أم كلثوم، المُفعَمةُ حُباً..
عاطف سليمان*
منذ قرن وربع من الزمان، سرت في الديار المصرية رياحٌ رخيَّة سمحت،مثلاً، بنشوء وقيام طفلٍ ريفي فقير وأعمى مثل طه حسين ليترقَّى الرُّقيَّ، ويغدو علامةً، على الرغم من ظروفه المناوِئة المتكاثرة، وباركت كذلك طلوعَ طفلةٍ فقيرة ريفية مثل أم كلثوم لتفقسَ من بيضتها، وتغدو مُطربة الأسماع وفاتنة الأفئدة والوجدانات، وقد توفَّر حولها السياقُ الذي التقطها من ظروفها المناوئة المتكاثرة أيضاً، ودشَّن ظهورها وائتلاقها واستمرارها في الائتلاق والازدهار. وبالنسبة إلى أم كلثوم، فقد كانت الديار المصرية عامرةً بمثل ذلك السياق المتشعِّب الموالي الذي استلزمَ وجودَ المتنوِّرين المنتبِّهين إلى الموهوبين والعباقرة، مثلما استوجب وجود رُعاةٍ نُزهاءٍ للغناء والطرب، ومعهم أجود الملحنين والعازفين والمنشدين والكاتبين، وقبلهم وبعدهم السامعين المنصتين بمعرفة. ولم تكن طريقُ الطالعين سهلةً بالطبع، بل شديدة الوعورة، غير أنها لم تكن موصدة بفظاظة.
وفي سنة 1969، سنة الاحتفال بألفية مدينة القاهرة، صدر كتابُ «أم كلثوم التي لا يعرفها أحد»، وكان مؤلفُه، “محمود عوض”، آنذاك كاتباً شاباً، وكنتُ طفلاً يبحث عمَّا يصلح للقراءة، واجتذبتني لوحةُ الغلاف من دون أن يهمَّني جهلي بجهلي بكونها من أعمال مصطفى حسين، وكذلك اجتذبني اسمُ أم كلثوم المكتوب على الغلاف، وكان لأغنياتها وجودٌ وأُنسٌ في الأجواء المحيطة بي وقتذاك بواسطة راديو ﭬـليبس ذي طراز عتيق مستتب على رف خشبي، ولعل الأسلوب الصحفي البسيط لهذا الكتاب هو ما ساعدني على إتمام قراءته. ولقد نسيتُ مع مرور الزمن هذا الكتاب، وقرأت كتباً أخرى غيره، لكن بقيت عبارةٌ منه لا تنمحي من خاطري، هي استشهادٌ أورده المؤلفُ منسوباً إلى “كونفوشيوس”، ولستُ أدري إنْ كان النسبُ صحيحاً، إلا أنَّ تلك العبارة كانت قد أعجبتني، ولا زالت تعجبني أكثر: «لا يهمني من يضع للناس شرائعهم ما دمتُ أنا الذي أضع لهم أغانيهم».
ومثل كونفوشيوس وضعت أمُّ كلثوم للناس أغانيهم، على مدى عقود، فأمَّنت لهم في حيواتهم طاقةً من النور والرُّقي وأبقت عليها، بصرف النظر عن الأوضاع الأخرى لمعيشتهم، حتى أُزيحت أم كلثوم وقد أبغضها الحاكمُ المصري واصطنع مطربةً أخرى لتحل محلها، وشُتمت أم كلثوم في خُطب بعض الدعاة، وتكوَّن قطاعٌ من الناس يشتري بنقوده شرائطَ التسجيل التي تسبُّها وتسخر منها، وسرعان ما طغى تيارٌ من القبح والتفاهة والسخف على أحوال الغناء المصري فالعربي، ثم تفاقم القبحُ واتسعَ وتراكمَ.
* * *
لكل امرئٍ أم كلثومه، وأنا أحبُّ أم كلثوم في عصورها الماسية والزبرجدية والزمردية والذهبية والسندسية، في عشرينات القرن العشرين ثم في ثلاثيناته وأربعيناته وخمسيناته وستيناته. أحب حفلات أم كلثوم تلك التي أُحيِّيَت على مسرح حديقة الأزبكية، فأصواتُ الخلفية في تسجيلات أغانيها من هناك بهيجٌة، مفتوحة على السماء، تندُّ منها نسائمُ مساءاتِ مدينة القاهرة في أواسط القرن العشرين، وما إن يترادف غناءُ أم كلثوم ومسرح حديقة الأزبكية حتى ينطوي الأمرُ على توقعاتٍ حقيقية لكنها تماثل ما يمكن أن يأتي به الخيالُ من سحر ألف ليلة وليلة، وحتى هواء الميكروفون في تسجيلات تلك الحفلات كان كأنه نعيمٌ فيه ما فيه من مسراتٍ وشجون وانبساطاتٍ ووعود وهوى. يلي ذلك، في خاطري، حفلاتُها المذاعةُ من قاعة دار سينما قصر النيل، ويبدو أن أم كلثوم كانت قد أمِنت وانسجمت واستراحت لهذه القاعة ووثقت بفضائها وجنباتها وامتلاءاتها فدانت لها السلطنةُ تطيعها في أبهائها، ولعلعَ صوتُها ورَقَّ.
* * *
واعدتني أمُّ كلثوم باللقاء مساءً في مسرح حديقة الأزبكية، في تمام الساعة الثامنة.
دخلتُ قبل الموعد بربع ساعة، مرتدياً بدلة سوداء كمُنت فيها رائحةُ عنبر قديم، والتقتني أم كلثوم باسمةً وهي تهشُّ وتبشُّ، وقالت لي إن الفرقة الموسيقية موجودةٌ بتمامها على المسرح، وإنها أعدت حفلاً كاملاً لأجلي وحدي، وإنها ستغني من أغنياتها أغنيةً واحدة قصيرة هي «على بلد المحبوب ودِّيني»، أمَّا أغنيات الحفل الأخرى فستكون متتاليةً من أغنيات فيروز!
من بعيدٍ تناهت إلينا نغماتٌ متداخلة، تتأتى من الآلات الموسيقية بينما يضبطها ويدوْزنها الموسيقيون، وكانت تتخالط كإنشاءٍ عشوائيٍّ لكنه رشيدٌ في الوقت نفسه، يماثلُ انبثاقَ الحياةِ الأولى، القديمة، ويناظرها. فقلتُ إني دائماً أحبُّ مثل هذه النغمات المتكسِّرة، الشبيهة بصفحة مسودَّة الكتابة، قُبيل انطلاق اللحن المضبوط، فأومأت لي موافقةً، وأخبرتني بأن هذه الدوْزنات تنعشها وتُطرِبُها وتثير فيها الحبورَ وأنها طال ما ألهمتها، أثناء التدريبات على كل أغنيةٍ جديدة، بالارتجالات التي تطعِّم بها غناءَها للألحان الأصلية.
غنَّت ما عنَّ لها، وكُنَّا تحت سماءٍ بديعة تطلعُ أقمارُها وتنزلُ. ولـمَّا اختتمت وصلاتِها قالت ضاحكةً، قبل حتى أن تشربَ كوبَ الماء:
– شُفتْ!
– لن يصدِّقني أحدٌ إنْ حكيتُ، وحتى أنا أكاد لا أصدِّق نفسي.
هنَّأتُها على حُسن وفرادة إبداعها وهنَّأتُ نفسي بلُقياها، فأخذتني لتقديم التحية والشكر والتهنئة لأفراد فرقتها الموسيقية، وأخبرتني بأنها لا تظن أبداً بكونها أفضل مطربة، إلا أن لا أحدَ يستمتع مثلها وهي تغني، وقالت إنها في صمتها تغني في سريرتها وإنها على استعداد للوقوف والغناء بلا توقُّف حتى يُغشى عليها، وإنها تفرح بنجاحها وقبول الناس لها ولأغانيها، ولكنها في الوقت نفسه تستاءُ من كل نجاحٍ يحدث لها لأنه يرتد من تلقائه فيكون بمثابة إحباط للمطربات الأخريات، وإنها تتمنى لو أنها كانت تعمل في مجال لا منافسة فيه على الإطلاق.
عُدتُّ إلى بيتي، وبينما أنا أخلع جاكتة بدلتي شعرتُ بشيء صغير في أحد جيبيْها، فأخرجتُه، وكان ذاك هو النجمة المتألقة في وِسام كمالها.
* * *
سوَّت أمُّ كلثوم الكلماتِ والألحانَ التي غنتها بطابعها. لم تنعوِج أو تندغم أو تُظلَم في فمِها أيةُ كلمة، ولا شك أنها كانت تضيف إلى الألحان آفاقاً يقدر صوتُها على الوصول إليها والوفاء بها، بينما لم يكن بمقدور الملحنين، حتى النابهين الممتازين منهم والعارفين، الوصولَ إلى تلك الآفاق ولو بخيالهم، فكانت هي تحترم لحنَ الملحِّن من دون أنْ تعتبره منتهاها وغايةَ وصولها، وتُـحليه بتنقيحاتها، وتُـهيِّئه للصدْح والشدْو والإطراب. وفي المواضع الغنائية التي كانت تنهزم فيها أم كلثوم لم يكن ذلك، حسبما أظنُّ، بجريرة الألحان – ما عدا أغنية أنت الحب – بل بسبب ركاكة التعبيرات بما تنطوي عليه من تثبيطٍ للإبداع، ذلك أن أم كلثوم، وهي الغنَّاءة، كان بمقدورها دائماً إنقاذ وإنعاش الألحان في المواضع الضعيفة، لكن ما من حيلةٍ إزاء غلاظة النص وفجاجة التعبيرات ورثاثة المعاني وانعدام الشعر فيها.
من بين الذين اصطُلِح على تسميتهم بـ”الشعراء الغنائيين” يُوجد اثنان، هما “عبد الوهاب محمد” وزميله “سيد مرسي”، يستحقان الدراسة لأنهما قاما – في وقت مبكر نسبياً – بتسريب قدرٍ باهظٍ من المعاني والمفاهيم العاطفية ذات الرداءة إلى الأغنيات التي كتباها. وللأسف نالت أم كلثوم نصيباً كبيراً من نتاجات عبد الوهاب محمد، وإنْ كانت لها معه أغنية جميلة جداً بالفعل هي قوم بإيمان (1967)، ومجموعة أغنيات أخرى لا بأس بكلماتها ومعانيها هي تحويل النيل (1965)، فكروني (1966)، حكم علينا الهوى (1973)، أمَّا مجموعة الأغنيات الأخرى فكانت، ظاهرياً، مثلها مثل نبات “ورد النيل” الطافي، تبدو مقبولةً، لكنها بالفعل مكررة ومكدسة بالمعاني السَّامة والخنَّاقة التي من شأنها أن تنخر في أرواح العشاق والمحبين، إذْ اعتبرت دائماً علاقةَ الحب ساحةَ عراك وثأر وانتقام وبُغض ومقت وكراهية واستنزال اللعن، وهذه الأغنيات هي حب إيه؟ (1960)، حاسيبك للزمن (1962)، أنا وأنت ظلمنا الحب (1963)، للصبر حدود (1964)، اسأل روحك (1970). وقد تدفقت “منتجاتُ” عبد الوهاب محمد إلى مطربات أخريات، والعديد منها على شاكلة ومنوال كلمات “حأسيبك للزمن”، وهاك فقط طائفة من عناوين أغنياته، “قال جاني بعد يومين”، “قال إيه بيسألوني”، “عايزة معجزة”، “إيش جاب لجاب”، “علمناه الحب”، وأظن أن هذا النوع من التغذية، التي دخلت تسريباً إلى وجدان الشعب المصري والشعوب العربية الأخرى أيضاً، عن طريق الأغاني، قد سبَّبت أضراراً بالغة وباقية بالأرواح والأفئدة. وهناك أيضاً “أحمد شفيق كامل” الذي يصعبُ على المرء أن يفهم كيف قبلت أمُّ كلثوم أن تغني الكلماتِ المتهالكة التي وضعها وأسماها الحب كله، تلك الكلمات التي أثلمت معها – بفقرها وضَعفها ومجانيتها – حتى قريحة بليغ حمدي المتوهجة، كما أن هذا المؤلف لم يرحم أمَّ كلثوم من المعاناة مع “حرف السين الساكن” في كلمة “بسْ” وكذلك في كلمة “حَسْ”، وهو ما أظهر تقدمَها في السن إذْ راحت الكلمةُ تخرج من فمها كالصفير.
لو كانت لي أمنيات شخصية، بأثرٍ رجعي، فستتلخص في أن تغني أم كلثوم عدة أغنيات من ألحان فريد الأطرش، وأن تغني المزيدَ من أعمال طاهر أبي فاشا ومرسي جميل عزيز وصلاح جاهين، وأن تجد طريقة للتراجع عن عبد الوهاب محمد وأحمد شفيق كامل، وأن تغني من كلمات مجدي نجيب وعلي مهدي، وأن تجد طريقة أيضاً للتقليل من كمية ألحان محمد عبد الوهاب. وبالطبع أتمنى لو أن أم كلثوم كانت قد خصصت فقرةً دائمة في حفلاتها لإعادة غناء أغنياتها وأدوارها القديمة التي ليست لها تسجيلات وكذلك تلك التي سُجِّلت فقط على أسطوانات أو نال منها سوءُ الحفظ. وأخيراً أتمنى لو أن ساحراً كان قد يسَّر اللقاءَ حتى تغني أم كلثوم من كلمات وألحان الرحبانية.
أبدأ جولتي، المختارة المقتضبة، بأغنية الأولة في الغرام وقد بدت لي فيها أمُّ كلثوم مُتمكِّنةً من تمثُّلِ واستعادةِ لَوعةِ وشجنِ إيزيس (إيزه، بالأحرى) وهي تنوحُ على زوجها وأخيها أوزوريس (أوزير)، وكانت أم كلثوم تشدو من مَبكاها، فتنفطرُ وتنوحُ بإيلامٍ إنما بغير كآبة. في أغنية غُلبت أصالح في روحي أتى صوت أم كلثوم في تمام وضوحه وحُسنه، وهي تشدو به في مقام شجنٍ، بلا مرارة، بل ببهجةٍ وحلاوة، وكانت تفلحُ أثناء شدوها في المروق من الأكدار وفي مغالبة غُلْبِها، وتنجح في مصالحة روحها على الحبيب، وتستأنف معه الحبَّ، الذي هو الحب. تترافعُ أغنية رق الحبيب عن الوصال وتعزِّزه بالبهاء الذي لا يـخفت ولا يتقادم، وإني لَأشعر بالحنو على هذه الأغنية وأستبقي الاستماعَ إليها حتى يفيض اشتياقي لَكأني أخشى عليها من كثرة الاستهلاك! أغنية جددت حبك ليه هي فريدة لا مثيل لها، وكانت أم كلثوم تغنيها طروباً، نشوانةً وهائمةً، مبتهجةً ومنسابة، فهي تغنيها غناءً لم تُسبَق إليه، تغنيها أغنيةً لا شبع منها ولا اكتفاء، وهذه الأغنية لها في وجداني شقيقة هي أغنية دليلي احتار، التي تغترف من الصراط نفسه وتنهل من الهيام نفسه لكنما بطيفٍ أدنى ومقامٍ أبعد. اذكريني، لي بشأنها مطلب شخصي من أحمد رامي، كاتب كلماتها، هو أن يعيد النظرَ في “ضمير الوصل” (ياء المخاطبة) بمقطوعته الجميلة التي غنتها أم كلثوم، وبدا الأمر كما لو أن امرأة تغازل أو تناجي امرأة ثانية، فأدى ذلك إلى عدم استساغة هذه الأغنية الفاتنة، وأوقعَ ظلماً كبيراً عليها، وأظن أنه كان من الأفضل أن يعدل ذلك الضمير، مثلما هو الحال في أغنية “جددت حبك ليه”. أغارُ من نسمة الجنوب قريبة الصلة في كلماتها وأجوائها من اذكريني. لا لغو في أغنية عودت عيني، فهي الصفاء الكلثومي بلا نبرة شاكية واحدة، وهي القُدَّاس الذي رفعه معها أحمد رامي ورياض السنباطي إلى علياءٍ، وقد صرتُ منذ زمن بعيد أتفاءل حين أسمعُ هذه الأغنية مُذاعةً من الراديو، بعد أن لاحظتُ أنها لم تصادفني، ولو لمرةٍ واحدة، إلا وأنا في مَسرة، وعلى ذلك تعمدتُ ألَّا أتدخل فأختارها أو أشغِّلها بنفسي، إنما ظللت أدعها فحسب للمصادفات السعيدة، وهذه الأغنية – بمعانيها – هي مثال النقيض التام للغثاثات التي قدمها عبد الوهاب محمد لصوت أم كلثوم. يا ظالمني، عتابات وشكايات، لكنما بلا نبرة جفاء ولا أنين ولا تشرُّخات، بل بفيض الدلال والصفو والوئام وغبطة الحب، الذي هو في سلامِهِ، بلا ثأرات ولا جراحات ولا انتقامات ولا ضغائن. رباعيات الخيَّام، ما إن تبدأ غناءَ هذه الأغنية حتى يحلُّ قبسٌ من الرشاد في أنفاسها وفي حنجرتها، وتتجاوز فيها أمُّ كلثوم معرفةَ ألفاظَ وكلماتِ اللغة إلى ابتكارها أصلاً مع مَن ابتكرها في سالف العصور، وهي تتذوَّق أصولَ الكلمات كنغماتٍ موسيقية، وكأنها تدخل إلى جوف الكلمة لتعودَ فتخبر بما تذوقت وأحسَّت، ولَكأنها قد أوجدت كلمةَ «الرضاب» من العدم ونطقتها فأوفت بها وأمتعت وأسكرت، وحتى لو كانت كلمةً مألوفةً منذ حِقبٍ وأحقاب، فإنها أوجدتها – يقيناً – وأطلقت معانيها في أفئدة مستمعيها. وإنها لَكذلك تجلبُ كلمةَ «أضواني» من الخفاء، وتنطقها وتغنيها في قصيدة أبي فراس الحمداني أراكَ عصيّ الدمع فتشرقُ معها الكلمةُ من غيْبِها، وتتماثل أم كلثوم إلى السحر الكامن بين الكلمات وهي تغني «ويُسألُ في الحوادثِ ذو صوابٍ، فهل تركَ الجمالُ له صوابا» في قصيدة أحمد شوقي سَلوا قلبي، وهي تهدي مستمعيها كلمةَ «تُغدِقُ» مملوءةً ونقيَّةً في قصيدة شوقي أيضاً النيل، وكلمةَ «الهدى» في قصيدة ثالثة لأحمد شوقي وُلِدَ الهدى. عمود أغنيات أم كلثوم هي الأطلال، وفيها أحرزت أم كلثوم الأعالي التي رفرفت فيها بكلمة «سُكارى» محتشدةً بالنشوات، وبها رُدَّت الهيبةُ والطلاوة وأُعيد البهاءُ والانسجام والسموق إلى الغناء الكلثومي بعد أن طاله الوهنُ والانطفاءُ بل الإهانةُ خاصةً مع أغنية مثل أنت الحب، وبعد أن نالته العاديةُ مع أغنياتٍ عديدة مثل حب إيه وألف ليلة وليلة واسأل روحك. أمَّا قصة الأمس فهي أغنية الأطلال الثانية، من شِعر أحمد فتحي، بعد أطلال إبراهيم ناجي، وهي المرثية الشجية التي قدمتها أم كلثوم للحب الضائع ولكل حبٍ مُنتهٍ، وتعبيراتها النقيَّة الودود تصلح للمناقضة مع التعبيرات الفجة المريضة العدائية التي كتبها عبد الوهاب محمد في حاسيبك للزمن. وقد ضبطت نفسي وأنا أتحاشى أو أتملَّص دائماً من الإنصات إلى أغنية حكم علينا الهوى، أغنيتها الأخيرة التي سجلتها في الاستديو لجمهورها. بدت لي هذه الأغنية، دوماً، كأنها انكسار أو بالأحرى كأنها عدمٌ، محض عدم، وكنتُ أتخيل أم كلثوم مرتديةً نظارتها الشمسية السوداء وهي تغنيها. لقد قرَّ قراري إذاً على أنها كان يجدر بها ألَّا تغنيها. وذات مساء استمعت بالصدفة إلى هذه الأغنية من بدايتها، من دون أن أعرقلها أو أضع سدودي في طريقها، فانطلقت أم كلثوم لتعطيني ما اعتادت على إعطائه لي في كل عصورها منذ صِباها؛ مُتع متنوعة مبثوثة في أثيرها العذب الفريد. حبيبي يسعد أوقاته، يا ليلة العيد، على بلد المحبوب، أروح لمين، سَلوا قلبي، سَلوا كؤوس الطلا، هُّوَّا صحيح الهوا غلَّاب، الحب كده، أنا ف انتظارك، أهل الهوى، الأمل، شمس الأصيل، هذه ليلتي، حُلم، ليلي ونهاري. إنها مئات وآلاف بل عشرات آلاف الساعات التي امتلأت بغناء أم كلثوم، وكل مرةً كانت تُعيدُ فيها غناءَ أغنيةٍ سابقة كانت الإعادات دائماً بمثابة أغنياتٍ جديدة. وأختتم جولتي بالمقطع الأخير العزيز من أغنية أقبل الليل، هذا الصدْح الإشراقي الذي يدفقُ في الزمن نقراتٍ تخلب القلبَ بالطرب والنشوة والفرح والتحقق والخفة، وبالامتلاء.
* * *
على أرض مصر استقرت “حتحورُ” أصلاً للأمومة، وراعيةً للموسيقى والرقص وكل ما يبهج النفوس في حياة المصري القديم، وكانت تتنقل في نهر النيل بمركبتها المسماة “المفعمة حُبّاً”. انطوت الأزمانُ، وحلَّت أمُّ كلثوم سليلةً للأم الكونية حتحور، بل أيضاً وريثةً لمركبتها المفعمة حباً، و«يا نيل، أنا واللي أحبه، نشبهك في صفاك»، ومثلما كان لدى حتحور موعدها السنوي لتلتقي حبيبها وزوجها “حورس” ولتُزَف إليه سنةً بعد سنة، على مدى أزمانٍ بلا أولٍ ولا آخِرٍ، فقد كانت لأم كلثوم دائماً مواعيد شهرية تطل فيها على الناس وتغني، ولطالما انتظر الناسُ باشتياقٍ طلعةَ مُحياها ليتهلَّلوا ويتنعَّموا ويبتهجوا، وإنهم لَمنتظرون لا يزالون.
*كاتب وناقد مصري
وفي سنة 1969، سنة الاحتفال بألفية مدينة القاهرة، صدر كتابُ «أم كلثوم التي لا يعرفها أحد»، وكان مؤلفُه، “محمود عوض”، آنذاك كاتباً شاباً، وكنتُ طفلاً يبحث عمَّا يصلح للقراءة، واجتذبتني لوحةُ الغلاف من دون أن يهمَّني جهلي بجهلي بكونها من أعمال مصطفى حسين، وكذلك اجتذبني اسمُ أم كلثوم المكتوب على الغلاف، وكان لأغنياتها وجودٌ وأُنسٌ في الأجواء المحيطة بي وقتذاك بواسطة راديو ﭬـليبس ذي طراز عتيق مستتب على رف خشبي، ولعل الأسلوب الصحفي البسيط لهذا الكتاب هو ما ساعدني على إتمام قراءته. ولقد نسيتُ مع مرور الزمن هذا الكتاب، وقرأت كتباً أخرى غيره، لكن بقيت عبارةٌ منه لا تنمحي من خاطري، هي استشهادٌ أورده المؤلفُ منسوباً إلى “كونفوشيوس”، ولستُ أدري إنْ كان النسبُ صحيحاً، إلا أنَّ تلك العبارة كانت قد أعجبتني، ولا زالت تعجبني أكثر: «لا يهمني من يضع للناس شرائعهم ما دمتُ أنا الذي أضع لهم أغانيهم».
ومثل كونفوشيوس وضعت أمُّ كلثوم للناس أغانيهم، على مدى عقود، فأمَّنت لهم في حيواتهم طاقةً من النور والرُّقي وأبقت عليها، بصرف النظر عن الأوضاع الأخرى لمعيشتهم، حتى أُزيحت أم كلثوم وقد أبغضها الحاكمُ المصري واصطنع مطربةً أخرى لتحل محلها، وشُتمت أم كلثوم في خُطب بعض الدعاة، وتكوَّن قطاعٌ من الناس يشتري بنقوده شرائطَ التسجيل التي تسبُّها وتسخر منها، وسرعان ما طغى تيارٌ من القبح والتفاهة والسخف على أحوال الغناء المصري فالعربي، ثم تفاقم القبحُ واتسعَ وتراكمَ.
* * *
لكل امرئٍ أم كلثومه، وأنا أحبُّ أم كلثوم في عصورها الماسية والزبرجدية والزمردية والذهبية والسندسية، في عشرينات القرن العشرين ثم في ثلاثيناته وأربعيناته وخمسيناته وستيناته. أحب حفلات أم كلثوم تلك التي أُحيِّيَت على مسرح حديقة الأزبكية، فأصواتُ الخلفية في تسجيلات أغانيها من هناك بهيجٌة، مفتوحة على السماء، تندُّ منها نسائمُ مساءاتِ مدينة القاهرة في أواسط القرن العشرين، وما إن يترادف غناءُ أم كلثوم ومسرح حديقة الأزبكية حتى ينطوي الأمرُ على توقعاتٍ حقيقية لكنها تماثل ما يمكن أن يأتي به الخيالُ من سحر ألف ليلة وليلة، وحتى هواء الميكروفون في تسجيلات تلك الحفلات كان كأنه نعيمٌ فيه ما فيه من مسراتٍ وشجون وانبساطاتٍ ووعود وهوى. يلي ذلك، في خاطري، حفلاتُها المذاعةُ من قاعة دار سينما قصر النيل، ويبدو أن أم كلثوم كانت قد أمِنت وانسجمت واستراحت لهذه القاعة ووثقت بفضائها وجنباتها وامتلاءاتها فدانت لها السلطنةُ تطيعها في أبهائها، ولعلعَ صوتُها ورَقَّ.
* * *
واعدتني أمُّ كلثوم باللقاء مساءً في مسرح حديقة الأزبكية، في تمام الساعة الثامنة.
دخلتُ قبل الموعد بربع ساعة، مرتدياً بدلة سوداء كمُنت فيها رائحةُ عنبر قديم، والتقتني أم كلثوم باسمةً وهي تهشُّ وتبشُّ، وقالت لي إن الفرقة الموسيقية موجودةٌ بتمامها على المسرح، وإنها أعدت حفلاً كاملاً لأجلي وحدي، وإنها ستغني من أغنياتها أغنيةً واحدة قصيرة هي «على بلد المحبوب ودِّيني»، أمَّا أغنيات الحفل الأخرى فستكون متتاليةً من أغنيات فيروز!
من بعيدٍ تناهت إلينا نغماتٌ متداخلة، تتأتى من الآلات الموسيقية بينما يضبطها ويدوْزنها الموسيقيون، وكانت تتخالط كإنشاءٍ عشوائيٍّ لكنه رشيدٌ في الوقت نفسه، يماثلُ انبثاقَ الحياةِ الأولى، القديمة، ويناظرها. فقلتُ إني دائماً أحبُّ مثل هذه النغمات المتكسِّرة، الشبيهة بصفحة مسودَّة الكتابة، قُبيل انطلاق اللحن المضبوط، فأومأت لي موافقةً، وأخبرتني بأن هذه الدوْزنات تنعشها وتُطرِبُها وتثير فيها الحبورَ وأنها طال ما ألهمتها، أثناء التدريبات على كل أغنيةٍ جديدة، بالارتجالات التي تطعِّم بها غناءَها للألحان الأصلية.
غنَّت ما عنَّ لها، وكُنَّا تحت سماءٍ بديعة تطلعُ أقمارُها وتنزلُ. ولـمَّا اختتمت وصلاتِها قالت ضاحكةً، قبل حتى أن تشربَ كوبَ الماء:
– شُفتْ!
– لن يصدِّقني أحدٌ إنْ حكيتُ، وحتى أنا أكاد لا أصدِّق نفسي.
هنَّأتُها على حُسن وفرادة إبداعها وهنَّأتُ نفسي بلُقياها، فأخذتني لتقديم التحية والشكر والتهنئة لأفراد فرقتها الموسيقية، وأخبرتني بأنها لا تظن أبداً بكونها أفضل مطربة، إلا أن لا أحدَ يستمتع مثلها وهي تغني، وقالت إنها في صمتها تغني في سريرتها وإنها على استعداد للوقوف والغناء بلا توقُّف حتى يُغشى عليها، وإنها تفرح بنجاحها وقبول الناس لها ولأغانيها، ولكنها في الوقت نفسه تستاءُ من كل نجاحٍ يحدث لها لأنه يرتد من تلقائه فيكون بمثابة إحباط للمطربات الأخريات، وإنها تتمنى لو أنها كانت تعمل في مجال لا منافسة فيه على الإطلاق.
عُدتُّ إلى بيتي، وبينما أنا أخلع جاكتة بدلتي شعرتُ بشيء صغير في أحد جيبيْها، فأخرجتُه، وكان ذاك هو النجمة المتألقة في وِسام كمالها.
* * *
سوَّت أمُّ كلثوم الكلماتِ والألحانَ التي غنتها بطابعها. لم تنعوِج أو تندغم أو تُظلَم في فمِها أيةُ كلمة، ولا شك أنها كانت تضيف إلى الألحان آفاقاً يقدر صوتُها على الوصول إليها والوفاء بها، بينما لم يكن بمقدور الملحنين، حتى النابهين الممتازين منهم والعارفين، الوصولَ إلى تلك الآفاق ولو بخيالهم، فكانت هي تحترم لحنَ الملحِّن من دون أنْ تعتبره منتهاها وغايةَ وصولها، وتُـحليه بتنقيحاتها، وتُـهيِّئه للصدْح والشدْو والإطراب. وفي المواضع الغنائية التي كانت تنهزم فيها أم كلثوم لم يكن ذلك، حسبما أظنُّ، بجريرة الألحان – ما عدا أغنية أنت الحب – بل بسبب ركاكة التعبيرات بما تنطوي عليه من تثبيطٍ للإبداع، ذلك أن أم كلثوم، وهي الغنَّاءة، كان بمقدورها دائماً إنقاذ وإنعاش الألحان في المواضع الضعيفة، لكن ما من حيلةٍ إزاء غلاظة النص وفجاجة التعبيرات ورثاثة المعاني وانعدام الشعر فيها.
من بين الذين اصطُلِح على تسميتهم بـ”الشعراء الغنائيين” يُوجد اثنان، هما “عبد الوهاب محمد” وزميله “سيد مرسي”، يستحقان الدراسة لأنهما قاما – في وقت مبكر نسبياً – بتسريب قدرٍ باهظٍ من المعاني والمفاهيم العاطفية ذات الرداءة إلى الأغنيات التي كتباها. وللأسف نالت أم كلثوم نصيباً كبيراً من نتاجات عبد الوهاب محمد، وإنْ كانت لها معه أغنية جميلة جداً بالفعل هي قوم بإيمان (1967)، ومجموعة أغنيات أخرى لا بأس بكلماتها ومعانيها هي تحويل النيل (1965)، فكروني (1966)، حكم علينا الهوى (1973)، أمَّا مجموعة الأغنيات الأخرى فكانت، ظاهرياً، مثلها مثل نبات “ورد النيل” الطافي، تبدو مقبولةً، لكنها بالفعل مكررة ومكدسة بالمعاني السَّامة والخنَّاقة التي من شأنها أن تنخر في أرواح العشاق والمحبين، إذْ اعتبرت دائماً علاقةَ الحب ساحةَ عراك وثأر وانتقام وبُغض ومقت وكراهية واستنزال اللعن، وهذه الأغنيات هي حب إيه؟ (1960)، حاسيبك للزمن (1962)، أنا وأنت ظلمنا الحب (1963)، للصبر حدود (1964)، اسأل روحك (1970). وقد تدفقت “منتجاتُ” عبد الوهاب محمد إلى مطربات أخريات، والعديد منها على شاكلة ومنوال كلمات “حأسيبك للزمن”، وهاك فقط طائفة من عناوين أغنياته، “قال جاني بعد يومين”، “قال إيه بيسألوني”، “عايزة معجزة”، “إيش جاب لجاب”، “علمناه الحب”، وأظن أن هذا النوع من التغذية، التي دخلت تسريباً إلى وجدان الشعب المصري والشعوب العربية الأخرى أيضاً، عن طريق الأغاني، قد سبَّبت أضراراً بالغة وباقية بالأرواح والأفئدة. وهناك أيضاً “أحمد شفيق كامل” الذي يصعبُ على المرء أن يفهم كيف قبلت أمُّ كلثوم أن تغني الكلماتِ المتهالكة التي وضعها وأسماها الحب كله، تلك الكلمات التي أثلمت معها – بفقرها وضَعفها ومجانيتها – حتى قريحة بليغ حمدي المتوهجة، كما أن هذا المؤلف لم يرحم أمَّ كلثوم من المعاناة مع “حرف السين الساكن” في كلمة “بسْ” وكذلك في كلمة “حَسْ”، وهو ما أظهر تقدمَها في السن إذْ راحت الكلمةُ تخرج من فمها كالصفير.
لو كانت لي أمنيات شخصية، بأثرٍ رجعي، فستتلخص في أن تغني أم كلثوم عدة أغنيات من ألحان فريد الأطرش، وأن تغني المزيدَ من أعمال طاهر أبي فاشا ومرسي جميل عزيز وصلاح جاهين، وأن تجد طريقة للتراجع عن عبد الوهاب محمد وأحمد شفيق كامل، وأن تغني من كلمات مجدي نجيب وعلي مهدي، وأن تجد طريقة أيضاً للتقليل من كمية ألحان محمد عبد الوهاب. وبالطبع أتمنى لو أن أم كلثوم كانت قد خصصت فقرةً دائمة في حفلاتها لإعادة غناء أغنياتها وأدوارها القديمة التي ليست لها تسجيلات وكذلك تلك التي سُجِّلت فقط على أسطوانات أو نال منها سوءُ الحفظ. وأخيراً أتمنى لو أن ساحراً كان قد يسَّر اللقاءَ حتى تغني أم كلثوم من كلمات وألحان الرحبانية.
أبدأ جولتي، المختارة المقتضبة، بأغنية الأولة في الغرام وقد بدت لي فيها أمُّ كلثوم مُتمكِّنةً من تمثُّلِ واستعادةِ لَوعةِ وشجنِ إيزيس (إيزه، بالأحرى) وهي تنوحُ على زوجها وأخيها أوزوريس (أوزير)، وكانت أم كلثوم تشدو من مَبكاها، فتنفطرُ وتنوحُ بإيلامٍ إنما بغير كآبة. في أغنية غُلبت أصالح في روحي أتى صوت أم كلثوم في تمام وضوحه وحُسنه، وهي تشدو به في مقام شجنٍ، بلا مرارة، بل ببهجةٍ وحلاوة، وكانت تفلحُ أثناء شدوها في المروق من الأكدار وفي مغالبة غُلْبِها، وتنجح في مصالحة روحها على الحبيب، وتستأنف معه الحبَّ، الذي هو الحب. تترافعُ أغنية رق الحبيب عن الوصال وتعزِّزه بالبهاء الذي لا يـخفت ولا يتقادم، وإني لَأشعر بالحنو على هذه الأغنية وأستبقي الاستماعَ إليها حتى يفيض اشتياقي لَكأني أخشى عليها من كثرة الاستهلاك! أغنية جددت حبك ليه هي فريدة لا مثيل لها، وكانت أم كلثوم تغنيها طروباً، نشوانةً وهائمةً، مبتهجةً ومنسابة، فهي تغنيها غناءً لم تُسبَق إليه، تغنيها أغنيةً لا شبع منها ولا اكتفاء، وهذه الأغنية لها في وجداني شقيقة هي أغنية دليلي احتار، التي تغترف من الصراط نفسه وتنهل من الهيام نفسه لكنما بطيفٍ أدنى ومقامٍ أبعد. اذكريني، لي بشأنها مطلب شخصي من أحمد رامي، كاتب كلماتها، هو أن يعيد النظرَ في “ضمير الوصل” (ياء المخاطبة) بمقطوعته الجميلة التي غنتها أم كلثوم، وبدا الأمر كما لو أن امرأة تغازل أو تناجي امرأة ثانية، فأدى ذلك إلى عدم استساغة هذه الأغنية الفاتنة، وأوقعَ ظلماً كبيراً عليها، وأظن أنه كان من الأفضل أن يعدل ذلك الضمير، مثلما هو الحال في أغنية “جددت حبك ليه”. أغارُ من نسمة الجنوب قريبة الصلة في كلماتها وأجوائها من اذكريني. لا لغو في أغنية عودت عيني، فهي الصفاء الكلثومي بلا نبرة شاكية واحدة، وهي القُدَّاس الذي رفعه معها أحمد رامي ورياض السنباطي إلى علياءٍ، وقد صرتُ منذ زمن بعيد أتفاءل حين أسمعُ هذه الأغنية مُذاعةً من الراديو، بعد أن لاحظتُ أنها لم تصادفني، ولو لمرةٍ واحدة، إلا وأنا في مَسرة، وعلى ذلك تعمدتُ ألَّا أتدخل فأختارها أو أشغِّلها بنفسي، إنما ظللت أدعها فحسب للمصادفات السعيدة، وهذه الأغنية – بمعانيها – هي مثال النقيض التام للغثاثات التي قدمها عبد الوهاب محمد لصوت أم كلثوم. يا ظالمني، عتابات وشكايات، لكنما بلا نبرة جفاء ولا أنين ولا تشرُّخات، بل بفيض الدلال والصفو والوئام وغبطة الحب، الذي هو في سلامِهِ، بلا ثأرات ولا جراحات ولا انتقامات ولا ضغائن. رباعيات الخيَّام، ما إن تبدأ غناءَ هذه الأغنية حتى يحلُّ قبسٌ من الرشاد في أنفاسها وفي حنجرتها، وتتجاوز فيها أمُّ كلثوم معرفةَ ألفاظَ وكلماتِ اللغة إلى ابتكارها أصلاً مع مَن ابتكرها في سالف العصور، وهي تتذوَّق أصولَ الكلمات كنغماتٍ موسيقية، وكأنها تدخل إلى جوف الكلمة لتعودَ فتخبر بما تذوقت وأحسَّت، ولَكأنها قد أوجدت كلمةَ «الرضاب» من العدم ونطقتها فأوفت بها وأمتعت وأسكرت، وحتى لو كانت كلمةً مألوفةً منذ حِقبٍ وأحقاب، فإنها أوجدتها – يقيناً – وأطلقت معانيها في أفئدة مستمعيها. وإنها لَكذلك تجلبُ كلمةَ «أضواني» من الخفاء، وتنطقها وتغنيها في قصيدة أبي فراس الحمداني أراكَ عصيّ الدمع فتشرقُ معها الكلمةُ من غيْبِها، وتتماثل أم كلثوم إلى السحر الكامن بين الكلمات وهي تغني «ويُسألُ في الحوادثِ ذو صوابٍ، فهل تركَ الجمالُ له صوابا» في قصيدة أحمد شوقي سَلوا قلبي، وهي تهدي مستمعيها كلمةَ «تُغدِقُ» مملوءةً ونقيَّةً في قصيدة شوقي أيضاً النيل، وكلمةَ «الهدى» في قصيدة ثالثة لأحمد شوقي وُلِدَ الهدى. عمود أغنيات أم كلثوم هي الأطلال، وفيها أحرزت أم كلثوم الأعالي التي رفرفت فيها بكلمة «سُكارى» محتشدةً بالنشوات، وبها رُدَّت الهيبةُ والطلاوة وأُعيد البهاءُ والانسجام والسموق إلى الغناء الكلثومي بعد أن طاله الوهنُ والانطفاءُ بل الإهانةُ خاصةً مع أغنية مثل أنت الحب، وبعد أن نالته العاديةُ مع أغنياتٍ عديدة مثل حب إيه وألف ليلة وليلة واسأل روحك. أمَّا قصة الأمس فهي أغنية الأطلال الثانية، من شِعر أحمد فتحي، بعد أطلال إبراهيم ناجي، وهي المرثية الشجية التي قدمتها أم كلثوم للحب الضائع ولكل حبٍ مُنتهٍ، وتعبيراتها النقيَّة الودود تصلح للمناقضة مع التعبيرات الفجة المريضة العدائية التي كتبها عبد الوهاب محمد في حاسيبك للزمن. وقد ضبطت نفسي وأنا أتحاشى أو أتملَّص دائماً من الإنصات إلى أغنية حكم علينا الهوى، أغنيتها الأخيرة التي سجلتها في الاستديو لجمهورها. بدت لي هذه الأغنية، دوماً، كأنها انكسار أو بالأحرى كأنها عدمٌ، محض عدم، وكنتُ أتخيل أم كلثوم مرتديةً نظارتها الشمسية السوداء وهي تغنيها. لقد قرَّ قراري إذاً على أنها كان يجدر بها ألَّا تغنيها. وذات مساء استمعت بالصدفة إلى هذه الأغنية من بدايتها، من دون أن أعرقلها أو أضع سدودي في طريقها، فانطلقت أم كلثوم لتعطيني ما اعتادت على إعطائه لي في كل عصورها منذ صِباها؛ مُتع متنوعة مبثوثة في أثيرها العذب الفريد. حبيبي يسعد أوقاته، يا ليلة العيد، على بلد المحبوب، أروح لمين، سَلوا قلبي، سَلوا كؤوس الطلا، هُّوَّا صحيح الهوا غلَّاب، الحب كده، أنا ف انتظارك، أهل الهوى، الأمل، شمس الأصيل، هذه ليلتي، حُلم، ليلي ونهاري. إنها مئات وآلاف بل عشرات آلاف الساعات التي امتلأت بغناء أم كلثوم، وكل مرةً كانت تُعيدُ فيها غناءَ أغنيةٍ سابقة كانت الإعادات دائماً بمثابة أغنياتٍ جديدة. وأختتم جولتي بالمقطع الأخير العزيز من أغنية أقبل الليل، هذا الصدْح الإشراقي الذي يدفقُ في الزمن نقراتٍ تخلب القلبَ بالطرب والنشوة والفرح والتحقق والخفة، وبالامتلاء.
* * *
على أرض مصر استقرت “حتحورُ” أصلاً للأمومة، وراعيةً للموسيقى والرقص وكل ما يبهج النفوس في حياة المصري القديم، وكانت تتنقل في نهر النيل بمركبتها المسماة “المفعمة حُبّاً”. انطوت الأزمانُ، وحلَّت أمُّ كلثوم سليلةً للأم الكونية حتحور، بل أيضاً وريثةً لمركبتها المفعمة حباً، و«يا نيل، أنا واللي أحبه، نشبهك في صفاك»، ومثلما كان لدى حتحور موعدها السنوي لتلتقي حبيبها وزوجها “حورس” ولتُزَف إليه سنةً بعد سنة، على مدى أزمانٍ بلا أولٍ ولا آخِرٍ، فقد كانت لأم كلثوم دائماً مواعيد شهرية تطل فيها على الناس وتغني، ولطالما انتظر الناسُ باشتياقٍ طلعةَ مُحياها ليتهلَّلوا ويتنعَّموا ويبتهجوا، وإنهم لَمنتظرون لا يزالون.
*كاتب وناقد مصري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق