ثانيا: البابية
زعيم البابية
زعيم البابية الأول هو علي بن
محمد رضا الشيرازي ولد في سنة 1235هـ في بلدة شيراز جنوبي إيران، مات أبوه
وهو طفل فكفله خاله ويلقب بالميرزا، وقد نسب بعضهم أسرته إلى آل البيت وهذا
غير صحيح، والذين أطلقوا عليه هذه النسبة إنما أطلقوها لشيء يريدونه في
أنفسهم، لكي يطبقوا الروايات التي تذكر أن المهدي يكون من آل البيت. أي
ومحمد علي الشيرازي من أهل البيت وهو المهدي المنتظر حسب خرافاتهم، ولم
يلتفتوا إلى أن اسم المهدي محمد بن عبد الله كما ثبت بالسنة المطهرة،
ووالده الشيرازي يسمى محمد رضا، وأمه فاطمة بيكم، وقد توفي والده وهو صغير
فقام بكفالته خاله ويسمى الميرزا علي .
وحين بلغ السادسة من عمره عهد
به خاله إلى رجل يسمى الشيخ عابد- وهو أحد تلامذة الرشتي- لتعليمه في
مدرسته التي سماها (قهوة الأنبياء والأولياء)، وبعد أن حصل على قسط قليل من
التعلم عزف عن مواصلة التعليم، فأشركه خاله في التجارة ببيع الأقمشة،
وتفنن فيها مع خاله الآخر الميرزا محمد.
وكان قد بلغ السابعة عشر من
عمره فاتصل به أحد دعاة الرشتية ويسمى جواد الكربلائي الطباطبائي، وبدأ
يلقي في مسامعه أفكار الشيخية عن المهدي المنتظر ويوهمه بأنه ربما يكون هو
نفسه- أي علي محمد الشيرازي- المهدي المنتظر لظهور علامات تدل على ذلك- حسب
زعمه- فوقع الشيرازي في فخه وترك التجارة ومال إلى قراءة كتب الصوفية التي
زادته هوساً، ومارس شتى الرياضات، حتى إنه كان- كما قيل عنه- يقف في حر
الظهيرة المحرقة تحت أشعة الشمس على سطح البيت مكشوف الرأس عاري البدن
مستقبلاً قرص الشمس، حتى كان يعتريه الذهول والوجوم، وتأثر عقله، وكان
الكربلائي ملازماً له يحرضه على هذا المسلك. فأشفق عليه خاله وأرسله إلى
النجف وكربلاء للاستشفاء بزيارة المشاهد التي يقدسونها هناك، إلا أنه في
كربلاء بدأ يتردد على مجالس كاظم الرشتي ويدرس أفكاره وآراء الشيخية، وكان
الرشتي أيضاً قد وقع اختياره على الميرزا ليجعل منه المهدي المنتظر، فكان
يبشر أتباعه ومريديه وتلاميذه باقتراب الأوان لظهور المهدي ودنو قيام
القائم المنتظر، ويشير إلى الميرزا علي محمد ويبالغ في إكرامه، وكثيراً ما
يردد شعراً:
يا صغير السن يا رطب البدن |
يا قريب العهد من شرب اللبن |
(15)
و بعد موت كاظم الرشتى سنة1259? – 1843م رحل على محمد الشيرازى
إلى شيراز فلحق به حسين البشروئى كبير التلامذة وأقنعه أن كاظم الرشتى كان
يشير إلى أن على محمد رضا الشيرازى يمكن أن يكون هو الباب وأن البشروئى هو
باب الباب.
و كان يساعد البشروئى في غرس هذه الفكرة في ذهن الشيرازى
الجاسوس الروسى " كنيازى دلكورچى" الذي تظاهر بالإسلام وواظب على حضور
مجالس الرشتى وفيها تعرّف على علىّ محمد رضا الشيرازى , وكان كنيازى
دلكورچى أو "عيسى اللنكرانى" كما سمّى نفسه يحرص على إلقاء فكرة أنّ علىّ
رضا هو الباب في ذهن علىّ رضا وفي ذهن بقية التلاميذ , وهذا ما اعترف به
الجاسوس نفسه في مذكراته التي نشرت في مجلة الشرق السوفيتية 1924-1925م .
و
يصف الجاسوس نصائحه إلى السيد علىّ رضا الشيرازى بعدما أوحى إليه أنّه
الباب فيقول : "إن الناس يقبلون منك كل ما تقول من رطب ويابس ويتحمّلون عنك
كل ما تقول ولو قلت بإباحة الأخت وتحليلها للأخ. فكان السيد يصغى ويسمع ,
وطفق كل من الميرزا حسين علىّ - الذي سُمّى بعد ذلك بالبهاء وكان من تلاميذ
الشيرازى كما سيأتي- وأخوه الميرزا يحيى نوري (صبح أزل) والميرزا علىّ رضا
الشيرازىّ ونفرٌ من رفقتهم يأتونني مجدَّداً ولكن مجيئهم كان من باب غير
معتاد في السفارة".
و لفظ الباب أي (الواسطة الموصّلة إلى الحقيقة
الإلهية) . وهو مصطلح شيعي شائع عند الشيعة الإمامية التي ظهرت بينها هذه
البدعة المهلِكة المأخوذة من أكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم
((أنا مدينة العلم وعلي بابها))
(1)
. فما توفي علي بن أبى طالب رضي الله عنه حتى صنعوا له بدلا من الباب ألف باب وكذاب.
و بالفعل وافقت إيحاءات حسين البشروئي والجاسوس كنيازى دلكورچى ما في نفس الشيرازىّ من هوى وصدق الله إذ يقول:
وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ[الأنعام:121]. وقال سبحانه:
شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112] فأعلن الشيرازي أنه الباب وطار بها البشروئي في الآفاق يعلن أنّه رأي الباب وأنّه هو باب الباب.
(16)
وبعد أن أحكمت الخطة بينه وبين مشائخ الرشتية وسفير روسيا في
ذلك الوقت والمترجم بها دالجوركي أعلن في سنة 1260هـ أنه هو الباب الأصل
إلى الإمام الغائب المنتظر عند الشيعة، وأن صديقه الملا حسين البشروئي هو
باب الباب، وهو أول من آمن به.
وكان عمر الباب الشيرازي آنذاك خمساً
وعشرين سنة، واعتبر ذلك اليوم عيد المبعث لظهور الباب ودعوته جهراً، وآمن
بدعوته كثير من زعماء الشيخية وأهمهم ثمانية عشر شخصاً جمعهم في حروف (حي)؛
لأن الحاء والياء يعادلها ثمانية عشر بحساب الحروف الأبجدية.
ثم وزع
هؤلاء في أقاليم مختلفة من إيران وتركستان والعراق، وكان لهؤلاء نشاط في
الدعوة إلى البابية؛ خصوصاً زرين تاج بنت الملا صالح القزويني، والملا حسين
البشروئي، والملا محمد علي الزنجاني، والملا حسين اليزدي، والملا
البارفروشي
(2)
.
(17)
واجتمع علىّ الشيرازىّ عند إعلان أنّه الباب مع سبعة عشر رجلاً
وامرأة هي قرة العين وكان هؤلاء هم صفوة الطائفة الذين يصلحون لزعامتها في
نظره فكانوا جميعاً به تسع عشرة نفساً , لذلك قدّسوا الرقم 19 فجعلوا السنة
19 شهراً والشهر 19 يوماً . وما لبث الميرزا على محمد رضا الشيرازي - بعد
أن ادعى أنّه باب المهدي – أن ادعى أنّه هو المهدىّ وسمّى نفسه " قائم
الزمان " ثم ادّعى بعدها أنّه رسول بل أعظم من جميع الرسل وأنّه الممثل
الحقيقي لجميع الرسل والأنبياء فهو نوح يوم بُعث نوح وهو موسى يوم بُعث
موسى وهو عيسى يوم بُعث عيسى وهو محمد يوم بُعث محمد عليه الصلاة والسلام ,
وألَّف كتاب ( البيان ) وادعى أنّه وحى وأنّه ناسخ لما قبله وأنه جاء
ليجمع بين اليهودية والمسيحية والإسلام وأنّه لا فرق بينهم , وملأ كتابه
بالضلالات والخرافات والسخافات .... فلما وجد من يتبعه من أراذل الناس
وسقطتهم ادعى أن الله حل فيه أي اتخذ من جسده مكانا يسكنه ويظهر من خلاله
لخلقه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
(18)
صلتهم بالمستعمرين في ذلك الوقت
لقد واتت الفرصة الذهبية
جميع الحاقدين على الإسلام حينما اصطنعوا فكرة الباب لعلي محمد، وقفوا بكل
عزم في نشر دعوته الهدامة، فقد سارع زعماء الإنجليز والروس إلى حماية هذه
الطائفة بل وإلى مدها بالأسلحة الخفيفة والثقيلة والهجوم على حكومتهم في
أماكن كثيرة لإرهاب الناس وتوجيههم إلى قبول هذه الدعوة، وفتحت الحكومة
الروسية أبواب بلادها للبابية ليعيشوا فيها بكل حرية وراحة ويدبروا
المؤامرات من مكان مصون.
وكان للمترجم الروسي (كنياز دالجوركي)
بالسفارة الروسية نشاط قوي في دفع الميرزا على محمد إلى زعامة البابية
وادعاء المهدية، ثم دفع البهاء أيضاً إلى زعامة البهائية ومناصرته أمام
الشاه، كما صرح بذلك في مذكراته
(3)
، وقد قوي أمر الشيرازي وانتشرت دعوته وخافت الحكومة والعلماء من انتشارها حتى ألقي القبض على الشيرازي وحوكم وقتل.
(19)
وقد أوعزت اليهودية العالمية إلى يهود إيران أن ينضموا تحت لواء
هذه الحركة بصورة جماعية، ففي طهران دخل فيها (150) يهوديا وفي همذان
(100) يهودي وفي كاشان (50) يهوديا وفي كلباكليا (85) يهوديا، كما دخل
حبران من أحبار اليهود إلى البابية في همدان، وهما الحبر الباهو والحبر
لازار، ودخول هذا العدد من اليهود في مدة قصيرة في هذه النحلة يكشف لنا
الحجم الكبير للتآمر والأهداف الخطيرة التي يسعون لتحقيقها من وراء هذه
الحركة ضد الإسلام والمسلمين
(20)
نهاية الشيرازي
ثار العلماء في شيراز على دعاة البابية فقبض
على الباب وأحضر من بوشهر إلى مجلس الحاكم فخر على الأرض ترتعد فرائصه
فلطمه الحاكم وبصق في وجهه ثم رمى به في السجن سنة 1847م
(21)
لقد كان للحاكم حسين خان –حاكم شيراز- مواقف حازمة ضد الباب
الشيرازي ورفقته؛ حيث استدرج الشيرازي وألان له القول، واعتذر عما صدر منه
من إهانة له ولأتباعه سابقاً، وأوهمه أنه قد تابعه أيضاً على فكرة البابية
وسائر الدعاوى التي جاء بها الباب.
ثم استدعى الحاكم العلماء ليقيم
عليهم الحجة في صدق الباب كما أوهمه، وكان قد عهد إليهم بأن يصبروا في
مخاتلة الرجل وأخذ الاعتراف منه بخط يده في سائر عقائده الباطلة، وأوهمه
بأن كل من سيجرؤ على إظهار الكفر به فسيكون القتل مصيره؛ فاطمأن الباب وحضر
مجلس العلماء ثابت الجنان طافي الجرأة ثم بادأ الجميع بقوله: إن نبيكم لم
يخلف لكم بعده غير القرآن فهاكم كتابي البيان فاتلوه واقرءوه تجدوه أفصح
عبارة من القرآن.
وكظم العلماء ثورتهم، ثم طلب الحاكم إلى الباب أن
يسجل ما يدعوه إليه كتابة ففعل ذلك، ثم نظر العلماء في ما كتبه الشيرازي
فإذا به ينضح كفراً وخروجاً عن الإسلام.
(22)
ووجدوا به أخطاء فاحشة في اللغة فلما كلموه فيها ألقى اللوم علي الوحي الذي جاء بها هكذا
(23)
فما كان من الحاكم إلا أن صب جام غضبه على الشيرازي قائلا له:
(فلأعذبنك لعلك ترجع عن غيك). ثم ضربه ضرباً شديداً وأمر أن يطاف به في
الأسواق على دابة شوهاء، وأن يعلن التوبة من كفره على منبر المسجد الكبير.
ثم ارتقى المنبر وأعلن رجوعه من كل ما ادعاه وأنه على دين الاثني عشرية؛ لأنه الحق اليقين
(4)
، ثم ألقي به في غيابة السجن
(5)
، ولكن أتباعه ظلوا ينشرون فكرة المهدية والبابية وسائر الأفكار الشريرة، وعوام الناس يتناقلونها بكل لهفة لموافقتها هوى في نفوسهم.
ولما
تجاوز الأمر الحدَّ وأدرك عامة الشعب الإيراني واستيقظت الحكومة في إيران
على مدافع هؤلاء وبنادقهم يقتلون المسلمين ويستبيحون منهم كل ما يشاءون في
معارك دامية واغتيالات متنوعة، ويدعون إلى ظهور المهدي وإلى كتابه المقدس –
اجتمع عدد كبير من العلماء والفقهاء وكفروا الباب وأعلنوا مروقه عن
الإسلام ووجوب قتله بالأدلة الدامغة.
إلا أن حاكم ولاية أصبهان الذي تظاهر بالإسلام ويسمى منوجهر خان الأرمني- وهو صليبي العقيدة والهوى
(24)
الذي دفعته الحكومة الروسية لإعلان إسلامه فغمره الشاه بالفضل وأولاه ثقته وعينه معتمداً للدولة في أصفهان
(25)
استطاع إخفاءه في قصره معززاً مكرماً ليطعن به الإسلام والمسلمين من الخلف.
وكان
الشيرازي يصدر توجيهاته إلى أتباعه من هذا المخبأ إلى أن توفي هذا الحاكم
وخلفه جورجين خان، فكتب هذا إلى الحكومة في طهران يخبرهم عن وجود الشيرازي
فألقي عليه القبض وأمر الميرزا أقاس رئيس الوزراء أن يعتقل الشيرازي في
قلعة ماه كو، ومكث معتقلاً حوالي ثلاث سنوات.
(26)
مؤتمر بدشت
(6)
وما تم فيه من خطط :
وحينما أحسَّ البابيون من أنفسهم القوة وكان زعيمهم الباب معتقلاً قرروا عقد مؤتمر لهم ليبحثوا فيه:
- أمر الباب وكيفية خلاصه من السجن حتى ولو بالقوة.
- نسخ شريعة الإسلام وإظهار شرائعهم، وهذا أهم ما عقد له المؤتمر.
وقد
تم بالفعل عقد هذا المؤتمر في صحراء ( بدشت) حضر فيه جميع زعماء البابية،
وكان من بينهم غانية البابيين الخليعة أم سلمى زرين تاج التي كانت تلقب
بقرة العين وبالطاهرة، وهي ذات جمال فائق وأنوثة ثائرة تستميل بجمالها
أغمار الناس، وكانت هي القوة الحقيقة في الظاهر في هذا المؤتمر، ولها أخبار
طويلة لا يتسع المقام لذكرها هنا.
(27)
وفى هذا المؤتمر خطبت قرة العين خطبتها الإباحية المشهورة التي
دعت فيها إلى شيوعية النساء والمال حيث قالت "ومزقـوا هذا الحجاب الحاجز
بينكم وبين نسائكم بأن تشاركوهن بالأعمال واصلوهن بعد السلوة وأخرجوهن من
الخلوة إلى الجلوة فما هن إلا زهرة الحياة الدنيا وإن الزهرة لا بد مـن
قطفها وشمها لأنها خلقت للضم والشم ولا ينبغي أن يعد أو يحد شاموها بالكيف
والكـم فالزهرة تجنى وتقطف وللأحباب تهدى وتتحف
(28)
وفي هذا المؤتمر الخليط من الرجال والنساء لا تسأل عما جرى فيه
من الإباحية والخمر والفرح والمرح والأفعال القبيحة والتي أقلها إباحة
الزنى وجميع ما يشتهيه الشخص، ثم أضافوا إلى هذا أيضاً إقرار نسخ الشريعة
الإسلامية بمجيء الباب الشيرازي باعتبار أنه المهدي الذي ينسخ شريعة محمد
صلى الله عليه وسلم.
ودعوى البابية هذه إنما هي ستار لاستجلاب الناس
إلى البابية، ولأنهم يعتقدون أن الشيرازي ليس باباً فقط أو مهدياً، بل هو
رسول مثل سائر الرسل وله شريعة خاصة به، وأقر في المؤتمر إحكام الخطط
لتنفيذ مآربهم بالنسبة لنسخ الشريعة الإسلامية بتحريض شديد من تلك الغانية
الملقبة بقرة العين
(7)
.
(29)
وبعد انفضاض المؤتمر وتسرب أنبائه ثارت ثائرة رجال الدين
والدولة في إيران فطلب الشاه من ولي عهده ناصر الدين وهو في تبريز أن يحضر
الباب من سجنه فأقر الباب أمام العلماء بأنه جاء بدين جديد فوجه إليه
العلماء هذا السؤال : ما النقص الذي رأيته في دين الإسلام وما الذي كملت به
هذا النقص لو كان؟ فارتج الدعي ولم يجد شيئا، فاستقر الرأي على وجوب قتله
مرتداً بعد أن أطبق العلماء على كفره وردته.
(30)
وانفتحت على حكومة طهران مصائب كثيرة من البابيين وحروب مشتعلة،
فرأت الحكومة وعلى رأسها ناصر الدين شاه القاجاري قتل الشيرازي رأس الفتنة
فجيء به وأظهر تراجعه، ولكن لم يكن لينفعه الاستمرار على خداعه ومراوغته
فتقرر قتله وقتل كبار أتباعه المسجونين معه في صبيحة يوم الاثنين 27 من
شعبان سنة 1265هـ –1849م.
ولما علم الشيرازي بهذا الحكم ضده انهارت
قواه وأسقط في يده وصار يبكي وينوح وغمره الذهول العميق والشرود حتى فهم
أصحابه في السجن أن هناك أمراً قد قرر، ولكنهم ما أرادوا أن يسألوه فاستفاق
بعد منتصف الليل وبدأ يردد أبياتاً شعرية منها
(8)
:
تروم الخلـد في دار المنـايا |
فكم قد رام مثلك ما تروم |
تنام ولم تنم عنـك المنايـا |
تنبــه للمنيـة يـا نؤوم |
لهوت عن الفناء وأنت تفنى |
فمـا شيء من الدنيا يدوم |
ويروى عنه أنه
طلب من يقتله في السجن في تلك الليلة حتى لا يرى المهانة والذل ثم القتل في
صبيحة هذه الليلة، وقال لأصحابه: لو فعل أحد من الأحباء هذا لكان ما فعله
عين الصواب
(9)
.
ولما استعد لذلك الملا محمد علي الزوزني ارتعد الشيرازي
وتراجع حينما رأي سيفه مسلولاً وبدأ هو وأصحابه في النحيب والبكاء، وفي
الصباح اقتيد هو والزوزني وكان يوماً مشهوداً فقد احتشد الناس رجالاً
ونساءً وأطفالاً من كل مكان ليروا تنفيذ حكم الإعدام.
(31)
وقبل إعدامه تبرأ منه كاتب وحيه وبصق في وجهه وأعلن توبته فأفرج عنه
(32)
ولما جاء وقت التنفيذ حمل الباب من سجنه ومعه أحد أتباعه
لإعدامهما في أحد ميادين تبريز الذي كان مكتظاً بفئات كثيرة من الناس حضروا
ليشاهدوا مصرع هذا الضال بيد أن القنصل الروسي استطاع أن يتصل بقائد
الفرقة المكلفة بتنفيذ حكم الإعدام وأن يغريه برشوة كبرى ليحاول إنقاذ
الباب. وشد هذا الباب إلى عمود طويل ومعه تابعه والناس يلعنونه ويستعجلون
الفتك به، وأطلق الجنود ثمانمائة رصاصة استقرت كلها في جسد تابعه المغرور
غير واحدة من هذه الرصاصات فقد قطعت الحبل الذي ربط به الباب وحينما إنجاب
الدخان الكثيف رأي الناس جسد التابع ممزقاً تحت العمود ، أما الباب فقد فر،
غير أن بعض الجند الذين كانوا يعرفونه ويجهلون قصد قائدهم مزقوا جسده
بالرصاص فانهار قنصل الروس وبكى من هول ما أصيب به. وقد تركت جثته في خندق
طعاماً للوحوش بعد أن صور قنصل الروس الجثة وبعث بالصورة إلى حكومته
(33)
وكان هلاك عدو الله على محمد رضا الشيرازي مؤسس البابية في يوم 27 شعبان 1266هـ الموافق 8 يوليو 1850م
(34)
ولقد كان لهذه الحادثة ألم شديد في نفس قنصل الروس الذي حاول
بكل جهده أن ينقذه ليتم به تنفيذ مآرب الحاقدين على الإسلام، ولقد سر
المسلمون بقتله ونهاية فتنته، ثم امتد القتل بعد ذلك إلى جميع زعماء
البابية مثل قرة العين والكاشاني وغيرهم
(10)
.
وكان قد استمر في ضلالته متدرجاً من كونه الباب للمهدي إلى
أنه هو المهدي إلى النبوة وأخيراً إلى الألوهية، وكان أتباعه ينادونه بالرب
وبالإله
(11)
، وقد أذله الله في أماكن كثيرة أمام الناس بعد مناظراته ويضرب ضرباً مهيناً ثم يبدي التوبة
(12)
، إلا أن المتآمرين على إثارة التفرقة بين المسلمين والراغبين في
الإباحية ونسخ الشريعة الإسلامية كانوا يدفعونه دفعاً ويهيئون له الجو
الملائم لمثل هذه الدعاوى الكاذبة.
(35)
وبعد أن انتهي أمر الباب الشيرازي قام صراع حاد جدًّا على تولي
الزعامة البابية وما بعدها بين حسين علي المازندراني وزعماء البابية،
متمثلة في أخيه صبح الأزل، وقد أخذ حسين علي المازندراني منها نصيب الأسد،
وهزمت البابية على يديه شر هزيمة في أحداث طويلة قد لا يكون من الضروري
سردها هنا كاملة؛ بل نشير إلى أهم ما وقع فيها فيما يأتي.
(36)
هزيمة البابية
كان من تلاميذ الباب الميرزا على الشيرازي
الميرزا يحيى على النوري المازندراني وأخوه الأكبر الميرزا حسين على النوري
المازندراني وكان الباب الشيرازي قد أوصى بالأمر من بعده للميرزا يحيى
النوري الذي اشتهر باسم ( صبح أزل) فشق ذلك على أخيه الميرزا حسين مما أدى
إلى نشوب نزاع بينهما على خلافة الشيرازي وادعى كل منهما أنه وريث الشيرازي
وخليفته
(37)
لقد خاض البهائيون بزعامة حسين المازندراني مواجهات عنيفة وجدالا كبيرا وسفك دماء وتآمرا، وأحياناً خداع ومراوغة البابية.
وكان
من حظ البهائية العميلة أن وقفت معها اليهودية العالمية بالتأييد وتهيئة
الظروف لانتشارها وإماتة البابية الأزلية أتباع يحيى صبح الأزل الذي أخذ
الزعامة بعد الباب الشيرازي بوصية من الشيرازي له، فاختطفها منه أخوه حسين
المازندراني، ولقد هاجم المازندراني أخاه صبح الأزل وأتباعه بكلام طويل
زاعماً أنه من وحي الله وكلامه، وأنه هو المظهر الإلهي وصاحب نسخ الديانات
كلها.
وزعم أن البيان الذي ألّفه الشيرازي وأكمله صبح الأزل إنما كان من وحيه هو. (فاعتبروا يا أولي الألباب).
وفسر
هو وأتباعه وصية الشيرازي بالبابية إلى يحيى صبح الأزل بأنها خطة لتحويل
أنظار الناس عن المازندراني لخوفهم عليه في ذلك الوقت، ونشطوا في بث
الدعايات السيئة ضد البابية الأزلية.
(38)
وكذلك حاول الميرزا حسين بكل السبل أن يسرق خلافة الشيطان
الشيرازي من أخيه حتى ادعى أن الباب الشيرازي كان مجرد ممهد لظهوره وأن
البيان كان للتبشير به فالباب وإن كان في زعمهم رسولا إلا أنه ـ أي الميرزا
حسين ـ هو المقصود الأعظم من إرساله بل ومن إرسال كل الرسل لأن ظهور الله
لخلقه سيكون من خلاله وأطلق على نفسه اسم ( بهاء الله ) .
و بذلك انقسم البابيون إلى ثلاث فرق هي :
بابيون أزليون : تمسكوا ببابية الشيرازي ورفضوا اتباع أي من الرجلين.
بابيون أزليون : اتبعوا يحيى على النوري المازندراني الملقب بـ ( صبح أزل) تمسكا بوصية الشيرازي.
بهائيون : اتبعوا حسين النوري المازندراني الذي لقب نفسه بـعد ذلك بـ (بهاء الله).
ولما
اشتد الخلاف بينهم أبعدتهم الحكومة العثمانية إلى مدينة أدرنه التركية حيث
كان يعيش اليهود واحتدم النزاع بينهما حتى حاول كل واحد منهما أن يدس السم
لأخيه وحاول البهاء اغتيال صبح أزل مما دفع الحكومة إلى نفى يحيى إلى قبرص
ونفى البهاء إلى عكا بفلسطين.
وظل يحيى النوري (صبح أزل) في قبرص حتى
مات ودفن بها في سنة 29 إبريل 1912 م مخلفا كتابا سماه (الألواح ) تكملة
البيان الفارسي و(المستيقظ) ناسخ البيان وأوصى بالخلافة لابنه الذي تنصر
وانفض عنه أتباعه. وأما في عكا فقد امتدت الأيادي الماسونية والصهيونية
لإمداد البهاء بالمال وأسكنوه قصرا عظيما يسمى قصر البهجة وهو القصر الذي
دفن فيه البهاء بعد ذلك وأمر البهائيين أن يتخذوه قبلتهم في الصلاة ومكان
حجهم. قام البهاء في عكا بعملية ليلية لإبادة أتباع أخيه صبح أزل استخدم
فيها الحراب والسواطير مما دفع الحكومة إلى اعتقاله في أحد معسكرات عكا
وكانت تسمح لأتباعه ولغيرهم بزيارته والتحدث معه.
وهذه المعاملة الخاصة
للبهاء مما يلفت الأنظار ويستغرب له فهذا الأفاك ارتكب عدة جرائم وأثار
فتنة استحق بها الحكم بالإعدام مرات ومرات وفي كل مرة تجد أصابع خفية تتوسط
له أو تهربه أو تخفف عنه ولكن حين نعرف أن الماسونيين والصهاينة كانوا
خلفه من البداية يزول هذا العجب فقد كان البهاء وأمثاله يسيرون وفق منهج
يخدم مصالح الصهاينة في الدرجة الأولى وقد رأيت أن البابية في الأصل صنعة
الجواسيس كما أن البهاء وعائلته قد تربوا في أحضان أعداء الأمة وكانت أسرته
عميلة وفية للروس فقد كان أخوه الأكبر كاتباً في السفارة الروسية، وكان
زوج أخته الميرزا مجيد سكرتيراً للوزير الروسي بطهران .
(39)
وقد ظل صبح الأزل يواصل بث الدعاية ضد البهائية بكل وسيلة وهو
في منفاه في جزيرة فاما جوستا بقبرص، وألف المؤلفات الكثيرة في بيان كذب
المازندراني ونشر الدعايات ضده، إلا أن الأمور كانت تسير في غير صالحه إلى
أن هلك في سنة 1912م عن اثنين وثمانين سنة.
بعد أن أوصى بالأمر من بعده لابنه الميرزا محمد هادي، مع أنه ما كان له ما يوصي به
(13)
، وقد تفرق بقية أتباعه بعد ذلك وانتهت البابية التي لاحقتها مطاردة البهائية في كل مكان وصلت إليه البهائية.
ولم
يفد البابية شيئا ذلك الوحي الذي لفقه زعيمهم الشيرازي حين قال في كتابه
(البيان): (لا إله إلا أنت لك الأمر والحكم، وأن البيان هدية مني إليك)،
حيث فسر البابيون هذا الكلام على أنه موجه إلى يحيى صبح الأزل، بينما العجل
حسين كما سماه أخوه صبح الأزل جاء في حقه قول يحيى: (خذوا ما أظهرنا بقوة
وأعرضوا عن الإثم لعلكم ترحمون إن الذين يتخذون العجل من بعد نور الله
أولئك هم المشركون) على أن الإثم والعجل المقصود بهما حسين المازندراني
(14)
.
لقد أفنى حسين المازندراني أتباع يحيى صبح الأزل بحد السلاح،
ولم يأخذه فيهم أي إحساس بالرحمة أو اللين؛ لأنه في عجل شديد للوصول إلى ما
يهدف إليه من آماله العريضة، ولما كان الغرض يتعلق بدراسة البهائية
وآرائها وبيان ما وصلت إليه من نفوذ وانعكاسات في العالم الإسلامي – فإننا
نكتفي بذكر الإشارات السابقة في بيان نشأة البهائية التي قامت على أنقاض
البابية التي قامت هي الأخرى على أكتاف الرشتية بتأسيس من الشيخية الضالة.
(40)