كشفت صحيفة نيويورك تايمز، في نهاية العام الماضي، عن وفاة الضابط النازي أليوس برونير، في سوريا منذ 4 أعوام، والذي عاش فيها منذ عام 1954، وكان برونير من أهم المطلوبين الهاربين بسبب جرائمه خلال حقبة الحكم النازي في ألمانيا، ومسؤوليته عن ترحيل 128 ألف يهودي إلى مخيمات الموت، والمساعد الأول لأدولف إيخمان، رئيس الجيستابو الذي حوكم وأُعدم في إسرائيل عام 1962.
كانت إحدى محطات برونير، هربا من حكم الإعدام، هي القاهرة، التي عمل فيها تاجرا للسلاح، قبل أن يذهب إلى سوريا كمستشار لحافظ الأسد، لنقل أساليب الجستابو في التعذيب وانتزاع الاعترافات، تحت اسم مستعار “جورج فيشر”.
دعنا نسأل.. هل عاش النازيون في مصر؟
في عام 1957 نشرت مجلة فرانكفورت المصورة تحقيقا، جاء فيه أن عدد النازيين في مصر بلغ 2000 شخص، وفي 30 مايو عام 2010، نشرت القناة العاشرة في التليفزيون الإسرائيلي تقريرا يفيد بأن السفير الإسرائيلي في مصر، إسحاق ليفانون، يطالب مصر رسميا بتسليم 3 ضباط نازيين موجودين على الأراضي المصرية منذ عام 1960، وهم؛ ولفجانج بلومنتال، الملازم ألبيرت جونتار، الملازم هورست هيلموت.
كما احتج السفير الإسرائيلي على احتفاظ مصر بجثة ألبرت هايم، الذي توفي في مصر عام 1992، أربيرت هايم.. الذي تلقبه الميديا الغربية بطيبب الموت، يتصدر وفقا لتقرير مركز سيمون وستنثال المنوط به مطاردة النازيين الفارين، المركز الثاني في قائمة المطلوبين.
كيف تحول رجل أودلف هتلر إلى الحاج طارق؟
أربيرت هايم.. طبيب وضابط نازي، انضم إلى وحدات النخبة النازية “إس إس”، والتي كانت تتبع أودلف هتلر مباشرة، تحت شعار “شرفي هو إخلاصي”.
وحدات “إس إس” نشرت الرعب بين الملايين من الشيوعيين واليهود والغجر ومعارضي هتلر، وإرسالهم إلى معسكرات الموت دون محاكمة.
ألبرت هايم، لم يكن مطلوبا عاديا من قبل مطاردي النازيين، فالاتهامات الموجهة ضده كانت مفزعة “قتل وتعذيب المئات في المعسكرات، إجراء عمليات جراحية للسجناء دون تخدير، انتزاع الأعضاء السليمة من أجساد محتجزين أصحاء لدراستها، ثم تركهم ينزفون حتى الموت، حقن قلوب المعتقلين بالغازات السامة والبنزين، حتى في أحد الأيام قطع رأس محتجز واحتفظ به للذكرى، لأنه كان الأكثر عندا بين من حضر عمليات التحقيق معهم، أهدى لقائد أحد المعتقلات “أباجورة” صنع غطاءها من جلد إحدى ضحاياه”.
هذا الرجل المختل وفقا للراويات، عاش في القاهرة هربا من أحكام صادرة بحقه، تحديدا في حي الموسكي تحت اسم طارق حسن فريد، منذ عام 1963 وحتى عام 1992، أو كما لقبه أهل الحي “الخواجة طارق”، وفقا للكاتب الصحفي محمد ثروت، الذي حقق القصة في كتابه “نازي في القاهرة.. الخواجة طارق أخطر رجال النازية الهاربين في مصر”، ولا يفوت ثروت هنا التشكيك في مبالغات قصص التعذيب.
ينقل ثروت صدمة أهالي حي الموسكي، الذين أحبوا “الخواجة طارق” الذي عاش بينهم في القاهرة، وعدم تصديقهم لكونه مجرما نازيا، حيث يقول محمود دومة، والد صاحب الفندق الذي أقام به الدكتور هايم “قصر المدينة”، “ملامحه لم تكن توحي بأي شر، يحفظ القرآن، ويصوم، وكان ودودا”.
حوكم ألبرت هايم على يد قوات الحلفاء عام 1947، لكن لم تثبت جرائم ضده، فعاد لممارسة مهنة الطب حتى عام 1962، لكن المجموعات اليهودية لم تتركه، وضعته كالمطلوب رقم “2” بعد أليوس بيونير، لملاحقته قضائيا من جديد ومحاكمته في إسرائيل، فهرب إلى تشيلي، وعاش هناك تحت اسم مستعار قبل أن يستقر في مصر.
خبرته في وحدة القوات الخاصة النازية، جعلته ماهرا في التنكر، إسرائيل لا زالت تطارده إلى اليوم، رغم إعلان وفاته عام 1992، حيث كشفت الوفاة هويته من أوراق كان يحملها، ولا زالت تتشكك في موته حتى الآن.
الخواجة طارق ليس الوحيد.. هناك الخواجة دبوس أيضا
في عام 1958، بشارع عرابي في المعادي، كان تبدو جيرة الطبيب كارل ديبوش، جيرة عادية لا شر فيها، لم يعرف أحد أن الطبيب الماهر هو هانز أيزل، الطبيب والضابط النازي المتهم بقتل 300 سجين في معسكرات النازية، وإجراء تجارب طبية دون تخدير، تاركا إياهم يموتون ببطء، كان يحقنهم بالسيانيد، ولقَب الرجل بين السجناء بـ”الجزار”.
القصة التي حققها روبرت فيسك، في مقاله بجريدة الإندبندنت “جنة الجزار في مصر”، تكرر معه نفس سيناريو هايم، لم يدن على جرائمه، لكن بعد 6 سنوات من عمله بالطب، حذر من إمكانية اعتقاله فهرب إلى مصر، مات أيزل في مصر عام 1967 بجنازة ودية من الجالية الألمانية بالقاهرة، وكان الموساد الإسرائيلي حاول اغتياله داخل مصر بطرد مفخخ، بطريقة تكررت كثيرا فيما بعد، لكنه نجا منهم جميعا.
حياة أيزل في المعادي كانت مرضية لجيرانه، رغم عزلته، كان طبيبا جيدا ومحبوبا، ومع الوقت لقّب بالخواجة دبوس، لم يعرف الجيران حقيقة جارهم الطيب، إلا من امرأة يهودية هي زوجة لصحفي شهير، ولم يكن أحد يعلم أنه يعمل مع المخابرات المصرية.
يرى الكاتب محمد عبدالله في مقاله “عم طارق النازي وأصدقائه”، أن هؤلاء النازيين الذي قدموا إلى بلادنا هم هاربون من مطاردة ضحايا جرائمهم؛ بطبيعة الحال فضلوا العيش على هامش الحياة السياسية، إلا إذا تم كشفهم من قبل السلطات المحلية، وعندئذ، عادة ما يبدأ شكل من أشكال التعاون أو البيزنس الذي قد يكون جبرا أو طوعا بين الطرفين.
لكن كيف بدأ كل شيء؟
لم يأتِ النازيون الهاربون إلى مصر اعتباطا، ليسوا كلهم مثل الخواجة طارق، الذي اكتفى بالاختباء من مطاردة الجماعات اليهودية ومركز سيمون وستنثال، الذي أنشئ لمطاردة النازيين الفاريين حول العالم.
بدأت العلاقة الأولى للعرب مع الرايخ الألماني، ومن بعدها علاقة المصريين بالنازيين، من القدس، عندما اعتقد مفتي القدس، الشيخ أمين الحسيني، أن هتلر قد يكون الحل في مواجهة محاولات تقسيم فلسطين، والاحتلال الإنجليزي، بينما الحقيقة أن أحد خطط هتلر للتخلص من اليهود كانت بالضبط عبر إرسالهم لفلسطين.
في 1941، حل الحاج أمين حسيني كضيف خاص في برلين، سبق ذلك سلسلة مفاوضات تحاول ضمان تدخل هتلر ضد الاستيطان اليهودي، كان ذلك في الوقت ذاته الذي شهد مراسلات بين هتلر والملك فاروق، كشفت عن إعجاب وإيمان بالنازي، بل وسيرا على خطاه أنشأ السياسي المصري أحمد حسنين حزب “مصر الفتاة”، على الشكل النازي الفاشي، وحوكم أنور السادات بتهمة التخابر مع الألمان.
أنشأ أمين الحسيني بناء على وعود شفاهية من هتلر جيشا في خدمة الرايخ الألماني من مسلمي البوسنة، وكان الواسطة بينه وبين حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، والذي لم ينكر إعجابه بهتلر.
كانت تلك هي البداية فقط، هزمت دول المحور، وفر الحسيني وهُزمت الجيوش العربية عام 1948، أما البداية الحقيقية فكانت عندما قررت النظم القريبة من الفاشية في مصر وسوريا الاستعانة بفاشية أخرى متمرسة، لم يجدوا أحدا أفضل من فلول النازي.
وفقا لكتاب نازي في القاهرة للصحفي محمد ثروت، فإن الدكتور وجيه عتيق، صاحب كتاب الملك فاروق وألمانيا النازية، يرى أن بداية هجرة الضباط الألمان إلى مصر كانت بعد حرب 1948، وأن القنصلية المصرية في بون تلقت مئات الطلبات من الضباط الألمان للعمل في مصر، في عهد حكومتي حسين سري باشا ومصطفى النحاس.
نازيون للتصدير.. صنف إكسترا فاخر
في بداية الخمسينيات، كانت حركة التحرر عن الاحتلال في إفريقيا ودول أمريكا الجنوبية، تنجب في المقابل أنظمة استبدادية بديلة، لذا كان طبيعا أن تستثمر خبرة فلول النازي، في انتزاع الاعترافات، بروباجندا تناسب دول شمولية، أجهزة المخابرات، توجيه الرأي العام وصناعته.
عندما استقر أمين الحسيني في مصر، طلب منه الرئيس محمد نجيب الاستعانة بأصدقائه من النازي، أولهم كان أليوس برونير، قبل أن يغادر القاهرة إلى سوريا كمستشار لأجهزة أمن حافظ الأسد، الثاني كان يوهان فون ليرز، عضو المكتب النازي، الهارب في الأرجنيتن، وأحد أذرع جوزيف جوبلز وزير الدعاية النازي، في الترويج لمعاداة اليهود.
جاء الأخير إلى مصر، عن طريق مفتي القدس السابق، واستخدمه جمال عبد الناصر فيما بعد كمستشار إعلامي في وزارة الإرشاد القومي، وأشرف على الدعاية المضادة لإسرائيل وقتها، وعلى تعريب كتاب بروتوكولات حكماء صهيون، وأعلن إسلامه مسميا نفسه “عمر أمين”.
المخابرات الأمريكية التي أنُشأت عام 1947، عقب الحرب العالمية أيضا، كانت هي أيضا تعمد إلى ما يمكن تسميته بامتصاص خبرات فلول النازي للاستفادة منها في التأسيس، جندت عددا كبيرا منهم، وتعاونت مع منظمات سرية من بينها “أوديسا”، والتي كونت بغرض حماية النازيين من الملاحقة وإعادة توظيفهم وتهريبهم.
المخابرات الأمريكية ودراسة عن حرب السويس 1956
كشفت المخابرات الأمريكية، على موقعها عبر دراسة رفعت عنها السرية، أن مساحات الاتفاق بين الولايات المتحدة الأمريكية وعبد الناصر كانت جيدة، قبل أن تولي مصر، وجهها ناحية الاتحاد السوفيتي رينهارد جيهلين، ضابط استخبارات هتلر، والمسؤول عن تجنيد النازيين الهاربين للمخابرات الأمريكية، وكان مسؤولا عن مساعدة نظام عبد الناصر، الذي طلب من روزفلت خبراء للمساعدة في بناء المخابرات والأمن الداخلي.
يمكنك قراءة الدراسة كاملة هنا.
التحقيق الاستقصائي الذي نشره فرانشيسكو جيل وايت عن دور فلول النازي في تدريب كتائب المقاومة الفلسطينية يستكمل المعلومات بدوره طلب جيهلين من أوتو سكورزيني، ضابط المخابرات المرعب في تاريخ هتلر ومؤسس منظمة الأوديسا، أن يذهب إلى مصر وبصحبته بعض القادة النازيين والأطباء والعلماء، وساهموا في إعادة هيكلة قوات الشرطة والجيش وتدريب المقاومة الفلسطينية.
في عام 1962، أجبر الموساد “سكورزيني” على العمل لصالحه، بعد أن هددوه بالقتل، فكشف عدة معلومات عن برنامج البحث العلمي المصري والتعاون مع العلماء الألمان، خاصة في مشروع إنتاج الصواريخ، ولا توجد معلومات مؤكدة عن بقاء سكورزيني في مصر.
خطة الموساد في إرهاب العلماء الألمان العاملين داخل مصر نجحت بشكل كبير، مع مطاردة الموساد للألمان داخل مصر، والتي نجحت في إنهاء وجود أغلب علماءهم في مصر، في منتصف الستينيات.
كيف طارد الموساد الألمان داخل مصر؟
سمى الموساد تلك العملية “داموكلس”، ويمكنك أن تعرف المزيد عنها من هذا الرابط، والتي رغب في أن تكون استعراضية ومؤثرة لاستهداف علماء الصواريخ الذين وظفهم النازيون في مصر.
الجنرال فارم باخر، أحد كبار خبراء الصواريخ الألمان، الذي كان يقطن المعادي كأغلب الخبراء الألمان، تلقى طرود متفجرة، وتهديدات بخطف ابنته.
وفي 1962، قُتل أحد الموظفين المصريين بالأوبرا، بعد أن فتح طردا مفخخا كان مرسلا في الأساس لولف جيانج بليز العالم الألماني، ولم يكتف الموساد بمطاردة الألمان في مصر، لكن كذلك عائلاتهم وذويهم، ونجح في تجنيد فولف جانج، العالم الألماني، وكشفت أمره المخابرات المصرية، لكنها قررت الاحتفاظ به في مصر.
ونجحوا عام 1964، في إجبار العلماء الألمان المعينين من قبل النازي على إنهاء مهمتهم في مصر، بعد حملة عالمية ضغطت فيها إسرائيل على ألمانيا الغربية، وبعد أن توصل بعضهم لتسويات مع الحكومة الألمانية، تمنحهم حق العودة لبلادهم، بعضهم عمل كتاجر أسلحة، وبعضهم أسس شركات للخدمات المخابراتية.
وفي المقال المترجم على الموقع الحكومي المصري هيئة الاستعلامات المصرية، والذي قامت بإزالته عقب هجوم موقع البوابة لصاحبها عبد الرحيم علي بسبب نشره على هذا الرابط جاءت الإشارة إلى قائمة عملت بالأجهزة الحكومية والأمنية المصرية من بينهم فيلهيلم بوكلير، الذي سمى نفسه عبد الكريم، نقيبا في الجستابو، وعمل مسؤولا في جهاز المخابرات المصرية لتدريب الفدائيين الفلسطنيين، والقائد ألويس موسير، ضابط الإس إس النازي، وعمل مدربا عسكريا.
كذلك لوفدنش هايدن، عضو المكتب المركزي لأمن هتلر، الذي سمى نفسه لويس الحاج، وترجم كتاب “كفاحي إلى العربية” عام 1963، وأوتو ريمر الرجل الأخطر، وأحد محبطي عملية فالكيري لاغتيال هتلر، والتي عُرضت في فيلم من بطولة توم كروز، جاء إلى مصر وعمل مستشارا لجمال عبد الناصر، لنقل تكنولوجيا الأسلحة إلى الدول العربية، وشغل منصب مدير معهد الدراسات اليهودية، وعندما عاد إلى ألمانيا أسس حركة النازية الجديدة وما زال يرأسها.