نتناول الموضوع من حيث النقاط التالية:
أولاً: العلامات في التراث:
يبدو البحث في هذا الموضوع مثيراً للجدل، لما يتضمنه من مفارقة؛ لأن علم العلامات أو علم السيمياء –كما يسمى اليوم- علم حديث، يزعم لنفسه القدرة الكاملة على دراسة أنظمة العلامات التي ابتكرها الإنسان. فكيف نربط بين هذا العلم الحديث، وبين ما هو موجود في التراث العربي؟ وما جدوى هذا الربط؟ أهي نزعة تأصيل التراث تدفعنا لذلك؟ أم هي صيحة جاءتنا من غيرنا جعلتنا نعود إلى تراثنا لعلنا نجد فيه ما يشبه هذا العلم الوافد إلينا من الغرب؟.
هذه الأسئلة وغيرها مما يدور في فلكها تحتاج إلى مواجهة، وإلى عودة إلى التراث قصد تفهمه وتحليله وتقويمه.
إن الموروث الفكري العربي لا يعدو أن يكون في كنهه مخزوناً علمياً أو ثقافياً، يظهر في شكل نظام من العلامات الدالة. وتتجلى سيميائية هذا النظام في إطاره اللغوي والثقافي والحضاري.
وقد تبلور علم السيمياء على يد علماء الأصول والتفسير والمنطق واللغة والبلاغة. وكان الباحث والموجه للدرس السيميائي هو القرآن الكريم؛ إذ منذ نزوله كان التأمل في العلامة بغية اكتشاف بنيتها الدلالية. فقد أرشد القرآن الكريم في مواضع عدة إلى تدبرها، ومن ذلك قوله تعالى: )إن في ذلك لآياتٍ لقوم يعقلون(. الرعد، 4. وقوله: )وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون(. النحل، 16.
ففي هذا التوجيه الرباني كان التعامل مع العلامة قصد فهم دلالته الروحية والعقلية والكونية، والاستدلال بحاضرها على غائبها. يقول القاضي عبد الجبار: "إن من حق الأسماء أن يعلم معناها في الشاهد ثم يبنى عليه الغائب"(16). وقد أشار إلى هذا المعنى –كذلك- الراغب الأصفهاني، وذلك حينما تحدث عن الفقه، فيقول: "إن الفقه هو معرفة علم غائب بعلم شاهد"(17).
فمن هذه الوجهة تعامل العلماء مع العلامة من حيث هي علامة تدل على حقيقة حسية حاضرة تحيل إلى علامة دالة على حقيقة مجردة غائبة.
ثالثاً: ماهية العلامة:
الواقع أن دراسة نظام العلامات قديم قدم الحياة نفسها، ولكن المنطلقات النظرية لهذه الدراسة اختلفت من عصر إلى عصر، ومن أمة إلى أخرى، وذلك لاختلاف الحقب التاريخية، واختلاف الحضارات. وقد وصلت بعض الأفكار السيميائية من حضارات قديمة كالحضارة اليونانية والعربية، إلا أن تلك الأفكار السيميائية ظلت في إطار التجربة الذاتية، ولم تدخل في إطار التجربة العلمية الموضوعية(18).
فقد رأى الباحثون أن القدامى من عرب وعجم اهتموا بهذا الجانب من علوم اللسان منذ أكثر من ألفي سنة. فقد أفرد الفيلسوف أفلاطون بالتأليف. وأكد أن للأشياء جوهراً ثابتاً، وأن الكلمة أداة التعبير عن الحقيقة، وبذلك يتم تبين الكلمة وحقيقتها الدالة عليها، أي: بين الدال والمدلول، أو المبنى والمعنى تلاؤم طبيعي. فلهذا كان اللفظ يعبر عن جوهر الأشياء، وكانت الكلمة تظهر أول ما تظهر في وسط بدائي، وهذا ما حدا بسقراط إلى القول بأن المجتمع البدائي هو المنبع الأصيل للكلمة.
وقد أشار أفلاطون إلى ما تمتاز به أصوات الكلمة من دلائل، أي العلاقة الطبيعية مع المدلول، ولذلك كانت الأصوات اللغوية أدوات للتوصيل عن معان عدة كالحركة والخفة والاضطراب والخوف والطموح والعظمة والاستبطان وغير ذلك من المعاني(19).
وإذا كانت السيمياء تتناول العلامة، فقد اهتم الدارسون العرب القدامى بتعريفها. ويتقارب مفهومها عندهم مع مفهوم السمة والأمارة والأثر والدليل. فكل ذلك يتعلق بالدلالة. وهي في اعتقادهم "كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر"(20).
يقول أحمد بن فارس حين كلامه عن مادة (دلّ): ".. أصل يدل على إبانة الشيء بأمارة تتعلمها، والدليل الأمارة في الشيء"(21).
ويقول أبو هلال العسكري في هذا الأمر حين كان بصدد الحديث عن العلامة والدلالة: "يمكن أن يستدل بها، أَقَصَدَ فاعلها ذلك، أم لم يقصد، والشاهد أن أفعال البهائم تدل على حدثها، وليس لها قصد إلى ذلك.. وآثار اللص تدل عليه، وهو لم يقصد ذلك، وما هو معروف في عرف اللغويين يقولون استدللنا علينا بأثره، وليس هو فاعل لأثره من قصد"(22).
..................................................................................
هذا المقال من أنفع المقالات في "السيمياء" سواء كانت بمفهومها الحديث أو القديم، فهو يتناول المصطلح لغة، تاريخيا، استعمالا....
وإليكم المقال:
علم السيمياء في التراث العربي ـــ د.بلقاسم دقّة*
مقدمة:
لم يكن علم السيمياء وليد العصر الحديث كما يزعم بعضهم، بل هو قديم النشأة؛ فقد اهتم القدامى من عرب وعجم بهذا الجانب من علوم اللسانيات منذ أكثر من ألفي سنة. لقد أفرد الفيلسوف أفلاطون هذا الموضوع في كتابه «Cartyle»، وأكد أن للأشياء جوهراً ثابتاً، وأن الكلمة أداة للتوصيل، وبذلك يكون بين الكلمة ومعناها، أي بين الدال (Signifiant) والمدلول (Signifié) تلاؤم طبيعي (Justesse naturelle)، فلهذا كان اللفظ يعبر عن حقيقة الشيء. وقد أشار أفلاطون إلى ما تمتاز به الأصوات اللغوية من خواص تعبيرية، أي العلاقة الطبيعية بين الدال والمدلول. ولذلك كانت الأصوات أدوات تعبير عن ظواهر عديدة(1)، تلتقي فيها لغات البشر باعتبارها ظاهرة إنسانية.
وقد ربط علماء العرب قديماً بين هذه المعطيات وبين ما أسموه بعلم أسرار الحروف، أي: علم السيمياء. وقد تعددت في ذلك دراسات الحاتمي، والبوني، وابن خلدون، وابن سينا، والفارابي، والغزالي، والجرجاني، والقرطاجني، وغيرهم.
ولهذا يمكن القول: إن دراسات النظام الإشاري في التراث العربي هي دراسة قديمة قدم الدرس اللساني، إلا أن الأفكار والتأملات السيميائية التي وصلت ظلت في إطار التجربة الذاتية، ولم تتجسد في إطار التجربة العلمية الموضوعية. ومن ثم فالمنطلقات السيميائية للدراسة العربية تنقصها الإجراءات التطبيقية الموسعة.
أما الدراسات السيميائية الحديثة فقد تشعبت في مجالات عديدة وحضارات مختلفة، بحيث لم تبق حكراً على أمة دون أمة، وثقافة دون أخرى. وأخذ العلماء يفحصون نصوص الحضارات القديمة بحثاً عن تأملات وخواطر سيميائية لعلهم يعثرون على بدايات معمقة وجادة لهذا العلم. فالرغبة الكامنة في السيمياء والتي ما تزال توجه مسيرة البحث فيها هي الرغبة في الإحاطة الشاملة، ولو أن الإحاطة تبدو صعبة التحقيق، إلا أنه لا بد من إجهاد العقول لتحقيق ذلك الطموح.
مصطلح "سيمياء":
أتحدث بادئ ذي بدء عن معنى "السيمياء" لغة، ثم أنتقل إلى معناها اصطلاحاً.
أ-معنى (السيمياء) باللغة العربية:
السيمياء: العلامة، مشتقة من الفعل "سام" الذي هو مقلوب "وَسَمَ"، وزنها "عِفْلَى"، وهي في الصورة "فِعْلَى"، يدل على ذلك قولهم: سِمَةٌ، فإن أصلها: وِسْمَةٌ، ويقولون: سِيمَى بالقصر، وسيماء بالمد، وسيمياء بزيادة الياء وبالمد، ويقولون: سَوَّمَ إذا جَعَلَ سمة، وكأنهم إنما قلبوا حروف الكلمة لقصد التوصّل إلى التخفيف لهذه الأوزان، لأن قلب عين الكلمة متأتٍ خلاف قلب فائها، ولم يسمع من كلامهم فعل مجرد من "سَوَمَ" المقلوب، وإنما سمع منه فعل مضاعف في قولهم: سَوَّمَ فرسَهُ، أي: جعل عليه السيمة، وقيل: الخيل المسومة هي التي عليها السيما والسومةُ، وهي العلامةُ(2).
وقد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم في عدة مواضع، منها قوله تعالى: )تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناسَ إلحافاً(. البقرة(273). وقوله: )وبينهما حجابٌ وعلى الأعراف رجالٌ يعرفون كلا بسيماهم(، الأعراف(46). وقوله: )ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم(، الأعراف (48)، وقوله: )سيماهم في وجوههم من أثر السجود(، الفتح(29). وقوله: )يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام(، الرحمن(41).
وقد وردت كلمة السيمياء كذلك في الشعر، ومنه قول أسيد بن عنقاء الفزاري يمدح عميلة حين قاسمه ماله:
غُلاَمٌ رماه اللهُ بالحسنِ يافعاً لَهُ سيمياءٌ لا تَشُقُّ على البصر
كَأنَّ الثُّرَيا عُلِّقَتْ فوقَ نحرهِ وفِي جيدِه الشعرَى وفي وجهه القَمر(3)
وفي مقدمة ابن خلدون بحث كامل عنوانه: (علم أسرار الحروف) أو علم السيمياء كما فهمه القدماء.
يتَّضحُ مما أوردنا أن كلمة سيمياء مشتقة، وهي بمعنى العلامة أو الآية، أي بالفرنسية (Signe)(4). والأولى لنا استخدام هذا المصطلح (سيمياء) دون غيره لأنه مصطلح ضارب في الأصل العربي. ويعبر عنه حالياً بمصطلحين، هما: "Sémiologie" بالفرنسية و"Sémiotice" بالإنكليزية. وهذان المصطلحان مشتقان من اللفظة الإغريقية لـ "Sémion" بمعنى الإشارة أو العلامة.
ب- (سيمياء) اصطلاحاً:
إن مصطلح «سيمياء» يعني في أبسط تعريفاته وأكثرها استخداماً نظام السمة أو الشبكة من العلاقات النظمية المتسلسلة (5)، وفق قواعد لغوية متفق عليها في بيئة معينة.
إن السيمياء هي "عبارة عن لعبة التفكيك والتركيب، وتحديد البنيات العميقة الثاوية وراء البينات السطحية المتمظهرة فونولوجياً ودلالياً"(6)، وهي بأسلوب آخر "دراسة شكلانية للمضمون، تمر عبر الشكل لمساءلة الدوال من أجل تحقيق معرفة دقيقة بالمعنى"(7).
وهناك شبه اتفاق بين العلماء يعطي مكانة مستقلة للغة، يسمح بتعريف السيمياء على أنها دراسة الأنماط والأنساق العلاماتية غير اللسانية(9). إلا أن العلامة في أصلها قد تكون لسانية (لفظية)، وغير لسانية (غير لفظية)(10).
فالسيماء "هي علم الإشارة الدالة مهما كان نوعها وأصلها. وهذا يعني أن النظام الكوني بكل ما فيه من إشارات ورموز هو نظام ذو دلالة. وهكذا فإن السيميولوجية هي العلم الذي يدرس بنية الإشارات وعلائقها في هذا الكون، ويدرس بالتالي توزعها ووظائفها الداخلية والخارجية"(11).
إن السيمياء أو السيميولوجيا كما عرّفها فرديناند دوسوسير هي عبارة عن علم يدرس الإشارات أو العلامات داخل الحياة الاجتماعية(12).
والنص الذي يتلى دوماً هو "اللغة نظام علامات، يعبر عن أفكار، ولذا يمكن مقارنتها بالكتابة، بأبجدية الصم إليكم، بأشكال اللياقة، بالإشارات العسكرية، وبالطقوس الرمزية، إلخ.. على أن اللغة هي أهم هذه النظم على الإطلاق"(13).
إن سوسير يضع العلامات داخل أحضان المجتمع، ويجعل اللسانيات فرعاً من السيمياء خلافاً لغيره من العلماء، وهكذا فإن علم السيمياء هو ذلك العلم الذي يدرس حياة الإشارات في قلب المجتمع، ويهتم بإنتاج الإشارات أو العلامات واستعمالها، بحيث تبرز الأنظمة السيمائية من خلال العلاقات بين العلامات.
والواقع أن السيمياء لم تصبح علماً قائماً بذاته إلا بالعمل الذي قام به الفيلسوف الأمريكي تشارلز سندرس بيرس Ch. S Peirce (1839-1914م). فالسيمياء أو السيميولوجيا تبعاً لرؤيته هي علم الإشارة، وهو يضم جميع العلوم الإنسانية والطبيعية، حيث يقول: "ليس باستطاعتي أن أدرس أي شيء في هذا الكون كالرياضيات، والأخلاق.. وعلم النفس، وعلم الصوتيات، وعلم الاقتصاد.. إلا على أنه نظام سيميولوجي"(14).
إن نظام بيرس السيميائي (السيميولوجي) هو عبارة عن مثلث، تشكل الإشارة فيه الضلع الأول، وهو الذي له صلة حقيقية بالموضوع الذي يشكل الضلع الثاني المحدد للمعنى. وهذا الضلع الثالث –أي المعني- هو إشارة كذلك تعود على موضوعها الذي أنتج المعنى(15).
فالعلامة عنده متعددة الأوجه على خلاف العلامة (الدليل) عن دوسوسير، فإنها ذات وجهين: دال (Signifiant) ومدلول (Signifié).
وتبعاً لرؤية بيرس فإن كل العلامات تدرك من خلال تلك المستويات الثلاثة (الإشارة-الموضوع-المعنى). ولهذا فإن المدلول هو معنى الإشارة، أي أنه يمثل العلاقة الأفقية بين إشارة وأخرى. وهذا هو الذي يجعل من المدلول إشارة أيضاً تحتاج إلى مدلول آخر يفسر غموضها ويزيح إبهامها.
ومن الملاحظ أن بيرس يركز على الوظيفة المنطقية للإشارة، بينما يركز دوسوسير على الوظيفة الاجتماعية، ولكن المظهرين على علاقة متينة.
والمصطلحان سيميولوجيا (sémiologie) وسيميوطيقا (Sémiotice) يغطيان اليوم نظاماً واحداً متكاملاً. والفرق الوحيد بين هاتين اللفظتين أن Sémiolgie مفضلة عند الأوروبيين تقديراً لصياغة سوسير لهذه اللفظة، بينما يبدو أن الناطقين بالإنجليزية يميلون إلى تفضيل Sémiotice احتراماً للعالم الأمريكي بيرس.