Translate

الخميس، 24 أبريل 2025

 بعض المقاهي التي أدّت دوراً في الحياة الثقافية والسياسية، وكان أشهرها «مقهى المسيري» في مدينة دمنهور لصاحبه الأديب عبد المعطي المسيري الذي كان بمثابة جامعة أهلية تخرّج فيها عدد كبير من أبرز الأدباء والفنانين والشعراء الذين ساهموا بقدر كبير في منظومة الثقافة العربية أمثال محمد عبد الحليم عبد الله، محسن الخياط، خيري شلبي، محمد صدقي، رجب البنا، فتحي سعيد وغيرهم. يُنسب المقهى إلى المسيري المولود في عام 1909 في إحدى حارات دمنهور لأب متواضع الحال يملك مقهى صغيراً. اضطر المسيري الى العمل في المقهى منذ الصغر، فنما وعيه من خلال عالم المقاهي الصاخب، حيث زخم مفردات الحياة. فالمقهى كان مصباً لكل أنواع البشر باختلاف معتقداتهم وميولهم وانتماءاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فتفتح وعي الصبي على حكايات الوطن والأحزاب والإنكليز والثورة وغيرها من أمور أيقظت قيمة الانتماء في داخله. أحد أهم الأمور التي جعلت المسيري يهتم بالأدب تلك الطقوس التي كان يقوم بها الشاعر أحمد محرم في ركنه الخاص في المقهى، حيث يكتب ويعد مادة الجريدة التي كان يصدرها، فكان المسيري يتعمد تجهيز المكان بنفسه للشاعر الكبير ويظل قريباً منه، وقد اختار المسيري المكان المجاور للنصبة وخصصه للكتب والمجلات والجرائد، وبدأ التفاعل بين رواد المقهى من خلال إهداء الكتب أو الشراء أو الاستعارة، وبدأ أعلام الفكر المصري والعربي يتوافدون على المقهى ومنهم يحيى حقي ومحمود تيمور وتوفيق الحكيم وزكي مبارك والرافعي والشجاعي وغيرهم. في العدد الأول من جريدة «المجلة» التي كان يرأسها يحيى حقي يقول هذا الأخير في افتتاحيّتها: «ذلك المثقف أو الأديب الذي يفكر في زيارة مدينة التاريخ القديم والتجار الشطار كي يتعرف إلى صور الحياة وعادات الناس هناك، لا بد من أن يجلس على رصيف مقهى المسيري والذي يمثل ظاهرة مهمة لدى أبناء المدينة المثقفين والأدباء والزجالين». وعلى مقهى المسيري جلس توفيق الحكيم حين كان وكيلاً للنائب العام في محافظة البحيرة، وكان يختار هذا المقهى بالذات ليكتب أو يقرأ أو يشرد، وقد صوّر المسيري ذلك في قصة قصيرة له بعنوان «أهل الكهف»، مستعيراً عنوان مسرحية الحكيم، ونشرها في مجموعته القصصية «مشوار طويل». كذلك، نمت علاقة وثيقة بين المسيري وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين بعد مقالة نشرها الأخير في جريدة «الوادي» منتقداً فيها الأدباء الشبان، خصوصاً الشاعر إبراهيم ناجي والقاص إبراهيم المصري، فقد رأى المسيري أن نقد العميد جاء محبطاً، فعقد في مساء اليوم نفسه ندوة على رصيف المقهى في دمنهور، ناقش خلالها ما كتبه حسين، وفي اليوم التالي كتب المسيري مقالة بعنوان «في الثقافة» يرد بها على طه حسين، وأرسلها إلى الجريدة نفسها، وفوجئ بنشرها، بالإضافة إلى مقالة لطه حسين بعنوان «في تنظيم الثقافة» في بابه المعروف «حديث الأربعاء» بتاريخ 19/9/1934، أثنى فيها على أسلوب المسيري الأدبي الرائع، وبعدها كتب العميد المقدّمة لأول إنتاج أدبي للمسيري وهو كتابه «في القهوة والأدب» الذي تُرجم إلى لغات عدة وأثنى عليه المستشرق الروسي الكبير اغناطيوس كراتشفوفسكي، عميد كلية الآداب الشرقية في موسكو خلال الثلاثينيات. في ظل اهتمام المسيري بالأدب والأدباء، أنشأ جمعية لأدباء دمنهور التي  نجحت في وقت قصير بأن تلفت الأنظار بشبابها المبدعين الجدد في ذلك الوقت، وأن تقيم الندوات والأمسيات في القاهرة. كذلك، كان معظم أدباء القاهرة الكبار يزور المقهى دائماً فتقام له الندوات والأمسيات. ظلت جمعية أدباء دمنهور تقوم بدورها الرائد في تشكيل الوعي الثقافي لأدباء البحيرة وما جاورها من محافظات حتى سافر المسيري إلى القاهرة للإقامة فيها، حيث عمل موظفاً في المجلس الأعلى للفنون والآداب، والتقى الرئيس السادات وظل يعمل في المجلس حتى وفاته في 29 سبتمبر1971. تُحسب للمسيري جرأته وشجاعته، ذلك عندما طالب أيام حكم الملك فاروق بتغيير اسم شارع فؤاد وهو الشارع الرئيس في دمنهور إلى اسم أحمد عرابي، وقد كان المسيري آنذاك عضواً في المجلس البلدي لمحافظة البحيرة، وقامت الدنيا ولم تقعد وشاءت الأقدار فقامت ثورة 23 يوليو 1952، ووافقت حكومة الثورة على طلبه. وكما كان المسيري قهوجياً متفرداً، كان أيضاً مثقفاً متميزاً وشخصية قيادية من الدرجة الأولى فحشد المثقفين خلفه وراح يذهب بهم إلى كل مكان، فكان يقيم ندواته في الكنيسة مثلاً وكانت له علاقة وطيدة بالقس بولس رجل الدين المثقف الذي كان يعشق الشعر العربي وأحد رواد مقهى المسيري المعروفين. تُوفي المسيري يوم وفاة عبد الناصر، وفي زحام هذا الحدث المثير وفي الصخب الإعلامي الذي صاحبه لم تشعر بموت المسيري إلا قلة من أصدقائه وعارفي فضله، مثلما حدث عندما تُوفي المنفلوطي الكاتب العظيم في اليوم الذي تعرّض فيه زعيم الأمة سعد زغلول لمحاولة اغتيال فاشلة. لعل أفضل وصف لموهبة المسيري ما قاله الكاتب الصحافي رجب البنا في مقال نُشر في الستينيات: «عبد المعطي المسيري ينتمي إلى طائفة سقراط، فأعظم ما تركه ليس كتبه ولكن عظمته تكمن في أنه كان صاحب مدرسة في دمنهور، فمقهاه كان حقيقة مدرسة، وتلامذة المسيري اليوم في كل مجلة وصحيفة وفي الإذاعة والتلفزيون».

الكاتب الصحفي رجب البنا فيقول: "عشت أهم تجربة ثقافية من خلال قهوة المسيري، التي لم تكن مقهى تقليديًا بالمعنى المعروف، وقد عرفت للمرة الأولى نجيب محفوظ، ويحيى حقي، ولويس عوض، ود. محمد مندور من خلال قهوة المسيري، فهذه الأسماء الكبيرة كانت تتردد عليها لشعورهم أن دمنهور بها تجربة ثقافية كبيرة وجيل جديد من الأدباء والمفكرين، وكنتُ واحدا من هؤلاء، وحتى الآن لم تتكرر حالة الفوران الثقافي التي تسببت فيها داخل دمنهور".


 الشاعران أحمد محرم وعلي الجارم وغيرهما، ومن الأدباء يحيى حقي، وتوفيق الحكيم، ومحمود تيمور، وزكي مبار، ونجيب محفوظ، ومحمود أمين العالم، وأمين يوسف غراب، و محمد عبد الحليم، وإسماعيل الحبروك، وخيري شلبي، ورجب البنا، وياسين الفيل، ومحسن الخياط، ويوسف القعيد".



ليست هناك تعليقات: