شخصيات إسلامية مغمورة
(1)
ما أعجَبَ المقاديرَ! تلك التي تسوق الهدايةَ إلى رجل مِن دون الناس أجمعين، تتعرَّض له في أبهى وأجمل صورة، فلا يمضي غيرُ قليل من الزمن حتى يكون من أهلها، والمتمتِّعين بها.
وتَحرِم منها آخرين عُرضت عليهم في صورٍ شتى، مرارًا وتكرارًا، ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهارًا، فلا يزدادون منها مع مرور الأوقات إلا بُعدًا.
كان النبي صلى الله عليه وسلم في أهل مكة، وُلد بينهم وشهِدوا صباه وشبابه، فما عرَفوا منه إلا خيرًا، وما جرَّبوا عليه إلا كلَّ جميل، فلمَّا نُبِّئ ودعاهم إلى ما نُبئ به يرجو لهم النجاة والخلاص والخير بكلِّ إخلاص، رفضوا دعوته، وعادَوه كأشد ما يكون العداء!
وحين فكَّر صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى أرضٍ جديدة يُجري بها ماءَ الدعوة؛ لعلها تجود بالخير الذي بخِلت به أرضُ مكة، اختار الطائف؛ لعلها تكون المكان الذي يُسمَع فيه صوت الحق، ويعينه أبناؤه على أعدائه، ولماذا الطائف؟ إننا نجزِم بأنه لم يكن اختيارًا عشوائيًّا؛ فكل حركة قام بها النبي صلى الله عليه وسلم كانت مسبَّبة ومدروسة، والطائف هي - بعد مكة - أعظمُ قرية في العرب من حيث المساحة والسكان، والتجارة، والمكانة الدينية والقبلية، إلى أسباب أخرى كثيرة.
كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم للدعوةِ في الطائف إذًا خروجًا هادفًا إلى قريب من أهداف الدعوة في مكة، لكن أهل الطائف قابَلوا دعوته بسخرية وتهكُّم وعناد، بل زادوا في الاعتداء النفسي والبدني عليه بما لم يفعل أهلُ مكة إطلاقًا.
وحرَمَت مقادير الله أهلَ الطائف من الهداية كما حرَمت منها أهل مكة من قبل!
وعاد النبي صلى الله عليه وسلم يشقُّ طريق العودة شقًّا، ويحمل كربه وهمومه من جرَّاء أثقال الاعتداء الذي جرى عليه في الطائف، وخشية الاعتداء الذي ينتظره في مكة حين يعلم أهلُها بما حدث له مع ثَقِيف.
زِدْ على ذلك الوعورة الطبيعية للطريق، وهو وإن قطعه ذهابًا إلى الطائف مشيًا على قدميه، فإنه لم يكن يُحِسُّ لوعورته هذه أثرًا؛ لما كانت أحلامه وآماله تحمله خلال مسيره، لكنه الآن يحمله وقد ارتدَّت الأمال وغابت الأحلام!
ولهذا كله كان التعبير النبويُّ يحمل أسى ومرارة تظهرها كلماته صلى الله عليه وسلم عن هذه الرحلة، ومنها قوله: ((فانطلقتُ وأنا مهموم على وجهي، فلم أستَفِقْ إلا وأنا بقرن الثعالب))[1]، يا لها من أثناء عصيبة!
لم تُصِب الهدايةُ أهلَ القريتين العظيمتين، لكنها أصابت عبدًا مغمورًا، كان يخدم في بستانٍ بالمكان الذي ألجئ إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم يحتمي فيه من سفهاء الطائف وصبيانهم الذين أغراهم به ساداتُهم، فاجتمعوا عليه صلى الله عليه وسلم يُؤذونه بالحجارة.
كان ذلكم المكان حائطًا لعُتْبة بن ربيعة وشَيْبة بن ربيعة، فلما دخله النبي صلى الله عليه وسلم، عمَد إلى ظل حبلة من عنب، فجلس فيه، وكان ابنا ربيعةَ ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، فتحرَّكت له رحمُهما، فدعوا غلامًا لهما نصرانيًّا، يقال له: عدَّاس، فقالا له: خُذْ قطفًا من هذا العنب، فضَعْه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقُلْ له يأكل منه.
ففعل عداس، ثم أقبَلَ به حتى وضعه بين يدَي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال له: كُلْ، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده، قال: ((بسم الله))، ثم أكل[2].
هذه هي اللحظة التي أسفرت فيها الهدايةُ عن وجهها المضيء، فبدت أنوارها، ما إن سمع عداس كلمة "بسم الله" حتى نظر في وجهه صلى الله عليه وسلم كأنه يستجليه شيئًا، ويستنبئه حقيقةً، ثم قال: "والله، إن هذا الكلام ما يقوله أهلُ هذه البلاد!".
وألمح أن عداسًا قدَّم الفعل وأخَّر القول؛ ليتعرَّف بنبأ الفعل على صدق القول وسلامته من الكذب، لقد نظَر في الوجه الأنور الأنضر يتلمَّس أَمارات وأدلة تُنبئه عن صدق الجواب الذي سيجيب به صاحبه عن سؤاله: (والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد)، فلما جاءه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ومِن أهل أيِّ البلاد أنت يا عداس، وما دينك؟))، لم يتردد في الجواب وقال: نصراني، وأنا رجل من أهل نِينَوَى؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مِن قرية الرجل الصالح يُونُس بن متَّى؟))، فقال له عداس: وما يُدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ذاك أخي، كان نبيًّا وأنا نبي))[3]، فأكَبَّ عدَّاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبِّل رأسه ويدَيْه وقدمَيْه، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أشهدُ أنك عبد الله ورسوله[4].
لقد أتى الهدى إلى عداسٍ حيث هو في مكانه، لم يَسْعَ إليه، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أُلجئ إلى هذا الحائط دون غيره حتى يُسلِم عدَّاس، حين أبى جميعُ الناس.
تُرى ما كان عمل ذلك الإنسان ونيَّته حتى يريد الله له ذلك؟
لكأنما كانت خطواته من بلاد الرافدينِ إلى جزيرة العرب شفيعًا له ألا يخطو خطوة بعدها، وأن يسعى الهدى بنفسه إليه، أو لعله رحِمه الله سعى إلى الهُدى من أرض العراق إلى الجزيرة، وتقابَلَا في هذا الوقت وفي هذا المكان!
فقد ذكر غير واحد من أهل السِّير ما يستأنس معه إلى أن عداسًا كان على علمٍ بالكتاب الأول، وأنه كان ينتظر ظهور النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، كما كان يفعل وَرَقة بن نوفل، وقُسُّ بن ساعدة الإيادي، وإخوانُهما من الحنفاء.
ويذكر بعض أهل السِّير أن خديجة استشارت عدَّاسًا في أمر المَلَك الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء أول مرة، أتاه فيها ففزِع، كما استشارت ورقة، وأن عداسًا قال لها: إن جبرائيل رسولُ الله وأمينه إلى الرسل، وفي بعض الروايات أنه قال: هو أمين الله بينه وبين النبيِّين، وصاحب موسى وعيسى[5].
وعدَّاس - قبل ذلك - عبدٌ أو خادم في البستان، وبإذن سيِّدَيْه جاء بقطفِ العنب فوضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان سيِّداه هذان يرقبانه من بعيد ذهابًا وإيابًا، ويريان ما يفعل مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبينما كان النبي صلى الله عليه وسلم وعداس يتحاوَران، كان حديث من نوع آخر يدور بين هذين السيِّدين، يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك، فقد أفسَده عليك.
إنها الهداية ثانية وثالثة، وعدد حبَّات رمال الصحراء تلوح أمام الأعين وتقدِّم براهينها، فيقبلها مَن يقبلها ويُعرِض عنها مَن يعرض، وللمقادير مع الهداية نبأٌ آخر عجيب، يقبَلها عدَّاس العبد أو الخادم، ويُعرِض عنها شيبة وعتبة ابنا ربيعة السيدان الكبيران، وأنصِتْ بأُذُنِ قلبك إلى الحوار الذي دار بين المقبِلين والمعرِضين كليهما لَمَّا جاءهما عدَّاس:
• قالا له: ويلك يا عدَّاس! ما لك تُقبِّل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟
• قال: يا سيدي، ما في الأرض شيء خير مِن هذا، لقد أخبرني بأمرٍ ما يعلمه إلا نبيٌّ.
أوَ يسأل ابنا ربيعة عداسًا عن هذا الأمر؟! كلَّا، بل أعرَضا عن ذلك، واكتفيا نحوه بالقول المارق: ويحك يا عداسُ! لا يصرفنَّك عن دينك؛ فإن دينك خيرٌ مِن دينه[6].
هكذا بلا دليل ولا تمحيص ولا برهان!
كأنما على الخادم أن يسمع كلام السيدين، وأن يقبل حُكمهما، ولا يُعمِل عقله فيما يقولان له من كلام، أو يطلب البرهان على ما يُصدرانه من أحكام!
أهو الصَّلَف، وبه حُرما الإقبال على الهداية ورؤية وجهها البادي كوجه الشمس؟ ربما.
أو هي دلائل الإيمان حين يقبَله الضعفاء على فداحةِ الثمن وضراوة الأذى، ويُعرِض عنه الموسرون والأشراف مع العصمة عن الأذى؟ لعلَّ هذه أقرب.
إننا لا نعرف مِن نسب عدَّاس إلا اسمه هذا، وغاية ما نقول: "عداس النِّينَوي"، فننسبه إلى بلده التي انتسب إليها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو شئنا لذكرنا لابني ربيعة هذين من نسبهما عشرة أسماء وعشرين، فهل ضرَّه أو نفَعَهما؟
فالحمد لله الذي جعل النسب عنده بالتقوى، وإن أبى الناس إلا قول: فلان بن فلان.
تصمُتُ الروايةُ الإسلامية عن ذكر عداس من وقت هذا الحدث، ثم تعود إلى ذكرِه بعده بنحو من أربع سنوات، لما كانت غزوة بدر.
هل هاجر عداسٌ مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؟ أو منعه الرقُّ من الهجرة؟
لعل الأقرب إلى الصواب هو الثاني، فقد ذكر الواقدي في قصة بدر عن حكيم بن حزام أن عداسًا كان جالسًا على الثنية البيضاء والناس يمرُّون عليها، فلما رأى شيبة وعتبة ابني ربيعة خرَجا إلى ساحة الحرب، وثب فأخذ بأرجلهما يقول: بأبي وأمي أنتما، والله إنه لرسولُ الله، وما تُساقان إلا إلى مصارعكما[7].
لقد كان به أملٌ أن يصدِّق سيِّداه بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يُخيِّب أملَه في إسلامهما قولُهما الذي قالاه قبل ذلك، كما لم يَثنِه عملهما هذا، فحين لم يجد منهما أذنًا مُصغِية، جلس يبكي وهو يتحسَّر على موقفهما، وما عساه أن يؤول إليه أمرهما، ومرَّ به - وهو في هذه الأثناء - العاص بن شيبة، فوجده يبكي، فقال: ما لك؟ فقال: يُبكيني سيداي وسيدا هذا الوادي، فيخرُجان ويُقاتلان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له العاص: إنه لرسول الله؟! فانتفض عداس انتفاضةً شديدة واقشعر جلده وبكى، وقال: إي والله، إنه لرسول الله إلى الناس كافة[8].
وهذا الموقف يكشف عن خصلتينِ كريمتينِ في عداس، كلتاهما أعز في الناس من الأخرى، فهو الرجل المسلم الحريص على هداية الناس، وخاصة سيديه اللذين آوياه وأطعَماه، ولو بحقِّ خدمته لهما، وملكهما لرقبته، لكنهما على كلِّ حال صاحبا اللقمة التي يَطعَمُها، والمكانِ الذي يؤيه.
وهو رجل مسلم مستمسك بإسلامه لا يَهاب في سبيله شيئًا، ويصرِّح بما يعتقد، ففي هذا الوقت العصيب والحربُ دائرةٌ بين قريش والنبي صلى الله عليه وسلم، لا يخشى أن يجاهر بأحقيته في الرسالة، وامتلاكه للحق في الدعوى التي ينازعانه إياها، يقول هذا لسيدَيْه ويقوله لغيرهما، دون خوف أو وجَل، بل دون مداراة أو مواربة.
ولعلنا نجد في هذا السياق الأخير ما يُفسِّر لنا نجاته من أذى سيديه؛ إذ آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم في مكة، وقد كان العبيد سواه يؤمنون فيؤذَون أشدَّ الإيذاء، فهو يوضِّح لنا أن الرجل على مكانه في الخدمة كان معروفًا مشهورًا بتديُّنه وعلمه، حتى إن خديجة أتَتْه فسألَتْه عن رسول الله والناموس الذي أتاه كما أسلفنا، ولعلَّ ذلك أيضًا يُفسِّر لنا بعض أسباب إعراض سيدَيْه عن مناقشته في كلامه؛ لئلا يحرجا نفسيهما معه بجهلهما، أو يلزمهما الإقرارُ بدعواه.
ويمضي الواقدي في ذكر خبر عداس، فيُورِد احتمالًا بأنَّ وقفتَه في وجه سيديه ليَحولَ بينهما وبين الموت مشركينِ في الحرب - كانت في مكة ولم تكن ببدر، وأنه لَمَّا لم يسمعا قولَه ذهب معهما إلى هناك، وهل قُتل هناك أو عاد، ثم يورد ما يفيد أنه لم يُقتل ببدر، بل رجع إلى مكة ومات بها[9].
ونرجح أنه كان من المستضعَفين من الرجال والنساء والوِلدان، الذين عفا الله عنهم في عدم الهجرة وبقائهم بمكة؛ لأنهم لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلًا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوًّا غفورًا[10].
وفي العصر الحديث بنى بعضُ المسلمين عند بستان الطائف هذا، وفي مكان استراحة النبي صلى الله عليه وسلم - حسب توقعاتهم - مسجدًا، وأسموه مسجد عدَّاس؛ إشارة منهم إلى حبِّ هذا الغلام الصحابي رضي الله عنه وأرضاه، وجمعنا به في الجنة في رفقة خير خلق الله صلى الله عليه وسلم[11].
وتبقى في قصة عداس رضي الله عنه فوائدُ عظيمة؛ منها:
• أن بعض الناس يُغني عن كثير منهم، فرُبَّ رجل باثنين أو بعشرة أو بمائة أو بألف، وربَّ رجل بأمَّة كاملة، والعبرة في الكيف لا الكم.
• فضل بصيصِ النور يأتي في ظلمة وحلكة شديدتينِ، فقد كان في إسلام عداس ترطيبٌ لقلب حبيبه صلى الله عليه وسلم؛ حيث جاء في ظرف صعب.
وغير ذلك من الفوائد.
نسأل الله تعالى التوفيق إلى كمال الأسوة بالرعيل الأول مِن الصحب الكرام، وبمن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
[1] رواه مسلم (1795).
[2] سيرة ابن هشام (2/ 266).
[3] سيرة ابن هشام (2/ 266)، والطبقات الكبرى (1 / 210 - 212)؛ لابن سعد، والأنوار المحمدية من المواهب اللدنية (49 - 51)؛ للنبهاني.
[4] انظر: الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 467)، والسيرة النبوية الصحيحة (1/ 185)؛ لأكرم ضياء العمري.
[5] الإصابة (4/ 467).
[6] سيرة ابن هشام (2/ 266).
[7] الإصابة (4/ 467).
[8] الإصابة (4/ 467).
[9] الإصابة (4/ 467).
[10] انظر شيئًا من خبرهم في تفسير الآية رقم (99) من سورة النساء في تفسير الحافظ ابن كثير (2/ 388).
[11] انظر: في منزل الوحي (277) للدكتور محمد حسنين هيكل