ورد السؤال التالي عن لمسة بيانية في سورة الكهف ؛ و ذلك في قصة سيدنا موسى مع العبد الصالح ، حيث قال تعالى :
(.. فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه.. ).
لماذا جعل الله سبحانه وتعالى صفة الإرادة في الجدار، ونحن نعلم أن الجدار جماد ، لا يملك إرادة ذاتية ، أو روحًا، أو حياة . فعندما يقع الجدار ، أو أي جماد لا يقع من ذاته ؛ وإنما بفعل قوة خارجية تؤثر فيه .
============================== =====
الجواب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، و به الاستعانة ، و عليه التكلان .. أما بعد :
فالإرادة هي طلب النفس حصول شيء ، و ميل القلب إليه ، و لا تكون إلا من الأحياء ؛ و لهذا اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى :
﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ﴾ (الكهف: 77)
على ثلاثة أقوال :
أحدها : أن الإرادة محمولة على غير حقيقتها ؛ لأن الجدار ليس له إرادة ولا للأموات ، فاستعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة للدِلالة على المبالغة في ذلك ، و مثِّل الجدار بشخص له إرادة ، فتكون نسبة الإرادة إلى الجدار مجازٌ، وهو شائع جدًّا . وعليه يكون المعنى : فوجدا جدارًا قارب السقوط لميلانه ، أو كاد أن يسقط . و هذا قول الجمهور، و اختاره الزمخشري ، و قال : « استعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة ؛ كما استعير الهمّ والعزم لذلك .. وسمعت من يقول : عزم السراج أن يطفأ ، وطلب أن يطفأ . و إذا كان القول و النطق و الشكاية و الصدق و الكذب و السكوت و التمرد و الإباء و العزة و الطواعية ، وغير ذلك مستعار للجماد و لما لا يعقل ، فما بال الإرادة ؟ » .
الثاني : أن الإرادة صدرت من الخضر ؛ ليحصل له ، و لموسى عليه السلام ما ذكره من العجب . فالمريد على هذا القول ليس هو الجدار ؛ و إنما هو الخضر . و هو تعسفٌ كبيرٌ ، و قد أنحى الزمخشري على هذا القائل إنحاءً بليغًا جدًّا ، فقال : « و لقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام الله تعالى ممن لا يعلم ، كان يجعل الضمير للخضر ؛ لأنّ ما كان فيه من آفة الجهل و سقم الفهم ، أراه أعلى الكلام طبقة أدناه منزلة ، فتمحل ليردّه إلى ما هو عنده أصحّ و أفصح ، و عنده أن ما كان أبعد من المجاز كان أدخل في الإعجاز » .
الثالث : أن الإرادة محمولة على حقيقتها ، و هو قول من أنكر المجاز مطلقًا ، أو في القرآن خاصة ، فتأوَّلوا الآية على أن الله سبحانه خلق للجدارِ حياة وإرادة ؛ كالحيوانات . قال الراغب الأصفهاني : « والإرادة قد تكون بحسب القوة التسخيرية و الحسية ؛ كما تكون بحسب القوة الاختيارية » . و قال صاحب أضواء البيان :
« هذه الآية الكريمة من أكبر الأدلة التي يستدل بها القائلون : بأن المجاز في القرآن . زاعمين أن إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة ، و إنما هي مجاز . وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من كون إرادة الجدار حقيقة ؛ لأن الله تعالى يعلم للجمادات أرادات وأفعالا و أقوالاً لا يدركها الخلق ؛ كما صرح تعالى بأنه يعلم ذلك ما لا يعلمه خلقه في قوله جل و علا :
﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾(الإسراء: 44)
فصرَّح بأننا لا نفقه تسبيحهم ، و تسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها هو جل و علا ، ونحن لا نعلمها . و أمثال ذلك مثيرة في القرآن و السنة .
فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى :
﴿ وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله ﴾ (البقرة: 74) .
فتصريحه تعالى بأن بعض الحجارة يهبط من خشية الله دليل واضح في ذلك ؛ لأن تلك الخشية بإدارك يعلمه الله ، ونحن لا نعلمه . وقوله تعالى :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان ﴾ (الأحزاب: 72) .
فتصريحه جل وعلا بأن السماء والأرض والجبال أبت وأشفقت دليل عن أن ذك واقع بإرادة وإدراك يعلمه هو جل وعلا ، ونحن لا نعلمه .
ومن الأحاديث الدالة على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : « إني لأعرف حجرًا كان يسلم عليَّ بمكة » ، وما ثبت في صحيح البخاري من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم جزعًا لفراقه . فتسليم ذلك الحجر، وحنين ذلك الجذع كلاهما بإرادة وإدراك يعلمه الله ، ونحن لا نعلمه ؛ كما صرح بمثله في قوله :
﴿ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ (الإسراء: 44) .
و زَعْمُ من لا علم عنده أن هذه الأمور لا حقيقة لها ، و إنما هي ضرب أمثال ، زَعْمٌ باطل ؛ لأن نصوص الكتاب و السنة لا يجوز صرفها عن معناها الواضح المتبادر إلا بدليل يجب الرجوع إليه . و أمثال هذا كثيرة جدًّا . و بذلك تعلم أنه لا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها ؛ لإمكان أن يكون الله علم منه إرادة الانقضاض ، و إن لم يعلم خلقه تلك الإرادة ، و هذا واضح جدًّا كما ترى .. والعلم عند الله تعالى » .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق