الصفحات

الاثنين، 24 ديسمبر 2012

(.. فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه.. ). لماذا جعل الله سبحانه وتعالى صفة الإرادة في الجدار؟؟




 
ورد السؤال التالي عن لمسة بيانية في سورة الكهف ؛ و ذلك في قصة سيدنا موسى مع العبد الصالح ، حيث قال تعالى :

(.. فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه.. ).

لماذا جعل الله سبحانه وتعالى صفة الإرادة في الجدار، ونحن نعلم أن الجدار جماد ، لا يملك إرادة ذاتية ، أو روحًا، أو حياة . فعندما يقع الجدار ، أو أي جماد لا يقع من ذاته ؛ وإنما بفعل قوة خارجية تؤثر فيه .

===================================

 الجواب :

بسم الله الرحمن الرحيم ، و به الاستعانة ، و عليه التكلان .. أما بعد :
فالإرادة هي طلب النفس حصول شيء ، و ميل القلب إليه ، و لا تكون إلا من الأحياء ؛ و لهذا اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى :

﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ﴾ (الكهف: 77)
على ثلاثة  أقوال :

أحدها : أن الإرادة محمولة على غير حقيقتها ؛ لأن الجدار ليس له إرادة ولا للأموات ، فاستعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة للدِلالة على المبالغة في ذلك ، و مثِّل الجدار بشخص له إرادة ، فتكون نسبة الإرادة إلى الجدار مجازٌ، وهو شائع جدًّا . وعليه يكون المعنى : فوجدا جدارًا قارب السقوط لميلانه ، أو كاد أن يسقط . و هذا قول الجمهور، و اختاره الزمخشري ، و قال : « استعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة ؛ كما استعير الهمّ والعزم لذلك .. وسمعت من يقول : عزم السراج أن يطفأ ، وطلب أن يطفأ . و إذا كان القول و النطق و الشكاية و الصدق و الكذب و السكوت و التمرد و الإباء  و العزة و الطواعية ، وغير ذلك مستعار للجماد و لما لا يعقل ، فما بال الإرادة ؟ » .
الثاني : أن الإرادة صدرت من الخضر ؛ ليحصل له ، و لموسى عليه  السلام ما ذكره من العجب . فالمريد على هذا القول ليس هو الجدار ؛      و إنما هو الخضر . و هو تعسفٌ كبيرٌ ، و قد أنحى الزمخشري على      هذا القائل إنحاءً بليغًا جدًّا ، فقال : « و لقد بلغني أن بعض المحرفين   لكلام الله تعالى ممن  لا يعلم ، كان يجعل الضمير للخضر ؛ لأنّ ما كان   فيه من آفة الجهل و سقم الفهم ، أراه أعلى الكلام طبقة أدناه منزلة ، فتمحل ليردّه إلى ما هو عنده أصحّ و أفصح ، و عنده أن ما كان أبعد     من المجاز كان أدخل في الإعجاز » .
الثالث : أن الإرادة محمولة على حقيقتها ، و هو قول من أنكر المجاز مطلقًا ، أو في القرآن خاصة ، فتأوَّلوا الآية على أن الله سبحانه خلق للجدارِ حياة وإرادة ؛ كالحيوانات . قال الراغب الأصفهاني : « والإرادة قد تكون بحسب القوة التسخيرية و الحسية ؛ كما تكون بحسب القوة الاختيارية » . و قال صاحب أضواء البيان :
« هذه الآية الكريمة من أكبر الأدلة التي يستدل بها القائلون : بأن المجاز في القرآن . زاعمين أن إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة ، و إنما هي مجاز . وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من كون إرادة الجدار حقيقة ؛ لأن الله تعالى يعلم للجمادات أرادات وأفعالا و أقوالاً  لا يدركها الخلق ؛ كما صرح تعالى بأنه يعلم ذلك ما لا يعلمه خلقه في قوله جل و علا :

﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾(الإسراء: 44) 

فصرَّح بأننا لا نفقه تسبيحهم ، و تسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها هو جل و علا ، ونحن لا نعلمها . و أمثال ذلك مثيرة في القرآن و السنة .
فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى :

 ﴿ وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله ﴾ (البقرة: 74) .

فتصريحه تعالى بأن بعض الحجارة يهبط من خشية الله دليل واضح في ذلك ؛ لأن تلك الخشية بإدارك يعلمه الله ، ونحن لا نعلمه . وقوله تعالى :

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان ﴾ (الأحزاب: 72) .

فتصريحه جل وعلا بأن السماء والأرض والجبال أبت وأشفقت دليل عن أن ذك واقع بإرادة وإدراك يعلمه هو جل وعلا ، ونحن لا نعلمه .
ومن الأحاديث الدالة على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : « إني لأعرف حجرًا كان يسلم عليَّ بمكة » ، وما ثبت في صحيح البخاري من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم جزعًا لفراقه . فتسليم ذلك الحجر، وحنين ذلك الجذع كلاهما بإرادة وإدراك يعلمه الله ، ونحن لا نعلمه ؛ كما صرح بمثله في قوله :

﴿ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ (الإسراء: 44) .

و زَعْمُ من لا علم عنده أن هذه الأمور لا حقيقة لها ، و إنما هي ضرب أمثال ، زَعْمٌ باطل ؛ لأن نصوص الكتاب و السنة لا يجوز صرفها عن معناها الواضح المتبادر إلا بدليل يجب الرجوع إليه . و أمثال هذا كثيرة جدًّا . و بذلك تعلم أنه لا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها ؛ لإمكان أن يكون الله علم منه إرادة الانقضاض ، و إن لم يعلم خلقه تلك الإرادة ، و هذا واضح جدًّا كما ترى .. والعلم عند الله تعالى » .










ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق