أحمد زكي باشا
..............................
أرى بعد الكلام على أحمد تيمور باشا أن أنتقل إلى الكلام على سميِّه وصديقه وصنوه ((أحمد زكي باشا))، كانا في عملهما يتشابهان في الغاية ويختلفان بعض الاختلاف في الوصول إليها، كان أحمد زكي باشا أيضاً إماماً في التاريخ، وعالماً بأدب أمته، ومحكماً أدب الإفرنج، وكان إلى ذلك خطيباً مصقعاً، ولد رحمه الله في المحرم سنة 1284 بمدينة الإسكندرية، واختلف المترجمون في جده أو أبيه، والإجماع على أنه من أصل مغربي، رحل جده أو أبوه إلى يافا في فلسطين في التجارة، ثم انتقل إلى رشيد، إلا أن الباشا المترجم كان يكتم أن أباه ولد في يافا، وبعبارة أصرح أنه فلسطيني الأصل، وما أدري لم ذلك؟ وكفله أخوه محمود بك رشاد، ودفعه إلى مدارس الحكومة، حتى بلغت به خاتمة المطاف إلى مدرسة الحقوق، وكان اسمها مدرسة الإدارة في عهده، وظهرت أمارات النبوغ عليه منذ كان يدرس الدروس الابتدائية، ثم دخل في خدمة الحكومة بالمسابقة، ودخل أولاً مترجماً في محافظة الإسماعيلية، ثم انتقل إلى قلم المطبوعات في وزارة الداخلية، حتى بلغ أمانة السر في مجلس النظار، (1889م) وأصبح في آخر أيام خدمته أمين سر المجلس.
هذه نظرة عجلى في نشأة أحمد زكي وعمله الرسمي، ولو كان موظفاً كأكثر الموظفين ما سمع به أحد غير أهل بيئته، والمحتفين به، ولا تعدت شهرته حدود مصر، ولكن كان أحمد زكي رجلاً من غير هذا الطراز، كان رجل علم وأدب وبحث منذ وعى، فلم تشغله مشاغل الإدارة والكتابة عن عمله، ودرس فن الترجمة فزاد إحكاماً للغتين العربية والفرنسية، وقل من أتقن الفرنسية من أبناء مصر إتقانه، فقد كان ينشئ فيها ويخطب كما ينشئ أدباء الفرنسيين ويخطبون، وكان إذا سمع الخطاب العلمي في أحد المجامع الفرنسية ينقله حالاً وبدون استحضار إلى العربية، وبالعكس، لا يكاد يخرم منه معنى، ولا يتلجلج ولا يتلكأ وهذا لم يكتب لغير أفراد قلائل من البلغاء.
وسافر أحمد زكي ثلاث مرات إلى مؤتمرات المستشرقين في الغرب نائباً عن الحكومة المصرية، وبذلك اتصل بأكثر المستعربين من علماء المشرقيات في الديار الأجنبية، وكانوا يسألونه فيما يقع لهم من المشاكل فيحلها لهم أحسن حل، ويساعدهم على ما هم بسبيله من خدمة العلم، ولا سيما فيما له من مساس بالمدنية الإسلامية، ولقد قال أستاذي الشيخ طاهر الجزائري، (وكان من أعظم الرجال علماً بالتاريخ الإسلامي ودقائقه ومشكلاته) إنه ليس على أديم الأرض رجل عرف المدنية العربية والإسلامية كما عرفها أحمد زكي، بزَّ في هذا الفرع المسلمين وغير المسلمين.
وأعانه اتصاله بالحكومة على اختصار صندوق الحروف العربية في المطابع، وبدأ ذلك بالمطبعة الأميرية، واختار النمط الذي راقه، وأملى إرادته في ذلك على أرباب الاختصاص، وكان درس الطرق لهذا الإصلاح في رحلتين له إلى الغرب، وهو الذي أدخل طريقة الاختزال إلى اللغة العربية، وكذلك طريقة الترقيم لتعرف الجملة العربية إن كانت في التعجب أو الاستفهام أو متصلة بما تقدمها أو منفصلة عما تأخر عليها، وسافر إلى اليمن في آخر أيامه لخدمة السياسة العربية، فما نسي العلم، واتصل بإمامها، فوقف على كتب اليمن، واستنسخ ما راقه منها، وكتب جذاذات مفيدة في أسماء بلاد اليمن وإرجاعها إلى أصولها القديمة، ورحل مرات إلى القسطنطينية، واستنسخ منها لنفسه أو لدار الكتب المصرية عشرات من أمهات الكتب العربية بالتصوير الشمسي.
أما خزانة كتبه التي وقفها على الأمة فقد جعلت أولاً في جناح خاص في دار الكتب المصرية، ثم نقلت إلى قبة الغوري، ثم أعيدت بعد وفاته إلى دار الكتب مثل الخزانة التيمورية، وهي من الخزائن المهمة جداً.
كتب لي يوم 14 جمادى الأولى 1337 و15 حزيران 1919: ولعله يسرك أن تعرف أن خزانتي قد انتقل عديدها من الألفين فبلغ الاثني عشر ألفاً الآن، وأنا أشكر الله تعالى طلباً للمزيد.
وأتيح لي أن أصف بالتطويل خزانتي أحمد تيمور وأحمد زكي في مجلة المقتبس، وقد رأيت المخطوطات النادرة جداً في خزانة الأول، والمطبوعات النادرة في العرب والإسلام باللغات العربية والإفرنجية في خزانة الثاني، لا جرم أن ثروة صاحب الخزانة التيمورية أعانته كثيراً على التوسع في اقتناء الأطايب من المخطوطات على ما اعترف بذلك أحمد زكي نفسه.
أما صاحب الخزانة الزكية، فقد بدأ يجمع خزانته وهو تلميذ أيضاً بمدرسة الحقوق سنة 1883 فكانت النقود التي يرضخ بها له أخوه محمود رشاد بك يشتري بها كتباً إفرنجية، وأخوه يبتاع له الكتب الثمينة، فتولد فيه الغرام بالكتب كما قال عن نفسه، ولما دخل في خدمة الحكومة خصص نصف راتبه الشهري لمشتري الكتب، وكانت الديون التي عليه إلى آخر أيامه للوراقين والطباعين وباعة الكتب العتيقة والجديدة في أوربا ومصر، وأكثر كتبه الإفرنجية بالفرنسية، ومنها ما كتب باللاتينية والألمانية والإنكليزية والإسبانية والإيطالية، واجتمع له معظم الكتب العربية التي طبعها علماء الإفرنج منذ القرن الخامس عشر والمخطوطات العربية التي ضمتها خزانته هي منتقاة أيضاً، وأكثرها في التاريخ والآداب.
ومن خصائصه أنه كان محيطاً بكل ما حوت خزانته كفعل أحمد تيمور، وقد علق عليها شروحاً وحواشي أشفعها بمفكرات وجذاذات، أما تنسيقها فأقل من تنسيق الخزانة التيمورية، لأن صاحب هذه الخزانة انقطع إليها سنين وما أضاع أوقاته في الإدارة والسياسة والتوسع في معرفة الناس.
كانت زوج أحمد زكي باشا من فضليات العقائل، وعاونته بثروتها على الظهور والبذل، وكانت داره في جيزة الفسطاط في الثلث الأخير من حياته محط رجال العلماء والأدباء من الأقطار الشرقية والغربية والأقاليم المصرية، واختار لها اسم ((بيت العروبة)) وهو اسم موفق وافق فيها الاسم المسمى، وأنشأ بجوارها جامعاً ومدفناً، فلم يتم الجامع على ما يحب من الهندسة العربية والزخرف، نقول ((بيت العروبة)) ويمكن أن يطلق عليه ((بيت شعوب الخافقين)) ولطالما دعا إلى داره عشرات من الآسياويين والإفريقيين والأوربيين والأميركيين، فمزجهم مزجاً وخطبهم واستخطبهم، وتجلت فيه مكارم الشرقيين بل مكارم المصريين....
كان يحب المناقشة، فإذا آنس من كاتب غلطة استفظعها، وكتب فيها المقالات أو يقر له مرتكب تلك الشنعاء معتذراً، وهو قد يعتذر أيضاً إذا ارتكب خطأ، وقد يعترف به جهاراً شأن العلماء، كان يبادر إلى إطلاع الناس على أعماله، وقد يبالغ فيها، فاستفاضت لذلك شهرته، وساعد على نمائها قوة بيانه، وشدة عارضته، وتوفره على خدمة علماء الغرب في كل ما يعنّ لهم من الأسئلة على حين كان يتلكأ عن إجابة المسترشدين به من علماء الشرق فإذا آخذوه على إهماله زعم أنه كسول.
كان أحمد زكي يتجوز فيما لا يتجوز فيه أرباب التقوى، فكأنه تخلق بأخلاق من عاصرهم وعاشرهم، وما رأى حرجاً في ذلك، ويضطره العبث واللعب إلى الإسراف، ولذلك أنفق كل ما دخل في يده من مال قرينته أولاً ثم من مال شقيقه ثانياً، أنفق جميع ما خلفه أخوه من نقد، وهو مبلغ لا يستهان به في سنين قليلة، غير حاسب للأيام حساباً، وربما أفرط في ذلك، ولعل إفراطه من كونه لم يعقب ولداً، وقيل إنه ترك خدمة الحكومة مختاراً، وقيل إنه أريد على ترك الخدمة لأنه أتى أشياء تخالف قانون الإدارة.
مجلة التمدن الإسلامي: السنة الرابعة، العدد الثالث، 1357 - 1358هـ - 1938م