري وثقافي فحسب بل ايضا تمس هيبتهم. لأن التصاميم الجديدة بالنسبة للبعض مودرن بشكل مبالغ فيه بالنسبة لمهنة اتسمت علي مر القرون بالرزانة المحافظة، ولذلك فهناك من يفرق بين الملابس التي يرتديها القاضي والباروكة التي يضعها فوق رأسه فيطالبون بتغيير الملابس ولكن دون الغاء الباروكة علي أساس أنها هي التي تعرف أي واحد بشخصية القاضي. كما أنها بلونها المائل إلي البياض تعطيه سمتي الحكمة والوقار المطلوبتين في رجل القضاء.
"تأثير الملابس والمكان"
لاأنسي كرتونا ساخرا شاهدته منذ أكثر من 50 سنة عندما كانت سينما مترو متخصصة في عرض الأفلام الأمريكية وكان يسبق عرض الفيلم عرض عدد من الأفلام القصيرة منه كارتون "توم وجيري" الذي مازال حتي اليوم يجذب الأطفال وينمي فيهم الخيال، يومها كان موضوع الكرتون عن عربة غسل الملابس التي في طريقها إلي المغسلة وقد تعرضت لعاصفة هوائية كسرت باب السيارة وأطارت الملابس داخل السيارة وقد راح الهواء يتقاذفها ثم ما إن يهدأ لحظات حتي تقع قطعة من الملابس علي أحد الأشخاص فيتقمص شخصية صاحب الملابس التي سقطت عليه. كان هناك مثلا الحرامي الذي وقعت عليه ملابس عسكري فوجد نفسه يتصرف تصرفات رجل الأمن في ضبط القانون. وكانت هناك سيدة وقور كان نصيبها ملابس غانية فتركت وقارها وراحت ترقص رقصة الكان كان التي كانت تعبر في وقتها عن الخلاعة. وعلي العكس فقد كان هناك بلياتشو يمارس حركاته الكوميدية ولكن ما إن سقطت عليه باروكة احد القضاة حتي خلع قناع الهزل والسخرية وارتدي قناع الجدية والاحتشام
ورغم أن الفكرة كانت معروضة من خلال كارتون سينمائي إلا أنها تلفت النظر إلي تأثير الملابس الذي يمكن أن يحدد سلوك الفرد بصرف النظر عن ثقافته. فالذي يجلس إلي طبلية لتناول الطعام وهو يرتدي جلبابا يختلف سلوكه بالتأكيد عن الذي يجلس إلي مائدة بالبدلة. في الأولي لايشعر بأي خطأ إذا أمسك الطعام بيده. بينما بالبدلة علي المائدة يفكر كثيرا قبل أن يفعل ذلك. وقد أضيف إلي الملابس قيد "المكان" فالذي في الريف سلوكه غير الذي في المدينة والذي في حي شعبي يختلف في تصرفاته عن الذي في أحد الأحياء الراقية وهكذا. وهذا مايفسر حرص بعض الذين يرتادون حفلات الاوبرا علي ارتداء البدلات السوداء والبابيون المميز لها علي اساس أن الاوبرا تقدم ارقي الفنون وتتطلب من المشاهد ان يحضر حفلاتها في أرقي شكل له لأنه من خلال هذا الشكل يتجنب القيام بتصرفات عديدة يمكن ان يقوم بها في حالة ارتدائه الملابس العادية.
بقي أن أضيف أن الباروكة اختراع قديم منذ أيام المصريين القدماء الذين تظهر تماثيل كثيرة لهم وهم يرتدونها. إلا أن الباروكات المجعدة البيضاء لم تنتشر بالنسبة للرجال إلا في عصر لويس الثالث عشر الذي قلده الكثيرون في الباروكة التي تعود أن يرتديها رغم انه فعل ذلك ليخفي صلعته! .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق