الأبرص والأقرع والأعمى
...........................................................
اقتضت
حكمة الله جل وعلا أن تكون حياة الإنسان في هذه الدار مزيجاً من السعادة
والشقاء ، والفرح والترح ، والغنى والفقر والصحة والسقم ، وهذه هي طبيعة
الحياة الدنيا سريعة التقلب ، كثيرة التحول كما قال الأول :
طبعت على كدر وأنت تريدها
صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها
متطلب في الماء جذوة نار
وهو جزء من الابتلاء والامتحان الذي من أجله خلق الإنسان : {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً } (الانسان 2) .
وربنا جل وعلا سبحانه يبتلي عباده بالضراء كما يبتليهم بالسراء ، وله على العباد عبودية في الحالتين ، فيما يحبون وفيما يكرهون .
فأما
المؤمن فلا يجزع عند المصيبة ، ولا ييأس عند الضائقة ، ولا يبطر عند
النعمة بل يعترف لله بالفضل والإنعام ، ويعمل جاهدا على شكرها وأداء حقها .
وأما
الفاجر والكافر فيَفْرَق عند البلاء ، ويضيق من الضراء ، فإذا أعطاه الله
ما تمناه ، وأسبغ عليه نعمه كفرها وجحدها ، ولم يعترف لله بها ، فضلا عن
أن يعرف حقها ، ويؤدي شكرها .
وقد حدثنا الرسول – صلى الله عليه وسلم- عن هذين الصنفين من الناس ، الكافرين بالنعمة ، والشاكرين لها ، في القصة التي أخرجها البخاري و مسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (
إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى ، فأراد الله أن يبتليهم ، فبعث
إليهم ملكا ، فأتى الأبرص ، فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : لون حسن ،
وجلد حسن ، ويذهب عني الذي قد قَذِرَني الناس ، قال : فمسحه فذهب عنه
قَذَرُه ، وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا ، قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال :
الإبل ، قال : فأعطي ناقة عُشَراء ، فقال : بارك الله لك فيها ، قال :
فأتى الأقرع فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال شعر حسن ، ويذهب عني هذا الذي قد
قَذِرَني الناس ، قال : فمسحه فذهب عنه ، وأعطي شعرا حسنا ، قال : فأي
المال أحب إليك ؟ قال : البقر ، فأعطي بقرة حاملا ، فقال : بارك الله لك
فيها ،قال : فأتى الأعمى ، فقال : أي شيء أحب إليك ، قال : أن يرد الله إلي
بصري فأبصر به الناس ، قال : فمسحه فرد الله إليه بصره ، قال : فأي المال
أحب إليك ، قال : الغنم ، فأعطي شاة والدا ، فأنتج هذان وولد هذا ، قال :
فكان لهذا واد من الإبل ، ولهذا واد من البقر ، ولهذا واد من الغنم ، قال :
ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته ، فقال : رجل مسكين قد انقطعت بي
الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي أعطاك
اللون الحسن والجلد الحسن والمال ، بعيرا أتَبَلَّغُ عليه في سفري ، فقال :
الحقوق كثيرة : فقال له : كأني أعرفك ، ألم تكن أبرص يَقْذَرُك الناس ؟!
فقيرا فأعطاك الله ؟! فقال : إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر ، فقال :
إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت ، قال : وأتى الأقرع في صورته ، فقال
له مثل ما قال لهذا ، ورد عليه مثل ما رد على هذا ، فقال : إن كنت كاذبا
فصيرك الله إلى ما كنت ، قال : وأتى الأعمى في صورته وهيئته ، فقال : رجل
مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله
ثم بك ، أسألك بالذي رد عليك بصرك ، شاة أتبلغ بها في سفري ، فقال : قد كنت
أعمى فرد الله إلي بصري ، فخذ ما شئت ودع ما شئت ، فوالله لا أَجْهَدُكَ
اليوم شيئا أخذته لله ، فقال : أمسك مالك ، فإنما ابتليتم ، فقد رُضِيَ عنك
، وسُخِطَ على صاحبيك ).
إنها
قصة ثلاثة نفر من بني إسرائيل ، أصيب كل واحد منهم ببلاء في جسده ،فأراد
الله عز وجل أن يختبرهم ، ليظهر الشاكر من الكافر ، فأرسل لهم مَلَكـًا ،
فجاء إلى الأبرص فسأله عن ما يتمناه ، فتمنى أن يزول عنه برصه ، وأن يُعطى
لونا حسنا وجلدا حسنا ، فمسحه فزال عنه البرص ، وسأله عن أحب المال إليه ،
فاختار الإبل ، فأعطي ناقة حاملاً، ودعا له الملك بالبركة ، ثم جاء إلى
الأقرع ، فتمنى أن يزول عنه قرعه ، فمسحه فزال عنه، وأعطي شعرا حسنا ،
وسأله عن أحب المال إليه فاختار البقر ، فأعطي بقرة حاملاً ، ودعا الملك له
بالبركة ، ثم جاء الأعمى ، فسأله كما سأل صاحبيه ، فتمنى أن يُرَدَّ عليه
بصره ، فأعطي ما تمنى ، وكان أحب الأموال إليه الغنم ، فأعطي شاة حاملاً .
ثم
مضت الأعوام ، وبارك الله لكل واحد منهم في ماله ، فإذا به يملك واديـًا
من الصنف الذي أخذه ، فالأول يملك واديـًا من الإبل ، والثاني يملك
واديـًا من البقر ، والثالث يملك واديـًا من الغنم ، وهنا جاء موعد
الامتحان الذي يفشل فيه الكثير وهو امتحان السراء والنعمة ، فعاد إليهم
الملك ، وجاء كلَّ واحد منهم في صورته التي كان عليها ليذكر نعمة الله عليه
، فجاء الأول على هيئة مسافر فقير أبرص ، انقطعت به السبل وأسباب الرزق ،
وسأله بالذي أعطاه الجلد الحسن واللون الحسن ، والمال الوفير ، أن يعطيه
بعيرًا يواصل به سيره في سفره ، فأنكر الرجل النعمة ، وبخل بالمال ، واعتذر
بأن الحقوق كثيرة ، فذكَّره الملك بما كان عليه قبل أن يصير إلى هذه الحال
، فجحد وأنكر ، وادعى أنه من بيت ثراء وغنى ، وأنه ورث هذا المال كابرا
عن كابر ، فدعا عليه المَلَك إن كان كاذبـًا أن يصير إلى الحال التي كان
عليها ، ثم جاء الأقرع في صورته ، وقال له مثل ما قال للأول ، وكانت حاله
كصاحبه في الجحود والإنكار ، أما الأعمى فقد كان من أهل الإيمان والتقوى ،
ونجح في الامتحان ، وأقر بنعمة الله عليه ، من الإبصار بعد العمى ، و
الغنى بعد الفقر ، ولم يعط السائل ما سأله فقط ، بل ترك له الخيار أن يأخذ
ما يشاء ، ويترك ما يشاء ، وأخبره بأنه لن يشق عليه برد شيء يأخذه أو يطلبه
من المال ، وهنا أخبره الملك بحقيقة الأمر وتحقق المقصود وهو ابتلاء
للثلاثة ، وأن الله رضي عنه وسخط على صاحبيه .
إن
هذه القصة تبين بجلاء أن الابتلاء سنة جارية وقدر نافذ ، يبتلي الله عباده
بالسراء والضراء والخير والشر ، فتنة واختباراً كما قال سبحانه : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } (الأنبياء 35 ) ، ليتميز المؤمن من غيره ، والصادق من الكاذب :{ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون
} (العنكبوت 1-2 ) فبالفتنة تتميَّز معادن الناس ، فينقسمون إلى مؤمنين
صابرين ، وإلى مدَّعين أو منافقين ، وعلى قدر دين العبد وإيمانه يكون
البلاء ، وفي المسند عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ، أي الناس أشد بلاء ؟ قال : (
الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل من الناس ، يبتلى الرجل على
حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ، وإن كان في دينه رقة خفف
عنه ، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة ) .
كما
تشير القصة إلى معنىً عظيم ، وهو أن الابتلاء بالسراء والرخاء قد يكون
أصعب من الابتلاء بالشدة والضراء ، وأن اليقظة للنفس في الابتلاء بالخير ،
أولى من اليقظة لها في الابتلاء بالشر .
وذلك لأن الكثيرين قد يستطيعون تحمُّل الشدَّة والصبر عليها، ولكنهم لا يستطيعون الصبر أمام هواتف المادَّة ومغرياتها .
كثير
هم أولئك الذين يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف ، ولكن قليل هم الذين
يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة .كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان فلا
تتهاوى نفوسهم ولا تذل ، ولكن قليل هم الذين يصبرون على الغنى والثراء ،
وما يغريان به من متاع ، وما يثيرانه من شهوات وأطماع ، كثيرون يصبرون على
التعذيب والإيذاء ، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الرغائب والمناصب .
وهذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يقول : “ابتُلينا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالضراء فصبرنا ، ثم ابتلينا بالسَّرَاء بعده فلم نصبر ” .
ولعل
السر في ذلك أن الشدَّة تستنفر قوى الإنسان وطاقاته ، وتثير فيه الشعور
بالتحدِّي والمواجهة ، وتشعره بالفقر إلى الله تعالى ، وضرورة التضرُّع
واللجوء إليه فيهبه الله الصبر ، أما السراء ، فإن الأعصاب تسترخي معها ،
وتفقد القدرة على اليقظة والمقاومة ، فهي توافق هوى النفس ، وتخاطب
الغرائز الفطريَّة فيها ، من حب الشهوات والإخلاد إلى الأرض ، فيسترسل
الإنسان معها شيئًا فشيئًا ، دون أن يشعر أو يدرك أنه واقع في فتنة ، ومن
أجل ذلك يجتاز الكثيرون مرحلة الشدة بنجاح ، حتى إذا جاءهم الرخاء سقطوا في
الابتلاء – كما فعل الأبرص والأقرع- ، وذلك شأن البشر ، إلا من عصم الله ،
فكانوا ممن قال فيهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : (
عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته
سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ) رواه مسلم ، فاليقظة للنفس في حال السراء أولى من اليقظة لها في حال الضراء ، والصلة بالله في الحالين هي وحدها الضمان .
كما
تؤكد القصة على أن خير ما تحفظ به النعم شكر الله جل وعلا الذي وهبها
وتفضل بها ، وشكره مبنيٌ على ثلاثة أركان لا يتحقق بدونها : أولها الاعتراف
بها باطناً ، وثانيها التحدث بها ظاهراً ، وثالثها تصريفها في مراضيه
ومحابه ، فبهذه الأمور الثلاثة تحفظ النعم من الزوال ، وتصان من الضياع .