أصل الكلمة
الأناركية (بالإنجليزية: Anarchism) (اشتقاق من اليونانية: αναρχία) التي تعني بدون حاكم أو ملك أو رئيس، ويقوم العديد بتعريب الأناركية إلى التحررية أو اللاسلطوية. وهيَ اتجاه سياسي تتفق اتجاهاته المختلفة على ضرورة إزالة سلطة الدولة المركزية، وإلغاء أيِّ علاقة سلطوية، منفصلة عن، ومتعالية على إرادة المنتمين لها، ليعتمد المجتمع في تنظيم شئونه على التعاون الطوعي بين أفراده.
وبرغم ذلك فالأناركية ليست مرادفة للفوضى كما يفهمها البعض، ويشيعون عنها، فالمجتمع الأناركي مجتمع مضاد للسلطة الهرمية أيْ الآمر والمأمور، الأعلى والأدنى، ومن ثم ليست ضد النظام في حد ذاته، وإنما تنحاز للسلطة التوافقية والأفقية بين أعضاءه المتساوين، فالنظام الأناركي يعتمد على التشارك الطوعي للأفراد الأحرار في التجمعات التعاونية المدارة ذاتيا، وهذه ليست فوضى ولا ضد نظامية.
والأناركية ليست رؤية خيالية للمجتمع يصعب تحقيقها، لأن بذورها قائمة عفويا بالفعل في كل أشكال التضامن والتعاون الطوعي بين البشر، فالتعاونيات المستقلة، وهيَ أحد أشكال التنظيم الطوعي التضامني بين الناس، قائمة بالفعل، وهناك أفراد مستقلون عن أيِّ سلطة قمعية تعلوهم، وجماعات لا تقوم العلاقات الاجتماعية فيما بين أفرادها على التسلسل الهرمي، أيْ الأعلى والأدنى، والمطلوب فقط هو توسيع مدى وعمق تلك الحالات والعلاقات، ونمو الجماعات الأناركية الموجودة بالفعل، لتسود الأناركية كل العلاقات الاجتماعية، وهذه الرؤية والفلسفة هيَ الطريقة المثلى للتخلص من أخطار السلطوية المدمرة على المجتمعات والإنسان.
وكما يشير الشكل أعلى النص، يتضح لنا أنَّ الأناركية مضادة تماما للفكر الفاشي والشعبوي الذي لا يحترم الحرية الفردية للإنسان واستقلاليته الذاتية، ولا يحترم المساواة بين الناس. وبالمثل، تتمتع الأناركية بعلاقات تناقض وتشابه معقدة مع الكثير من الأيديولوجيات مثل الاشتراكية والشيوعية والرأسمالية. والأناركية لا يمكن تقيدها أو احتسابها ضمن اتجاه سياسي واحد فهي تنتشر في نطاق واسع، وتشترك في علاقات معقدة مع أفكار مختلفة.
ومع هذا فإنَّ كلمة “أناركي” (بالإنجليزية: Anarchy) استخدمت كثيرا في الثقافة الغربية استخدامات كثيرة؛ فقد استخدمت بمعنى المخربين والفوضويين، وبعض المراجع تصفها بأنها أيُّ فعل يستخدم وسائل عنيفة لتخريب تنظيم المجتمعات، وفي الحقيقة الكثير من المنظرين السياسيين يربطون الأناركية (أو الفوضوية، حسب رؤيتهم) بحب الفوضى وانعدام النظام، وحتى باستخدام العنف.
لكن الحقيقة هيَ أنَّ استراتيجية تبني العنف لا يتبناها جميع الأناركيين، فالعديد من الأناركيين يرفضون استخدام العنف، في حين يؤيده البعض الآخر، مطلقين عليه “النضال المسلح” أو “الدعاية بالأفعال”. كما أنَّ النظريات حول كيفية بناء وتسيير المجتمع الأناركي متعددة بتعدد الاتجاهات الأناركية المختلفة.
اللاسلطوية هيَ التعريب الأفضل لكلمة الأناركية، وللتعبير عن هذا التيار السياسي والاجتماعي والفلسفي، فقد عرفت في العربية بالفوضوية، وهو ما تلتزم به القواميس الانجليزية العربية، والمترجمون العرب عادة، وهيَ ترجمة غير دقيقة للكلمة، فالفوضوية اشتقاق نسب عربي من فوضى، ومعناها بالانجليزية ((chaos)) أيْ غياب القواعد والقوانين والتنظيم الاجتماعي، وهو ما تعارضه الأناركية في الحقيقة، لأن تلك الحالة الاجتماعية الفوضوية تحديدا، تشكل بيئة مناسبة جدا لصعود الاستبداد السياسي، ونشوء القمع الاجتماعي، وتبرير السلطة الجبرية، على عكس ما تسعى إليه الأناركية تماما كفلسفة وحركة، ومن ثم فالفوضوية ترجمة غير دقيقة، إنَّ لم تكن خبيثة ومغرضة هدفها التنفير من الفكرة.
دخل مصطلح “Anarchism” لأول مرة باللغة الإنجليزية في 1642، خلال الحرب الأهلية الإنجليزية، واستخدمه الموالون للملكية لوصف معارضيهم المناهضين لها، كمصطلح سلبي يعبر عن السلوك السيِّئ والاعتداء والفوضى.
وظهر استخدامٌ آخر يحمل معنى سلبيا لهذه الكلمة، حينما اتهمت بعض الفصائل داخل الثورة الفرنسية معارضيها بالأناركية (كما فعل روبسبير مع أنصار هيبير) على الرغم من أنَّ بعض المشاركين في الثورة الفرنسية شاركوا الأناركيين في العديد من الآراء. مثلما فعل في وقت لاحق العديد من الثوار في أوائل القرن التاسع عشر الذين ساهموا في تكوين المذاهب الأناركية المختلفة، لكنهم لم يستخدموا كلمة الأناركية في وصف أنفسهم أو معتقداتهم.
وبحلول مطلع القرن التاسع عشر، فقدت الكلمة الإنجليزية “Anarchism” دلالتها السلبية الأولية. وكان أول من استخدم مصطلح “Anarchism”على أنها تعني شيئا آخر غير الفوضى هو لويس أرماند، البارون دي لاونتان، في كتابه (رحلات جديدة في شمال أمريكا) 1703 حيث وصف المجتمعات الأمريكية الأصلية، التي كانت بلا دولة ولا قوانين ولا سجون ولا كهنة ولا ملكية خاصة، كما لو كانت في حالة اللاسلطة.
وفي عام 1840، اعتمد المفكر الفرنسي بيير جوزيف برودون هذا المصطلح في كتابه الأساسي“ما هي الملكية؟” للإشارة إلى فلسفة سياسية جديدة، أسماها أناركية تدعو إلى مجتمعات منظمة بلا دولة على أساس الجمعيات التعاونية التضامنية الطوعية.
هذا هو الهدف من الأناركية، عندما تعمل على تدمير السلطة في جميع جوانبها، وعندما تطالب بإلغاء القوانين، وإلغاء الآلية التي تعمل على فرضها، وعندما ترفض كل تنظيم هرمي، وتبشر بالتوافق الحر بين البشر سبيلا وحيدا لإدارة شئونهم المشتركة، في نفس الوقت الذي تسعى فيه للحفاظ على وتوسيع النواة الثمينة من العادات الاجتماعية التي لا يمكن لأيِّ مجتمع سواء للبشر أو الحيوانات أنْ يوجد بغيرها.
ما يناضل الأناركيون من أجله؟:
يناضل الأناركيون من أجل علاقات اجتماعية حرة ومساواتية، ومجتمعات مستقلة ومؤسسات طوعية، تدير شئونها ذاتيا، وتوافقيا بين أفرادها، ويناهضون الدولة باعتبارها مؤسسة غير مرغوب فيها، ولا لزوم لها، بل وباعتبارها مقيدة لحرية البشر واستقلالهم، ومسببة لتعاستهم، وهيَ الفكرة المركزية التي تجمع بين كل الأناركيين على اختلاف مدارسهم المتناقضة.
يعارض الأناركيون مبدأ السلطة الجبرية في حد ذاته، من حيث أنَّ تلك السلطة هيَ الحق في ممارسة الرقابة الاجتماعية، والضبط الاجتماعي..المنفصلين عن، والمتعاليين على، إرادة الخاضعين لهما، وكون السلطة الجبرية مرتبطة بوجوب طاعتهم لها، لا عن قناعة واختيار منهم، وإنما عن جبر واضطرار، إما خوفا من عقابها، أو تلمسا لحمايتها، أو رغبة في رضاها.
ينكر الأناركيون أخلاقية العلاقات السلطوية القائمة بين المتسلط والمتسلط عليه، التي تسلب المتسلط عليه حقه الطبيعي في حكم ذاته بنفسه، وتقرير مصيره بإرادته، ويرفضون قبول ادعاءات مثل هذه السلطة بشرعيتها، وضرورتها لمصالح المتسلط عليهم، في حين أنهم يؤكدون أنَّ مثل تلك السلطة لا تعبر إلَّا عن مصلحة المتسلطين، ويرفض الأناركيون عمليا تلك السلطات التي لا يمكنها تبرير مطالبها للمتسلط عليهم إلَّا بالخضوع والطاعة فقط.
يرفض الأناركيون التسلسل الهرمي في بنية كل العلاقات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية عموما، بما في ذلك، وليس فقط، نظام الدولة على سبيل الحصر، حيث يرون أنَّ القمع الاجتماعي نابعٌ من التسلسل الهرمي في حد ذاته، حتى في حالة عدم وجود الاستغلال الاقتصادي أو الإكراه السياسي.
يناضل الأناركيون من أجل تحرير العقل البشري من سلطان كل من الكهنوت والأفكار والمؤسسات الاجتماعية الهرمية والسلطوية، وتحرير جسم الإنسان من سلطان كل من الملكية والتسليع والعنف والاستعباد، وتحرير الفرد من القيود المفروضه عليه من الخارج، وتحرير العمل والجسد من الجبر والاضطرار، حيث تدعم الأناركية حكم الفرد لذاته، وتشكيله لهويته بنفسه، وضبطه لنفسه، ورقابتها دون حكم أو ضبط خارج عن إرادته وحريته ورغباته.
أعتقد أنَّ الأناركية لابد وأن تفترض منطقيا مقابل هذه الحرية الفردية أنْ يتحمل الفرد البالغ العاقل الراشد مسئولية سلوكياته بالكامل، دون أنْ يحمل تبعاتها للآخرين أفرادا أو جماعات، فأدنى تخلي عن مسئولية الإنسان عن نفسه وعن سلوكياته، يعني تخليه عن حريته واستقلاله الذاتي وكرامته، والآخرون من ناحية أخرى سوف يكون لهم في هذه الحالة كامل الحق في تجنب ما يرونه ضارا بهم في تلك السلوكيات، وما يرونه مقيدا لحرياتهم واستقلالهم، ومهدرا لكرامتهم، ومهددا لمصالحهم، وعليهم إذن أنْ يحموا أنفسهم من تلك السلوكيات بشتى الوسائل.
ومن نافل القول والبديهيِّ أنَّ الأطفال والمعاقين ذهنيا وعقليا ونفسيا، والأشخاص العدوانيين، والمعادين للمجتمع، الذين يشكلون تهديدا لأنفسهم أو للآخرين، لا يمكن أنْ يتمتعوا بهذا الحق كاملا في حدود حماية الآخرين من أضرارهم، وحمايتهم هم أنفسهم من الأضرار بأنفسهم، بسبب إعاقتهم الذهنية وقصورهم العقلي واضطرابهم النفسي والسلوكي. إلَّا أنَّ الأناركية في هذه الحالات لا تفترض القمع والعقاب أسلوبا في مواجهتهم، ولا للحماية منهم، ولكنها تطرح فيما يتعلق بالأطفال إعدادهم وتعليمهم وتدريبهم لمواجهة الحياة كأفراد أحرار مستقلين ومسئولين عن أنفسهم عند البلوغ، والعلاج العلمي للحالات المرضية للبالغين، والرعاية لحالات الإعاقة المختلفة، والعزل الاجتماعي، والطرد من الجماعة، للحالات العدوانية والمعادية للمجتمع إنْ لم يصلح العلاج معها.
إنَّ أقسى العقوبات وأشدها وحشية وقسوة لن تمنع الجرائم، فلم يتوقف الاغتصاب ولا تهريب المخدرات رغم عقوبة الإعدام، ولم تتوقف جرائم النشل في انجلترا رغم عقوبة الإعدام التي كانت تنفذ في الميادين العامة، بل كانت تتم جرائم النشل في حلقات الجماهير التي كانت تشاهد الإعدام، الذي لم يردع زملاء المعدوم؛ فالجريمة لها أسبابها المستقلة عن إرادة المجرم، بدءا من الظروف الاجتماعية الاقتصادية السياسية الثقافية المحيطة به، وحتى باعتباره كائنا حيَّا تحركه عوامل بيولوجية وكيميائية لا دخل له فيها ولا اختيار.
لو كنا عقلانيين وموضوعيين ونستند لحقائق العلم بما فيه الكفاية، فسوف نعرف أنَّ الحل ليس في الوسائل العقابية مهما تشددت، وليس في أجهزة الشرطة والمحاكم والقوانين والسجون..الحل ببساطة هو تغيير الظروف الاجتماعية الاقتصادية السياسية الثقافية المحيطة بالبشر، فإلغاء الملكية الخاصة والنقود فقط، سوف يوقف الغالبية الساحقة من الجرائم، والعلاج النفسي والعقلي سوف يقضي على البقية، لكن هناك أصحاب مصلحة منتفعون من بقاء الوضع على ما هو عليه، منتفعون من استمرار الجرائم كيْ يبرروا وجودهمـ ووظائفهم، وإمتيازاتهم.
يناضل الأناركيون من أجل نظام اجتماعي قائم على التجمع الطوعي الحر للأفراد الأحرار لغرض إنتاج الثروة الاجتماعية، وتلبية احتياجاتهم المختلفة المادية والمعنوية، وهو أمر يضمن لكل إنسان حرية التمتع الكامل بضروريات الحياة، وفقا لرغباته الفردية، وأذواقه، وميوله.
تيارات الأناركية:
تضم الأناركية العديد من تيارات الفكر، وأساليب الممارسة العملية، والأهداف، والوسائل. فالأناركية لا تقدم لنا صيغة ثابتة من العقيدة أو الحركة أو الممارسة، وإنما تتدفق من منبع واحد هو رفض السلطوية، لتجري في تيارات فلسفية واجتماعية متنوعة، بل ومتناقضة أحيانا، بدلا من انصهارها في رؤية واحدة للعالم، ونمط محدد لتغييره، أو أسلوب معين للعيش فيه. ويتجلى هذا في العديد من التقاليد المتنوعة للأناركية، التي لا تستبعد بعضها البعض في كثير من الأحيان.
تختلف المدارس الأناركية فيما بينها جوهريا، حيث تدعم نزعات متباينة بدءا من النزعة الفردية المتطرفة إلى النزعة الاجتماعية القصوى. وتنقسم التيارات الأناركية إلى مجموعتين رئيسيتين، الاجتماعية والفردية أو من مزيج بينهما. وعادة ما تعتبر الأناركية أيديولوجية يسارية جذرية، فالعديد من مدارس الاقتصاد الأناركي والفلسفة القانونية الأناركية تعكس تفسيرات مختلفة، وطرقا متنوعة لمناهضة السلطوية في الأنظمة السياسية الاجتماعية الاقتصادية المختلفة، سواء الرأسمالية أو الاشتراكية، ...وبعض الأناركيين الفرديين جمعيون أو شيوعيون أو تشاركيون، كما أنَّ بعض الأناركيين الاجتماعيين فرديون أو أنانيون أيضا، حيث يمزجون بين المدارس الأناركية المختلفة في خلطات متنوعة في نفس الوقت.
هناك العديد من الاختلافات الفلسفية بين الأناركيين بشأن المسائل الأيديولوجية، والقيم، والاستراتيجية. وتختلف الأفكار حول كيفية عمل المجتمعات الأناركية إلى حد كبير، وخاصة فيما يتعلق بالاقتصاد. هناك أيضا خلافات حول الكيفية التي يمكن أنْ يحققوا بها مثل هذا المجتمع وفقا لها.
تختلف مدارس الفكر الأناركية، من حيث الأصول، والقيم، والتطور، والتأثير. فالجناح الفردي من الأناركية يؤكد على الحرية السلبية، أيْ معارضة الدولة أو السيطرة الاجتماعية على الفرد، ورفض أيِّ قيود على الحرية والاستقلالية الفردية، في حين أنَّ أولئك الذين في الجناح الاجتماعي يؤكدون على الحرية الإيجابية لتحقيق إمكانيات واقعية لتحقيق حرية الفرد واستقلاليته، ويقولون بأن البشر لديهم احتياجات ينبغي على المجتمع لتحقيقها “الاعتراف بداهة بالمساواة بينهم في استحقاقها”. وبمعناها الزمني والنظري، هناك الأناركيات التقليدية؛ تلك التي تم تأسيسها خلال القرن الـ19، والمدارس الأناركية لمرحلة ما بعد التقليدية؛ تلك التي تم تأسيسها منذ منتصف القرن 20 وما بعده.
وقد لاحظ عالم الاجتماع ديفيد جريبير أنَّه في حين أنَّ المدارس الماركسية الكبرى دائما لديها مؤسسين تنتسب إليهم (على سبيل المثال اللينينية، التروتسكية، الماوية....إلخ)، فالمدارس الأناركية التي“ظهرت في كل الحالات تنطلق تقريبا من مبدأ تنظيمي أو من شكل من أشكال الممارسة العملية، أو تصور للمجتمع اللاسلطوي المستهدف”، الأناركية النقابية، الأناركية التمردية والأناركية البرنامجية على سبيل المثال.
ولأن الأناركية تجسد العديد من المواقف المتنوعة، ومن المدارس الفكرية. على هذا النحو، فإنَّ الخلافات المتنازع عليها شائعة على نطاق واسع بين الأناركيين حول الكثير من القضايا والتكتيكات، مثل الملكية الخاصة والعنف.
تتعدد الدوافع عند الأناركيين عند تبنيهم الأناركية، مثل الحرية، والإنسانية، والسلطة الإلهية، والمصلحة الذاتية المستنيرة. ولذلك فظواهر مثل الحضارة والتكنولوجيا والعملية الديمقراطية قد انتقدت بشدة من بعض الميول الأناركية، وأشيد بها في نفس الوقت من ميول أخرى.
على المستوى العملي، في حين كانت الدعاية بالأفعال العنيفة تكتيكا استخدمه بعض الأناركيين في القرن الـ19، فإنَّ بعض الأناركيين المعاصرين يتبنون أساليب بديلة للعمل المباشر والدعاية بالأعمال اللا عنيفة، مثل الاقتصاديات المضادة المناهضة للدولة، ولرأس المال، وإنشاء مجتمعات أناركية مستقلة على هامش المجتمع الحالي. وحول نطاق المجتمع الأناركي المنشود، يدعم بعض الأناركيين عالما إنسانيا واحدا، عبر تنظيمات ونضالات عالمية، في حين يفعل الآخرون ذلك عن طريق جماعات ونضالات محلية في نطاق محلي. وأدى التنوع في الأناركية إلى استخدامات مختلفة لمصطلحات متطابقة على نطاق واسع عبر التقاليد الأناركية المختلفة، مما أدى إلى تحديد العديد من التعريفات المعنية بالنظرية الأناركية، والموضوعات ذات الاهتمام المتقاطعة والمتداخلة بين مختلف المدارس الفكرية، والمواضيع المحددة للنزاعات الداخلية دائما ما كانت مهمة ثابتة ضمن الإنتاج النظري الأناركي، وفي الحركة الأناركية العملية.
اللاحكم أو اللاسلطة:
اللاحكم أو اللاسلطة هي حالة مجتمع أو كيان أو مجموعة من الناس، لا تعرف التسلسل الهرمي وتدير شئونها بلاقيادة أو زعامة، ومن الناحية العملية، يمكن أنْ تقبل بعض مدارس الأناركية وهيَ المدارس الفردية غالبا تقليص الحكومة للحد الأدنى الضروري كدولة حارسة اتحادية لا مركزية إداريا، تنحصر مهامها في تحقيق الأمن خارجيا وداخليا، وتنفيذ القانون، والتمثيل الخارجي، والتنسيق بين مؤسسات المجتمع المدني المختلفة، كما تسعى مدارس الأناركية الأخرى، الاجتماعية غالبا، لإلغاءها الفوري، وهو ما لا يتصور حدوثه إلَّاعلى نطاق عالمي.
تناول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط حالة اللاسلطة بملاحظة عملية باعتبارها تتألف من “القانون والحرية دون قوة جبرية”. وبالتالي لا ترقى حالة اللاسلطة عند كانط، إلى كونها دولة مدنية حقيقية لأن القانون هو مجرد “توصية فارغة” إذا لم يتم تضمينه القوة الجبرية لجعل هذا القانون فعال ومؤثر. ولكيْ توجد مثل هذه الحالة، يجب أنْ تدرج القوة الجبرية حتى يتم الاحتفاظ بالقانون والحرية، وهي حالة الدولة التي يدعوها كانط بالجمهورية.
الأناركية في الواقع
عانت الأناركية باعتبارها حركة سياسية اجتماعية من التقلبات في درجة شعبيتها ونفوذها وانتشارها عبر تاريخها. وقد مثلت الأناركيات الاجتماعية دائما التيار المركزي الرئيسي للأناركية، باعتبارها حركات جماهيرية تسعى للتغيير الاجتماعي، أما الأناركيات الفردية المختلفة، فكانت ومازالت مجرد تيارات أدبية وفنية وفلسفية، هامشية محدودة النفوذ والتأثير، يتبناها غالبا بعض المنشغلين بتلك المجالات أو المهتمين بها، وهيَ محصورة أساسا في الاهتمام الأكاديمي والفلسفي والنخبوي والثقافي لبعض المثقفين، بعيدا عن الحركات الاجتماعية الساعية لتغيير العالم، حيث لم تحظ يوما الأناركيات الفردية بالجماهيرية التي حظت بها الأناركيات الاجتماعية، وكل ما فعلته هو أنَّ لها تأثيرا على بعض أفراد تلك التيارات الاجتماعية الجماهيرية الأكبر، حيث شاركوا أحيانا في المنظمات الأناركية الاجتماعية الكبيرة.
بدأ الليبراليون الجذريون مؤخرا في وصف أنفسهم كتحرريين Libertarianists باعتبارهم المدافعين الأكثر تطرفا عن الحريات الفردية، وأصبح من الضروري تمييز فلسفتهم الأناركية الفردية عن الأناركيات الاجتماعية، وهكذا، فغالبا ما يشار إليهم باسم التحرريين اليمينيين، أو ببساطة اليمين التحرري، في حين يصف الأناركيون الاجتماعيون أنفسهم بالاشتراكيين التحرريين، أو ببساطة، اليسار التحرري.
وقد أسس الأناركيون مجموعة واسعة من المجتمعات الأناركية المستقلة على هامش المجتمعات الكبيرة. في حين لا يوجد سوى عددٌ قليلٌ من الحالات “الأناركية”التي نشأت على المستوى الجماهيري الواسع في التاريخ المكتوب أثناء الثورات الكبرى، إلَّا أنَّ هناك أيضا أمثلة عديدة من المجتمعات المستقلة عن السلطات الحكومية التي أسس الأناركيون بعضها، وقد زالت بعد فترة من الزمن، ومازال بعضها مستمرا حتى الآن، وبعضها قيد التكوين على هامش المجتمع السلطوي. أما أمثلة المجتمع الجماهيري فهيَ: الأراضي الحرة (أوكرانيا، نوفمبر 1918-1921)، أناركية كاتالونيا (21 يوليو 1936 - مايو 1939)، منطقة شنمن المستقلة (1929-1932)، أما المجتمعات المستقلة فعلى سبيل المثال لا الحصر: المدينة الفاضلة، أوهايو (1847)، مستعمرة وايتواى (1898)، كومونة الحياة والعمل (1921)، المدينة الحرة كريستيانيا (26 سبتمبر 1971)، وهو حيٌّ دنماركي مستقل عن الضوابط الحكومية المحلية، ومرتفعات زوميا جنوب شرق آسيا خارج سيطرة الحكومات، زاباتيستا في اقليم تشيباس بالمكسيك (1 يناير 1994 - حتى الآن).
لا يتبنى الأناركيون مفهوم الاستيلاء على السلطة السياسية بأنفسهم كجماعة سياسية منفصلة عن الجماهير، باسم تلك الجماهير وتمثيلا لهم، محليا أو دوليا، وبناء نظامهم الاجتماعي من أعلى، الذي يستدعي بالضرورة استبدادهم السياسي، ولكنهم مع بناء الأناركية من أسفل، من أجل تحول جذري للمجتمع، إما بشكل ثوري أثناء الثورات الاجتماعية أو بشكل تدريجي أثناء الاستقرار الاجتماعي، وذلك ببناء أنوية لمجتمع المستقبل، من هامش وباطن المجتمع، تنمو تدريجيا لتؤدي لتقلص العلاقات السلطوية اجتماعيا، واستكشاف العلاقات والمؤسسات الأناركية في المجتمع ودعمها..ومن ثم يدعم الأناركيون مؤسسات وعلاقات أناركية موجودة عفويا وفعليا في الواقع ومحاولة تطويرها والمساعدة على إنشاءها وانتشارها، مثل الكوميونات المستقلة، والتعاونيات التحررية، ويدعمون توسيع الإدارة الذاتية الديمقراطية لمنشئات العمل والسكن والتعليم والمحليات.
صعوبة التعريف:
من غير المجدي البحث عن تعريف شامل مانع جامع للأناركية، إلَّا أننا يمكن أنْ نشير إلى ملمح مشترك يجمع بين كل الأناركيين هو العداء للدولة، التي يرى الأناركيون إما وجوب اختزالها إلى الدولة الحارسة أو اختفائها واستبدالها بشكل جديد من التنظيم الاجتماعي، والدولة ليست المكافئ للحكومة عمومًا، ولذلك فإنَّ بعض الأناركيين يؤكدون أنَّ هدفهم ليس مجتمعا بلا حكومة، ولكن مجتمعا بلا دولة، والدولة المقصودة هي سلطة أعلى من الفرد تستقل بالإدارة السياسية، وتحتكر استخدام القوة التي تبلورت بعد بروز الدولة القومية في أوروبا بعد صلح وستفاليا 1648 في فترة نشوء النهضة الأوروبية، وأسست لنفسها مكانًا كفاعل على الساحتين الداخلية والدولية.
أولى سمات الدولة الحديثة التي يعاديها الأناركيون هي احتكارها للسيادة على المجتمع وأفراده، أيْ أنها تدعي لنفسها كامل السلطة عليهم، واحتكارها لتعريف وتحديد حقوق وواجبات رعاياها.
ثاني هذه السمات هيَ أنَّ الدولة كيانٌ إلزاميٌّ قسريّ، بمعنى أنَّ كل فرد ولد في إقليمها الجغرافي مجبر عن غير إرادة أو رغبة منه على الاعتراف بالتزاماته تجاه الدولة التي تحكم هذا الإقليم، وممارسة الإنتماء إليها، والولاء لها، وضرورة إذعانه لقوانينها وطاعته لسلطاتها، وإلا ناله عقابها.
ثالث هذه السمات هيَ أنَّ الدولة تحتكر استخدام القوة والعنف في إقليمها، ولا تسمح بأيِّ مقاومة لعنفها مهما بلغ ظلمها، ولا بوجود منافس إلى جانبها.
رابع هذه السمات هيَ أنَّ الدولة كيانٌ متميز بمعنى أنَّ الأدوار والوظائف السيادية التي تقوم بها من دفاع خارجي وأمن داخلي وتطبيق للقوانين منفصلة عن الأدوار والوظائف الاجتماعية عمومًا.
ولكل هذا يرى الأناركيون عدم أحقية الدولة في الوجود ككيان مسلم به، ففي حين ينظر له البعض على أنَّه ضمان للسلام الاجتماعي للمواطنين، إلَّا أنَّ الأناركيين يرون أنَّه حمل معه منذ وجوده سلسلة من الشرور الاجتماعية، مثل الحروب والفساد والظلم الاجتماعي والانقسام الطبقي. وحتى نقرب مفهوم الأناركية للممارسة العملية، يمكن استبدالة بمفهوم التعاونيات واللجان الشعبية العفوية، التي تحل محل الدولة في أداء وظائفها وتقوم بمهامها، أو لجان الإدارة الذاتية للعمال في مواقع العمل، حيث أصبح من المعروف الآن أنَّ الدولة على وضعها الحالي قد فشلت في أداء مهمتها في توفير الحاجات الأساسية للمجتمع سواءا ماديا أو ثقافيا..إلخ، وأصبحت أداة قمع واستبداد ونهب تستخدمها أيُّ قلة من عصابات الأموال في نهب وتخريب مصالح الأغلبية.
ويعرض “برودون” باعتباره أحد أبرز منظري الأناركية أربعة اتهامات أساسية للدولة.
أولها: أنها كيان إكراهي يحد من حرية الناس ويقللها لما هو أدنى بكثير مما يحتاجه التعايش الاجتماعي بينهم، فهي تصدر قوانين مقيدة لهم لا لصالح المجتمع بل لحمايتها هيَ من المجتمع وأفراده.
ثانيها:أنَّ الدولة هي كيان تأديبي أو عقابي، فهيَ توقع عقوبات شديدة على هؤلاء الذين يخرقون قوانينها، سواء أكانت هذه القوانين عادلة أم لا. والأناركيون ليسوا بالضرورة ضد هذه العقوبات، ولكنهم ضد أشكال وأحجام العقوبات التي تصدر عن الدولة في مواجهة من يخرجون عليها.
ثالثها: أنَّ الدولة كيان استغلالي، فهي تستخدم قوتها في فرض الضرائب والتنظيم الاقتصادي؛ لتمويل الموارد من مراكز الثروة إلى خزانتها.
رابعها أنَّ الدولة هي تنظيم هدام؛ إذ تجند رعاياها أو مواطنيها في حروب سببها الوحيد حماية الدولة نفسها، وإقليمها وسيادتها، وبدلاً من أنْ تكون حافظة لحياتهم من حالة الفوضى كما يرى هوبز وأنصار الدولة، وينتهي الأمر بموت الفرد في سبيلها.
ولا يعد الأناركيون كل الوظائف التي تقوم بها الدولة غير ضرورية؛ فمن وجهة نظرهم فإنَّه من المستحيل أنْ تكسب الدولة شرعيتها بين الجماهير دون أنْ تقدم خدمات أو تقوم بمهام نافعة لهم، وإن لم يتفق الأناركيون على هذه المهام، إلَّا أنهم يقصرونها عادة في مساحتين: حماية الفرد ضد اعتداء الآخرين عليه، والتنسيق بين أعمال الإنتاج في المجتمع.
أما عن المجتمع المتصور لدى الأناركيين والبديل عن الدولة كما سبق تعريفها فهو ليس بدون تنظيم كليًّا، بمعنى أنَّه سوف توجد مؤسسات لتحقيق أهداف جماعية، ولكن تلك المؤسسات سوف تكون لها خصائص تختلف عن خصائص الدولة:
أولها: أنها لن تكون دولة جبرية أو سلطوية، متعالية ومنفصلة عن إرادة الخاضعين لها، بل تنشأ وتستمر وتزول وفق توافق هؤلاء الخاضعين والمنتمين لها، وسوف يحددون هم وظائفها ومهامها، ولن يسمح لها بتخطي دورها المحدد سلفًا.
ثانيًا: يصر الأناركيون أنْ يكون الانتماء لهذه المؤسسات اختياريًّا، وليس إجباريًّا، بمعنى أنَّ كل فرد تحكمه تلك المؤسسات يجب أنْ يوافق سلفًا على أنْ يحكم بها.
ثالثًا: أعجب بعض الأناركيين بفكرة وجود مؤسسات مختلفة تتعاون في مجال واحد، وفي الوقت نفسه تتنافس لاستمالة العاملين في ذلك المجال-أيْ ما يشبه الشبكات.
رابعا: يرى الأناركيون أنْ تدار هذه المؤسسات عن طريق الديمقراطية المباشرة، ويختلفون حول ما إذا كان يؤخذ برأيِ الأغلبية من أعضاءها، أم بما يتوافق عليه الجميع.
تختلف المدارس الفكرية الأناركية اختلافا كبيرا في استخدام بعض المصطلحات الأساسية. وكانت بعض هذه المصطلحات، مثل “الاشتراكية”، خضعت لتعريفات متعددة وللصراع الأيديولوجي طوال فترة تطوير الأناركية. بينما يستخدم مصطلح “الرأسمالية” بطرق مختلفة، ومتناقضة في كثير من الأحيان. وبالإضافة إلى ذلك، فمصطلحات مثل “تبادل المنافع والمصالح” تغيرت معانيها مع مرور الوقت، مما خلق مدارس جديدة. كل هذه الصعوبات في المصطلحات تساهم في سوء الفهم داخل وحول الأناركية.
والشغل الشاغل لتحديد تعريف مقبول هو ما إذا كان يتم تعريف مصطلح “أناركية”، بمعارضة التسلسل الهرمي والسلطة والدولة أو الدولة والرأسمالية. فالجدل حول معنى المصطلح ينبثق من حقيقة أنَّه يشير إلى موقف فلسفي تجريدي، والتقاليد الفكرية والسياسية والمؤسسية على حد سواء، والتي كانت محفوفة بالصراع. في الحد الأدنى، فهناك تعريفات مجردة تشجع على إدراج الشخصيات البارزة والحركات والمواقف الفلسفية التي وضعوا تاريخيا أنفسهم خارجها، أو حتى في المعارضة لها إلى الأفراد والتقاليد التي تصنف نفسها بأنها “أناركية”.
يعتبر معظم الأناركيين مناهضة الرأسمالية عنصرا ضروريا في الأناركية، في حين أنَّ الأناركيين الرأسماليين يختلفون مع ذلك بالطبع. وينشأ الصراع بين الفريقين من مزيج من اختلافات حقيقية في الرأي حول مزايا اقتصاديات السوق، وتعريفات مختلفة حول “الرأسمالية”، وطبيعة “الحوافز”.
نقد الأناركية:
الانتقادات الموجهة ضد الأناركية تشمل انتقادات أخلاقية وانتقادات واقعية. وغالبا ما يتم تقييم الأناركية على انها فكرة جميلة لكن غير مجدية، وغير ممكنة، كما لو كانت المدينة الفاضلة التي كتب عنها بعض الحالمين الرافضين للواقع. فهناك من يرون بأن الأناركية الاجتماعية غير واقعية، وأن الحكومة هيَ“أهون الشرين” من وجود المجتمع دون “القوة القمعية. “ ويقولون إنَّ“ فكرة أنَّ النوايا السيئة سوف تتوقف إذا اختفت القوة القمعية مجرد عبثية”.
وللرد على ذلك فلابد من توضيح أصل الأخلاق وتطورها الذي يعفي الناس من المسئولية ليلقيها على المستفيدين من النظام الاجتماعي وحماته. الذين يدعون لذلك بوجود طبيعة بشرية ثابتة ونهائية ومطلقة تتسم بكونها أنانية وتنافسية وشريرة مما يستوجب قمعها بواسطة سلطة تضع القوانين وتنفذها، لمنع تأثير تلك الطبيعة الشريرة التي تسبب الحروب والصراعات بين الناس. في حين أنَّ الدولة بذات نفسها تنظم الجريمة وتديرها، وتمثل فقط أنَّها تحاربها في نفس الوقت، فالدولة تصنع الجريمة والحروب والصراعات، وتخلق ظروف نشوئها، وترعاها وتحرص على استمرارها لتبرر وجودها وامتيازاتها..وتلك قاعدة عامة تخص الدولة في حد ذاتها وبذاتها ولذاتها.
ولكن الحقيقة العلمية هيَ أنَّ السلوك والفكر البشريين عموما هما نتيجة مجموعة من العوامل المادية القسرية المنفصلة عن إرادة الناس، ومن ثم لا يصلح لتعديلهما الوعظ والإرشاد الديني أو غير الديني، ولا يمكن تقويمهما بالعقاب البدني ولا السجون..وإن كانا يشكلان مسكنات نسبية تخفف شكليا وظاهريا ومؤقتا من حدة تأثير العوامل المادية وهيَ:
أولا: الجينات الوراثية والمواد الكيميائية التي يتناولها الإنسان من البيئة الطبيعية المحيطة به أو يخرجها لها، والإفرازات الداخلية للجسم من هرمونات وإنزيمات ..إلخ، والنشاط الكهروكيميائى في المخ الذي يتأثر بتلك المواد ومؤثرات البيئة المحيطة.
ثانيا: الميمات الثقافية التي تشمل كل ما يتلاقاه البشر من قيم وعقائد وسلوكيات ومعارف عبر مؤسسات المجتمع المختلفة...الأسرة والتعليم والإعلام والدين والفن، والذي يؤثر في المجتمع وأفراده بما تلقاه عنه وبُرمج به.
ثالثا:والأهم والأكثر تأثيرا هيَ العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وفي جوهرها الطريقة التي يلبي بها الناس احتياجاتهم المادية المختلفة، فالناس لا يمكن أنْ تفكر أو تنتج شعرا أو فلسفة أو علما قبل أنْ تملأ المعدة بالطعام، ومن ثم فالكيفية التي يحصلون بها على طعامهم تحدد نوعية أفكارهم وسلوكهم. ومن ثم فلا أمل في تغيير سلوكيات الناس وأفكارهم إلَّا بتغيير علاقتهم بالطبيعة، وعلاقتهم فيما بينهم حين ينتجون ويستهلكون احتياجتهم المختلفة، أما الوعظ والعقاب فهما إهدار للطاقة والوقت بلا جدوى، وإشغال المحكومين عن سر تدهورهم ومعاناتهم في الحياة، فليسوا في حد ذاتهم سيئين أو جيدين، أشرار أو أخيار، أغبياء أو أذكياء؛ ليس لهم طبيعة ثابتة لا يمكن تغييرها....لكنها الظروف الواقعية والمادية المؤثرة فيهم هيَ التي تشكلهم كيْ يضمنوا الطعام وسائر الاحتياجات من أجل دافعهم الأكبر البقاء أحياء.
الأناركية (بالإنجليزية: Anarchism) (اشتقاق من اليونانية: αναρχία) التي تعني بدون حاكم أو ملك أو رئيس، ويقوم العديد بتعريب الأناركية إلى التحررية أو اللاسلطوية. وهيَ اتجاه سياسي تتفق اتجاهاته المختلفة على ضرورة إزالة سلطة الدولة المركزية، وإلغاء أيِّ علاقة سلطوية، منفصلة عن، ومتعالية على إرادة المنتمين لها، ليعتمد المجتمع في تنظيم شئونه على التعاون الطوعي بين أفراده.
وبرغم ذلك فالأناركية ليست مرادفة للفوضى كما يفهمها البعض، ويشيعون عنها، فالمجتمع الأناركي مجتمع مضاد للسلطة الهرمية أيْ الآمر والمأمور، الأعلى والأدنى، ومن ثم ليست ضد النظام في حد ذاته، وإنما تنحاز للسلطة التوافقية والأفقية بين أعضاءه المتساوين، فالنظام الأناركي يعتمد على التشارك الطوعي للأفراد الأحرار في التجمعات التعاونية المدارة ذاتيا، وهذه ليست فوضى ولا ضد نظامية.
والأناركية ليست رؤية خيالية للمجتمع يصعب تحقيقها، لأن بذورها قائمة عفويا بالفعل في كل أشكال التضامن والتعاون الطوعي بين البشر، فالتعاونيات المستقلة، وهيَ أحد أشكال التنظيم الطوعي التضامني بين الناس، قائمة بالفعل، وهناك أفراد مستقلون عن أيِّ سلطة قمعية تعلوهم، وجماعات لا تقوم العلاقات الاجتماعية فيما بين أفرادها على التسلسل الهرمي، أيْ الأعلى والأدنى، والمطلوب فقط هو توسيع مدى وعمق تلك الحالات والعلاقات، ونمو الجماعات الأناركية الموجودة بالفعل، لتسود الأناركية كل العلاقات الاجتماعية، وهذه الرؤية والفلسفة هيَ الطريقة المثلى للتخلص من أخطار السلطوية المدمرة على المجتمعات والإنسان.
وكما يشير الشكل أعلى النص، يتضح لنا أنَّ الأناركية مضادة تماما للفكر الفاشي والشعبوي الذي لا يحترم الحرية الفردية للإنسان واستقلاليته الذاتية، ولا يحترم المساواة بين الناس. وبالمثل، تتمتع الأناركية بعلاقات تناقض وتشابه معقدة مع الكثير من الأيديولوجيات مثل الاشتراكية والشيوعية والرأسمالية. والأناركية لا يمكن تقيدها أو احتسابها ضمن اتجاه سياسي واحد فهي تنتشر في نطاق واسع، وتشترك في علاقات معقدة مع أفكار مختلفة.
ومع هذا فإنَّ كلمة “أناركي” (بالإنجليزية: Anarchy) استخدمت كثيرا في الثقافة الغربية استخدامات كثيرة؛ فقد استخدمت بمعنى المخربين والفوضويين، وبعض المراجع تصفها بأنها أيُّ فعل يستخدم وسائل عنيفة لتخريب تنظيم المجتمعات، وفي الحقيقة الكثير من المنظرين السياسيين يربطون الأناركية (أو الفوضوية، حسب رؤيتهم) بحب الفوضى وانعدام النظام، وحتى باستخدام العنف.
لكن الحقيقة هيَ أنَّ استراتيجية تبني العنف لا يتبناها جميع الأناركيين، فالعديد من الأناركيين يرفضون استخدام العنف، في حين يؤيده البعض الآخر، مطلقين عليه “النضال المسلح” أو “الدعاية بالأفعال”. كما أنَّ النظريات حول كيفية بناء وتسيير المجتمع الأناركي متعددة بتعدد الاتجاهات الأناركية المختلفة.
اللاسلطوية هيَ التعريب الأفضل لكلمة الأناركية، وللتعبير عن هذا التيار السياسي والاجتماعي والفلسفي، فقد عرفت في العربية بالفوضوية، وهو ما تلتزم به القواميس الانجليزية العربية، والمترجمون العرب عادة، وهيَ ترجمة غير دقيقة للكلمة، فالفوضوية اشتقاق نسب عربي من فوضى، ومعناها بالانجليزية ((chaos)) أيْ غياب القواعد والقوانين والتنظيم الاجتماعي، وهو ما تعارضه الأناركية في الحقيقة، لأن تلك الحالة الاجتماعية الفوضوية تحديدا، تشكل بيئة مناسبة جدا لصعود الاستبداد السياسي، ونشوء القمع الاجتماعي، وتبرير السلطة الجبرية، على عكس ما تسعى إليه الأناركية تماما كفلسفة وحركة، ومن ثم فالفوضوية ترجمة غير دقيقة، إنَّ لم تكن خبيثة ومغرضة هدفها التنفير من الفكرة.
دخل مصطلح “Anarchism” لأول مرة باللغة الإنجليزية في 1642، خلال الحرب الأهلية الإنجليزية، واستخدمه الموالون للملكية لوصف معارضيهم المناهضين لها، كمصطلح سلبي يعبر عن السلوك السيِّئ والاعتداء والفوضى.
وظهر استخدامٌ آخر يحمل معنى سلبيا لهذه الكلمة، حينما اتهمت بعض الفصائل داخل الثورة الفرنسية معارضيها بالأناركية (كما فعل روبسبير مع أنصار هيبير) على الرغم من أنَّ بعض المشاركين في الثورة الفرنسية شاركوا الأناركيين في العديد من الآراء. مثلما فعل في وقت لاحق العديد من الثوار في أوائل القرن التاسع عشر الذين ساهموا في تكوين المذاهب الأناركية المختلفة، لكنهم لم يستخدموا كلمة الأناركية في وصف أنفسهم أو معتقداتهم.
وبحلول مطلع القرن التاسع عشر، فقدت الكلمة الإنجليزية “Anarchism” دلالتها السلبية الأولية. وكان أول من استخدم مصطلح “Anarchism”على أنها تعني شيئا آخر غير الفوضى هو لويس أرماند، البارون دي لاونتان، في كتابه (رحلات جديدة في شمال أمريكا) 1703 حيث وصف المجتمعات الأمريكية الأصلية، التي كانت بلا دولة ولا قوانين ولا سجون ولا كهنة ولا ملكية خاصة، كما لو كانت في حالة اللاسلطة.
وفي عام 1840، اعتمد المفكر الفرنسي بيير جوزيف برودون هذا المصطلح في كتابه الأساسي“ما هي الملكية؟” للإشارة إلى فلسفة سياسية جديدة، أسماها أناركية تدعو إلى مجتمعات منظمة بلا دولة على أساس الجمعيات التعاونية التضامنية الطوعية.
هذا هو الهدف من الأناركية، عندما تعمل على تدمير السلطة في جميع جوانبها، وعندما تطالب بإلغاء القوانين، وإلغاء الآلية التي تعمل على فرضها، وعندما ترفض كل تنظيم هرمي، وتبشر بالتوافق الحر بين البشر سبيلا وحيدا لإدارة شئونهم المشتركة، في نفس الوقت الذي تسعى فيه للحفاظ على وتوسيع النواة الثمينة من العادات الاجتماعية التي لا يمكن لأيِّ مجتمع سواء للبشر أو الحيوانات أنْ يوجد بغيرها.
ما يناضل الأناركيون من أجله؟:
يناضل الأناركيون من أجل علاقات اجتماعية حرة ومساواتية، ومجتمعات مستقلة ومؤسسات طوعية، تدير شئونها ذاتيا، وتوافقيا بين أفرادها، ويناهضون الدولة باعتبارها مؤسسة غير مرغوب فيها، ولا لزوم لها، بل وباعتبارها مقيدة لحرية البشر واستقلالهم، ومسببة لتعاستهم، وهيَ الفكرة المركزية التي تجمع بين كل الأناركيين على اختلاف مدارسهم المتناقضة.
يعارض الأناركيون مبدأ السلطة الجبرية في حد ذاته، من حيث أنَّ تلك السلطة هيَ الحق في ممارسة الرقابة الاجتماعية، والضبط الاجتماعي..المنفصلين عن، والمتعاليين على، إرادة الخاضعين لهما، وكون السلطة الجبرية مرتبطة بوجوب طاعتهم لها، لا عن قناعة واختيار منهم، وإنما عن جبر واضطرار، إما خوفا من عقابها، أو تلمسا لحمايتها، أو رغبة في رضاها.
ينكر الأناركيون أخلاقية العلاقات السلطوية القائمة بين المتسلط والمتسلط عليه، التي تسلب المتسلط عليه حقه الطبيعي في حكم ذاته بنفسه، وتقرير مصيره بإرادته، ويرفضون قبول ادعاءات مثل هذه السلطة بشرعيتها، وضرورتها لمصالح المتسلط عليهم، في حين أنهم يؤكدون أنَّ مثل تلك السلطة لا تعبر إلَّا عن مصلحة المتسلطين، ويرفض الأناركيون عمليا تلك السلطات التي لا يمكنها تبرير مطالبها للمتسلط عليهم إلَّا بالخضوع والطاعة فقط.
يرفض الأناركيون التسلسل الهرمي في بنية كل العلاقات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية عموما، بما في ذلك، وليس فقط، نظام الدولة على سبيل الحصر، حيث يرون أنَّ القمع الاجتماعي نابعٌ من التسلسل الهرمي في حد ذاته، حتى في حالة عدم وجود الاستغلال الاقتصادي أو الإكراه السياسي.
يناضل الأناركيون من أجل تحرير العقل البشري من سلطان كل من الكهنوت والأفكار والمؤسسات الاجتماعية الهرمية والسلطوية، وتحرير جسم الإنسان من سلطان كل من الملكية والتسليع والعنف والاستعباد، وتحرير الفرد من القيود المفروضه عليه من الخارج، وتحرير العمل والجسد من الجبر والاضطرار، حيث تدعم الأناركية حكم الفرد لذاته، وتشكيله لهويته بنفسه، وضبطه لنفسه، ورقابتها دون حكم أو ضبط خارج عن إرادته وحريته ورغباته.
أعتقد أنَّ الأناركية لابد وأن تفترض منطقيا مقابل هذه الحرية الفردية أنْ يتحمل الفرد البالغ العاقل الراشد مسئولية سلوكياته بالكامل، دون أنْ يحمل تبعاتها للآخرين أفرادا أو جماعات، فأدنى تخلي عن مسئولية الإنسان عن نفسه وعن سلوكياته، يعني تخليه عن حريته واستقلاله الذاتي وكرامته، والآخرون من ناحية أخرى سوف يكون لهم في هذه الحالة كامل الحق في تجنب ما يرونه ضارا بهم في تلك السلوكيات، وما يرونه مقيدا لحرياتهم واستقلالهم، ومهدرا لكرامتهم، ومهددا لمصالحهم، وعليهم إذن أنْ يحموا أنفسهم من تلك السلوكيات بشتى الوسائل.
ومن نافل القول والبديهيِّ أنَّ الأطفال والمعاقين ذهنيا وعقليا ونفسيا، والأشخاص العدوانيين، والمعادين للمجتمع، الذين يشكلون تهديدا لأنفسهم أو للآخرين، لا يمكن أنْ يتمتعوا بهذا الحق كاملا في حدود حماية الآخرين من أضرارهم، وحمايتهم هم أنفسهم من الأضرار بأنفسهم، بسبب إعاقتهم الذهنية وقصورهم العقلي واضطرابهم النفسي والسلوكي. إلَّا أنَّ الأناركية في هذه الحالات لا تفترض القمع والعقاب أسلوبا في مواجهتهم، ولا للحماية منهم، ولكنها تطرح فيما يتعلق بالأطفال إعدادهم وتعليمهم وتدريبهم لمواجهة الحياة كأفراد أحرار مستقلين ومسئولين عن أنفسهم عند البلوغ، والعلاج العلمي للحالات المرضية للبالغين، والرعاية لحالات الإعاقة المختلفة، والعزل الاجتماعي، والطرد من الجماعة، للحالات العدوانية والمعادية للمجتمع إنْ لم يصلح العلاج معها.
إنَّ أقسى العقوبات وأشدها وحشية وقسوة لن تمنع الجرائم، فلم يتوقف الاغتصاب ولا تهريب المخدرات رغم عقوبة الإعدام، ولم تتوقف جرائم النشل في انجلترا رغم عقوبة الإعدام التي كانت تنفذ في الميادين العامة، بل كانت تتم جرائم النشل في حلقات الجماهير التي كانت تشاهد الإعدام، الذي لم يردع زملاء المعدوم؛ فالجريمة لها أسبابها المستقلة عن إرادة المجرم، بدءا من الظروف الاجتماعية الاقتصادية السياسية الثقافية المحيطة به، وحتى باعتباره كائنا حيَّا تحركه عوامل بيولوجية وكيميائية لا دخل له فيها ولا اختيار.
لو كنا عقلانيين وموضوعيين ونستند لحقائق العلم بما فيه الكفاية، فسوف نعرف أنَّ الحل ليس في الوسائل العقابية مهما تشددت، وليس في أجهزة الشرطة والمحاكم والقوانين والسجون..الحل ببساطة هو تغيير الظروف الاجتماعية الاقتصادية السياسية الثقافية المحيطة بالبشر، فإلغاء الملكية الخاصة والنقود فقط، سوف يوقف الغالبية الساحقة من الجرائم، والعلاج النفسي والعقلي سوف يقضي على البقية، لكن هناك أصحاب مصلحة منتفعون من بقاء الوضع على ما هو عليه، منتفعون من استمرار الجرائم كيْ يبرروا وجودهمـ ووظائفهم، وإمتيازاتهم.
يناضل الأناركيون من أجل نظام اجتماعي قائم على التجمع الطوعي الحر للأفراد الأحرار لغرض إنتاج الثروة الاجتماعية، وتلبية احتياجاتهم المختلفة المادية والمعنوية، وهو أمر يضمن لكل إنسان حرية التمتع الكامل بضروريات الحياة، وفقا لرغباته الفردية، وأذواقه، وميوله.
تيارات الأناركية:
تضم الأناركية العديد من تيارات الفكر، وأساليب الممارسة العملية، والأهداف، والوسائل. فالأناركية لا تقدم لنا صيغة ثابتة من العقيدة أو الحركة أو الممارسة، وإنما تتدفق من منبع واحد هو رفض السلطوية، لتجري في تيارات فلسفية واجتماعية متنوعة، بل ومتناقضة أحيانا، بدلا من انصهارها في رؤية واحدة للعالم، ونمط محدد لتغييره، أو أسلوب معين للعيش فيه. ويتجلى هذا في العديد من التقاليد المتنوعة للأناركية، التي لا تستبعد بعضها البعض في كثير من الأحيان.
تختلف المدارس الأناركية فيما بينها جوهريا، حيث تدعم نزعات متباينة بدءا من النزعة الفردية المتطرفة إلى النزعة الاجتماعية القصوى. وتنقسم التيارات الأناركية إلى مجموعتين رئيسيتين، الاجتماعية والفردية أو من مزيج بينهما. وعادة ما تعتبر الأناركية أيديولوجية يسارية جذرية، فالعديد من مدارس الاقتصاد الأناركي والفلسفة القانونية الأناركية تعكس تفسيرات مختلفة، وطرقا متنوعة لمناهضة السلطوية في الأنظمة السياسية الاجتماعية الاقتصادية المختلفة، سواء الرأسمالية أو الاشتراكية، ...وبعض الأناركيين الفرديين جمعيون أو شيوعيون أو تشاركيون، كما أنَّ بعض الأناركيين الاجتماعيين فرديون أو أنانيون أيضا، حيث يمزجون بين المدارس الأناركية المختلفة في خلطات متنوعة في نفس الوقت.
هناك العديد من الاختلافات الفلسفية بين الأناركيين بشأن المسائل الأيديولوجية، والقيم، والاستراتيجية. وتختلف الأفكار حول كيفية عمل المجتمعات الأناركية إلى حد كبير، وخاصة فيما يتعلق بالاقتصاد. هناك أيضا خلافات حول الكيفية التي يمكن أنْ يحققوا بها مثل هذا المجتمع وفقا لها.
تختلف مدارس الفكر الأناركية، من حيث الأصول، والقيم، والتطور، والتأثير. فالجناح الفردي من الأناركية يؤكد على الحرية السلبية، أيْ معارضة الدولة أو السيطرة الاجتماعية على الفرد، ورفض أيِّ قيود على الحرية والاستقلالية الفردية، في حين أنَّ أولئك الذين في الجناح الاجتماعي يؤكدون على الحرية الإيجابية لتحقيق إمكانيات واقعية لتحقيق حرية الفرد واستقلاليته، ويقولون بأن البشر لديهم احتياجات ينبغي على المجتمع لتحقيقها “الاعتراف بداهة بالمساواة بينهم في استحقاقها”. وبمعناها الزمني والنظري، هناك الأناركيات التقليدية؛ تلك التي تم تأسيسها خلال القرن الـ19، والمدارس الأناركية لمرحلة ما بعد التقليدية؛ تلك التي تم تأسيسها منذ منتصف القرن 20 وما بعده.
وقد لاحظ عالم الاجتماع ديفيد جريبير أنَّه في حين أنَّ المدارس الماركسية الكبرى دائما لديها مؤسسين تنتسب إليهم (على سبيل المثال اللينينية، التروتسكية، الماوية....إلخ)، فالمدارس الأناركية التي“ظهرت في كل الحالات تنطلق تقريبا من مبدأ تنظيمي أو من شكل من أشكال الممارسة العملية، أو تصور للمجتمع اللاسلطوي المستهدف”، الأناركية النقابية، الأناركية التمردية والأناركية البرنامجية على سبيل المثال.
ولأن الأناركية تجسد العديد من المواقف المتنوعة، ومن المدارس الفكرية. على هذا النحو، فإنَّ الخلافات المتنازع عليها شائعة على نطاق واسع بين الأناركيين حول الكثير من القضايا والتكتيكات، مثل الملكية الخاصة والعنف.
تتعدد الدوافع عند الأناركيين عند تبنيهم الأناركية، مثل الحرية، والإنسانية، والسلطة الإلهية، والمصلحة الذاتية المستنيرة. ولذلك فظواهر مثل الحضارة والتكنولوجيا والعملية الديمقراطية قد انتقدت بشدة من بعض الميول الأناركية، وأشيد بها في نفس الوقت من ميول أخرى.
على المستوى العملي، في حين كانت الدعاية بالأفعال العنيفة تكتيكا استخدمه بعض الأناركيين في القرن الـ19، فإنَّ بعض الأناركيين المعاصرين يتبنون أساليب بديلة للعمل المباشر والدعاية بالأعمال اللا عنيفة، مثل الاقتصاديات المضادة المناهضة للدولة، ولرأس المال، وإنشاء مجتمعات أناركية مستقلة على هامش المجتمع الحالي. وحول نطاق المجتمع الأناركي المنشود، يدعم بعض الأناركيين عالما إنسانيا واحدا، عبر تنظيمات ونضالات عالمية، في حين يفعل الآخرون ذلك عن طريق جماعات ونضالات محلية في نطاق محلي. وأدى التنوع في الأناركية إلى استخدامات مختلفة لمصطلحات متطابقة على نطاق واسع عبر التقاليد الأناركية المختلفة، مما أدى إلى تحديد العديد من التعريفات المعنية بالنظرية الأناركية، والموضوعات ذات الاهتمام المتقاطعة والمتداخلة بين مختلف المدارس الفكرية، والمواضيع المحددة للنزاعات الداخلية دائما ما كانت مهمة ثابتة ضمن الإنتاج النظري الأناركي، وفي الحركة الأناركية العملية.
اللاحكم أو اللاسلطة:
اللاحكم أو اللاسلطة هي حالة مجتمع أو كيان أو مجموعة من الناس، لا تعرف التسلسل الهرمي وتدير شئونها بلاقيادة أو زعامة، ومن الناحية العملية، يمكن أنْ تقبل بعض مدارس الأناركية وهيَ المدارس الفردية غالبا تقليص الحكومة للحد الأدنى الضروري كدولة حارسة اتحادية لا مركزية إداريا، تنحصر مهامها في تحقيق الأمن خارجيا وداخليا، وتنفيذ القانون، والتمثيل الخارجي، والتنسيق بين مؤسسات المجتمع المدني المختلفة، كما تسعى مدارس الأناركية الأخرى، الاجتماعية غالبا، لإلغاءها الفوري، وهو ما لا يتصور حدوثه إلَّاعلى نطاق عالمي.
تناول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط حالة اللاسلطة بملاحظة عملية باعتبارها تتألف من “القانون والحرية دون قوة جبرية”. وبالتالي لا ترقى حالة اللاسلطة عند كانط، إلى كونها دولة مدنية حقيقية لأن القانون هو مجرد “توصية فارغة” إذا لم يتم تضمينه القوة الجبرية لجعل هذا القانون فعال ومؤثر. ولكيْ توجد مثل هذه الحالة، يجب أنْ تدرج القوة الجبرية حتى يتم الاحتفاظ بالقانون والحرية، وهي حالة الدولة التي يدعوها كانط بالجمهورية.
الأناركية في الواقع
عانت الأناركية باعتبارها حركة سياسية اجتماعية من التقلبات في درجة شعبيتها ونفوذها وانتشارها عبر تاريخها. وقد مثلت الأناركيات الاجتماعية دائما التيار المركزي الرئيسي للأناركية، باعتبارها حركات جماهيرية تسعى للتغيير الاجتماعي، أما الأناركيات الفردية المختلفة، فكانت ومازالت مجرد تيارات أدبية وفنية وفلسفية، هامشية محدودة النفوذ والتأثير، يتبناها غالبا بعض المنشغلين بتلك المجالات أو المهتمين بها، وهيَ محصورة أساسا في الاهتمام الأكاديمي والفلسفي والنخبوي والثقافي لبعض المثقفين، بعيدا عن الحركات الاجتماعية الساعية لتغيير العالم، حيث لم تحظ يوما الأناركيات الفردية بالجماهيرية التي حظت بها الأناركيات الاجتماعية، وكل ما فعلته هو أنَّ لها تأثيرا على بعض أفراد تلك التيارات الاجتماعية الجماهيرية الأكبر، حيث شاركوا أحيانا في المنظمات الأناركية الاجتماعية الكبيرة.
بدأ الليبراليون الجذريون مؤخرا في وصف أنفسهم كتحرريين Libertarianists باعتبارهم المدافعين الأكثر تطرفا عن الحريات الفردية، وأصبح من الضروري تمييز فلسفتهم الأناركية الفردية عن الأناركيات الاجتماعية، وهكذا، فغالبا ما يشار إليهم باسم التحرريين اليمينيين، أو ببساطة اليمين التحرري، في حين يصف الأناركيون الاجتماعيون أنفسهم بالاشتراكيين التحرريين، أو ببساطة، اليسار التحرري.
وقد أسس الأناركيون مجموعة واسعة من المجتمعات الأناركية المستقلة على هامش المجتمعات الكبيرة. في حين لا يوجد سوى عددٌ قليلٌ من الحالات “الأناركية”التي نشأت على المستوى الجماهيري الواسع في التاريخ المكتوب أثناء الثورات الكبرى، إلَّا أنَّ هناك أيضا أمثلة عديدة من المجتمعات المستقلة عن السلطات الحكومية التي أسس الأناركيون بعضها، وقد زالت بعد فترة من الزمن، ومازال بعضها مستمرا حتى الآن، وبعضها قيد التكوين على هامش المجتمع السلطوي. أما أمثلة المجتمع الجماهيري فهيَ: الأراضي الحرة (أوكرانيا، نوفمبر 1918-1921)، أناركية كاتالونيا (21 يوليو 1936 - مايو 1939)، منطقة شنمن المستقلة (1929-1932)، أما المجتمعات المستقلة فعلى سبيل المثال لا الحصر: المدينة الفاضلة، أوهايو (1847)، مستعمرة وايتواى (1898)، كومونة الحياة والعمل (1921)، المدينة الحرة كريستيانيا (26 سبتمبر 1971)، وهو حيٌّ دنماركي مستقل عن الضوابط الحكومية المحلية، ومرتفعات زوميا جنوب شرق آسيا خارج سيطرة الحكومات، زاباتيستا في اقليم تشيباس بالمكسيك (1 يناير 1994 - حتى الآن).
لا يتبنى الأناركيون مفهوم الاستيلاء على السلطة السياسية بأنفسهم كجماعة سياسية منفصلة عن الجماهير، باسم تلك الجماهير وتمثيلا لهم، محليا أو دوليا، وبناء نظامهم الاجتماعي من أعلى، الذي يستدعي بالضرورة استبدادهم السياسي، ولكنهم مع بناء الأناركية من أسفل، من أجل تحول جذري للمجتمع، إما بشكل ثوري أثناء الثورات الاجتماعية أو بشكل تدريجي أثناء الاستقرار الاجتماعي، وذلك ببناء أنوية لمجتمع المستقبل، من هامش وباطن المجتمع، تنمو تدريجيا لتؤدي لتقلص العلاقات السلطوية اجتماعيا، واستكشاف العلاقات والمؤسسات الأناركية في المجتمع ودعمها..ومن ثم يدعم الأناركيون مؤسسات وعلاقات أناركية موجودة عفويا وفعليا في الواقع ومحاولة تطويرها والمساعدة على إنشاءها وانتشارها، مثل الكوميونات المستقلة، والتعاونيات التحررية، ويدعمون توسيع الإدارة الذاتية الديمقراطية لمنشئات العمل والسكن والتعليم والمحليات.
صعوبة التعريف:
من غير المجدي البحث عن تعريف شامل مانع جامع للأناركية، إلَّا أننا يمكن أنْ نشير إلى ملمح مشترك يجمع بين كل الأناركيين هو العداء للدولة، التي يرى الأناركيون إما وجوب اختزالها إلى الدولة الحارسة أو اختفائها واستبدالها بشكل جديد من التنظيم الاجتماعي، والدولة ليست المكافئ للحكومة عمومًا، ولذلك فإنَّ بعض الأناركيين يؤكدون أنَّ هدفهم ليس مجتمعا بلا حكومة، ولكن مجتمعا بلا دولة، والدولة المقصودة هي سلطة أعلى من الفرد تستقل بالإدارة السياسية، وتحتكر استخدام القوة التي تبلورت بعد بروز الدولة القومية في أوروبا بعد صلح وستفاليا 1648 في فترة نشوء النهضة الأوروبية، وأسست لنفسها مكانًا كفاعل على الساحتين الداخلية والدولية.
أولى سمات الدولة الحديثة التي يعاديها الأناركيون هي احتكارها للسيادة على المجتمع وأفراده، أيْ أنها تدعي لنفسها كامل السلطة عليهم، واحتكارها لتعريف وتحديد حقوق وواجبات رعاياها.
ثاني هذه السمات هيَ أنَّ الدولة كيانٌ إلزاميٌّ قسريّ، بمعنى أنَّ كل فرد ولد في إقليمها الجغرافي مجبر عن غير إرادة أو رغبة منه على الاعتراف بالتزاماته تجاه الدولة التي تحكم هذا الإقليم، وممارسة الإنتماء إليها، والولاء لها، وضرورة إذعانه لقوانينها وطاعته لسلطاتها، وإلا ناله عقابها.
ثالث هذه السمات هيَ أنَّ الدولة تحتكر استخدام القوة والعنف في إقليمها، ولا تسمح بأيِّ مقاومة لعنفها مهما بلغ ظلمها، ولا بوجود منافس إلى جانبها.
رابع هذه السمات هيَ أنَّ الدولة كيانٌ متميز بمعنى أنَّ الأدوار والوظائف السيادية التي تقوم بها من دفاع خارجي وأمن داخلي وتطبيق للقوانين منفصلة عن الأدوار والوظائف الاجتماعية عمومًا.
ولكل هذا يرى الأناركيون عدم أحقية الدولة في الوجود ككيان مسلم به، ففي حين ينظر له البعض على أنَّه ضمان للسلام الاجتماعي للمواطنين، إلَّا أنَّ الأناركيين يرون أنَّه حمل معه منذ وجوده سلسلة من الشرور الاجتماعية، مثل الحروب والفساد والظلم الاجتماعي والانقسام الطبقي. وحتى نقرب مفهوم الأناركية للممارسة العملية، يمكن استبدالة بمفهوم التعاونيات واللجان الشعبية العفوية، التي تحل محل الدولة في أداء وظائفها وتقوم بمهامها، أو لجان الإدارة الذاتية للعمال في مواقع العمل، حيث أصبح من المعروف الآن أنَّ الدولة على وضعها الحالي قد فشلت في أداء مهمتها في توفير الحاجات الأساسية للمجتمع سواءا ماديا أو ثقافيا..إلخ، وأصبحت أداة قمع واستبداد ونهب تستخدمها أيُّ قلة من عصابات الأموال في نهب وتخريب مصالح الأغلبية.
ويعرض “برودون” باعتباره أحد أبرز منظري الأناركية أربعة اتهامات أساسية للدولة.
أولها: أنها كيان إكراهي يحد من حرية الناس ويقللها لما هو أدنى بكثير مما يحتاجه التعايش الاجتماعي بينهم، فهي تصدر قوانين مقيدة لهم لا لصالح المجتمع بل لحمايتها هيَ من المجتمع وأفراده.
ثانيها:أنَّ الدولة هي كيان تأديبي أو عقابي، فهيَ توقع عقوبات شديدة على هؤلاء الذين يخرقون قوانينها، سواء أكانت هذه القوانين عادلة أم لا. والأناركيون ليسوا بالضرورة ضد هذه العقوبات، ولكنهم ضد أشكال وأحجام العقوبات التي تصدر عن الدولة في مواجهة من يخرجون عليها.
ثالثها: أنَّ الدولة كيان استغلالي، فهي تستخدم قوتها في فرض الضرائب والتنظيم الاقتصادي؛ لتمويل الموارد من مراكز الثروة إلى خزانتها.
رابعها أنَّ الدولة هي تنظيم هدام؛ إذ تجند رعاياها أو مواطنيها في حروب سببها الوحيد حماية الدولة نفسها، وإقليمها وسيادتها، وبدلاً من أنْ تكون حافظة لحياتهم من حالة الفوضى كما يرى هوبز وأنصار الدولة، وينتهي الأمر بموت الفرد في سبيلها.
ولا يعد الأناركيون كل الوظائف التي تقوم بها الدولة غير ضرورية؛ فمن وجهة نظرهم فإنَّه من المستحيل أنْ تكسب الدولة شرعيتها بين الجماهير دون أنْ تقدم خدمات أو تقوم بمهام نافعة لهم، وإن لم يتفق الأناركيون على هذه المهام، إلَّا أنهم يقصرونها عادة في مساحتين: حماية الفرد ضد اعتداء الآخرين عليه، والتنسيق بين أعمال الإنتاج في المجتمع.
أما عن المجتمع المتصور لدى الأناركيين والبديل عن الدولة كما سبق تعريفها فهو ليس بدون تنظيم كليًّا، بمعنى أنَّه سوف توجد مؤسسات لتحقيق أهداف جماعية، ولكن تلك المؤسسات سوف تكون لها خصائص تختلف عن خصائص الدولة:
أولها: أنها لن تكون دولة جبرية أو سلطوية، متعالية ومنفصلة عن إرادة الخاضعين لها، بل تنشأ وتستمر وتزول وفق توافق هؤلاء الخاضعين والمنتمين لها، وسوف يحددون هم وظائفها ومهامها، ولن يسمح لها بتخطي دورها المحدد سلفًا.
ثانيًا: يصر الأناركيون أنْ يكون الانتماء لهذه المؤسسات اختياريًّا، وليس إجباريًّا، بمعنى أنَّ كل فرد تحكمه تلك المؤسسات يجب أنْ يوافق سلفًا على أنْ يحكم بها.
ثالثًا: أعجب بعض الأناركيين بفكرة وجود مؤسسات مختلفة تتعاون في مجال واحد، وفي الوقت نفسه تتنافس لاستمالة العاملين في ذلك المجال-أيْ ما يشبه الشبكات.
رابعا: يرى الأناركيون أنْ تدار هذه المؤسسات عن طريق الديمقراطية المباشرة، ويختلفون حول ما إذا كان يؤخذ برأيِ الأغلبية من أعضاءها، أم بما يتوافق عليه الجميع.
تختلف المدارس الفكرية الأناركية اختلافا كبيرا في استخدام بعض المصطلحات الأساسية. وكانت بعض هذه المصطلحات، مثل “الاشتراكية”، خضعت لتعريفات متعددة وللصراع الأيديولوجي طوال فترة تطوير الأناركية. بينما يستخدم مصطلح “الرأسمالية” بطرق مختلفة، ومتناقضة في كثير من الأحيان. وبالإضافة إلى ذلك، فمصطلحات مثل “تبادل المنافع والمصالح” تغيرت معانيها مع مرور الوقت، مما خلق مدارس جديدة. كل هذه الصعوبات في المصطلحات تساهم في سوء الفهم داخل وحول الأناركية.
والشغل الشاغل لتحديد تعريف مقبول هو ما إذا كان يتم تعريف مصطلح “أناركية”، بمعارضة التسلسل الهرمي والسلطة والدولة أو الدولة والرأسمالية. فالجدل حول معنى المصطلح ينبثق من حقيقة أنَّه يشير إلى موقف فلسفي تجريدي، والتقاليد الفكرية والسياسية والمؤسسية على حد سواء، والتي كانت محفوفة بالصراع. في الحد الأدنى، فهناك تعريفات مجردة تشجع على إدراج الشخصيات البارزة والحركات والمواقف الفلسفية التي وضعوا تاريخيا أنفسهم خارجها، أو حتى في المعارضة لها إلى الأفراد والتقاليد التي تصنف نفسها بأنها “أناركية”.
يعتبر معظم الأناركيين مناهضة الرأسمالية عنصرا ضروريا في الأناركية، في حين أنَّ الأناركيين الرأسماليين يختلفون مع ذلك بالطبع. وينشأ الصراع بين الفريقين من مزيج من اختلافات حقيقية في الرأي حول مزايا اقتصاديات السوق، وتعريفات مختلفة حول “الرأسمالية”، وطبيعة “الحوافز”.
نقد الأناركية:
الانتقادات الموجهة ضد الأناركية تشمل انتقادات أخلاقية وانتقادات واقعية. وغالبا ما يتم تقييم الأناركية على انها فكرة جميلة لكن غير مجدية، وغير ممكنة، كما لو كانت المدينة الفاضلة التي كتب عنها بعض الحالمين الرافضين للواقع. فهناك من يرون بأن الأناركية الاجتماعية غير واقعية، وأن الحكومة هيَ“أهون الشرين” من وجود المجتمع دون “القوة القمعية. “ ويقولون إنَّ“ فكرة أنَّ النوايا السيئة سوف تتوقف إذا اختفت القوة القمعية مجرد عبثية”.
وللرد على ذلك فلابد من توضيح أصل الأخلاق وتطورها الذي يعفي الناس من المسئولية ليلقيها على المستفيدين من النظام الاجتماعي وحماته. الذين يدعون لذلك بوجود طبيعة بشرية ثابتة ونهائية ومطلقة تتسم بكونها أنانية وتنافسية وشريرة مما يستوجب قمعها بواسطة سلطة تضع القوانين وتنفذها، لمنع تأثير تلك الطبيعة الشريرة التي تسبب الحروب والصراعات بين الناس. في حين أنَّ الدولة بذات نفسها تنظم الجريمة وتديرها، وتمثل فقط أنَّها تحاربها في نفس الوقت، فالدولة تصنع الجريمة والحروب والصراعات، وتخلق ظروف نشوئها، وترعاها وتحرص على استمرارها لتبرر وجودها وامتيازاتها..وتلك قاعدة عامة تخص الدولة في حد ذاتها وبذاتها ولذاتها.
ولكن الحقيقة العلمية هيَ أنَّ السلوك والفكر البشريين عموما هما نتيجة مجموعة من العوامل المادية القسرية المنفصلة عن إرادة الناس، ومن ثم لا يصلح لتعديلهما الوعظ والإرشاد الديني أو غير الديني، ولا يمكن تقويمهما بالعقاب البدني ولا السجون..وإن كانا يشكلان مسكنات نسبية تخفف شكليا وظاهريا ومؤقتا من حدة تأثير العوامل المادية وهيَ:
أولا: الجينات الوراثية والمواد الكيميائية التي يتناولها الإنسان من البيئة الطبيعية المحيطة به أو يخرجها لها، والإفرازات الداخلية للجسم من هرمونات وإنزيمات ..إلخ، والنشاط الكهروكيميائى في المخ الذي يتأثر بتلك المواد ومؤثرات البيئة المحيطة.
ثانيا: الميمات الثقافية التي تشمل كل ما يتلاقاه البشر من قيم وعقائد وسلوكيات ومعارف عبر مؤسسات المجتمع المختلفة...الأسرة والتعليم والإعلام والدين والفن، والذي يؤثر في المجتمع وأفراده بما تلقاه عنه وبُرمج به.
ثالثا:والأهم والأكثر تأثيرا هيَ العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وفي جوهرها الطريقة التي يلبي بها الناس احتياجاتهم المادية المختلفة، فالناس لا يمكن أنْ تفكر أو تنتج شعرا أو فلسفة أو علما قبل أنْ تملأ المعدة بالطعام، ومن ثم فالكيفية التي يحصلون بها على طعامهم تحدد نوعية أفكارهم وسلوكهم. ومن ثم فلا أمل في تغيير سلوكيات الناس وأفكارهم إلَّا بتغيير علاقتهم بالطبيعة، وعلاقتهم فيما بينهم حين ينتجون ويستهلكون احتياجتهم المختلفة، أما الوعظ والعقاب فهما إهدار للطاقة والوقت بلا جدوى، وإشغال المحكومين عن سر تدهورهم ومعاناتهم في الحياة، فليسوا في حد ذاتهم سيئين أو جيدين، أشرار أو أخيار، أغبياء أو أذكياء؛ ليس لهم طبيعة ثابتة لا يمكن تغييرها....لكنها الظروف الواقعية والمادية المؤثرة فيهم هيَ التي تشكلهم كيْ يضمنوا الطعام وسائر الاحتياجات من أجل دافعهم الأكبر البقاء أحياء.