Translate

الجمعة، 25 مايو 2018

أحمد تيمور باشا

.......................
قلنا إن تيمور باشا كان يتصدق في السر، وذلك بأن يجري مشاهرات في السر على من قعد بهم الدهر عن الاكتساب، ويفضل على بيوت كثيرة المحاويج المساتير ويدر عليهم رواتب مقررة تأتيهم في بيوتهم رأس كل شهر، ويأبى عليه شرفه ودينه ومكارمه إذاعة ما تجود به نفسه، ولذلك أخذ العهود على من كان يعطيهم ما يقوم بأودهم أن لا يذكروا أنهم يرزقون منه، ولما باح أحدهم بالسر لضغط شديد وقع عليه، شق ذلك على هذا المحسن، فقطع المشاهرات والإدرارات كلها، متظاهراً بالضائقة، وعاد بعد مدة يرسل بواسطة المصرف حوالات مالية بأسمائهم وهم لا يعرفون مصدرها، بل إن المصرف نفسه لا يعرف حقيقة اسم المرسل، ولذلك صح لنا أن نقول: إنه كان لا ينفق ماله على غير العلم وعمل الخير، ويبالغ في كتمان صدقاته حتى لا تدري شماله بما فعلت يمينه، وكانت أطيانه تزيد، وريعها ينمو، ونعمته تفشو مع هذا البذل الكثير.

ولئن كانت أحداث الأيام قد تفرق بيننا بعض السنين ولا سيما زمن الحرب العامة، فما استطاعت أن تفرقنا بالمراسلة، وعندي من رسائله أكثر من مئة وأربعين رسالة هي في خزانتي أجمل ذخر وذكرى، وفيها صورة من علمه وأدبه وخلقه ومنازعه ومراميه، وقد جاء في بعضها كلام جميل يجدر اقتباسه، لأنه صادر من صديق إلى صديق يبوح له أبداً بذات نفسه، فمنها ما كتبه عندما وجهت إليه رتبة الباشوية، وكيف ضاق صدره بها، وضاق صدره أيضا لما صدر الأمر الملكي بتعيينه عضواً في مجلس الشيوخ، وحاول أن يستقيل غير مرة لولا حرصه على رضا الملك فؤاد الأول رحمه الله الذي أنعم عليه بالرتبة والعضوية به بدون توسط أحد، دعاه إلى هذا التشريف فرط محبته لتيمور وتقديره لنبله وفضله.

تولى أحمد تيمور أعمالاً كانت في نظره ألذ من كل مظهر، كان عضواً في مجلس دار الكتب المصرية، وعضواً في المجمع المصري، وعضواً في المجمع العلمي العربي، وقد خدم هذه المجامع والمجالس خدماً جليلة، وأحسن إلى مجمع دمشق أنواع الإحسان بمقالاته وأبحاثه التي نشرها في مجلته، وبإهدائه أمهات من المخطوطات المصورة، وبمنحه مجموعة نفيسة جداً من النقود الذهبية والفضية والنحاسية والزجاجية انتهت إليه من جده وأبيه، وهي اليوم في متحف عاصمة الشام تنادي بلسان الحال أن أحمد تيمور كان يعطف على كل بلد عربي عطفه على مصر، وما أنشئت خزانة كتب في بلاد الشرق إلا كانت هدايا أحمد تيمور إليها أسبق الهدايا، وتنشيطه للقائمين بها أبلغ تنشيط.

قلنا: إنه كان عزوفاً عن الناس يؤثر العزلة، وكان يود لو مكنته أعماله في القاهرة على الانقطاع إلى مزرعته بقويسنا، يأنس بجانب خزانته، ويستخرج فوائدها لقومه، ثم إن ذلك كان من الصعب عليه أيضاً، لأنه كان على عزوفه ألوفاً يألف من تربطه بهم وحدة الفكر ووحدة الروح، كتب إلي في رجب (1338هـ) يقول: ((... وقد كان سيدنا وأستاذنا الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله ورضي عنه مفزعي الوحيد؛ عندما أكون في القاهرة، فشاء القدر أن يفجعنا به، ولا يبقي لنا من تلك الأيام إلا الذكرى المؤلمة والأسف المتواصل، حالنا يا سيدي الأخ عجيب غريب في هذا التطور الجديد، فقد أصبحت العامة والخاصة، الجهال والعلماء، في مستوى واحد من الآراء، ونعمت والله الحالة، لولا أنه عمل صالح مرفوع إلى أسفل؛ ونتيجة منطقية تابعة للأخس من المقدمتين، فقل لي بعينك أي أنس في الاجتماع وأية لذة في المخالطة، وقد أصبح من المتحتم على المرء قبول كل ما يقال على تغيره وتناقضه كل يوم، وإلا فالويل له ثم الويل، ولهذا تراني في أكثر أوقاتي جانحاً إلى وحدتي بقويسنا مكتفياً بمنادمة كتبي....)). وكتب من رسالة: ((...أما الأصول العامة فسيدي عالم بها من الجرائد الضالة المضلة، والمصير مجهول، والله لطيف بعباده)). ولما أنشئ المجمع اللغوي الأول في مصر كتب أنه انضم إليه من هب ودب، وأنه أميل إلى التشاؤم بعد أن سمع اقتراحات بعضهم بضم أشخاص اشتهروا بانتصارهم للعجمة، وفتح الصدر لكل دخيل.

هذه صورة صغيرة من منازع أحمد تيمور وأخلاقه. بقي علينا أن نلم إلمامة خفيفة بتآليفه، وبها نتبين صورة علمه وأدبه، فأهم ما كتب ((معجم الألفاظ العامية المصرية)) بين فيه أصول تلك الألفاظ واشتقاقها وما يرادفها من الفصحى، وهو من أفيد التآليف، يدل على تبحر مترجمنا في اللغة وعلى بعد غوره في فنونها، وهو لم يطبع؛ ومن تآليفه المطبوعة تصحيح أغلاط القاموس المحيط وتصحيح أغلاط لسان العرب وهي رسائل تدل على دؤوبه وعبقريته ومعرفته الواسعة باللغة، هي بضع رسائل، تعد من أهم الكتب، وقيمة التآليف بفائدتها وإمتاعها لا بطولها وعرضها وثقل حجمها وكثرة أوراقها، ومن كتبه المطبوعة رسالة في اليزيدية، وأخرى في حدوث المذاهب الأربعة، وثالثة في العلم العثماني، ورابعة في قبر السيوطي، وخامسة في أبي العلاء المعري وعقيدته، وسادسة في الحلقة المفقودة من تاريخ مصر، وسابعة في الألقاب والرتب وغير ذلك. ومما لم يطبع أو طبع في إحدى المجلات العلمية ((طبقات المهندسين)) ألفه باقتراحي وإجابة لرجائي، وكنت آسف أن تضيع تراجم أولئك العظماء الذين خلفوا لنا هذه المصانع والعاديات، وما رأيت أحق من أحمد تيمور باشا لوضع كتاب في سيرهم، ومن رسائله التصوير عند العرب والأمثال العامية، وهي خمسة آلاف مثل عامي، ولعب العرب، ونقد القسم التاريخي من دائرة معارف ((فريد وجدي)) وذيل طبقات الأطباء والآثار النبوية، ومفتاح الخزانة للبغدادي، وأعيان الشرق في القرن الثالث عشر، جعله ذيلاً لسلك الدرر للمرادي، ثم ألحقه بذيل في تراجم أعيان أوائل القرن الرابع عشر ومنها نوادر المسائل أو معجم الفوائد والبرقيات، وهي كلمات تؤدي كل منها معنى جملة كاملة، إلى غير ذلك من رسائله ومقالاته وتحقيقاته، مما نشره في المؤيد والأهرام والمقتطف والضياء والمقتبس والهلال والهندسة والسلفية والآثار والزهراء، ومنها ما نشر له بعد وفاته في ((الرسالة)) إلى غير ذلك مما كان يكتبه بالمناسبات، أما الكتب التي استرشد فيها العلماء والناشرون بآرائه فكثيرة جداً يتألف منها كتاب من أمتع الكتب في النقد والبحث، هذا إلى رسائله إلى علماء الشرق والغرب، وكان يكتب كل ذلك بيده لا يعتمد فيه على كاتب ولا مساعد، وهو سريع الإجابة على ما يرد عليه من الأسئلة، إلا إذا اقتضى الحال التعمق في البحث، فإن خزاناته وتعاليقه كانت متقنة يهتدي بها إلى ما يريد لساعته، والمأمول أن يتقدم نجلاه الأستاذان إسمعيل ومحمود فيعيدان طبع جميع رسائل والدهما وكتبه، فما يجب أن يكون كتاباً برأسه ((كمعجم العامية)) و((طبقات المهندسين)) و((ذيل طبقات الأطباء)) ينشر على حدته، أما الرسائل والمقالات الأخرى فإنها تجمع في مجلدين جميلين ليرجع العلماء والباحثون إليهما بسهولة.

هذا هو أحمد تيمور وصفته لكم بقدر ما يسمح المقام، وإذ أردتم أن أشارككم في شعوري فيه وحكمي عليه، فاسمحوا لي أن أبوح بما في قرارة نفسي لأقول فيه كلمة من يأبى التزيد ولا يحبه: إني لا أعرف في بلاد العرب من أقصى شمالي إفريقية على البحر الأطلنطي إلى خليج فارس، رجلاً جمع مثل هذه الصفات وأحب العلم هذه المحبة الشديدة، وخدمه في نطاق طاقته هذه الخدمة، وهو في أصله من طبقة النبلاء، وأرباب الثراء، فما أبطرته النعمة ولا استهواه الغنى والجاه، وراح في كل أدوار حياته يبتعد عن الشهرة والشهرة تلحقه كعادتها مع من لا يتطلبها، وربما كانت شهرته في البلاد الخارجية عن القطر المصري أوسع، وقد رأيته يتبرم بالثروة ظاهراً وباطناً، أما هذه الصيانة وهذه التقوى وهذا الثبر؛ فقد قل حتى في رؤساء الدين مثله، هذا مع اتساع الفكر لكل جديد، وفتح الصدر لكل بحث إذا لم يصادم العقل فيه النقل.

كان إماماً مدققاً في علوم اللغة والبيان، كاتباً نقي العبارة يكتب على أجمل ما يكتب نبغاء المؤلفين، لا تعمد ولا تصنع، يحيط بالتاريخ الإسلامي عامة، وبتاريخ مصر خاصة إحاطة واسعة، وقد رزق ذاكرة قوية، لا ينسى ما يقيد وما لا يقيد، وغلب عليه التواضع وتملكه الحياء، والحياء من الإيمان، فكأنه من جنس أولئك العلماء الذين ذكرهم الإمام محمد عبده يوماً في مجلسه، وكان ذلك فيما أذكر في دار أحمد تيمور باشا بدرب سعادة، وقد سأله أحد الحضور: أما آن لمصر أن تنشئ جامعة تخرج أبناءنا في العلوم بالعربية؟ فأجاب الأستاذ الإمام: حقاً لقد حان الوقت لذلك، وحتى تهيأت لنا أسباب تأسيسها، نجلب إن شاء الله لتدريس بعض الفروع فيها أساتذة من سويسرا، فاستغرب أحد الحضور هذا التخصيص بالسويسريين وسأل الأستاذ عن هذا السر فأجابه: نعم من سويسرا، ذلك لأن علماءها كالبنات العذارى إذا حدقت النظر في وجوههن أخذهن الحياء واحمررن خجلاً.

إن محصول الأستاذ تيمور في العلم لا يعد قليلاً إذا اعتبرنا جودة ما أتى به من الأبحاث، وإذا أدركنا أن التعليق على مخطوطاته استغرق جانباً عظيماً من وقته وأن غرامه بالكتب كان يتقاضاه صرف الساعات الطويلة أيضاً، أكبرنا ما أتى به، خصوصاً وقد علمنا أنه كان يتولى كل أمرٍ بنفسه، حتى كتابة الفهارس، ولو نبغ مثله عند أُمة غربية من الأمم الكبرى أو غيرها لكان اسمه في كل لسان، ورسمه في كل عين؛ ولكن هو الشرق يُكبر الصغير، ويُصغر الكبير، وينسى رجاله أو يتناساهم؛ كأن الرجال فيه كثر، وقد تستفيض شهرة من لا يحسن أكثر من استفاضة شهرة من يحسن، ولا يُبجل في الأغلب إلا من دَجَّل ودلس وعبث بعقول الناس.


ليست هناك تعليقات: