مثل أصحاب القرية الذين كذبوا المرسلين –
﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالثٍ فَقالُوا إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَىْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ * قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَما عَلَيْنا إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبينُ * قالُوا إِنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ * قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَ * وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَماليَ لا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * ءَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ * إِنّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ * إِنّي آمَنْتُ بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ * بِما غَفَرَ لي رَبّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمينَ * وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنّا مُنْزِلينَ * إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ * يا حَسْرَةً عَلى العِبادِ ما يَأْتيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾(يس: 13- 30)
أولاً- هذا مثل من الأمثال القصصية ضربه الله تعالى لعُبَّاد الأصنام، يحذرهم فيه من مغبة الكفر والشرك، وينذرهم أن يحل بهم ما حل بكفار أهل هذه القرية، بعد أن أصروا على كفرهم وشركهم بالله سبحانه. ويتضمن قياسًا من قياس التمثيل الذي يقوم على التسوية بين المتماثلين في الحكم. ومناسبته لما قبله أن الله تعالى بعد أن عرض في بداية السورة قضية الوحي والرسالة وقضية البعث والحساب في صورة تقريرية، عاد ليعرضهما في صورة قصصية، تلمس القلب بما كان من مواقف التكذيب والإيمان وعواقبهما معروضة كالعيان.
ولم يذكر القرآن شيئًا عن هذه القرية، ولا عن أهلها سوى أنهم كانوا أصحاب شرك يعبدون الأصنام، فأرسل الله تعالى إليهم رسولين - كما أرسل موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون وملئه - فكذبوهما، فعزز الله تعالى برسول ثالث ؛ ليؤكد أنه، وأنهما، مرسلون من عند الله تعالى، لا من عند غيره. وتقدم الثلاثة بدعواهم ودعوتهم من جديد، وهنا اعترض عليهم أصحاب القرية بالاعتراضات المكرورة في تاريخ الرسل والرسالات، فكذبوا دعواهم، وردوا دعوتهم بحجج واهية تدل على سذاجة تصورهم وإدراكهم لحقيقة الرسل ؛ كما تدل على جهلهم بحقيقة الرسالة التي أرسلوا إليهم من أجلها. ولما أسقط في أيديهم، لجئوا إلى التهديد والوعيد، ولم يؤمن منهم إلا رجل واحد كان يسكن في ناحية القرية، فلما سمع بدعوة هؤلاء المرسلين، استجاب لها بفطرته السليمة، بعد أن رأى فيها من دلائل الحق والمنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه. وحينما استشعر قلبه حقيقة الإيمان، تحركت هذه الحقيقة في ضميره، فلم يطق عليها سكوتًا، وجاء من أقصى المدينة يسعى ؛ ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق، وفي كفهم عن البغي، وفي مقاومة اعتدائهم الأثيم الذي يوشكون أن يصبُّوه على المرسلين. ولكن القوم لم يمهلوه حتى قتلوه، فكان جزاؤه الجنة، وكان جزاء قومه أن أهلكوا بالصيحة ؛ كما أخبر الله تعالى عنهم في نهاية القصة.
وقد ذكر كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلاً من عند المسيح عيسى بن مريم- عليه السلام- كما نصَّ عليه قتادة وغيره، ولم يذكر عن واحد من متأخري المفسرين غير هذا القول. وفي ذلك نظر من وجوه:
أحدهما: أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء الرسل كانوا رسل الله عز وجل، لا من جهة المسيح عليه السلام ؛ كما قال الله تعالى:﴿ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما * فَعَزَّزْنا بِثالثٍ فَقالُوا إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ﴾، إلى أن قالوا:﴿ رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَما عَلَيْنا إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبينُ ﴾. ولو كان هؤلاء من الحواريين، لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح- عليه السلام- والله تعالى أعلم. ثم لو كانوا رسل المسيح، لما قالوا لهم:﴿ ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا ﴾.
والثاني: أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، وأن أنطاكية أول مدينة آمنت بالمسيح ؛ ولهذا كانت أنطاكية عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللاتي فيهن بتاركةٌ ؛ وهنَّ: القدس ؛ لأنها بلد المسيح. وأنطاكية ؛ لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها. والإسكندرية ؛ لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البتاركة، والمطارنة، والأساقفة، والقساوسة، والشمامسة، والرهابين. ثم رومية ؛ لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم، وأطَّده. ولما ابتنى القسطنطينية، نقلوا البترك من رومية إليها، كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم ؛ كسعيد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين. فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت، فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم، والله أعلم.
الثالث: أن قصة أنطاكية مع الحواريين كانت بين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة. وقد ذكر أبو سعيد الخدري- رضي الله عنه- وغير واحد من السلف، أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة، لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم ؛ بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين. ذكروه عند قوله تبارك وتعالى:﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى ﴾(القصص: 43). فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أخرى غير أنطاكية.
ثانيًا- وتبدأ قصة هذا المثل بقول الله عز وجل:﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ﴾، وهو خطاب من الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم، يأمره فيه بأن يضرب لقومه مثلاً بأصحاب هذه القرية ؛ إذ جاءهم المرسلون، فكذبوهم، فأنزل الله تعالى عليهم عذابه. و﴿ أَصْحابَ الْقَرْيَةِ ﴾ بدل من ﴿ مَثَلاً ﴾، وتفسير له. و﴿ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ﴾ بدل من ﴿ أَصْحابَ الْقَرْيَةِ ﴾.
وقال تعالى:﴿ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ﴾، بتأنيث الضمير، ولم يقل:﴿ جَاءَهَمُ الْمُرْسَلُونَ ﴾، بتذكيره، مع أنه المراد، إشارة إلى أن المرسلين جاؤوهم في مقرِّهم. وفيه إشارة أيضًا إلى أن هذه القرية كانت من القرى الكبيرة المشهورة في غابر الأزمنة.
وليس في ذلك ما يدل على أن هذه القرية هي أنطاكية، أو يشير إلى أن هؤلاء المرسلين هم رسل المسيح- عليه السلام- كما ذكر أكثر المفسرين من السلف ؛ لأن قصة هذه القرية وأهلها كانت قبل المسيح- عليه السلام- ثم بعد هذا عمرت أنطاكية، وبقي أهلها على شركهم، إلى أن جاءهم من جاءهم من الحواريين، فآمنوا بالمسيح- عليه السلام- على أيديهم، ودخلوا دينه. وقد سبق أن ذكرنا أن أنطاكية كانت أول المدائن الأربعة الكبار التي آمن أهلها بالمسيح عليه السلام. وكان ذلك بعد رفعه إلى السماء ؛ ولكن ظن من ظن من المفسرين أن المرسلين المذكورين في هذه القصة أنهم رسل المسيح، وأنهم من الحواريين.
وقال تعالى:﴿ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ﴾، ولم يقل:﴿ أَتَاهَا الْمُرْسَلُونَ ﴾ ؛ لأن المجيء أعمُّ من الإتيان، ويقال: اعتبارًا بحصول الشيء. أما الإتيان فهو المجيء بسهولة، وقد يقال باعتبار القصد، وإن لم يكن منه الحصول. ويقال كل منهما في الأعيان والمعاني، ولِمَا يكون مجيئه بالذات، وبالأمر. ويقال المجيء لمن قصد مكانًا، أو عملاً، أو زمانًا.
والفرق بين قولنا:« جاء فلان »، و« أتى فلان »: أن الأول كلام تام لا يحتاج إلى صلة، وأن الثاني يقتضي مجيئه بشيء ؛ ولهذا يقال:« جاء فلان نفسُه »، ولا يقال:« أتى فلان نفسُه ». ثم كثر ذلك حتى استعمل أحد اللفظين في موضع الآخر.
ومجيء المرسلين- هنا- هو مجيء بالأمر، قُصِد به المكان. ومثله في ذلك قول الله تعالى:﴿ وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ ﴾(هود: 77). وفي ذلك دليل آخر على أن المرسلين كانوا رسل الله تعالى، ولم يكونوا رسل المسيح عليه السلام.
وقوله تعالى:﴿ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما ﴾ بدل من قوله:﴿ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ﴾. أي: إذ جاءها المرسلون ؛ إذ أرسلنا إليهم اثنين منهم. و﴿ إِذْ ﴾ لفظ يعبَّر به عما مضى من الزمان. وقال تعالى:﴿ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ ﴾، ولم يقل:﴿ أَرْسَلْنا إِلَيْهِا ﴾ ؛ كما قال من قبل:﴿ إذ جاءها ﴾. ولعل السر في ذلك أن الإرسال حقيقة ؛ إنما يكون إليهم، لا إليها، بخلاف المجيء. وأيضا التعقيب عليه بقوله تعالى:﴿ فكذبوهما ﴾ أظهر.
والفاء في قوله تعالى:﴿ فَعَزَّزْنا بِثالثٍ ﴾ عاطفة للتعقيب أيضًا. ونُزِّلَ الفعلُ منزلة اللازم لمعنى لطيف، وهو أن المقصود من إرسال الرسل هو نصرة الحق، لا نصرة الرسل ؛ ولهذا لا يصح تفسيره بقولهم: فَعَزَّزْناهما. وقرأ عاصم في رواية أبى بكر والمفضل عن عاصم:﴿ فعزَزنا ﴾، خفيفة الزاي. وقرأ الباقون وحفص عن عاصم:﴿ فعزَّزنا ﴾، مشددة الزاي. وقيل: المعنى على قراءة التشديد: قوَّينا وشدَّدنا. يقال: تعزَّز لحم الناقة، إذا صلب. والمعنى على قراءة التخفيف: غلبنا وقهرنا. ومنه قوله تعالى:﴿ وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴾(ص: 23). أي: غلبني وقهرني.
والحقيقة أن المعنى على القراءتين يرجع إلى معنى واحد ؛ لأن الغالب القاهر لا يكون غالبًا وقاهرًا، إلا إذا كان قويًّا شديدًا، والله تعالى هو القوي الشديد الغالب لكل شيء، والقاهر لكل الخلق، وهو العزيز الذي ذلَّ لعزته كلُّ عزيز. ويفرَّق بين القراءتين بأن في قراءة التشديد مبالغة لم تكن في قراءة التخفيف.
وقوله تعالى:﴿ فَقالُوا إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ﴾ عطف على ما قبله للتفصيل. أي: فقال الثلاثة بعد تكذيب الاثنين، والتعزيز بثالث:﴿ إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ﴾. وقولهم هذا إلى نهاية القصة هو تفصيل تام للقصة بعد إجمال، وبعض تفصيل ؛ فقد ذُكِرَت أولاً إجمالاً بقوله تعالى:﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ ﴾، ثم فُصِّلت بعض التفصيل بقوله تعالى:﴿ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ﴾ إلى قوله:﴿ فَعَزَّزْنا بِثالثٍ ﴾، ثم فُصِّلت تفصيلاً تامًا بقوله تعالى:﴿ قالُوا إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ﴾ إلى قوله:﴿ إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ﴾.
ثالثًا- وهنا اعترض أصحاب القرية على الرسل، فأجابوهم بقولهم:﴿ ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَىْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ ﴾. أي: ليس لكم علينا مزيَّة موجبة لاختصاصكم بما تدَّعونه من أنكم مرسلون، وما أنزل الرحمن شيئًا من وحي، أو غيره على أحد - كما تدَّعون - وما أنتم إلا تكذبون في دعواكم هذه.
ومثل هذا الإنكار والتكذيب هو خطاب المشركين لمن قال: إن الله أرسله، وأنزل عليه الوحي، لا لمن جاء رسولاً من عند رسول ؛ فقد جعلوا كونهم بشرًا مثلهم دليلاً على عدم إرسالهم. وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة ؛ كما أخبر الله تعالى عنهم، فقال:﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا ﴾(التغابن: 6). أي: استعجبوا من ذلك، وأنكروه ؛ ولهذا قال هؤلاء الكفرة:﴿ ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَىْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ ﴾.
وقولهم:﴿ ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا ﴾ نفي لكونهم رسلاً، وإثبات لكونهم بشرًا مماثلين لهم في حقيقة الذات البشرية على سبيل الحصر. ولفظ البَشَر يستوي فيه الواحد والجمع، وثُنِّيَ في قوله تعالى:﴿ فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ﴾(المؤمنون: 47). ويقتضي حسن الهيئة ؛ لأنه مشتق من البشارة، وهي حسن الهيئة. يقال: رجل بِشْر وبشير، إذا كان حسَنَ الهيئة. وكذلك: امرأة بشيرة. وسمِّي البشر: بَشرًا ؛ لأنهم أحسن الحيوان هيئة.
ويجوز أن يقال: إن لفظ البشر، يقتضي الظهور. وسمُّوا: بشرًا ؛ لظهور شأنهم. ومنه قيل لظاهر الجلد: بشرة. فعُبِّر عن الإنسان بالبشر، اعتبارًا بظهور جلده من الشعر، بخلاف الحيوانات التي تكون بشرتها مغطاة بالصوف أو الوَبر أو الشعر.
ويُفَرَّق بين البشر، والحيوان من وجه آخر، وهو: أن البشر مخلوق من جسد ونفس وعقل، والحيوان مخلوق من جسد ونفس فقط. ومن هنا يمكن القول بأن البشر حيوان ناطق، خلافًا للمشهور من قولهم: الإنسان حيوان ناطق ؛ لأن الإنسان يمثل مرحلة متطورة من حياة البشر ؛ ولهذا قيل- كما ذكر الراغب الأصفهاني-: الإنسان مدنيُّ بالطبع. وقال أيضًا: وخُصَّ في القرآن كل موضع اعتُبِر من الإنسان جُثَّتُُهُ وظاهرُه بلفظ البشر ؛ نحو قوله تعالى:﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً ﴾(الفرقان: 54). ولما أراد الكفار الغَضَّ من الأنبياء، اعتبروا ذلك فقالوا:﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾(المدثر: 25). وقالوا على سبيل الإنكار:﴿ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَّسُولاً ﴾(الإسراء: 94).
وأما قوله تعالى:﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ﴾(الكهف: 122) فهو تنبيهٌ على أن الناس يتساوون في الذات البشرية. وإنما يتفاضل الناس بما يختصُّون به من المعارف الجليلة، والأعمال الجميلة ؛ ولهذا قال عقبه:﴿ يُوحَى إِلَيَّ ﴾، تنبيهًا على أنه عليه الصلاة والسلام تميَّز بذلك عن غيره. وعلى هذا جاء قولهم:﴿ ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا ﴾.
وأما قولهم:﴿ وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَىْءٍ ﴾ فهو نَفْيٌ على سبيل الاستغراق والشمول لأن يكون الرحمن أنزل شيئًا من وحي، أو غيره على أحد ؛ كما يدَّعي المرسلون. وظاهر هذا القول يقتضي إقرارهم بالألوهية ؛ لكنهم كانوا ينكرون الرسالة، ويتوسلون بالأصنام.
وكان تخصيص هذا الاسم الجليل:﴿ الرَّحْمنُ ﴾، من بين أسماء الله عز وجل ؛ لزعمهم أن الرحمة تأبى إنزال الوحي، لاستدعائه تكليفًا، لا يعود منه نفع له سبحانه، ولا يتوقف إيصاله تعالى الثواب إلى العبد عليه. وفيه إشارة إلى الرد عليهم ؛ لأن الله تعالى لما كان اسمه الرحمن، وكان إنزال الوحي رحمة، فكيف لا ينزل رحمته، وهو الرحمن ؟
وأما قولهم:﴿ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ ﴾ فهو تصريح بما قصدوه من الجملتين السابقتين. وفي اختيار صيغة المضارع﴿ تَكْذِبُونَ ﴾ على صيغة ﴿ كَاذِبُون ﴾ دلالة على أن تكذيبهم الرسل صفة متجدِّدة فيهم ومستمرة. وهذا ما عبَّر الله تعالى عنه بقوله:﴿ كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ ﴾(المائدة: 70).
رابعًا- فكان جواب المرسلين لهم عن إنكارهم وتكذيبهم أن قالوا:﴿ رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ﴾، وهو جار مجرى القسم في التوكيد، مع ما فيه من تحذيرهم من معارضة علم الله تعالى. استشهدوا به على صدقهم في قولهم:﴿ إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ﴾، وزادوا- هنا- اللام المؤكدة ؛ لِمَا شاهدوا منهم من شدة الإنكار. وذكر العلماء: أن من يستشهد بعلم الله تعالى كاذبًا، يكفر. وليس كذلك الذي يقسم على كذب ؛ لأن من يقول:« يعلم الله »، فيما لا يكون، فقد نسب الله سبحانه إلى الجهل، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وفي اختيارهم عنوان الربوبية ﴿ رَبُّنا ﴾ رمز إلى حكمة الإرسال، وهو إشارة إلى الرد على الكفار، حيث قالوا لهم:﴿ ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا ﴾ ؛ وذلك لأن الله جل وعلا، إذا كان يعلم أنهم لمرسلون، يكون كقوله سبحانه:﴿ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾(الأنعام: 124). يعني: ربُّنا يعلم بالأمور، لا أنتم ؛ لانتفاء النظر في الآيات عنكم، فاختارنا الله تعالى بعلمه لرسالته. وفي تقديم المسند إليه ﴿ إِلَيْكُمْ ﴾ على المسند ﴿ مُرْسَلُونَ ﴾ تقوية للحكم، أو للحصر.
ثم حصروا مهمتهم بإبلاغ رسالة الله عز وجل بلاغًا مبينًا، فقالوا:﴿ وَما عَلَيْنا إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبينُ ﴾ ؛ وكأنهم قالوا: قد خرجنا عن عهدته، فلا مؤاخذة لنا بعد ذلك من جهة ربنا. أو: ما علينا شيء نطالب به من جهتكم، إلا تبليغ الرسالة على الوجه المذكور، وقد فعلناه، فأي شيء تطلبون منا حتى تصدقونا ؟
والمراد بـ﴿ الْبَلاغُ الْمُبينُ ﴾: البلاغ المظهر للحق بكل ما يمكن، فإذا تمَّ ذلك ولم يقبلوا، فإنه يحق هنالك الهلاك. ولكون بلاغهم مبينًا، حَسُنَ منهم الاستشهاد بالعلم، وجاء كلامهم ثانيًا في غاية التأكيد لمبالغة الكفرة في الإنكار جدًّا، حيث أتوا بثلاث جمل، وكل منها دال على شدة الإنكار. قال الزمخشري:« فإن قلت: لم قيل:﴿ إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ﴾ أولاً، و﴿ إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ﴾ ثانيًا ؟ قلت: لأن الأول ابتداءُ إخبارٍ، والثاني جوابٌ عن إنكار.. وإنما حسُن منهم هذا الجواب الوارد على طريق التوكيد والتحقيق مع قولهم:﴿ وَما عَلَيْنا إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبينُ ﴾. أي: الظاهر المكشوف بالآيات الشاهدة لصحته ؛ وإلا فلو قال المدعي: والله إني صادق فيما أدعي، ولم يظهر البينة، كان قبيحًا ».
خامسًا- ولما ضاقت الحيل على أصحاب القرية، وعيَّت بهم العلل، قالُوا:﴿ إِنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ قَالُوْا ﴾. أي: تشاءمنا بكم. قالوا ذلك جَرْيًا على دَيْدَن الجهلة، حيث يتيمَّنون بكل ما يوافق شهواتهم، وإن كان مُسْتجْلِبًا لكل شرٍّ، ويتشاءمون بما لا يوافقها، وإن كان مُسْتتْبِعًا لكل خير. وهذه حجة العاجز الذي لا يستطيع أن يحتج بشيء، فيلوذ إلى اتهام خصومه بالتَّطَيُّر. ونظير ذلك قوله تعالى عن آل فرعون:﴿ فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾(الأعراف: 131). وقال تعالى عن قوم صالح:﴿ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ﴾(النمل: 47).
وأصل التَّطَيُّر: التفاؤل بالطير البارِحُ والسَّانِحُ، ثم عمَّ. والطير البارِحُ هو الذي يجيء من على يسارك، فإن جاء من على يمينك فهو السَّانِحُ. وكان مَناطُ تطَيُّر الكفرة بالمرسلين مقالتُهم ؛ كما يشعر به قولهم مقسمين:﴿ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا ﴾ عن مقالتكم هذه، ﴿ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ ﴾. وهكذا أسفر الباطل عن غُشْمِه في وجه الحق، وأطلق على المرسلين تهديده وبغيه، وعربد في التعبير والتفكير.
وقولهم:﴿ لَنَرْجُمَنَّكُمْ ﴾ جواب لقسمهم أكَّدوه باللام، والنون الثقيلة. ويحتمل وجهين من التفسير: أحدهما: الرجم بالقول، وهو أن يكون بالشتم ونحوه. روي عن مجاهد أنه قال: لنشتمنكم. ثم قال: والرجم في القرآن كله: الشتم. والثاني: الرجم بالفعل، وهو أن يكون بالحجارة ونحوها.
أما قولهم:﴿ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ ﴾ فعلى الوجه الأول يكون ترقيًّا من الشتم إلى الضرب والإيلام الحِسِّي ؛ كالسلخ والقطع والصلب. وعلى الوجه الثاني يكون المراد منه القتل المتسبِّب عن الرجم بالحجارة. وقيل: هو الحريق. وقيل: عذابٌ، غيرُه تبقى معه الحياة. والمراد: لنقتلنكم بالحجارة، أو لنعذبنكم عذابًا أليمًا، لا يقادر قدره، تتمنون معه القتل.
ولكن الواجب المُلْقَى على عاتق الرسل يقضي عليهم بالمُضِيِّ في الطريق، فيردُّون على الطغاة البغاة، غير آبهين بتهديدهم ووعيدهم، فأجابوهم عن مقالتهم بقولهم:﴿ طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَ ﴾. أي: شؤمكم معكم، وهو إقامتكم على الكفر. وأما نحن فلا شؤم معنا ؛ لأنا ندعو إلى التوحيد وعبادة الله تعالى، وفيه غاية اليمن والخير والبركة. وقيل: حظكم من الخير والشر معكم، ولازم في أعناقكم. قال معناه الضحاك. وقال قتادة: أعمالكم معكم. وقال ابن عباس: معناه: الأرزاق والأقدار تتبعكم. وقال الفراء: رزقكم وعملكم، والمعنى واحد.
وفي لسان العرب لابن منظور:« وطائر الإنسان: ما حصل له في علم الله، ممَّا قدَّر له. ومنه الحديث: بالميمون طائره. أي: بالمبارك حظه. ويجوز أن يكون أصله من الطير السانح والبارح. وقوله عز وجل:﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ ﴾(الإسراء: 13)، قيل: حظه. وقيل: عمله. وقال المفسرون: ما عمل من خير أو شر، ألزمناه عنقه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. والمعنى فيما يرى أهل النظر: أن لكل امرىء الخير والشر قد قضاه الله، فهو لازم عنقه. وإنما قيل للحظ من الخير والشر: طائر ؛ لقول العرب: جرى له الطائر بكذا من الشر، على طريق الفأل والطِّيَرَة، على مذهبهم في تسمية الشيء بما كان له سببًا، فخاطبهم الله بما يستعملون، وأعلمهم أن ذلك الأمر الذي يسمونه بالطائر يلزمه ».
وقراءة العامة:﴿ طائِرُكُمْ مَعَكُمْ ﴾. وقرىء:﴿ طَيْرُكُمْ مَعَكُمْ ﴾، بياء ساكنة بعد الطاء. قال الزجاج: الطائر والطير بمعنى. وفي القاموس: الطير جمع: طائر، وقد يقع على الواحد. وذُكِر أن الطير لم يقع في القرآن إلا جمعًا ؛ كما في قول الله تعالى:﴿ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ﴾(النور:41). فإذا كان في هذه القراءة كذلك، فلفظ الطائر، وإن كان مفردًا، فهو بالإضافة شامل لكل ما يتطير به، فهو في معنى الجمع، فتكون القراءتان متوافقتين .