هو الملك الظاهر ركن الدين بيبرس العلائي البندقداري الصالحي النجمي، سلطان مصر وسورية، وقد لُقِّبَ بأبي الفتوح، وهو رابع سلاطين الدولة المملوكية ومُؤَسِّسها الحقيقي؛ بدأ مملوكًا يُباع في أسواق بغداد والشام، وانتهى به الأمر كأحد أعظم السلاطين في العصر الإسلامي الوسيط، لَقَّبَه الملك الصالح نجم الدين أيوب في دمشق بركن الدين، وبعد وصوله إلى الحكم لَقَّب نفسه بالملك الظاهر؛ حقق بيبرس العديد من الانتصارات على الصليبيين والمغول ابتداءً من معركة المنصورة وعين جالوت، وقد قضى على إمارة أنطاكية الصليبية أثناء حُكْمه .
حكم مصر بعد رجوعه من معركة عين جالوت واغتيال السلطان سيف الدين قطز؛ حيث خُطب له بالمساجد يوم الجمعة 6 ذي الحجة 658هـ= 11 نوفمبر 1260م، أحيا خلال حُكمه الخلافة العباسية في القاهرة بعدما قضى عليها المغول في بغداد، وأنشأ نظمًا إداريةً جديدة في الدولة، واشتُهر بذكائه العسكري والدبلوماسي، وكان له دور كبير في تغيير الخريطة السياسية والعسكرية في منطقة البحر المتوسط؛ حكم 17 سنة وشهرين.
بيبرس .. أصله و نشأته
مختلف في أصله، فبينما تذكر جميع المصادر العربية والمملوكية الأصلية أنه تركي من القبجاق (كازاخستان حاليًا)؛ فإن بعض الباحثين المسلمين في العصر الحديث يُشيرون إلى أن مُؤَرِّخي العصر المملوكي من عرب ومماليك كانوا يعتبرون الشركس من الترك، وأنهم كانوا ينسبون أيَّ رقيق مجلوب من مناطق القوقاز والقرم إليهم، وذكر المقريزي بأنه وصل حماة مع تاجر، وبيع إلى الملك المنصور محمد حاكم حماة، لكن لم يُعجبه وأرجعه، فذهب التاجر به إلى سوق الرقيق بدمشق وهو في الرابعة عشر من عمره، وباعه هناك بثمانمائة درهم لكن الذي اشتراه أرجعه إلى التاجر؛ لأنه كان به عيب خلقي في إحدى عينيه (مياه بيضاء)، فاشتراه الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار، ثم انتقل بعد ذلك إلى خدمة السلطان الأيوبي الملك الصالح نجم الدين أيوب بالقاهرة، وأعتقه الملك الصالح، ومنحه الإمارة؛ فصار أميرًا، كان بيبرس طويلاً، وصوته جهوري، وعيناه كانت فيها زرقة، ويُوجد بإحدى عينيه نقطة بيضاء.
بيبرس و حملة لويس التاسع
برز بيبرس عندما قاد جيش المماليك البحرية في معركة المنصورة ضدَّ الصليبيين في رمضان من عام (647 هـ= 1249م)؛ فقد شنَّ الفرنجة هجومًا مباغتًا على الجيش المصري؛ مما تسبَّب في مقتل قائد الجيش «فخر الدين بن الشيخ»، وارتبك الجيش، وكادت أن تكون كسرة؛ لولا خطَّة معركة أو مصيدة المنصورة التي رَتَّبها بيبرس القائد الجديد للمماليك الصالحية أو البحرية، وبموافقة شجر الدر الحاكمة الفعلية لمصر في تلك الفترة بعد موت زوجها سلطان مصر الصالح أيوب؛ فقد قاد الهجوم المعاكس في تلك المعركة ضدَّ الفرنج، وتسبَّب في نكبتهم الكبرى في المنصورة؛ التي تمَّ فيها أسر الملك الفرنسي لويس التاسع، وحَبَسَهُ في دار ابن لقمان.
مقتل توران شاه
وبعد وفاة السلطان الصالح أيوب استدعت شجر الدر ابنه توران شاه من حصن حيفا، ونَصَّبته سلطانًا على مصر؛ ليقود الجيش المصري ضدَّ القوات الصليبية الغازية؛ لكنْ ما إن انتهت الحرب، حتى بدأ توران شاه بمضايقة شجر الدر، وظلَّ يُطالبها بردِّ أموال ومجوهرات والده، وفي الوقت نفسه توعَّد وهدَّد مماليك أبيه، واستبعدهم من المناصب، ووضع مكانهم أصحابه الذين أَتَوْا معه من حصن حيفا؛ مما حدا بالمماليك بالإسراع في قتله قبل خروج الفرنج من دمياط، فقُتل بمشاركة بيبرس وفارس الدين أقطاي في فارسكور.
قيام دولة المماليك
وبعد مقتل توران شاه نَصَّبَ المماليك شجر الدر سلطانة باعتبارها أرملة السلطان الصالح أيوب، وأم ابنه خليل الذي مات صغيرًا، وطلبوا من أمراء الأيوبية في الشام الاعتراف بسلطنتها؛ فرفض الأيوبيون في الشام هذا التنصيب؛ لأن ذلك معناه نهاية لدولتهم في مصر، وأيضًا لم يُوافق الخليفة العباسي المستعصم بالله في بغداد؛ الذي اعترض على ولاية امرأة، فتَسَلَّم السلطنة عز الدين أيبك، الذي تزوجها لكي يتمكَّن من الحكم، ولكنَّ الأيوبيين لم يُوافقوا على ذلك، وتمَّ إرسال جيش إلى مصر بقيادة صاحب حلب ودمشق الناصر يوسف لاحتلالها وتحريرها من المماليك، ولكنَّهم هُزموا أمام المماليك، وفرُّوا هاربين إلى الشام؛ مما مكَّن المماليك من تثبيت حُكْمِهم في مصر.
صراع المماليك
بعد استتباب الأمر للمماليك في حُكْم مصر بقيادة السلطان أيبك، بدأ أمر أقطاي يستفحل، وأحسَّ السلطان عزُّ الدين أيبك بزيادة نفوذه، خاصة بعدما طلب من أيبك أن يُفْرِدَ له مكانًا في قلعة الجبل، ليسكن به مع عروسه، فقرَّر قتله بالتعاون مع مملوكه سيف الدين قطز والمماليك المعزية، فاستدرجه إلى قلعة الجبل واغتاله، وألقى برأسه إلى المماليك البحرية، الذين تجمَّعُوا تحت القلعة مطالبين بالإفراج عنه، وكان ذلك سنة (652هـ= 1254م)؛ ففر المماليك البحرية من مصر إلى سورية والكرك وسلطنة الروم السلاجقة وأماكن أخرى، وكان في مُقَدِّمَتِهم: بيبرس، وقلاوون الألفي، وبلبان الرشيدي، وسنقر الأشقر؛ الذين فَرُّوا إلى دمشق.
فرح الناصر يوسف بما حصل ورحَّب بهم، وحاول أن يستخدمهم ضدَّ أيبك، فأرسل الناصر يوسف جيشه للهجوم على مصر، وذلك بمساعدة المماليك البحرية الذين معه في هذه المرَّة، ولكن ما إن وصل حدود مصر حتى اضطر إلى أن ينسحب ويُوافق على شروط أيبك؛ التي كان من ضمنها إبعاد البحرية عن سورية؛ فرحلوا إلى الكرك، فاستقبلهم صاحب الكرك المغيث عمر أحسن استقبال، وفَرَّق فيهم الأموال، وحاول الهجوم على مصر بدعم المماليك البحرية، ولكنه مُنِيَ بهزيمة أمام أيبك، وكرَّ راجعًا وكان ذلك سنة (656هـ= 1258م)، وأثناء عودة المماليك منهزمين من مصر هاجموا غزة؛ التي كانت تُعَدُّ تابعة للناصر يوسف، فهزموا الحامية التي بها، فقوي أمرهم.
وفي أثناء تحرُّك البحرية في جنوب الشام، صادفوا في غور الأردن فرقة الشهرزورية، التي فرَّت من العراق تحت ضغط التتار، فاتفقوا معهم وتزوَّج بيبرس امرأة منهم؛ لتوثيق الاتفاق بالمصاهرة؛ وهذا ما حرَّك المخاوف عند الناصر تجاههم، فحرَّك عساكره إليهم، فهزم البحرية عسكر الشام، فركب الناصر بنفسه وبكلِّ جيشه، ففرَّت البحرية إلى الكرك والشهرزورية إلى مصر، فتابع تحرُّكه نحو الكرك وحاصرها، فأراد المغيث حلَّ القضية سلميًّا مع الناصر، فوافق الناصر على شرط تسليمه المماليك، وفي أثناء الحصار شعر بخطورة الموقف أحد مُقَدِّمِي البحرية، وربما أذكاهم وأكثرهم أهلية للقيادة -وكان هو الظاهر بيبرس- الذي يُعرف بدقَّة أين يجب أن يكون في كل ظرف، فتسلَّل من قلعة الكرك ولجأ إلى الناصر يوسف؛ الذي استقبله وعفا عنه، أمَّا باقي المماليك فقد تَسَلَّمهم الناصر من المغيث، وأودعهم سجن قلعة حلب، وبقوا فيها حتى فتح التتار حلب وأخذوهم منها.
الزحف المغولي
بعد توجُّه المغول إلى حلب واستيلائهم عليها وتدميرهم لها؛ ممَّا أثار موجة من الرعب في قلوب المسلمين وحُكَّامهم؛ فمنهم مَنْ هرب إلى مصر كما فعل صاحب حماة، ومنهم مَنْ فضَّل الاستسلام حقنًا للدماء كما فعل حاكم حمص، ولم يبقَ من المدن المهمَّة سوى دمشق؛ التي جمع حاكمها الناصر الجيوش لمواجهة المغول، ثم ما لبث أن انفضَّت تلك الجيوش من حوله؛ وذلك بأنه كان متحيِّرًا فيما يفعل تجاه المغول، فما كان من المماليك الرافضين لتصرُّفاته المتردِّدَة إلَّا أن حاولوا قتله وتولية أخيه الملك الظاهر مكانه، فاكتشف الناصر تلك المؤامرة ففرَّ ليلًا من المعسكر إلى قلعة دمشق وتحصَّن بها، فلمَّا علم مماليكه بهربه وافتضاح أمرهم ساروا نحو غزَّة برفقة بيبرس البندقداري، ومن غزَّة اتَّصل بسلطان المماليك الجديد قطز، فدعاه إلى العودة، وأقطعه قليوب، وأنزله بدار الوزارة، وعظم شأنه لديه.
بيبرس وعين جالوت
عاد بيبرس إلى مصر بعد أن ولَّاه سيف الدين قطز منصب الوزارة عام (658هـ= 1260م) ليشتركا معًا في محاربة المغول؛ الذين كانوا في طريقهم إلى مصر بعد اجتياحهم المشرق الإسلامي ثم العراق، وإسقاطهم الدولة العباسية في بغداد، وقد أرسل هولاكو رُسلًا لقطز يحملون كتابًا فيه تهديدٌ ووعيدٌ إن لم يخضعوا له، فعقد سيف الدين قطز اجتماعًا مع وُجهاء الدولة وعلمائها، وتمَّ الاتفاق على التوجُّه إلى قتال المغول؛ إذ لا مجال لمداهنتهم، وقد اختلى قطز ببيبرس البندقداري، الذي كان أمير الأمراء، واستشاره في الموضوع، فأشار عليه بأن: «اقتل الرسل، وأن نذهب إلى كتبغا متضامنين، فإن انتصرنا أو هُزمنا، فسوف نكون في كلتا الحالتين معذورين». فاستصوب قطز هذا الكلام، وقام بقتل رسل المغول؛ بعد ذلك تحرَّك الجيش لمواجهة التتار، وقام قطز بتقسيم جيشه إلى مقدِّمة بقيادة بيبرس، وبقية الجيش يختبئ بين التلال وفي الوديان المجاورة كقوات دعم، أو لتنفيذ هجوم مضادٍّ أو معاكس، وفي (25 من رمضان 658هـ= 3 من سبتمبر 1260م) بدأت المعركة، وقامت مقدِّمة الجيش بقيادة بيبرس بهجوم سريع، ثم انسحبت متظاهرة بالانهزام؛ لسحب خيالة المغول إلى الكمين، وانطلت الحيلة على كتبغا؛ فحمل بكل قوَّاته على مقدِّمة جيش المسلمين واخترقه، وبدأت المقدمة في التراجع إلى داخل الكمين، وفي تلك الأثناء خرج قطز وبقية مشاة وفرسان الجيش، وعملوا على تطويق ومحاصرة قوات كتبغا؛ فعندئذٍ اشتدَّ القتل، ولم يمضِ كثير من الوقت حتى هُزم الجيش المغولي، وقُتل معظمهم بمن فيهم قائدهم كتبغا، ولاحق قطز وبيبرس فلولَ التتار وطَهَّر المسلمون بلاد الشام بكاملها في غضون بضعة أسابيع، وعادت من جديد أرض الشام إلى ملك الإسلام والمسلمين، وفُتحت دمشق، وأعلن قطز توحيد مصر والشام من جديد في دولة واحدة تحت زعامته.
مقتل قطز[1]
أثناء عودة الجيش إلى مصر قَتَل ركنُ الدين بيبرس السلطانَ المظفر قطز؛ وذلك أن السلطان قطز قد وعد بيبرس بمنحه حُكْم حلب بعد انتهاء الحرب، وبعد ذلك فكَّر السلطان قطز في التخلِّي عن السلطنة وإكمال حياته في طريق الزهد وطَلَبِ العلم، وتَرْكِ قيادة البلاد لقائد جيوشه ركن الدين بيبرس، وبالتالي تراجع عن منح بيبرس ولاية حلب بما أنه سيُصبح ملكًا للبلاد كلها؛ فاعتقد بيبرس أن السلطان قطز قد خدعه وبدأ رفاقُه يُصَوِّرُون له ذلك ويُحَرِّضُونه على الخروج على السلطان وقتله، فلمَّا قفل قطز من استعادة دمشق من يد التتار؛ أجمع المماليك البحرية ومنهم بيبرس على أن يغتالوه في طريقهم إلى مصر، فلما قارب مصر ذهب في بعض أيامه يتصيَّد، وسارت الرواحل على الطريق، فاتَّبَعُوه، وتقدَّم إليه أنز الأصبهاني شفيعًا في بعض أصحابه، فشفَّعه فهَوَى يُقَبِّل يده فأمسكها، وعلاه بيبرس بالسيف فخرَّ صريعًا لليدين والفم، ورشقه الآخرون بالسهام؛ فقتلوه وتبادروا إلى المخيم.
الظاهر بيبرس
وقام دون فارس الدين أقطاي على ابن المعز أيبك وسأل: مَنْ تولَّى قتله منكم؟ فقالوا: بيبرس. فبايع له واتَّبعه أهل المعسكر ولقَّبُوه بالقاهر، وبعثوا بالخبر إلى القلعة بمصر، فأخذ له البيعة على مَنْ هناك، ووصل القاهر ودخل القلعة فجلس على كرسيه، ولكنه غيَّر لقبه إلى الظاهر، وكتب إلى الأقطار بذلك، ورتَّب الوظائف وولى الأمراء، وقد عمد أولًا إلى القضاء على الاضطرابات الداخلية، وتصفية معارضيه الذين احتجُّوا على مقتل السلطان قطز، ومنهم الأمير علم الدين سنجر الحلبي؛ الذي استنابه قطز على دمشق، والذي نادى بنفسه سلطانًا على دمشق، وركب بشعار السلطنة، وأمر بالخطبة له على المنابر، وضرب السكة باسمه، وقد أرسل بيبرس حملة عسكرية إليه، وتمكَّنت من القضاء عليه وإعادة دمشق تابعة إلى مصر، ثم أرسل إلى الأمراء بحلب وحماة بوجوب طاعته.
ثورة الكوراني
تمكَّن الظاهر بيبرس -أيضًا- من القضاء على التمرُّدات الفاطمية في القاهرة، التي أثارها رجل يُدْعَى الكوراني، وهو فارسي الأصل من نيسابور، وكان يهدف إلى قلب نظام الحكم وإرجاع الفاطميين، وقد أدَّت تلك الحركة إلى إعلان العصيان على بيبرس، والمسير في شوارع القاهرة ليلًا، ثم الهجوم على مخازن السلاح والإصطبلات وأَخْذِ ما بها من السيوف والخيل، إلَّا أنَّ الظاهر بيبرس تمكَّن بقوَّاته الخاصة من الإحاطة بالمتمرِّدِينَ والقبض على جميع زعمائهم ومنهم الكوراني؛ حيث أمر السلطان بصلبه على باب زويلة بالقاهرة، وبها انتهت جميع محاولات الفاطميين بالتمرُّد والعودة إلى سُدَّة الحُكْم.
بيبرس وإحياء الخلافة العباسية
أراد بيبرس أن يُضفي على حكمه نوعًا من الزعامة والنفوذ على البلاد الإسلامية، ولكي يمنح دولته الفتية نوعًا من الشرعية عمد إلى إحياء الخلافة العباسية في القاهرة؛ ليُقِيلَهَا من الانتكاسة التي أصابتها في بغداد على يد المغول، وعليه فقد أرسل في طلب أحد أبناء البيت العباسي، فوصل إلى القاهرة القاسم أحمد في رجب 659هـ= يونيو 1261م؛ حيث قُوبل بالتكريم والاحترام، وبعدها بأيام عقد السلطان بيبرس مجلسًا عامًّا بالديوان الكبير بالقلعة، واستدعى كلَّ أعيان البلد، ثم قام السلطان أمام الجميع فبايع الخليفة على العمل بكتاب الله وسُنَّة رسوله، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى الجهاد في سبيل الله. فتبعه الجميع بالمبايعة، ولقب الخليفة المستنصر بالله؛ وبذلك أُحييت الخلافة العباسية للمرَّة الثانية في القاهرة، غير أن الخلافة لم تتدخَّل في الشئون المملوكية؛ حيث إن السلطة الفعلية في يد الظاهر بيبرس والمماليك من بعده. مدَّ بيبرس نفوذه وسلطانه إلى الحجاز؛ حيث يُوجد الحرمان الشريفان، وتخلَّص من الملك المغيث عمر بن العادل الأيوبي حاكم الكرك، الذي كان يُناوئ السلطان بيبرس، ويرى في المماليك دخلاء اغتصبوا العرش الأيوبي في مصر والشام دون وجه حقٍّ، فعمل على منازعتهم، وتطوَّر الأمر به إلى أن راسل هولاكو زعيم المغول الإيلخانيين، وحرَّضه على غزو مصر، لكنَّ بيبرس حين علم بهذه المكاتبات قبض عليه وقتله في سنة (622هـ= 1263م) واستولى على الكرك، وعيَّن بها واليًا من قِبَلِه.
بيبرس وترميم القلاع وطرق الإمداد
عمد السلطان بيبرس إلى تأمين وصول قوَّاته إلى بلاد الشام بالسيطرة على كلِّ المدن والقلاع الممتدَّة على الطريق بين مصر والشام وجعلها تابعة له، والتفت -أيضًا- إلى تحصين الأطراف والثغور وعمارة القلاع التي خَرَّبها المغول في الشام، وأخذ يُزَوِّدُها بالرجال والسلاح من مصر وبعض مدن الشام القوية، كما عمل على تقوية الأسطول والجيش، وأشرف بنفسه على بناء السفن الحربية في دور صناعتها الموجودة في الفسطاط والإسكندرية ودمياط، ولم يكتفِ بهذا العمل لتأمين وصول قوَّاته إلى الشام ومنع أيِّ التفاف حولها من الخلف؛ بل عمد -أيضًا- إلى التحالف مع بعض القوى الخارجية ليتفرَّغ للصليبيين.
بيبرس والجهاد في جبهتين
حرص بيبرس على القضاء على بقية الوجود الصليبي في الشام، فبعد أن اطمأنَّ إلى تماسك جبهته الداخلية اتَّجه ببصره إلى القوى الخارجية المتربِّصة بدولته، وتطلَّع إلى أن ينهض بمسئوليته في الدفاع عن الإسلام، ولم يكن هناك أشدّ خطرًا عليه من خطر المغول والصليبيين، وقبل أن ينهض لعمله أعدَّ العُدَّة لذلك؛ فعقد معاهدات واتفاقيات مع القوى الدولية المعاصرة له؛ حيث سعى إلى التحالف مع الإمبراطورية البيزنطية، وعقد معاهدات مع «مانفرد بن فردريك الثاني» إمبراطور الدولة الرومانية، وأقام علاقات ودية مع «ألفونسو العاشر» ملك قشتالة الإسباني؛ حتى يضمن حياد هذه القوى حين يشنُّ غاراته على الإمارات الصليبية في الشام، ويستردّ ما في أيديهم من أراضي المسلمين.
بيبرس والجهاد ضد المغول والصليبيين
واتَّبع بيبرس -أيضًا- هذه السياسة في الجبهة المغولية؛ حيث تحالف مع «بركة خان» زعيم القبيلة الذهبية المغولية؛ وكان قد اعتنق الإسلام، وقد امتدَّت بلاده من تركستان شرقًا إلى شمال البحر الأسود غربًا، وهي التي تُعرف ببلاد القبجاق. ولكي يزيد من قوَّة الرابطة بينه وبين بركة خان أمر بالدعاء له على منابر دولته، وتزوَّج من ابنته، وكان هذا الحلف مُوَجَّهًا إلى عدوِّهما المشترك المتمثِّل في دولة إيلخانات فارس، التي كان يحكمها هولاكو وأولاده، وكانت تشمل العراق وفارس.
وفي الوقت نفسه أعدَّ لتحقيق هدفه جيشًا قويًّا، وأسطولاً ضخمًا، وأعاد تحصين القلاع والحصون، وأمدَّها بالذخيرة والأقوات، وأقام سلسلة من نقاط المراقبة لرصد نشاط العدوِّ عُرفت باسم المنائر، وأفسد الطرق والوديان المؤدِّية إلى الشام؛ كي لا يجد المغول في أثناء زحفهم ما يحتاجون إليه من أقوات أو أعلاف لدوابهم.
وأثمرت هذه السياسة الحازمة عن تحقيق انتصارات باهرة على الصليبيين، منذ أن بدأت حملاته الظافرة في سنة (663 هـ= 1265م)، ففتح قيسارية، وأرسوف، وقلعة صفد، ويافا، ثم توَّج جهوده بفتح إنطاكية المدينة الحصينة؛ التي ظلَّت رهينة الأسر الصليبي أكثر من قرن ونصف من الزمان، وذلك في 5 من رمضان 666هـ= 19 من مايو 1268م، وكان سقوطها أعظم فتح حقَّقه المسلمون على الصليبيين منذ معركة حطين سنة (583هـ= 1187م)، وعلى الجبهة الأخرى نجح السلطان بيبرس في الدفاع عن بلاده أمام هجمات المغول المتتالية، وفي تحقيق عدَّة انتصارات عليهم في «الْبِيرَة» و«حرَّان»، وعلى الرغم من إخفاق مغول فارس في توسيع دولتهم على حساب دولة المماليك؛ فإنهم كانوا يُعاوِدُون الهجوم؛ حتى ألحق بهم بيبرس هزيمةً ساحقة عند بلدة «أَبُلُسْتَيْن» بآسيا الصغرى سنة (675هـ= 1277م)؛ وبذلك أمَّن بيبرس حدود دولته من الجبهتين الشرقية والشمالية.
بيبرس والنهضة المعمارية والتعليمية
شهد عهد بيبرس نهضة معمارية وتعليمية كبيرة؛ حيث اهتمَّ بتجديد الجامع الأزهر، فأعاد للأزهر رونقه، فشنَّ عليه حملات من الترميم والتجميل إلى أن عاد له جماله ومكانته مرَّة أخرى، وأعاد خطبة الجمعة والدراسة إلى الجامع الأزهر بعد أن هُجر طويلاً، ونَصَّب أربعة قضاة شرعيين، واحدًا من كل مذهب من مذاهب السُّنَّة الأربعة بعد أن كان القضاء مقتصرًا على قاضي قضاة شافعي، وعمل على إنشاء العديد من المؤسَّسَات التعليمية فأنشأ المدارس بمصر ودمشق، كما أنشأ عام (665هـ= 1267م) جامعًا عُرف باسمه إلى اليوم في مدينة القاهرة، وهو جامع الظاهر بيبرس، والذي ما زال قائمًا إلى اليوم، كما عَمِلَ بيبرس على إنشاء الجسور والقناطر والأسوار، وحفر الترع والخلجان، وأنشأ مقياسًا للنيل، وغيرها العديد من الأعمال، ونَظَّم البريد وخصَّص له الخيل، وبنى كثيرًا من العمائر، وكافح الخمر والمفاسد.
وفي خارج مصر قام بعدد من الإصلاحات في الحرم النبوي بالمدينة المنورة، وقام بتجديد مسجد إبراهيم عليه السلام في الخليل، كما قام بتجديد قبة الصخرة وبيت المقدس، وعمل على إقامة دار للعدل للفصل في القضايا والنظر في المظالم.
صفات بيبرس
أهمُّ ما كان يتَّصف به بيبرس: الشجاعة والإقدام والدهاء، والكرم، وحُبّ الخير، والإحسان إلى الفقراء، وإكرام العلماء وسماع نصائحهم، والسكوت على مخاشنتهم له في النصح، كما كان يفعل معه عزُّ الدين بن عبد السلام، والنووي.
وُصِفَ بيبرس بأنه كان يتنقَّل في ممالكه فلا يكاد يشعر به عسكره إلَّا وهو بينهم، وقيل عنه: إنه ما كان يتوقَّف عن شيء لبلوغ غايته؛ ليحمل قوى الحصون على الاستسلام له، وكان نجاحه يعتمد على تنظيمه وسرعته وشجاعته المتناهية، وكان شعار دولته الأسد، وقد نقش صورته على الدراهم.
وفاة بيبرس
تُوُفِّيَ الظاهر بيبرس يوم الخميس (27 من المحرم 676هـ= 2 من مايو 1277م) عن 54 عامًا؛ وذلك بعد رجوعه من معركة أَبُلُسْتَيْن ضد المغول سنة (675هـ= 1277م)، ودُفِنَ في المكتبة الظاهرية في دمشق بعد حُكم دام 17 سنة .
المراجع :
[1] الدكتور راغب السرجاني له رأي آخر في قصة مقتل قطز، حيث يرجح أن قطز لم يقتل على يد بيبرس . الإجابة ستكون في سيرة الملك المظفَّر سيف الدين قطز .
مولده ونشأته
ولد السلطان المملوكي ركن الدين بيبرس البندقداري -الظاهر بيبرس- على أرجح الأقوال عام 625هـ/ 1221م في منطقة "قيرغيزستان" بوسط آسيا، وبيبرس كلمة تركية تعني أمير فهد، أخذ من بلاده وهو صغير وبيع بالشام للعماد الصائغ ثم اشتراه الأمير علاء الدين أيدكين الصالحي البندقداري وبه سمي البندقداري،[1] ثم آلت ملكيته للسلطانالصالح نجم الدين أيوب فأظهر بيبرس في خدمته همة وشجاعة ميزته بين أقرانه، فضمه السلطان الصالح إلى قوات الأمير "فارس الدين أقطاي" حتى أصبح من كبار القادة المماليك، وعندما وصل (لويس التاسع) بحملته الصليبية إلى مصر كان بيبرس من الذين تصدوا له في معركة المنصورة عام 1249م، فأسر لويس التاسع وانهارت حملته.
عقب اغتيال أقطاي وتولي السلطان عز الدين أيبك حكم مصر اضطر بيبرس إلى الانتقال إلى الشام، إذ لم تكن العلاقة بين أيبك وأقطاي على ما يرام، وبعد أن تولي الأمير قطز مقاليد الأمور في مصر قام باستدعاء بيبرس من الشام لمعاونته في إيقاف زحف التتار على الشرق، فتمكنا معاً من سحق التتار في معركة "عين جالوت"، وعهد قطز إلى بيبرس بمهمة ملاحقة فلول التتار وتشتيتهم، في عام 658هـ/ 1260م تولى بيبرس حكم مصر عقب مقتل قطز.
الظاهر بيبرس
برز في العصر المملوكي كثير من سلاطين المماليك كان لهم دور كبير في تغيير كثير من صفحات التاريخ، كما تركوا بصمات واضحة في التاريخ الإسلامي، وكان من هؤلاء ركن الدين بيبرس.
صفاته
اتصف بيبرس بالحزم ، والبأس الشديد، وعلو الهمة، وبعد النظر، وحسن التدبير، واجتمعت فيه صفات العدل والفروسية والإقدام، فلم يكد يستقر في الحكم حتى اتخذ عدة إجراءات تهدف إلى تثبيت أقدامه في الحكم منها: التقرب من الخاصة والعامة؛ بتخفيف الضرائب عن السكان، كما عفا عن السجناء السياسيين، وأفرج عنهم، كما عمل على الانفتاح على العالم الإسلامي لكسب ود زعمائه[2]. وقام كذلك بالقضاء على الحركات المناهضة لحكمه، وأعاد الأمن والسكينة إلى البلاد[3].
بيبرس وإحياء الخلافة العباسية
أبلى بيبرس بلاء حسناً في خدمة الأمة والدين الإسلامي خلال فترة حكمه، وعمل على إنقاذ الخلافة الإسلامية من الانهيار بعد مقتل الخليفة العباسي على يد التتار عقب سقوط بغداد عاصمة الخلافة العباسية عام656هـ / 1258م وبقاء كرسي الخلافة خاوياً، وتمكن من استقدام أحد أمراء الأسرة العباسية إلى القاهرة وبايعه بالخلافة في احتفال كبير عام 660هـ/ 1262م، فكان هذا العمل ذا أثر كبير في جمع شمل الأمة الإسلامية حول خليفتها مرة أخرى.
قاهر الصليبيين
عندما توطدت دعائم سلطة المماليك، وقويت شوكتهم، نتيجة الإجراءات التي اتخذها "بيبرس"، رأى هذا السلطان ضرورة متابعة سياسة صلاح الدين الأيوبي وخلفائه في طرد الصليبيين، وإجلائهم عن البلاد الإسلامية، ولم يكن ذلك بالأمر السهل، فقد كان لزامًا عليه أن يجابه ما تبقى من الإمارات الصليبية وهي أنطاكية، وطرابلس، والجزء الباقي من مملكة بيت المقدس، وحتى يحقق هدفه اتبع إستراتيجية عسكرية قائمة على ضرب هذه الإمارات الواحدة تلو الأخرى، ولم تنقضِ سنة من السنوات العشر الواقعة بين عامي ( 659- 669هـ/ 1261- 1271م) دون أن يوجه إليهم حملة صغيرة أو كبيرة، وكان ينتصر عليهم في كل مرة[4].
فقد عمل بيبرس على تصفية الوجود الصليبي في الشام، وكان له الفضل في تطهير مدن قيسارية وأرسوف وطبرية ويافا وأنطاكية من الصليبيين.
قاهر الباطنية والرافضة
كما لم يدخر بيبرس وسعاً في التصدي لأي خطر خارجي على الدولة الإسلامية، فقد اتخذ نفس الأسلوب في التصدي لدعوات التخريب الداخلية التي تبنتها بعض الفرق التخريبية المعروفة بالباطنية والتي لم تكن أقل خطراً من التتار أو الصليبيين، فقد أشاعت الذعر بين الناس وعملت على نشر مذهبها المنحرف، ناهيك عن إعمالها السيف في الكثير من القادة والعلماء، الأمر الذي جعل مجرد ذكرهم مصدراً للذعر بين الناس، لذا فقد استعمل بيبرس الحيلة للقضاء عليهم وعهد إلى العلماء باستقطاب أكبر عدد منهم للعودة إلي صفوف الأمة، فتاب منهم من تاب ولم يبق إلا عتاتهم الذين رفضوا العدول عن ما هم عليه، فقام بيبرس باقتحام قلاعهم وأماكن تمركزهم فقضى عليهم وشتتهم وخلص الأمة من شرورهم.
انجازات بيبرس
تطوير الجهاز الإداري
حرص بيبرس على تطوير الجهازين الإداري والعسكري، فاستحدث بعض الوظائف الإدارية لأن الوظائف التي عرفها المماليك وأخذوها عن الأيوبيين أصبحت لا تفي بحاجة الدولة الآخذة في التطور والتوسع فأنشأ وظائف جديدة لم تكن معروفة في مصر من قبل يشغلها أمراء يعينهم السلطان من بين الأشخاص الذين يثق بهم.
تعديل نظام القضاء
كان يتولى منصب القضاء في عهد الأيوبيين في القاهرة وسائر أعمال الديار المصرية، قاض واحد على المذهب الشافعي وله حق تعيين نواب عنه في الأقاليم، وأحيانًا كان يعين قاض للقاهرة والوجه البحري. وظل الوضع على ذلك حتى عام(660هـ/ 1262م). وما زال السلطان يطور النظام القضائي حتى ثبته وجعله مبدأ رسميًّا في (شهر ذي الحجة عام 663هـ/ شهر تشرين الأول عام 1265م ) فعين أربعة قضاة يمثلون المذاهب الأربعة وسمح لهم أن يعينوا نوابًا عنهم في الديار المصرية. فكان القاضي ابن بنت الأعز يمثل المذهب الشافعي، والقاضي صدر الدين سليمان يمثل المذهب الحنفي، والقاضي شرف الدين عمر السبكي يمثل المذهب المالكي، والقاضي شمس الدين القدسي يمثل قضاء الحنابلة، وفعل مثل ذلك في دمشق.
وسن بيبرس عدة تشريعات لتهذيب أخلاق المصريين لعل أهمها الأمر الذي أصدره في عام (664هـ/ 1266م) ومنع بموجبه بيع الخمور، وأقفل الحانات في مصر وبلاد الشام، ونفى كثيرًا من المفسدين.[5]
المنشآت العمرانية
من أهم منشآته العمرانية
- جدد بناء الحرم النبوي.
- جدد بناء قبة الصخرة في القدس، بعد أن تداعت أركانها.
- أعاد الضياع الخاصة بوقف الخليل في فلسطين، بعد أن دخلت في الإقطاع، ووقف عليه قرية اسمها بإذنا.
- بنى المدرسة الظاهرية بين القصرين، وعين فيها كبار الأساتذة كان من بينهم مدرس الحنفية الصاحب مجد الدين بن العديم، ومدرس الشافعية الشيخ تقي الدين بن رزين، وولى الحافظ شرف الدين عبد المؤمن الدمياطي مشيخة الحديث، والشيخ كمال الدين الحلبي مشيخة القرَّاء.
- بنى مسجده المعروف باسمه في ميدان الأزهر في القاهرة باسم جامع الظاهر بيبرس.
- بنى مشهد النصر في عين جالوت تخليدًا لذكرى الانتصار على المغول.
- جدد أسوار الإسكندرية.
- أعاد بناء القلاع التي هدمها المغول في بلاد الشام مثل قلعة دمشق، قلعة الصلت، قلعة عجلون وغيره[6].
- عني بيبرس أيضا بالتجارة وسعى لتأمينها، وصك عملات خالصة نقية حازت على ثقة الناس، فازدهرت التجارة في عصره وعم الأمان ربوع دولته.
وفاة بيبرس
بعد حياة مليئة بالأحداث وبعد حكم دام لسبعة عشر عاماً توفي الظاهر بيبرس في 676 هـ/ 1277م[7]، بعد أن اتخذ لنفسه مكاناً رفيعاًً بين خيرة الحكام المسلمين، الذين ذادوا عن حياض الدولة الإسلامية ورفعوا عليها راية الدين خفاقة عالية، فأمن بفضلهم الناس وأينعت في عهدهم الأرض، ألا فرحمة الله على المُجاهدين المُخلصين.