- أيها الإخوة:
لقد تعودنا معاً فى أوقات النصر وفى أوقات المحنة.. فى الساعات الحلوة وفى الساعات المرة؛ أن نجلس معاً، وأن نتحدث بقلوب مفتوحة، وأن نتصارح بالحقائق، مؤمنين أنه من هذا الطريق وحده نستطيع دائماً أن نجد اتجاهنا السليم، مهما كانت الظروف عصيبة، ومهما كان الضوء خافتاً.
ولا نستطيع أن نخفى على أنفسنا أننا واجهنا نكسة خطيرة خلال الأيام الأخيرة، لكنى واثق أننا جميعاً نستطيع - وفى مدة قصيرة - أن نجتاز موقفنا الصعب، وإن كنا نحتاج فى ذلك إلى كثير من الصبر والحكمة والشجاعة الأدبية، ومقدرة العمل المتفانية. لكننا - أيها الإخوة - نحتاج قبل ذلك إلى نظرة على ما وقع؛ لكى نتتبع التطورات وخط سيرها فى وصولها إلى ما وصلت إليه.
إننا نعرف جميعاً كيف بدأت الأزمة فى الشرق الأوسط فى النصف الأول من مايو الماضى. كانت هناك خطة من العدو لغزو سوريا، وكانت تصريحات ساسته وقادته العسكريين كلها تقول بذلك صراحة، وكانت الأدلة متوافرة على وجود التدبير.
كانت مصادر إخواننا السوريين قاطعة فى ذلك، وكانت معلوماتنا الوثيقة تؤكده، بل وقام أصدقاؤنا فى الاتحاد السوفيتى بإخطار الوفد البرلمانى الذى كان يزور موسكو فى مطلع الشهر الماضى؛ بأن هناك قصداً مبيتاً ضد سوريا. ولقد وجدنا واجباً علينا ألا نقبل ذلك ساكتين، وفضلاً عن أن ذلك واجب الأخوة العربية، فهو أيضاً واجب الأمن الوطنى؛ فإن البادئ بسوريا سوف يثنى بمصر.
ولقد تحركت قواتنا المسلحة إلى حدودنا بكفاءة شهد بها العدو قبل الصديق، وتداعت من أثر ذلك خطوات عديدة؛ منها انسحاب قوات الطوارئ الدولية، ثم عودة قواتنا إلى مواقع شرم الشيخ المتحكمة فى مضايق تيران، والتى كان العدو الإسرائيلى يستعملها كأثر من آثار العدوان الثلاثى الذى وقع علينا سنة 1956. ولقد كان مرور علم العدو أمام قواتنا أمراً لا يحتمل، فضلاً عن دواعى أخرى تتصل بأعز أمانى الأمة العربية.
ولقد كانت الحسابات الدقيقة لقوة العدو تظهر أمامنا أن قواتنا المسلحة، بما بلغته من مستوى فى المعدات وفى التدريب؛ قادرة على رده وعلى ردعه، وكنا ندرك أن احتمال الصراع بالقوة المسلحة قائم، وقبلنا بالمخاطرة.
وكانت أمامنا عوامل عديدة؛ وطنية وعربية ودولية، بينها رسالة من الرئيس الأمريكى "ليندون جونسون" سلمت إلى سفيرنا فى واشنطن يوم 26 مايو تطلب إلينا ضبط النفس، وألا نكون البادئين بإطلاق النار، وإلا فإننا سوف نواجه نتائج خطيرة.
وفى نفس الليلة فإن السفير السوفيتى طلب مقابلتى بصفة عاجلة فى الساعة الثالثة والنصف من بعد منتصف الليل، وأبلغنى بطلب ملح من الحكومة السوفيتية ألا نكون البادئين بإطلاق النار.
وفى صباح يوم الاثنين الماضى الخامس من يونيو جاءت ضربة العدو. وإذا كنا نقول الآن بأنها جاءت بأكثر مما توقعناه؛ فلابد أن نقول فى نفس الوقت وبثقة أكيدة إنها جاءت بأكبر مما يملكه، مما أوضح منذ اللحظة الأولى أن هناك قوى أخرى وراء العدو، جاءت لتصفى حساباتها مع حركة القومية العربية. ولقد كانت هناك مفاجآت تلفت النظر:
أولها: أن العدو الذى كنا نتوقعه من الشرق ومن الشمال جاء من الغرب؛ الأمر الذى يقطع بأن هناك تسهيلات تفوق مقدرته، وتتعدى المدى المحسوب لقوته، قد أعطيت له.
وثانياً: فإن العدو غطى فى وقت واحد جميع المطارات العسكرية والمدنية فى الجمهورية العربية المتحدة، ومعنى ذلك أنه كان يعتمد على قوة أخرى غير قوته العادية، لحماية أجوائه من أى رد فعل من جانبنا؛ كما أنه كان يترك بقية الجبهات العربية لمعاونات أخرى استطاع أن يحصل عليها.
وثالثاً: فإن الدلائل واضحة على وجود تواطؤ استعمارى معه؛ يحاول أن يستفيد من عبرة التواطؤ المكشوف السابق سنة 1956، فيغطى نفسه هذه المرة بلؤم وخبث، ومع ذلك فالثابت الآن أن حاملات طائرات أمريكية وبريطانية كانت بقرب شواطئ العدو تساعد مجهوده الحربى. كما أن طائرات بريطانية أغارت فى وضح النهار على بعض المواقع فى الجبهة السورية وفى الجبهة المصرية، إلى جانب قيام عدد من الطائرات الأمريكية بعمليات الاستطلاع فوق بعض مواقعنا.
ولقد كانت النتيجة المحققة لذلك أن قواتنا البرية التى كانت تحارب أكثر المعارك عنفاً وبسالة فى الصحراء المكشوفة؛ وجدت نفسها فى الموقف الصعب؛ لأن الغطاء الجوى فوقها لم يكن كافياً إزاء تفوق حاسم فى القوى الجوية المعادية، بحيث إنه يمكن القول - بغير أن يكون فى ذلك أى أثر للانفعال أو المبالغة - إن العدو كان يعمل بقوة جوية تزيد ثلاث مرات عن قوته العادية. - ولقد كانت هناك جهود رائعة وشريفة؛ لقد أعطى الشعب الجزائرى وقائده الكبير هوارى بومدين بغير تحفظات وبغير حساب للمعركة، وأعطى شعب العراق وقائده المخلص عبد الرحمن عارف بغير تحفظات وبغير حساب للمعركة، وقاتل الجيش السورى قتالاً بطولياً معززاً بقوى الشعب السورى العظيم وبقيادة حكومته الوطنية، واتخذت شعوب وحكومات السودان والكويت واليمن ولبنان وتونس والمغرب مواقف مشرفة، ووقفت شعوب الأمة العربية جميعاً بغير استثناء على طول امتداد الوطن العربى موقف الرجولة والعزة، موقف التصميم، موقف الإصرار على أن الحق العربى لن يضيع ولن يهون، وأن الحرب دفاعاً عنه ممتدة مهما كانت التضحيات والنكسات على طريق النصر الحتمى الأكيد.
وكانت هناك أمم عظيمة خارج العالم العربى قدمت لنا ما لا يمكن تقديره من تأييدها المعنوى. لكن المؤامرة - ولابد أن نقول ذلك بشجاعة الرجال - كانت أكبر وأعتى، ولقد كان تركيز العدو الأساسى على الجبهة المصرية؛ التى دفع عليها بكل قوته الرئيسية من المدرعات والمشاة؛ معززة بتفوق جوى رسمت لكم من قبل صورة لأبعاده، ولم تكن طبيعة الصحراء تسمح بدفاع كامل؛ خصوصاً مع التفوق المعادى فى الجو. ولقد أدركت أن تطور المعركة المسلحة قد لا يكون مواتياً لنا، وحاولت مع غيرى أن نستخدم كل مصادر القوة العربية، ولقد دخل البترول العربى ليؤدى دوره، ودخلت قناة السويس لتؤدى دورها، ومازال هناك دور كبير مطلوب من العمل العربى العام، وكلى ثقة فى أنه سوف يستطيع أداءه. ولقد اضطرت قواتنا المسلحة فى سيناء إلى إخلاء خط الدفاع الأول، وحاربت معارك رهيبة بالدبابات والطائرات على خط الدفاع الثانى.
ثم استجبنا لقرار وقف إطلاق النار، أمام تأكيدات وردت فى مشروع القرار السوفيتى الأخير المقدم إلى مجلس الأمن، وأمام تصريحات فرنسية، بأن أحداً لا يستطيع تحقيق أى توسع إقليمى على أساس العدوان الأخير، وأمام رأى عام دولى - خصوصاً فى آسيا وأفريقيا - يرى موقفنا، ويشعر ببشاعة قوى السيطرة العالمية التى انقضت علينا. - المهمة الأولى: أن نزيل آثار هذا العدوان علينا، وأن نقف مع الأمة العربية موقف الصلابة والصمود. وبرغم النكسة فإن الأمة العربية بكل طاقاتها وإمكانياتها قادرة على أن تصر على إزالة آثار العدوان.
والمهمة الثانية: أن ندرك درس النكسة، وهناك فى هذا الصدد ثلاث حقائق حيوية:
1ـ إن القضاء على الاستعمار فى العالم العربى يترك إسرائيل بقواها الذاتية، ومهما كانت الظروف ومهما طال المدى، فإن القوى الذاتية العربية أكبر وأقدر على الفعل.
2- إن إعادة توجيه المصالح العربية فى خدمة الحق العربى ضمان أولى، فإن الأسطول الأمريكى السادس كان يتحرك ببترول عربى، وهناك قواعد عربية وضعت قسراً - وبرغم إرادة الشعوب - فى خدمة العدوان.
3- إن الأمر الآن يقتضى كلمة موحدة تسمع من الأمة العربية كلها، وذلك ضمان لا بديل له فى هذه الظروف.
نصل الآن إلى نقطة هامة فى هذه المكاشفة بسؤال أنفسنا: هل معنى ذلك أننا لا نتحمل مسئولية فى تبعات هذه النكسة؟ وأقول لكم بصدق - وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفى فى الأزمة - فإننى على استعداد لتحمل المسئولية كلها، ولقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدونى عليه: لقد قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أى منصب رسمى وأى دور سياسى، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدى واجبى معها كأى مواطن آخر.
إن قوى الاستعمار تتصور أن جمال عبد الناصر هو عدوها، وأريد أن يكون واضحاً أمامهم أنها الأمة العربية كلها وليس جمال عبد الناصر.
والقوى المعادية لحركة القومية العربية تحاول تصويرها دائماً بأنها إمبراطورية لعبد الناصر، وليس ذلك صحيحاً؛ لأن أمل الوحدة العربية بدأ قبل جمال عبد الناصر، وسوف يبقى بعد جمال عبد الناصر.
ولقد كنت أقول لكم دائماً: إن الأمة هى الباقية، وأن أى فرد مهما كان دوره، ومهما بلغ إسهامه فى قضايا وطنه، هو أداة لإرادة شعبية، وليس هو صانع هذه الإرادة الشعبية. - وتطبيقاً لنص المادة 110من الدستور المؤقت الصادر فى شهر مارس سنة1964 فلقد كلفت زميلى وصديقى وأخى زكريا محيى الدين بأن يتولى منصب رئيس الجمهورية، وأن يعمل بالنصوص الدستورية المقررة لذلك، وبعد هذا القرار فإننى أضع كل ما عندى تحت طلبه، وفى خدمة الظروف الخطيرة التى يجتازها شعبنا.
إننى بذلك لا أصفى الثورة، ولكن الثورة ليست حكراً على جيل واحد من الثوار، وإنى لأعتز بإسهام هذا الجيل من الثوار. لقد حقق جلاء الاستعمار البريطانى، وحقق استقلال مصر، وحدد شخصيتها العربية، وحارب سياسة مناطق النفوذ فى العالم العربى، وقاد الثورة الاجتماعية، وأحدث تحولاً عميقاً فى الواقع المصرى أكد تحقيق سيطرة الشعب على موارد ثروته وعلى ناتج العمل الوطنى، واسترد قناة السويس، ووضع أسس الانطلاق الصناعى فى مصر، وبنى السد العالى ليفرش الخضرة الخصبة على الصحراء المجدبة، ومد شبكات الكهرباء المحركة فوق وادى النيل الشمالى كله، وفجر موارد البترول بعد انتظار طويل. وأهم من ذلك وضع على قيادة العمل السياسى تحالف قوى الشعب العاملة؛ الذى هو المصدر الدائم لقيادات متجددة تحمل أعلام النضال الوطنى والقومى مرحلة بعد مرحلة، وتبنى الاشتراكية، وتحقق وتنتصر.
إن ثقتى غير محدودة بهذا التحالف القائد للعمل الوطنى؛ الفلاحون والعمال والجنود والمثقفون والرأسمالية الوطنية. إن وحدته وتماسكه، والتفاعل الخلاق داخل إطار هذه الوحدة قادر على أن يصنع بالعمل؛ وبالعمل الجاد، وبالعمل الشاق - كما قلت أكثر من مرة - معجزات ضخمة فى هذا البلد؛ ليكون قوة لنفسه، ولأمته العربية، ولحركة الثورة الوطنية، وللسلام العالمى القائم على العدل.
إن التضحيات التى بذلها شعبنا، وروحه المتوقدة خلال فترة الأزمة، والبطولات المجيدة التى كتبها الضباط والجنود من قواتنا المسلحة بدمائهم؛ سوف تبقى شعلة ضوء لا تنطفئ فى تاريخنا، وإلهاماً عظيماً للمستقبل وآماله الكبار. لقد كان الشعب رائعاً كعادته، أصيلاً كطبيعته، مؤمناً صادقاً مخلصاً. - وكان أفراد قواتنا المسلحة نموذجاً مشرفاً للإنسان العربى فى كل زمان ومكان؛ لقد دافعوا عن حبات الرمال فى الصحراء إلى آخر قطرة من دمهم، وكانوا فى الجو - وبرغم التفوق المعادى - أساطير للبذل وللفداء وللإقدام، والاندفاع الشريف إلى أداء الواجب أنبل ما يكون أداؤه.
إن هذه ساعة للعمل وليست ساعة للحزن، إنه موقف للمثل العليا وليس لأية أنانيات أو مشاعر فردية. إن قلبى كله معكم، وأريد أن تكون قلوبكم كلها معى، وليكن الله معنا جميعاً؛ أملاً فى قلوبنا وضياءً وهدى.
والسلام عليكم ورحمة الله.
كان ذلك نص خطاب التنحى للرئيس جمال عبد الناصر بعد انتهاء العمليات العسكرية على الأرض.. وبعد أن انتهى منه، خرج الشعب فى مظاهرات عارمة ملأت شوارع القاهرة، تطالبة بعدم التنحى وتؤكد تجديد ثقتها فيه كقائد ورئيس للدولة المصرية..
وأمامنا الآن عدة مهام عاجلة:
ملاحظات على خطاب التنحى لناصر..
التقى هيكل بناصر بدا له وكأنه “أضاف إلى عمره 10 سنوات على الأقل، كان مرهقًا بشكل يصعب وصفه، وكانت في عينيه سحابة حزن لم أرها من قبل”. أخذا يتحدثان طويلًا في تفاصيل الخطاب وبالذات في نقطة اختيار شمس بدران خليفة لعبد الناصر، وهو اختيار يشعر كل من يقرأه بأنه ملغز، خصوصًا حين يأتي عقب هزيمة كان شمس بدران واحدًا من صناعها، لكن هيكل في هذه النقطة لا يفصح عن الكثير، ليساهم في إضفاء هالات الغموض على شمس بدران التي لم يتم إزاحتها حتى الآن، على أية حال انتهت المناقشة الطويلة بأن أصبح زكريا محيي الدين هو المرشح البديل، خاصة أنه كما قال ناصر “مقبول دوليًا.. وقادر على الحوار مع الأمريكان”.
بعدها، اختلف ناصر وهيكل على نص عبارة في الخطاب، كانت هي أهم العبارات فيه وربما هي أشهر عبارة في الخطاب بعد ذلك، وهي عبارة كانت صيغتها الأولى تقول: “وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفي من الأزمة، فإنني على استعداد لتحمل نصيبي من المسؤولية”، واعترض ناصر مؤكدًا أنه يتحمل المسؤولية كلها، وهنا يعلق هيكل: “ولم أختلف معه فيما قال، وأعدت صياغة العبارة على الفور فجعلتها كالآتي: “إنني على استعداد لتحمل المسؤولية كلها”، وكان تعليق ناصر على هذه الصياغة الجديدة: “تلك هي الحقيقة وهذا أدق وأكرم”. حمل هيكل خطاب التنحي، وعَبَر الشارع إلى مكتب سامي شرف لتتم كتابته على الآلة الكاتبة، أصابت سامي حالة من الهستيريا عندما قرأ عبارة “التنحي تمامًا ونهائيًا عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي”، نفس الحالة أصابت موظف الآلة الكاتبة الذي أجهش بالبكاء وهو يكتب الخطاب، وبالتأكيد لم يكن خافيًا على هيكل -وهو من هو دهاء وحنكة- أن الأثر الشعبي الذي سيسببه الخطاب سيكون أقوى بكثير من هستيريا سامي وبكاء موظف الآلة الكاتبة.
عاد هيكل بعدها إلى ناصر، ودار بينهما حوار طويل عن الساعات القادمة، وما سيحدث فيها، والأيام الماضية وما حدث فيها، وسنقتبس بعض العبارات التي وردت في الحوار كالآتي، مع التنبيه على أن ما يرويه هيكل لم يشهده أحد غيره، مما يجعل لك الخيار في تصديقه كما جاء، أو إنكاره كاملًا دون الالتفات إليه، أو تأمله في ضوء حساسية الموقف المحيطة بالحوار لاختيار ما يوافق عقلك وتفكيرك:
“ناصر: لا أستطيع أن أتصور ما سيفعله الناس، والله لو أنهم أخذوني إلى ميدان التحرير وشنقوني فيه لما اعترضت عليهم.. لهم الحق.
هيكل -بارعًا في دور المبرر والمنظر كعادته-: ليس هناك ضرورة لأن تدفع مشاعرك إلى هذه الدرجة، فما حدث لك شيء حدث من قبل كثيرًا في التاريخ، واعتقادي أن البلد واجه نكسة، ولكنه قادر على القيام منها بقواه الذاتية.
ناصر: إنني أتصور أن الناس بعد مفاجأة استقالتي، سيطلبون معرفة الحقيقة فيما حدث، وهو حقهم، ولست أعرف السبيل إلى تحقيق هذا الطلب، فهو ضروري لمستقبل العمل، ولكني أخشى أن يتصور أحد أنني بأي شيء أقوله أحاول إشراك غيري في المسؤولية، والله يعلم أنني لا أفكر في أي شيء من ذلك، فأنا نازل عند حكمة الله في قضائه ولكن الحقيقة يجب أن تكون واضحة للناس”.
بعدها طلب ناصر من هيكل أن يحضر معه إلقاء الخطاب فاعتذر، تبادلا المشاعر الطيبة عن الصداقة التي جمعت بينهما، ودار بينهما حوار دعونا نضع شكلًا له طبقًا لما أورده هيكل – مع بعض الاختزال.
“ناصر: أعرف إلى آخر العمر أن لي أخًا.
هيكل “مقاطعا”: لا داعي لأن نقع فيما نهينا أنفسنا عنه فنسلم أنفسنا للانفعالات، وأنا سعيد بما أديته إلى جانبك من دور، وقد خدمت فيه بلدي بما أستطيع.
ناصر: خدمتك للبلد لم تنته بعد. مازالت أمامك خدمة أرجو أن تؤديها، أنا بعد إلقاء خطابي سأدخل إلى غرفتي وأعزل نفسي تمامًا عن العالم، وقد تثور مشاكل ومضاعفات، وكل ما أطلبه منك أن تكون في هذه الليلة مسؤولًا عن أي شيء يذاع أو يقال باسمي أو نيابة عني، حتى يتمكن زكريا محيي الدين من حلف اليمين غدًا. أنا أعرف أن علاقتك بزكريا طيبة.
هيكل: أنا لا أنوي أن أكرر دوري بجانبك مع أي رجل آخر، ولكني سأقبل تكليفك لدقة الظروف”.
“ينهض هيكل ثم ينهض ناصر، يسلمان على بعض”، وهنا يقول هيكل: “ولمحت دمعة في عينيه لأول مرة في حياتي، واستدرت خارجًا من غرفة مكتبه، فلم أكن أريده أن يرى دمعة أخرى في عيني”.
بعد ساعات، كان الشعب المصري والشعوب العربية على موعد مع مشهد أكثر درامية ومأساوية من المشهد السابق، وهو مشهد عبد الناصر وهو يلقي خطابه على مدى ثلث ساعة، صمت الملايين فيها صمت الموتى، وتأكد لمن كانوا لا يزالون يغلبون الأمل على اليأس أن الهزيمة قد وقعت، وأن البطل الهمام قرر أن يترك المركب واختار من سيحكمهم بدلًا منه، وبعد انتهاء الخطاب تبدد الصمت شيئًا فشيئًا، ليعلو صوت البكاء الذي تحول تدريجيًا إلى نشيج مكتوم، ثم إلى عويل، ثم إلى صراخ يطلق هتافات تقول: “ناصر.. ناصر.. كلنا عايزين ناصر”.
ثمة شهادات منشورة تقول إن ما حدث وقتها كان مدبرًا من قبل قادة الاتحاد الاشتراكي: أحد رموز الإخوان المستشار علي جريشة، يحكي أنه كان في السجن وقال له سجان إنه تعبان جدًا؛ لأنهم أعطوه ملابس مدنية، وقالوا له أن يشترك في مظاهرات مدبرة؛ الفريق عبد المحسن مرتجي يؤكد ذلك أيضًا، ولكن رأيه كان بناء على انطباع وليس مستندًا إلى معلومات، هناك حديث عن قيام الاتحاد الاشتراكي بتوفير أتوبيسات في اليوم الثاني من المظاهرات، وليس في اليوم الأول، حين سألت الكاتب الكبير محمد عودة ونقلت له هذا الكلام لكي يعلق عليه، أجاب بحماس شديد “مين المخرج العظيم اللي هيطلع الشعب المصري كده؟، طب هل الاتحاد الاشتراكي هو اللي طلع برضه الشعب الجزائري والتونسي واليمني في مظاهرات ضد التنحي، هل هو اللي أقنع أكبر معلق سياسي في الغرب دويتشر إنه يقول: لأول مرة يخرج شعب مباشرة ليصنع التاريخ بنفسه وليعيد زعيمًا مهزومًا. أنا يوم التنحي خرجت في هذه المظاهرات ورأيت شرائح عمري ما شفتها في حياتي، في الدقي والزمالك الستات خرجوا بهدوم البيت، ببساطة ودون أي مبالغة، عبد الناصر كان يمثل الاستقرار والناس بيقولوا له احنا عارفين إنك غلطت، ولكن أنت القائد اللي احنا بنثق فيه ونقف معاه ساعة المحنة”.
من أهم الشهادات التي تثبت براءة المظاهرات من التدبير، شهادة حسن طلعت مدير المباحث العامة الذي يكشف في مذكراته، أنه فوجئ بأمر المظاهرات، ولأن لديه أوامر بقمع أي مظاهرة بغض النظر عما تتظاهر من أجله، شعر بالحيرة وحاول الرجوع إلى رئيسه المباشر وزير الداخلية شعراوي جمعة، فرفض شعراوي أن يرد عليه، كعادة المسؤولين في لحظات الأزمات؛ ولذلك اتخذ حسن طلعت بمبادرة فردية قرار عدم الاصطدام بالمظاهرات، ولولا ذلك لحدثت كارثة محققة خاصة أن المئات من مسؤولي الأمن الذين يرفعون شعار “سلومة الأقرع مايعرفش أبوه ولا أمه”، كانوا يتصلون به ليسألوا في إلحاح عن الطريقة التي سيتعاملون بها مع المظاهرات.
في تلك الفترة أيضًا كان الدكتور حسين كامل بهاء الدين، الذي ظل لسنوات طويلة وزير تعليم حسني مبارك، قائدًا لمنظمة الشباب التي أنشأها عبد الناصر لتكون ذراعه السياسي وسط الشباب، وفور إعلان خطاب التنحي، ذهب إلى مكتب المعلومات المواجه لبيت عبد الناصر، وكان في حالة عصبية شديدة، وقال بصوت عال لموظفي المكتب إن 30 ألف شاب من أعضاء منظمة الشباب مستعدون للزحف على بيت عبد الناصر لإثنائه عن قرار التنحي، وهو تهديد لو أطلقه في ظروف أخرى، لكان مرميًا في زنزانة انفرادية في السجن الحربي، لكنه تهديد يكشف عن عدم وجود تواصل قيادي معه للأمر بإخراج الشباب، وإلا لكان قد فعل ذلك فورًا قبل التلويح به.
وأنا أبحث في الكتب والمذكرات التي تناولت تلك الفترة، فوجئت بأن الدكتور عبد العظيم رمضان المعروف بعدائه الشديد للناصرية، يرد بقوة على اتهام مظاهرات التنحي بأنها كانت مدبرة، ويقول في كتابه (تحطيم الآلهة) إن ذلك الاتهام مهين جدًا للشعب المصري؛ حيث يصوره أنه شعب يساق كالأغنام فقط، نافيًا أن يكون الاتحاد الاشتراكي قادرًا على تدبير مظاهرات ضخمة كهذه؛ لأنه في الواقع لم يكن يتمتع بشعبية بين الجماهير تمكنه من أداء هذا الدور الضخم، وحين تمت الإطاحة بقياداته في مايو 1971، لم يستطيعوا إخراج تلميذ واحد في مدرسة لمساندتهم ضد السادات.
من ناحية أخرى، لم يكن غريبًا أن أجد في صحف اليوم التالي لمظاهرات التنحي سيلًا من المقالات التي ترفض القرار وتناشد عبد الناصر بالرجوع عنه، لكن ما لفت انتباهي هو بعض ردود الأفعال لأشخاص عرفوا فيما بعد بمهاجمة عبد الناصر بشراسة، ولم يذكر أحد منهم موقفه عقب التنحي، ولو على سبيل المراجعة الذاتية، خذ عندك مثلًا موسى صبري الذي كتب يصف الجماهير التي شاركت في مظاهرات التنحي بأنها: “جماهير شاء لها القدر أن تعيش لأول مرة في تاريخ مصر منحة السماء لها في حاكم مصري ابن مصري”، وكتب أنيس منصور يسأل: “كيف للراعي أن يتخلي عن رعيته المؤمنة به؟”، وكتب جلال دويدار يعلن أنه حين كان يعيش في الخارج لم يكن مصريًا ولاعربيًا؛ بل كان يحمل جنسية ناصر..!!
بقى أن الشعب المصري في نهاية المطاف، لم يفوت الفرصة لوضع لمسة عبثية على الأمر برمته، بعد أن اطمأن إلى عودة عبد الناصر إلى الحكم، ليتحول شعار “لا تتنحى لا تتنحى”، إلى شعار ساخر هو “أحه أحه لا تتنحى”، والذي ربما كان يعبر برغم بذاءته، عن معنى شديد الصدق والواقعية، وهو رفض الشعب لأن يتخلى عن مسؤولية الهزيمة من كان سببًا في وقوعها، وأن عليه أن يبقى ليصلح ما أفسدت يداه، وحين أدرك الشعب المصري صدق عبد الناصر في محو آثار الهزيمة، كما بدا عقب الإطاحة بعبد الحكيم عامر ورجاله، وإعادة بناء الجيش المصري، تجاوز الناس لحظة الهزيمة التي كان يمكن أن تشل حركتهم لسنين، وبدأت ملحمة حرب الاستنزاف التي تم تغييب الكثير من بطولاتها حتى الآن، لكن خروجهم التالي في المظاهرات التي أعقبت الأحكام التي صدرت ضد قادة الطيران لم يكن تأييدًا ولا تهليلًا، بل كان غضبًا من تحميل الهزيمة لمن ليس مسؤولًا عنها، وهو ما أزعج عبد الناصر كثيرًا، وأشعره أن لحظة “لا تتنحى”، كانت مجرد لحظة استثنائية خرجت في توقيت حرج، ولن تتكرر ثانية؛ ولذلك فقد تعامل مع مظاهرات الطلبة بالذات بعصبية شديدة، وصلت إلى حد أنه طلب في لحظة انفعال ضرب تلك المظاهرات بالطيران، طبقًا لشهادة وثقها الدكتور هشام السلاموني في كتابه (الجيل الذي واجه عبد الناصر والسادات)، ومن يدري ربما كان عبد الناصر في تلك اللحظة بالذات، يفكر في أن غضب المصريين على أي هزيمة قادمة، ربما انتهى بمصير الشنق في ميدان التحرير...!!
التقى هيكل بناصر بدا له وكأنه “أضاف إلى عمره 10 سنوات على الأقل، كان مرهقًا بشكل يصعب وصفه، وكانت في عينيه سحابة حزن لم أرها من قبل”. أخذا يتحدثان طويلًا في تفاصيل الخطاب وبالذات في نقطة اختيار شمس بدران خليفة لعبد الناصر، وهو اختيار يشعر كل من يقرأه بأنه ملغز، خصوصًا حين يأتي عقب هزيمة كان شمس بدران واحدًا من صناعها، لكن هيكل في هذه النقطة لا يفصح عن الكثير، ليساهم في إضفاء هالات الغموض على شمس بدران التي لم يتم إزاحتها حتى الآن، على أية حال انتهت المناقشة الطويلة بأن أصبح زكريا محيي الدين هو المرشح البديل، خاصة أنه كما قال ناصر “مقبول دوليًا.. وقادر على الحوار مع الأمريكان”.
بعدها، اختلف ناصر وهيكل على نص عبارة في الخطاب، كانت هي أهم العبارات فيه وربما هي أشهر عبارة في الخطاب بعد ذلك، وهي عبارة كانت صيغتها الأولى تقول: “وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفي من الأزمة، فإنني على استعداد لتحمل نصيبي من المسؤولية”، واعترض ناصر مؤكدًا أنه يتحمل المسؤولية كلها، وهنا يعلق هيكل: “ولم أختلف معه فيما قال، وأعدت صياغة العبارة على الفور فجعلتها كالآتي: “إنني على استعداد لتحمل المسؤولية كلها”، وكان تعليق ناصر على هذه الصياغة الجديدة: “تلك هي الحقيقة وهذا أدق وأكرم”. حمل هيكل خطاب التنحي، وعَبَر الشارع إلى مكتب سامي شرف لتتم كتابته على الآلة الكاتبة، أصابت سامي حالة من الهستيريا عندما قرأ عبارة “التنحي تمامًا ونهائيًا عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي”، نفس الحالة أصابت موظف الآلة الكاتبة الذي أجهش بالبكاء وهو يكتب الخطاب، وبالتأكيد لم يكن خافيًا على هيكل -وهو من هو دهاء وحنكة- أن الأثر الشعبي الذي سيسببه الخطاب سيكون أقوى بكثير من هستيريا سامي وبكاء موظف الآلة الكاتبة.
عاد هيكل بعدها إلى ناصر، ودار بينهما حوار طويل عن الساعات القادمة، وما سيحدث فيها، والأيام الماضية وما حدث فيها، وسنقتبس بعض العبارات التي وردت في الحوار كالآتي، مع التنبيه على أن ما يرويه هيكل لم يشهده أحد غيره، مما يجعل لك الخيار في تصديقه كما جاء، أو إنكاره كاملًا دون الالتفات إليه، أو تأمله في ضوء حساسية الموقف المحيطة بالحوار لاختيار ما يوافق عقلك وتفكيرك:
“ناصر: لا أستطيع أن أتصور ما سيفعله الناس، والله لو أنهم أخذوني إلى ميدان التحرير وشنقوني فيه لما اعترضت عليهم.. لهم الحق.
هيكل -بارعًا في دور المبرر والمنظر كعادته-: ليس هناك ضرورة لأن تدفع مشاعرك إلى هذه الدرجة، فما حدث لك شيء حدث من قبل كثيرًا في التاريخ، واعتقادي أن البلد واجه نكسة، ولكنه قادر على القيام منها بقواه الذاتية.
ناصر: إنني أتصور أن الناس بعد مفاجأة استقالتي، سيطلبون معرفة الحقيقة فيما حدث، وهو حقهم، ولست أعرف السبيل إلى تحقيق هذا الطلب، فهو ضروري لمستقبل العمل، ولكني أخشى أن يتصور أحد أنني بأي شيء أقوله أحاول إشراك غيري في المسؤولية، والله يعلم أنني لا أفكر في أي شيء من ذلك، فأنا نازل عند حكمة الله في قضائه ولكن الحقيقة يجب أن تكون واضحة للناس”.
بعدها طلب ناصر من هيكل أن يحضر معه إلقاء الخطاب فاعتذر، تبادلا المشاعر الطيبة عن الصداقة التي جمعت بينهما، ودار بينهما حوار دعونا نضع شكلًا له طبقًا لما أورده هيكل – مع بعض الاختزال.
“ناصر: أعرف إلى آخر العمر أن لي أخًا.
هيكل “مقاطعا”: لا داعي لأن نقع فيما نهينا أنفسنا عنه فنسلم أنفسنا للانفعالات، وأنا سعيد بما أديته إلى جانبك من دور، وقد خدمت فيه بلدي بما أستطيع.
ناصر: خدمتك للبلد لم تنته بعد. مازالت أمامك خدمة أرجو أن تؤديها، أنا بعد إلقاء خطابي سأدخل إلى غرفتي وأعزل نفسي تمامًا عن العالم، وقد تثور مشاكل ومضاعفات، وكل ما أطلبه منك أن تكون في هذه الليلة مسؤولًا عن أي شيء يذاع أو يقال باسمي أو نيابة عني، حتى يتمكن زكريا محيي الدين من حلف اليمين غدًا. أنا أعرف أن علاقتك بزكريا طيبة.
هيكل: أنا لا أنوي أن أكرر دوري بجانبك مع أي رجل آخر، ولكني سأقبل تكليفك لدقة الظروف”.
“ينهض هيكل ثم ينهض ناصر، يسلمان على بعض”، وهنا يقول هيكل: “ولمحت دمعة في عينيه لأول مرة في حياتي، واستدرت خارجًا من غرفة مكتبه، فلم أكن أريده أن يرى دمعة أخرى في عيني”.
بعد ساعات، كان الشعب المصري والشعوب العربية على موعد مع مشهد أكثر درامية ومأساوية من المشهد السابق، وهو مشهد عبد الناصر وهو يلقي خطابه على مدى ثلث ساعة، صمت الملايين فيها صمت الموتى، وتأكد لمن كانوا لا يزالون يغلبون الأمل على اليأس أن الهزيمة قد وقعت، وأن البطل الهمام قرر أن يترك المركب واختار من سيحكمهم بدلًا منه، وبعد انتهاء الخطاب تبدد الصمت شيئًا فشيئًا، ليعلو صوت البكاء الذي تحول تدريجيًا إلى نشيج مكتوم، ثم إلى عويل، ثم إلى صراخ يطلق هتافات تقول: “ناصر.. ناصر.. كلنا عايزين ناصر”.
ثمة شهادات منشورة تقول إن ما حدث وقتها كان مدبرًا من قبل قادة الاتحاد الاشتراكي: أحد رموز الإخوان المستشار علي جريشة، يحكي أنه كان في السجن وقال له سجان إنه تعبان جدًا؛ لأنهم أعطوه ملابس مدنية، وقالوا له أن يشترك في مظاهرات مدبرة؛ الفريق عبد المحسن مرتجي يؤكد ذلك أيضًا، ولكن رأيه كان بناء على انطباع وليس مستندًا إلى معلومات، هناك حديث عن قيام الاتحاد الاشتراكي بتوفير أتوبيسات في اليوم الثاني من المظاهرات، وليس في اليوم الأول، حين سألت الكاتب الكبير محمد عودة ونقلت له هذا الكلام لكي يعلق عليه، أجاب بحماس شديد “مين المخرج العظيم اللي هيطلع الشعب المصري كده؟، طب هل الاتحاد الاشتراكي هو اللي طلع برضه الشعب الجزائري والتونسي واليمني في مظاهرات ضد التنحي، هل هو اللي أقنع أكبر معلق سياسي في الغرب دويتشر إنه يقول: لأول مرة يخرج شعب مباشرة ليصنع التاريخ بنفسه وليعيد زعيمًا مهزومًا. أنا يوم التنحي خرجت في هذه المظاهرات ورأيت شرائح عمري ما شفتها في حياتي، في الدقي والزمالك الستات خرجوا بهدوم البيت، ببساطة ودون أي مبالغة، عبد الناصر كان يمثل الاستقرار والناس بيقولوا له احنا عارفين إنك غلطت، ولكن أنت القائد اللي احنا بنثق فيه ونقف معاه ساعة المحنة”.
من أهم الشهادات التي تثبت براءة المظاهرات من التدبير، شهادة حسن طلعت مدير المباحث العامة الذي يكشف في مذكراته، أنه فوجئ بأمر المظاهرات، ولأن لديه أوامر بقمع أي مظاهرة بغض النظر عما تتظاهر من أجله، شعر بالحيرة وحاول الرجوع إلى رئيسه المباشر وزير الداخلية شعراوي جمعة، فرفض شعراوي أن يرد عليه، كعادة المسؤولين في لحظات الأزمات؛ ولذلك اتخذ حسن طلعت بمبادرة فردية قرار عدم الاصطدام بالمظاهرات، ولولا ذلك لحدثت كارثة محققة خاصة أن المئات من مسؤولي الأمن الذين يرفعون شعار “سلومة الأقرع مايعرفش أبوه ولا أمه”، كانوا يتصلون به ليسألوا في إلحاح عن الطريقة التي سيتعاملون بها مع المظاهرات.
في تلك الفترة أيضًا كان الدكتور حسين كامل بهاء الدين، الذي ظل لسنوات طويلة وزير تعليم حسني مبارك، قائدًا لمنظمة الشباب التي أنشأها عبد الناصر لتكون ذراعه السياسي وسط الشباب، وفور إعلان خطاب التنحي، ذهب إلى مكتب المعلومات المواجه لبيت عبد الناصر، وكان في حالة عصبية شديدة، وقال بصوت عال لموظفي المكتب إن 30 ألف شاب من أعضاء منظمة الشباب مستعدون للزحف على بيت عبد الناصر لإثنائه عن قرار التنحي، وهو تهديد لو أطلقه في ظروف أخرى، لكان مرميًا في زنزانة انفرادية في السجن الحربي، لكنه تهديد يكشف عن عدم وجود تواصل قيادي معه للأمر بإخراج الشباب، وإلا لكان قد فعل ذلك فورًا قبل التلويح به.
وأنا أبحث في الكتب والمذكرات التي تناولت تلك الفترة، فوجئت بأن الدكتور عبد العظيم رمضان المعروف بعدائه الشديد للناصرية، يرد بقوة على اتهام مظاهرات التنحي بأنها كانت مدبرة، ويقول في كتابه (تحطيم الآلهة) إن ذلك الاتهام مهين جدًا للشعب المصري؛ حيث يصوره أنه شعب يساق كالأغنام فقط، نافيًا أن يكون الاتحاد الاشتراكي قادرًا على تدبير مظاهرات ضخمة كهذه؛ لأنه في الواقع لم يكن يتمتع بشعبية بين الجماهير تمكنه من أداء هذا الدور الضخم، وحين تمت الإطاحة بقياداته في مايو 1971، لم يستطيعوا إخراج تلميذ واحد في مدرسة لمساندتهم ضد السادات.
من ناحية أخرى، لم يكن غريبًا أن أجد في صحف اليوم التالي لمظاهرات التنحي سيلًا من المقالات التي ترفض القرار وتناشد عبد الناصر بالرجوع عنه، لكن ما لفت انتباهي هو بعض ردود الأفعال لأشخاص عرفوا فيما بعد بمهاجمة عبد الناصر بشراسة، ولم يذكر أحد منهم موقفه عقب التنحي، ولو على سبيل المراجعة الذاتية، خذ عندك مثلًا موسى صبري الذي كتب يصف الجماهير التي شاركت في مظاهرات التنحي بأنها: “جماهير شاء لها القدر أن تعيش لأول مرة في تاريخ مصر منحة السماء لها في حاكم مصري ابن مصري”، وكتب أنيس منصور يسأل: “كيف للراعي أن يتخلي عن رعيته المؤمنة به؟”، وكتب جلال دويدار يعلن أنه حين كان يعيش في الخارج لم يكن مصريًا ولاعربيًا؛ بل كان يحمل جنسية ناصر..!!
بقى أن الشعب المصري في نهاية المطاف، لم يفوت الفرصة لوضع لمسة عبثية على الأمر برمته، بعد أن اطمأن إلى عودة عبد الناصر إلى الحكم، ليتحول شعار “لا تتنحى لا تتنحى”، إلى شعار ساخر هو “أحه أحه لا تتنحى”، والذي ربما كان يعبر برغم بذاءته، عن معنى شديد الصدق والواقعية، وهو رفض الشعب لأن يتخلى عن مسؤولية الهزيمة من كان سببًا في وقوعها، وأن عليه أن يبقى ليصلح ما أفسدت يداه، وحين أدرك الشعب المصري صدق عبد الناصر في محو آثار الهزيمة، كما بدا عقب الإطاحة بعبد الحكيم عامر ورجاله، وإعادة بناء الجيش المصري، تجاوز الناس لحظة الهزيمة التي كان يمكن أن تشل حركتهم لسنين، وبدأت ملحمة حرب الاستنزاف التي تم تغييب الكثير من بطولاتها حتى الآن، لكن خروجهم التالي في المظاهرات التي أعقبت الأحكام التي صدرت ضد قادة الطيران لم يكن تأييدًا ولا تهليلًا، بل كان غضبًا من تحميل الهزيمة لمن ليس مسؤولًا عنها، وهو ما أزعج عبد الناصر كثيرًا، وأشعره أن لحظة “لا تتنحى”، كانت مجرد لحظة استثنائية خرجت في توقيت حرج، ولن تتكرر ثانية؛ ولذلك فقد تعامل مع مظاهرات الطلبة بالذات بعصبية شديدة، وصلت إلى حد أنه طلب في لحظة انفعال ضرب تلك المظاهرات بالطيران، طبقًا لشهادة وثقها الدكتور هشام السلاموني في كتابه (الجيل الذي واجه عبد الناصر والسادات)، ومن يدري ربما كان عبد الناصر في تلك اللحظة بالذات، يفكر في أن غضب المصريين على أي هزيمة قادمة، ربما انتهى بمصير الشنق في ميدان التحرير...!!
ما
أن أتم جمال عبد الناصر خطاب التنحي يوم 9 يونيو حتى خرجت الجماهير غاضبة
ورافضة، تطالبه بالبقاء ليلتها، وفي صبيحة اليوم التالي، كان الملايين في
الطرقات يعلنون تمسكهم بناصر والهتافات تدوي: «لا رئيس غيرك ولا زعيم
سواك»، وغنت أم كلثوم رائعتها؛ ابْقَ فَأَنْتَ السد الواقي لمنى الشعب.
ابق فأنت الأمل الباقي لغد الشعب
قم للشعب وبدد يأسه
واذكر غده واطرح أمسه
قم وادفعنا بعد النكسة
وارفع هامة هذا الشعب
ابق فأنت حبيب الشعب
ابق فأنت الأمل الباقي لغد الشعب
قم للشعب وبدد يأسه
واذكر غده واطرح أمسه
قم وادفعنا بعد النكسة
وارفع هامة هذا الشعب
ابق فأنت حبيب الشعب
خرجت الجماهير رافضة الهزيمة مجددة العهد للقائد على استكمال المسيرة، وعلى الصمود وعلى الثقة في ناصر.
وقد شكك من شكك في عفوية وتلقائية خروج المصريين في ملحمة حب باهرة للقائد إبان النكسة، وإن كان الرد الحاسم جاء على هؤلاء المشككين في جنازة الزعيم التي خرج فيها الملايين باكين ملتاعة تودع قائدها وحبيبها وفارسها مع علمها بفطرتها المصرية العظيمة أنه كان يعد العدة للعبور في سرية وقوة وجسارة وإقدام، فالحرب على العدو بدأت مباشرة بعد النكسة الأليمة في عبقرية وصمود المقاتل المصري من أصغر جندي إلى أعلى رتبة في جيش مصر العظيم.
وأدت قواتنا المسلحة الجسورة الكثير من العمليات الفدائية العظيمة، وبكل فداء وتضحية كانت تؤرق ليل وأيام المحتل الغاصب لنصر زين له وخطفه في خسة، والحقيقة إنه لم يواجه الجندي المصري الشجاع المقاتل الجسور فكان تدمير المدمرة الإسرائيلية إيلات في 21 أكتوبر 1967، وإسقاط بعض الطائرات الحربية الإسرائيلية خلال عامي 1967 و1968.
وكان الشعب عظيما كالعهد به دوما في الملمات، رفع الشعب المبتلى بهزيمة أوجعته وضربته في أحلامه وغده وإنجازات الثورة في مقتل فكانت شعارات المرحلة يد تبني ويد تحمل السلاح؛ وأيضا العناية بحماية المكتسبات الاجتماعية، كما دشنت نكسة يونيو وأبرزت أهمية العمل العربي المشترك فدقت بقوة على باب العروبة والقومية العربية فخرجت متألقة في أبهى حللها في معركة العبور العظيم في العاشر من رمضان السادس من أكتوبر1973.
وكان قبول ناصر مبادرة روجرز مناورة سياسية بوقف إطلاق النار في حرب الاستنزاف لاستكمال حائط الصواريخ؛ تمهيدا للعبور في الخطة التي وضعها الشهيد عبد المنعم رياض الذي كان وشيكا وهي أكبر إنجازاته على الإطلاق: تصميمه للخطة (200) الحربية التي كانت الأصل في الخطة (جرانيت) التي طُورت بعد ذلك لتصبح خطة العمليات في حرب أكتوبر تحت مسمى (بدر).
واستشهد القائد عبد المنعم رياض بين جنوده في التاسع من مارس 1969، ويبقى التاسع والعاشر من يونيو ملحمتين رائعتين للوطنية وإعلانا على الصمود والمقاومة والإصرار على الحرب والنصر. !!
وقد شكك من شكك في عفوية وتلقائية خروج المصريين في ملحمة حب باهرة للقائد إبان النكسة، وإن كان الرد الحاسم جاء على هؤلاء المشككين في جنازة الزعيم التي خرج فيها الملايين باكين ملتاعة تودع قائدها وحبيبها وفارسها مع علمها بفطرتها المصرية العظيمة أنه كان يعد العدة للعبور في سرية وقوة وجسارة وإقدام، فالحرب على العدو بدأت مباشرة بعد النكسة الأليمة في عبقرية وصمود المقاتل المصري من أصغر جندي إلى أعلى رتبة في جيش مصر العظيم.
وأدت قواتنا المسلحة الجسورة الكثير من العمليات الفدائية العظيمة، وبكل فداء وتضحية كانت تؤرق ليل وأيام المحتل الغاصب لنصر زين له وخطفه في خسة، والحقيقة إنه لم يواجه الجندي المصري الشجاع المقاتل الجسور فكان تدمير المدمرة الإسرائيلية إيلات في 21 أكتوبر 1967، وإسقاط بعض الطائرات الحربية الإسرائيلية خلال عامي 1967 و1968.
وكان الشعب عظيما كالعهد به دوما في الملمات، رفع الشعب المبتلى بهزيمة أوجعته وضربته في أحلامه وغده وإنجازات الثورة في مقتل فكانت شعارات المرحلة يد تبني ويد تحمل السلاح؛ وأيضا العناية بحماية المكتسبات الاجتماعية، كما دشنت نكسة يونيو وأبرزت أهمية العمل العربي المشترك فدقت بقوة على باب العروبة والقومية العربية فخرجت متألقة في أبهى حللها في معركة العبور العظيم في العاشر من رمضان السادس من أكتوبر1973.
وكان قبول ناصر مبادرة روجرز مناورة سياسية بوقف إطلاق النار في حرب الاستنزاف لاستكمال حائط الصواريخ؛ تمهيدا للعبور في الخطة التي وضعها الشهيد عبد المنعم رياض الذي كان وشيكا وهي أكبر إنجازاته على الإطلاق: تصميمه للخطة (200) الحربية التي كانت الأصل في الخطة (جرانيت) التي طُورت بعد ذلك لتصبح خطة العمليات في حرب أكتوبر تحت مسمى (بدر).
واستشهد القائد عبد المنعم رياض بين جنوده في التاسع من مارس 1969، ويبقى التاسع والعاشر من يونيو ملحمتين رائعتين للوطنية وإعلانا على الصمود والمقاومة والإصرار على الحرب والنصر. !!