معنى الحسد لغةً واصطلاحًا
معنى الحسد لغةً :
الحسد مصدره حسده يَحْسِدُه ويَحْسُدُه، حَسَدًا وحُسودًا وحَسادَةً،
وحَسَّدَه: تمنى أن تتحول إليه نعمته وفضيلته،
أو يسلبهما، وحَسَدَهُ الشيءَ وعليه .
معنى الحسد اصطلاحًا:
وقال الجرجاني :
[ الحسد تمني زوال نعمة المحسود إلى الحاسد .]
وقال الكفوي :
[ الحسد : اختلاف القلب على الناس ؛
لكثرة الأموال والأملاك . ]
وعرفه الطاهر بن عاشور فقال :
[ الحسد : إحساس نفساني مركب من استحسان نعمة في الغير،
مع تمني زوالها عنه؛ لأجل غيرة على اختصاص الغير بتلك الحالة،
أو على مشاركته الحاسد ]
ذم الحسد والنهي عنه
أولًا في القرآن الكريم
ثانيًا في السنة النبوية
أولًا : في القرآن الكريم :
قال تعالى :
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ
وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ
وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ }
[ سورة الفلق ] .
وقال تعالى :
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ
كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ }
[ البقرة : 109] .
قال تعالى :
{ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ
فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا }
[النساء : 54 ].
ثانيًا : السنة النبوية :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه ،
أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا ،
وكونوا عباد الله إخوانًا )
قال ابن بطال :
( وفيه : النهي عن الحسد على النعم ،
وقد نهى الله عباده المؤمنين
عن أن يتمنوا ما فضل الله به بعضهم على بعض،
وأمرهم أن يسألوه من فضله )
وقال الباجي :
( أن تنافس أخاك في الشيء حتى تحسده عليه،
فيجر ذلك إلى الطعن والعداوة، فذلك الحسد ).
الفرق بين الحسد وبعض الصفات
الفرق بين الحسد والغبطة
قال ابن منظور:
[ الغبط أن يرى المغبوط في حال حسنة،
فيتمنى لنفسه مثل تلك الحال الحسنة، من غير أن يتمنى زوالها عنه،
وإذا سأل الله مثلها فقد انتهى إلى ما أمره به ورضيه له،
وأما الحسد فهو أن يشتهي أن يكون له ما للمحسود،
وأن يزول عنه ما هو فيه ]
وقال الرازي :
[ إذا أنعم الله على أخيك بنعمة ؛ فإن أردت زوالها فهذا هو الحسد ،
وإن اشتهيت لنفسك مثلها فهذا هو الغبطة ]
وقد تسمى الغبطة حسدًا كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود،
أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( لا حسد إلا في اثنتين :
رجل آتاه الله مالًا فسلط على هلكته في الحق،
ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها )
وقد فسر النووي الحسد في الحديث فقال :
[ هو أن يتمنى مثل النعمة التي على غيره
من غير زوالها عن صاحبها ]
الفرق بين الحسد والمنافسة والمسابقة :
قال ابن القيم :
[ للحسد حدٌّ، وهو المنافسة في طلب الكمال،
والأنفة أن يتقدَّم عليه نظيره،
فمتى تعدَّى ذلك صار بغيًا وظلمًا يتمنى معه زوال النعمة عن المحسود،
ويحرص على إيذائه ]
وقال الغزالي :
(والمنافسة في اللغة مشتقة من النفاسة ،
والذي يدلُّ على إباحة المنافسة قوله تعالى :
{ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ }
[ المطففين : 26 ]،
وقال تعالى :
( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ )
[ الحديد : 21 ]،
وإنما المسابقة عند خوف الفوت ؛
وهو كالعبدين يتسابقان إلى خدمة مولاهما،
إذ يجزع كلُّ واحد أن يسبقه صاحبه
فيحظى عند مولاه بمنزلة لا يحظى هو بها
وبيَّن الغزالي سبب المنافسة فأرجعها إلى :
[ إرادة مساواته، واللحوق به في النعمة، وليس فيها كراهة النعمة،
وكان تحت هذه النعمة أمران:
أحدهما : راحة المنعم عليه،
والآخر : ظهور نقصانه عن غيره وتخلفه عنه،
وهو يكره أحد الوجهين، وهو تخلُّف نفسه، ويحب مساواته له.
ولا حرج على من يكره تخلف نفسه ونقصانها في المباحات ]
وقد تنافس الصحابة في الخير، وبذلوا أسباب الكمال؛
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول :
( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا أن نتصدق،
فوافق ذلك مالًا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر،
إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك ؟
قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكلِّ ما عنده،
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟
قال: أبقيت لهم الله ورسوله.
قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا ) .
ولكن المنافسة في أمور الدنيا
تجر غالبًا إلى الوقوع في الحسد والأخلاق الذميمة،
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟
فقال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك؛ تتنافسون،
ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون ).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم :
( والله لا الفقر أخشى عليكم،
ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا
كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها،
وتهلككم كما أهلكتهم ) .
وقد نبَّه على ذلك الرازي فقال :
[ لكن هاهنا دقيقة؛
وهي أن زوال النقصان عنه بالنسبة إلى الغير له طريقان:
أحدهما : أن يحصل له مثل ما حصل للغير.
والثاني : أن يزول عن الغير ما لم يحصل له.
فإذا حصل اليأس عن أحد الطريقين فيكاد القلب لا ينفكُّ
عن شهوة الطريق الآخر، فهاهنا إن وجد قلبه بحيث لو قدر على إزالة
تلك الفضيلة عن ذلك الشخص لأزالها، فهو صاحب الحسد المذموم،
وإن كان يجد قلبه بحيث تردعه التقوى عن إزالة تلك النعمة عن الغير؛
فالمرجو من الله تعالى أن يعفو عن ذلك ] .
الفرق بين الحسد والعين :
العين نظر باستحسان قد يشوبه شيء من الحسد،
ويكون الناظر خبيث الطبع
يشتركان في الأثر، ويختلفان في الوسيلة والمنطلق .
فالحاسد :
قد يحسد ما لم يره، ويحسد في الأمر المتوقع قبل وقوعه،
ومصدره تحرق القلب واستكثار النعمة على المحسود،
وبتمني زوالها عنه أو عدم حصولها له وهو غاية في حطة النفس.
والعائن :
لا يعين إلا ما يراه والموجود بالفعل، ومصدره انقداح نظرة العين،
وقد يعين ما يكره أن يصاب بأذى منه كولده وماله .
قال ابن القيم :
[ العاين والحاسد يشتركان في شيء، ويفترقان في شيء؛
فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من يريد أذاه؛
فالعائن تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته،
والحاسد يحصل له ذلك عند غيب المحسود وحضوره أيضًا،
ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده من جماد، أو حيوان،
أو زرع، أو مال ]
وقال أيضًا :
[ العائن حاسد خاص، وهو أضر من الحاسد
وأنه أعم فكل عائن حاسد ولا بد، وليس كل حاسد عائنًا ] .
أقوال السلف والعلماء في الحسد
- قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما :
[ كلُّ الناس أستطيع أن أرضيه إلا حاسد نعمة،
فإنه لا يرضيه إلا زوالها ]
وقال ابن سيرين :
[ ما حسدت أحدًا على شيء من أمر الدنيا؛
لأنَّه إن كان من أهل الجنة، فكيف أحسده على الدنيا،
وهي حقيرة في الجنة؟! وإن كان من أهل النار،
فكيف أحسده على أمر الدنيا، وهو يصير إلى النار؟! ] .
وقال الحسن البصري :
[ ما رأيت ظالـمًا أشبه بمظلوم من حاسد، نفس دائم،
وحزن لازم، وغمٌّ لا ينفد ] .
وقال أبو حاتم :
[ الواجب على العاقل مجانبة الحسد على الأحوال كلِّها،
فإنَّ أهون خصال الحسد هو ترك الرضا بالقضاء،
وإرادة ضد ما حكم الله جل وعلا لعباده،
ثم انطواء الضمير على إرادة زوال النعم عن المسلم،
والحاسد لا تهدأ روحه، ولا يستريح بدنه إلا عند رؤية
زوال النعمة عن أخيه، وهيهات أن يساعد القضاء ما للحساد في الأحشاء ] .
وقال كذلك :
[ الحسد من أخلاق اللئام، وتركه من أفعال الكرام،
ولكلِّ حريق مطفئ، ونار الحسد لا تطفأ ] .
وقال أبو الليث السمرقندي :
[ يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل حسده إلى المحسود :
أولاها : غمٌّ لا ينقطع.
الثانية : مصيبة لا يُؤجر عليها.
الثالثة : مذمَّة لا يُحمد عليها.
الرابعة: سخط الرب.
الخامسة : يغلق عنه باب التوفيق ] .
وقال الجاحظ :
[ ومتى رأيت حاسدًا يصوب إليك رأيًا إن كنت مصيبًا،
أو يرشدك إلى صواب إن كنت مخطئًا، أو أفصح لك بالخير في غيبته عنك،
أو قصر من غيبته لك ؟ فهو الكلب الكَلِب، والنمر النَّمِر،
والسمُّ القَشِب، والفحل القَطِم ، والسيل العَرِم .
إن ملك قتل وسبى، وإن مُلِك عصى وبغى. حياتك موته،
وموتك عرسه وسروره. يصدِّق عليك كلَّ شاهد زور،
ويكذِّب فيك كلَّ عدل مرضي. لا يحب من الناس إلا من يبغضك،
ولا يبغض إلا من يحبك. عدوك بطانة وصديقك علانية
أحسن ما تكون عنده حالًا أقل ما تكون مالًا، وأكثر ما تكون عيالًا،
وأعظم ما تكون ضلالًا. وأفرح ما يكون بك أقرب ما تكون بالمصيبة عهدًا،
وأبعد ما تكون من الناس حمدًا، فإذا كان الأمر على هذا فمجاورة الموتى،
ومخالطة الزَّمنى ، والاجتنان بالجدران، ومصر المصران،
وأكل القردان، أهون من معاشرته والاتصال بحبله ] .
وقال الجرجاني :
[ كم من فضيلة لو لم تستترها المحاسد لم تبرح في الصدور كامنة،
ومنقبة لو لم تزعجها المنافسة لبقيت على حالها ساكنة !
لكنها برزت فتناولتها ألسن الحسد تجلوها، وهي تظن أنها تمحوها،
وتشهرها وهي تحاول أن تسترها؛ حتى عثر بها من يعرف حقها،
واهتدى إليها من هو أولى بها، فظهرت على لسانه في أحسن معرض،
واكتست من فضله أزين ملبس؛ فعادت بعد الخمول نابهة،
وبعد الذبول ناضرة، وتمكنت من برِّ والدها فنوَّهت بذكره،
وقدرت على قضاء حقِّ صاحبها، فرفعت من قدره ]
قال تعالى :
{ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ }
[ البقرة : 216 ] .
وقال ابن المعتز :
[ الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له،
ويبخل بما لا يملكه، ويطلب ما لا يجده ]
وقال ابن حزم :
[ إنَّ ذوي التراكيب الخبيثة يبغضون لشدة الحسد كلَّ من أحسن إليهم،
إذا رأوه في أعلى من أحوالهم ] .
وقال الخطاب بن نمير السعدي :
[ الحاسد مجنون؛ لأنَّه يحسد الحسن والقبيح ]
آثار الحسد
الحسد مذموم مرذول، أجمل الماوردي مذمته في قوله :
[ ولو لم يكن من ذمِّ الحسد إلا أنَّه خلق دنيء،
يتوجَّه نحو الأكفاء والأقارب، ويختصُّ بالمخالط والمصاحب،
لكانت النزاهة عنه كرمًا، والسلامة منه مغنمًا،
فكيف وهو بالنفس مضرٌّ، وعلى الهمِّ مصرٌّ،
حتى ربما أفضى بصاحبه إلى التلف، من غير نكاية في عدو،
ولا إضرار بمحسود ]
ثم ذكر للحسد مساوئ فقال :
1- حسرات الحسد وسقام الجسد، ثم لا يجد لحسرته انتهاء،
ولا يؤمل لسقامه شفاء
قال ابن المعتز:
[ الحسد داء الجسد ].
2- انخفاض المنزلة وانحطاط المرتبة؛
لانحراف الناس عنه، ونفورهم منه،
وقد قيل في منثور الحكم :
[ الحسود لا يسود ] .
3- مقت الناس له، حتى لا يجد فيهم محبًّا،
وعداوتهم له، حتى لا يرى فيهم وليًّا، فيصير بالعداوة مأثورًا،
وبالمقت مزجورًا.
4- إسخاط الله تعالى في معارضته، واجتناء الأوزار في مخالفته،
إذ ليس يرى قضاء الله عدلًا، ولا لنعمه من الناس أهلًا .
وقال الجاحظ :
[ الحسد -أبقاك الله- داء ينهك الجسد، ويفسد الودَّ، علاجه عسر،
وصاحبه ضجر، وهو باب غامض، وأمر متعذر، فما ظهر منه فلا يداوى،
وما بطن منه فمداويه في عناء ]
ثم قال :
[ ولو لم يدخل- رحمك الله- على الحاسد بعد تراكم الهموم على قلبه،
واستمكان الحزن في جوفه، وكثرة مضضه ، ووسواس ضميره،
وتنغيص عمره، وكدر نفسه، ونكد لذاذة معاشه،
إلا استصغاره لنعمة الله عنده، وسخطه على سيده بما أفاد الله عبده،
وتمنيه عليه أن يرجع في هبته إياه، وألا يرزق أحدًا سواه،
لكان عند ذوي العقول مرحومًا، وكان عندهم في القياس مظلومًا ] .
5- يؤدي إلى المقاطعة، والهجر، والبغضاء، والشحناء.
6- يؤدي إلى الغيبة، والنميمة.
7- يؤدي إلى الظلم، والعدوان.
8- يؤدي إلى السرقة، والقتل
أقسام الحسد
قسم العلماء الحسد إلى عدد من الأنواع ،
ومنهم ابن القيم الذي قسمه إلى ثلاثة أنواع :
1- حسد يخفيه ولا يرتب عليه أذى بوجه ما؛
لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده، بل يجد في قلبه شيئًا من ذلك،
ولا يعاجل أخاه إلا بما يحب الله.
2- تمني استصحاب عدم النعمة، فهو يكره أن يحدث الله لعبده نعمة،
بل يحب أن يبقى على حاله؛ من جهله، أو فقره، أو ضعفه،
أو شتات قلبه عن الله، أو قلة دينه.
3- حسد الغبطة؛ وهو تمني أن يكون له مثل حال المحسود،
من غير أن تزول النعمة عنه، فهذا لا بأس به ولا يعاب صاحبه،
بل هذا قريب من المنافسة .
وقسمه الغزالي إلى أربعة أنواع :
1- أن يحب زوال النعمة عنه ،
وإن كان ذلك لا ينتقل إليه، وهذا غاية الخبث .
2- أن يحب زوال النعمة إليه لرغبته في تلك النعمة ،
مثل رغبته في دار حسنة، أو امرأة جميلة، أو ولاية نافذة ،
أو سعة نالها غيره، وهو يحبُّ أن تكون له ،
ومطلوبه تلك النعمة لا زوالها عنه .
3- أن لا يشتهي عينها لنفسه، بل يشتهي مثلها،
فإن عجز عن مثلها أحب زوالها كيلا يظهر التفاوت بينهما .
4- أن يشتهي لنفسه مثلها، فإن لم تحصل فلا يحب زوالها عنه ،
وهذا هو المعفو عنه إن كان في الدنيا، والمندوب إليه إن كان في الدين.
أسباب الوقوع في الحسد
للحسد أسباب كثيرة
تجعل النفس المريضة تقع في حبائل تلك الخصلة الذميمة،
وقد أحسن الجرجاني إجمالها فقال :
[ التفاضل -أطال الله بقاءك- داعية التنافس؛ والتنافس سبب التحاسد؛
وأهل النقص رجلان: رجل أتاه التقصير من قبله، وقعد به عن الكمال اختياره،
فهو يساهم الفضلاء بطبعه، ويحنو على الفضل بقدر سهمه.
وآخر رأى النقص ممتزجًا بخلقته، ومؤثلًا في تركيب فطرته،
فاستشعر اليأس من زواله، وقصرت به الهمة عن انتقاله؛
فلجأ إلى حسد الأفاضل، واستغاث بانتقاص الأماثل؛
يرى أنَّ أبلغ الأمور في جبر نقيصته،
وستر ما كشفه العجز عن عورته، اجتذابهم إلى مشاركته،
ووسمهم بمثل سمته ] .
وفصل الغزالي أسباب التحاسد في سبعة أمور هي :
1– العداوة والبغضاء :
وهذا أشد أسباب الحسد ، فإنَّ مَن آذاه شخص بسبب من الأسباب،
وخالفه في غرض بوجه من الوجوه، أبغضه قلبه، وغضب عليه،
ورسخ في نفسه الحقد. والحقد يقتضي التشفي والانتقام،
فإن عجز المبغض عن أن يتشفَّى بنفسه أحبَّ أن يتشفَّى منه الزمان،
وربما يحيل ذلك على كرامة نفسه عند الله تعالى،
فمهما أصابت عدوه بلية فرح بها، وظنَّها مكافأة له من جهة الله
على بغضه وأنها لأجله، ومهما أصابته نعمة ساءه ذلك؛
لأنَّه ضدُّ مراده، وربما يخطر له أنه لا منزلة له عند الله؛
حيث لم ينتقم له من عدوه الذي آذاه، بل أنعم عليه.
2- التعزز :
وهو أن يثقل عليه أن يترفع عليه غيره، فإذا أصاب بعض أمثاله ولاية،
أو علمًا، أو مالًا خاف أن يتكبر عليه، وهو لا يطيق تكبره،
ولا تسمح نفسه باحتمال صلفه (4) ، وتفاخره عليه،
وليس من غرضه أن يتكبر، بل غرضه أن يدفع كبره،
فإنَّه قد رضي بمساواته مثلًا، ولكن لا يرضى بالترفع عليه.
3- الكبر :
وهو أن يكون في طبعه أن يتكبر عليه، ويستصغره، ويستخدمه،
ويتوقَّع منه الانقياد له، والمتابعة في أغراضه،
فإذا نال نعمة خاف ألا يحتمل تكبره ويترفع عن متابعته،
أو ربما يتشوَّف إلى مساواته، أو إلى أن يرتفع عليه،
فيعود متكبرًا بعد أن كان متكبرًا عليه.
4- التعجب :
فيجزع الحاسد من أن يتفضل عليه من هو مثله في الخلقة،
لا عن قصد تكبر، وطلب رياسة، وتقدم عداوة،
أو سبب آخر من سائر الأسباب .
5- الخوف من فوت المقاصد :
وذلك يختص بمتزاحمين على مقصود واحد،
فإن كان واحد يحسد صاحبه في كلِّ نعمة تكون عونًا له
في الانفراد بمقصوده، ومن هذا الجنس تحاسد الضرات في التزاحم
على مقاصد الزوجية، وتحاسد الإخوة في التزاحم على نيل المنزلة
في قلب الأبوين؛ للتوصل به إلى مقاصد الكرامة والمال .
6- حب الرياسة وطلب الجاه :
وذلك كالرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فنٍّ من الفنون،
إذا غلب عليه حب الثناء، واستفزه الفرح بما يمدح به
من أنه واحد الدهر، وفريد العصر في فنه، وأنه لا نظير له،
فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم لساءه ذلك، وأحبَّ موته،
أو زوال النعمة عنه التي بها يشاركه المنزلة؛ من شجاعة،
أو علم، أو عبادة، أو صناعة، أو جمال، أو ثروة،
أو غير ذلك مما يتفرد هو به، ويفرح بسبب تفرده.
7- خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى :
فإنك تجد من لا يشتغل برياسة وتكبر ولا طلب مال،
إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله تعالى فيما أنعم الله به عليه؛
يشقُّ ذلك عليه، وإذا وصف له اضطراب أمور الناس، وإدبارهم،
وفوات مقاصدهم، وتنغص عيشهم فرح به،
فهو أبدًا يحبُّ الإدبار لغيره،
ويبخل بنعمة الله على عباده، كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته.
وهذا السبب معالجته شديدة؛ لأنَّ الحسد الثابت بسائر الأسباب
أسبابه عارضة، يتصور زوالها فيطمع في إزالتها،
وهذا خبث في الجبلة لا عن سبب عارض، فتعسر إزالته
أقسام الحسد