الأصل أن يتزوج المسلم من المرأة المسلمة لاتحاد الدين بينهما؛ لأن هذا أمر أساس في العلاقة الزوجية، وضمان استمرارها. ولما كان أهل الكتاب أهل دين سماوي كان قائماً قبل الإسلام فقد أباح الله للمسلم أن يتزوج منهم عملاً بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ...} (المائدة: 5). الآية. والمراد بأهل الكتاب البهود والنصارى كما أشار إلى ذلك قولا الله تعالى: {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا...} (الإنعام: 156). وكما أباح الله للمسلم أن يتزوج منهم حرم عليه أن يتزوج من غيرهم من المشركين عملاً بقوله عز وجل: { وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ...} (البقرة: 221). الآية. وقوله تعالى: {...وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ...} (الممتحنة: 10). وقد تباينت آراء العلماء في تأويل هذه الآية فمنهم من قال إن لفظ الآية يقتضي العموم في كل كافرة والمراد بها الخصوص في الكتابيات قط[1]. وقد روي أن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – كان إذا سئل عن نكاح الرجل من أهل الكتاب قال: "إن الله حرم المشركات على المؤمنين ولا أعرف شيئاً من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، وهو عبد من عباد الله"[2]. وقد ذُكر أن مراده – رضي الله عنهما – التورع أو التنزه وإنما احتجاجه به يقتضي تخصيص المنع بمن يشرك من أهل الكتاب لا من يوحد. وقال ابن المنذر: "لا يحفظ عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك"[3]. ومن العلماء من قال إن الله حرم نكاح المشركات بهذه الآية ثم نسخ منها نساء أهل الكتاب فأحلهن من الآية السابقة من سورة المائدة، وقد روي هذا القول عن ابن عباس – رضي الله عنهما – وقال به مالك بن أنس وسفيان بن سعيد الثوري والأوزاعي[4]. وقال بهذا أصحاب الإمام أبي حنيفة ووجه الاستدلال عندهم أنه لا يجوز للمسلم من حيث الأصل أن يتزوج غير المسلمة؛ لأن المخالطة معها مع اختلاف الدين لا يحصل معه السكن والمودة الذي هو قوام مقاصد النكاح، إلا أنه جوَّز نكاح الكتابية لرجاء إسلامها حيث إنها تؤمن بكتب الأنبياء والرسل في الجملة وأنها متى نبهت على حقيقة الأمر تنبهت وأتت بالإيمان، وعلى الزوج أن يدعوها للإسلام و وينبهها على حقيقة الأمر فكان في نكاحه إياها رجاء إسلامها فجوَّز نكاحها لهذه الغاية الحميدة وذلك على خلاف المشركة فإنها في اختيارها الشرك ما أتت ما أمرها على الحجة والظاهر أنها لا تلتفت إلى الحجة عند الدعوة فيبقى ازدواج الكافر مع قيام العداوة الدينية المانعة من السكن والازدواج والمودة خالياً عن العاقبة الحميدة فلم يجز تكاحها[5]. كما قال بهذا الإمام ابن تيمية ووجه الاستدلال عنده – رحمه الله – من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الشرك المطلق في القرآن لا يدخل فيه أهل الكتاب، وإنما يدخلون في الشرك المقيد قال تعالى: { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ...} (البينة: 1). فجعل المشركين قسماً غيرهم. فأما دخولهم في المقيد ففي قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا...} (الحج: 17). فجعلهم أيضاً قسماً غيرهم. فأما دخولهم في المقيد ففي قوله عز وجل: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31). فوصفهم بأنهم مشركون وسبب هذا أن أصل دينهم ليس فيه شرك ولكنهم بدلوا فابتدعوا من الشرك ما لم ينزل الله به سلطاناً. أما قول الله تعالى: {...وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ...} (الممتحنة: 10). فهو نص في تحريم الكوافر المعروفات اللاتي كن في عصمة المسلمين وأولئك كن مشركات من أهل مكة وغيرها لا كتابيات. الوجه الثاني: إذا قدر أن لفظ المشركات والكوافر يعم الكتابيات فآية المائدة خاصة وهي متأخرة نزلت بعد سورة البقرة والممتحنة باتفاق العلماء والخاص المتأخر يقضي على العام المتقدم. الوجه الثالث: إذا فرض أن النصين حرم ذبائحهم ونكاحهم والآخر أحلها فالنص المحمل لهما يجب تقديمه لوجهين: أحدهما: أن سورة المائدة هي المتأخرة فتكون ناسخة للنص المتقدم. الوجه الثاني: أنه قد ثبت حل طعام أهل الكتاب بالكتاب والسنة والإجماع والكلام في نسائهم كالكلام في ذبائحهم[6]. وعند الأئمة لا خلاف في نكاح نساء أهل الكتاب، ففي مذهب الإمام أبي حنيفة يجوز نكاح الكتابية؛ لأن أهل الكتاب ليسوا من المشركين[7]. وفي مذهب الإمام مالك يحل نكاح نساء أهل الكتاب وقيل إن الإمام مالك كان يكرهه ولكنه لم يقل بتحريمه ومصدر كراهته أن الكتابية تأكل لحم الخنزير وتشرب الخمر[8]. وفي مذهب الإمام الشافعي يحل للمسلم نكاح الكتابيات ويحرم عليه أن يتزوج ممن لا كتاب له، وجملة ذلك في المذهب أن غير المسلمين على ثلاثة أقسام: قسم لهم كتاب وهم أهل التوراة والإنجيل وهؤلاء يحرم نكاح نسائهم، قسم لا كتاب لهم وهم عبدة الأوثان فهؤلاء يحرم نكاح نسائهم، قسم لهم شبهة كتاب ولكنه غير موجود وهم المجوس فهؤلاء يحرم أيضاً نكاح نسائهم خلافاً للإمام ابن حزم الذي أجازه[9]. وفي مذهب الإمام أحمد لا يحل نكاح امرأة غير مسلمة إلا نساء أهل الكتاب[10]. ومما سبق ذكره يتبين أن الأئمة الأربعة أبا حنيفة ومالك والشافعي وأحمد يقولون بجواز نكاح نساء أهل الكتاب. وعلى هذا فإنه لا يجوز للمسلم أن يتزوج بغير المسلمة إلا إذا كانت من أهل الكتاب وتحريم ما عداهن من نساء الملل الأخرى خلافاً للإمام ابن حزم الذي يبيح الزواج من نساء المجوس[11].
والزواج من أهل الكتاب يجب أن تتوافر فيه ثلاثة شروط:
الشرط الأول: الإحصان، ومصدره الحصانة بالفتح، أي: العفة والحصان بالفتح، المرأة العفيفة، وجمعها حُصُنٌ[12]. والأصل في شرط الإحصان قول الله تعالى في الآية السابقة: {...وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ...}. والمحصنات أي: العفيفات المحصنات لفروجهن. قلت: فوجود العفة في المرأة شرط للزواج منها سواء كانت مسلمة أو كتابية، فالأديان السماوية كلها توجب عفاف المرأة ولا مجال لأي قول خلاف ذلك. وفي ديننا قال الله عز وجل: {...مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ...} (المائدة: 5). والخدين الخليل الذي يزني بالمرأة تحت أي اسم، وقال عز وجل: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (النور: 3). فاقتضى هذا أن الزني لا يطأ إلا مثله من الزواني أو المشركات كما أنه لا يطأ الزانية أو المشركة إلا زانٍ مثلها أو مشرك وقد حرم الله الزنا على المؤمنين والمؤمنات فلا يتزوج زانٍ امرأة عفيفة إلا بعد أن يتوب إلى الله التوبة النصوح بشروطها المعلومة ولا يتزوح زانية من عفيف إلا بعد توبتها التوبة النصوح بشروطها المعلومة.
الشرط الثاني: إذن الولي، والمراد أن يكون النكاح بإذن من له الولاية على المرأة والأصل فيه قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل"[13]. وينبغي على هذا أن بعض الذين يتزوجون من كتابيات في الغرب بغير رضاء أوليائهن يعد مخالفاً لهذه الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله – عليه أفضل الصلاة والسلام -.
الشرط الثالث: وجوب الصداق للزوجة سواء كانت الزوجة مسلمة أو كتابية ما لم تهبه لزوجها والأصل في وجوبه قول الله تعالى: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} (النساء: 3). وقوله عز وجل: {...فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً...} (النساء: 24). وأهل السنة والجماعة مجمعون على أن المقصود بالأجور المهور خلافاً للإمامية الذين يستدلون بذلك على جواز زواج المتعة وهو التفسير الذي عارضه أهل السنة والجماعة استناداً إلى تحريم زواج المتعة عام حجة الوداع.
وخلاصة المسألة: أن الأصل أن يتزوج المسلم من المسلمة لاتحاد الدين بينهما. ولما كان أهل الكتاب أهل دين سماوي كان قائماً قبل الإسلام فقد أباح الله للمسلم أن يتزوج منهم وحرم عليه أن يتزوج من غيرهم من المشركين. وعلى هذا فإن الشرط الأول في سؤال الأخ السائل هو عدم جواز زواج المسلم بغير المسلمة إلا إذا كانت من أهل الكتاب، وفي هذا الزواج يشترط ثلاثة شروط: أولها: أن تكون الزوجة عفيفة محصنة عملاً بقول الله تعالى: {...وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ...}. فإن كانت قد أحدثت فيحرم الزواج منها إلا أن تكون قد تابت إلى الله توبة نصوحاً بشروطها المعلومة. الشرط الثاني: أن يأذن وليها عملاً بقول رسوله – صلى الله عليه وسلم - : "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل". وعلى هذا فإن بعض المسلمين الذين يتزوجون من النساء الغربيات بدون إذن أهلهن يعد مخالفاً لهذه الأحكام. الشرط الثالث: إيتاء الزوجة مهرها عملاً بقول الله عز وجل: {وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً...}. وقوله عز وجل: {...فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً...}. والله تعالى أعلم.
الهوامش والمراجع