محمد إسماعيل عتوك
أستاذ في اللغة العربية ـ سوريا
قال الله تعالى : ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم * قُلْ يُحْييها الّذي أَنْشَأَها أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيم ﴾ (يس:77ـ 79)
أولاً- هذه الآيات الكريمة ، جاءت في خاتمة سورة ( يس ) ، وفيها ذكر شُبْهَةِ مُنكري البعث والنشور ، والجواب عنها بأتمِّ جواب وأحسنه وأوضحه ، في صورة حوار، والغرض منها تثبيت أمر البعث عند منكريه ، ومعارضيه بعقولهم . وقد استُهِلت بقوله تعالى :
﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾(يس:71)
وهو كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكار الكافرين البعث ، بعدما شاهدوا في أنفسهم أوضح دلائله ، وأعدل شواهده ؛ كما أن ما سبق من قوله تعالى :
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا ﴾(يس:71)
كلام مستأنف مَسوقٌ لبيان بطلان إشراكهم بالله تعالى بعدما عاينوا فيما بأيديهم ما يوجب التوحيد والإسلام . والغرض من الاستفهام في كل منهما إنكار ما هم عليه من الشرك ، والتكذيب بالبعث ، وتنبيههم إلى ما كانوا قد شاهدوه بأعينهم في الآفاق من خلق الأنعام وتذليلها لهم ، وما كانوا قد عاينوه في أنفسهم من خلقه تعالى لذواتهم ، وتذكيرهم به .
وقيل : الجملة الثانية هي عين الأولى ، أعيدت تأكيدًا للنكير السابق ، وتمهيدًا لإنكار ما هو أحق منه بالإنكار ، لما أن المنكَر هناك عدم علمهم بما يتعلق بخلق أسباب معايشهم . وههنا عدم علمهم بما يتعلق بخلق أنفسهم . ولا ريب في أن علم الإنسان بأحوال نفسه أهم ، وإحاطته بها أسهل وأكمل ، فإنكار الإخلال بذلك أدخل ؛ كأنه قيل : أولم يروا خلقه تعالى لأسباب معايشهم ، مع كونه آيةمشهودة منظورة بين أيديهم على وحدانيته تعالى، وعبادته وحده ؟ ثم قيل : أولم يروا خلقه تعالى لأنفسهم أيضًا، مع كونه آية مشهودة منظورة في واقعهم ، وخاصة نفوسهم ، وهي في غاية الظهور ونهاية الأهمية على معنى : أن المنكر الأول بعيد قبيح ، والثاني أبعد وأقبح ؛ فإن الإنسان قد يغفل عن الأنعام وخلقها عند غيبتها ، ولكن لا يغفل هو مع نفسه، متى ما يكون ، وأينما يكون .
فما بال هذا الجاحد يغفل عن خلقه من نطفة مهينة ، ولم يك من قبل شيئًا ؟ ! وما باله لا يتذكر ذلك ، ولا ينتبه إلى وجه دلالته , ولا يتخذ منه مصداقًا لوعد الله تعالى ببعثه ونشوره بعد موته ودثوره ؟ ! وهل خلقه من نطفة ميتة إلا إحياء بعد موت وعدم حياة ؟! أليس في ذلك من الدليل على البعث والنشور ما يكفي لأن يتذكر، ويترك خصومته ؟ ! ولكن أنَّى له الذكرى ، وقد لجَّ في الخصام والجدل الباطل !
ومذهب سيبويه ، وجمهور النحويين أن الاستفهام في قوله تعالى :
﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾
للتقرير، وأن الواو لعطف ما بعدها على ما قبلها؛ وإنما جيء بها بعد الهمزة ، وكان القياس تقديمها عليها هكذا :
﴿ وَأَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ ﴾
كما قدِّمت على﴿ هَلْ ﴾في قوله تعالى :
﴿ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ﴾(طه:9)
لأنه لا يجوز أن يؤخر العاطف عن شيء من أدوات الاستفهام ؛ لأنها جزء من جملة الاستفهام ، والعاطف لا يقدم عليه جزء من المعطوف . وإنما خولف هذا في الهمزة دون غيرها ؛ لأنها أصل أدوات الاستفهام ، فأرادوا تقديمها تنبيهًا على أنها الأصل في الاستفهام .
وعلى ذلك يكون قوله تعالى :
﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾(يس:77)
معطوفًا على قوله تعالى :
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا ﴾(يس:71)
على أن الواو متقدمة على الهمزة في الاعتبار، وأن تقدُّم الهمزة عليها، لاقتضائها الصدارة في الكلام .
والزمخشري اضطرب كلامه في ذلك ، فتارة جعل الهمزة متقدمة على الواو ؛ كما هو مذهب الجمهور ، وتارة جعلها داخلة على جملة محذوفة ، عُطِف عليها الجملة ، التي بعدها ، فقدَّر بينهما فعلاً محذوفًا ، يقتضيه المقام ، مستتبعًا للمعطوف، تعطف الواو عليه ما بعدها .
وعليه يكون تقدير الكلام في الجملة الأولى : { أغفلوا، ولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعامًا... } ؟ وفي الجملة الثانية : { أغفل الإنسان ، ولم ير أنا خلقناه من نطفة ...}؟
والتحقيق في هذه المسألة الخلافيَّة : أن الواو في قولنا : ﴿ أَوَلَمْ ﴾ مسلوبة الدلالة على العطف ، وأصل الكلام : ﴿ أَلَمْ ﴾ ، وهو تركيب يفيد معنى الإثبات ، ويجرى في لسان العرب مجرى التنبيه والتذكير ؛ كقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾(الشرح:1)
قال مكي في (مشكل إعراب القرآن) : ”الألف نقلت الكلام من النفي ، فردته إيجابًا “ . والإيجاب : إثبات ، وهو ضدُّ النفي . والغرض منه : التذكير، والمعنى : شرحنا لك صدرك . وهذا ما نصَّ عليه الزمخشري ، فقال : ” استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار ، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه ؛ فكأنه قيل : شرحنا لك صدرك ، فنبَّه على ذلك ، وذكَّر به “ .
ولا يجوز حمل هذا الاستفهام على استفهام التقرير؛ لأن التقرير- باتفاقهم جميعًا- هو حمل المخاطب على أمر قد استقر عنده ، وعلم به ، ثم جحده . وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون جاحدًا لشرح الله تعالى صدره ؛ وإنما مراد الله تعالى من هذا الاستفهام هو مجرد التنبيه والتذكير .
ونحو ذلك قوله تعالى :
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾(الحج:63)
سأل سيبويه أستاذه الخليل عن هذه الآية ، فقال : ”هذا واجب ، وهو تنبيه ؛ كأنك قلت : أتسمع ؟ “ . وفي النسخة الشرقية من كتاب سيبَوَيْهِ : ” انتبهْ ! أنزل الله من السماء ماء ، فكان كذا وكذا “ .
فهذا استفهام يراد به الإثبات ، والغرض منه التنبيه ، أو التذكير ، خلافًا لمن ذهب إلى أن الغرض منه التقرير . وبيان ذلك :
أنك إذا قلت: أليس زيد قائمًا ؟ فإن ذلك يحتمل وجهين :
أحدهما: أن يكون الاستفهام على أصله من طلب الفهم . فيجاب بـ{ نعم } في الإيجاب، وبـ{ لا } في النفي .
والثاني : أن يكون مرادًا به الإثبات ؛ لأن الهمزة للنفي ، ونفي النفي إثبات ؛ وحينئذ يكون الغرض منه : التنبيه ، والتذكير، أو الإنكار، ويجاب بـ{ بلى } في الإيجاب ، وبـ{ نعم } في النفي .. وقد يكون الغرض منه أيضًا : العتاب ، أو التحذير ، أو السخرية والتهكم ، أو التوقُّع والانتظار .. أو نحو ذلك من المعاني، التي يخرج إليها الاستفهام . وعلى هذا الوجه يحمل قوله تعالى :
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾(الشرح:1)
﴿ أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ﴾(هود:78)
فالغرض من الأول : التنبيه ، والتذكير . والغرض من الثاني : الإنكار . ولو كان المتكلم - هنا - غير الله تعالى ، لاحتمل الاستفهام في كل منهما أن يكون حقيقيًّا ، الغرض منه : طلب الفهم .
فإذا قلت : أليس زيد بقائم، كان المراد به الإثبات ، والغرض منه : التقرير، لا غير ، بدليل دخول الباء على خبر المنفي . ويجاب بما أجيب به الوجه الثاني من الاستفهام الأول ، إيجابًا ، ونفيًا . وعلى ذلك يحمل قوله تعالى :
﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ﴾(التين:8)
﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾(العلق:14)
فالغرض من هذا الاستفهام في هاتين الآيتين ، وأمثالهما لا يكون إلا تقريرًا ، بقرينة وجود الباء في كل منهما .
ثم تدخل { الواو } بين الهمزة ، و{ لم }، فتشير إشارة خفيَّة إلى حدوث فعل مغاير لما بعدها ، ما كان ينبغي أن يحدث؛ كقوله تعالى :
﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾(الإسراء:99)
فهذا استفهام يراد به الإثبات ، ويفيد أن ما بعده قد وقع فعلاً ، والغرض منه التنبيه ، والتذكير ؛ لأن المخاطبين به على علم بأن الله تعالى هو الخالق لذواتهم ، ولكل شيء في هذا الوجود ؛ ولكنهم نسوه وغفلوا عن ذلك ، أو تناسوه عنادًا ، ومكابرةً ، فأنكروا قدرة الله تعالى على بعثهم ونشورهم بعد موتهم ودثورهم . ولو أنهم تنبهوا ، وتذكروا ، أو لم يكابروا ، لما وقع منهم ذلك الإنكار .
أما قوله تعالى :
﴿ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴾(يس:80)
فقد ورد في معرض التقرير لقدرة الله تعالى على الإعادة، ردًّا على اعتراض المشركين والملحدين ، الذي تعدَّى الإنكار إلى الجحود ؛ ولهذا أدخلت الباء في خبر المنفي . ومثل ذلك قوله تعالى :
﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾(القيامة:40)
وعلى الآية الأولى من هذه الآيات الثلاثة يحمل قوله تعالى هنا :
﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾
أي : قد رأى الإنسان أنا خلقناه من نطفة ؛ لكنه غفل عن مبدأ خلقه، فأنكر إحياء العظام الرميمة ، فذكَّره تعالى بمبدأ خلقه ؛ ليدله به على النشأة الثانية . وهذا المعنى الثاني - أعني : إنكار إحياء العظام الرميمة - هو الذي أشارت إليه الواو ، التي أدخلت بين الهمزة ، وأداة النفي ، وهو معنى مغاير لما رأوه من خلق الله تعالى لأنفسهم . ولو كانت هذه الواو للعطف ، لما دلت الآية على هذا المعنى .
وفرق كبير بين أن يقال في معنى الآية : أغفل الإنسان ، ولم يرَ ، وبين أن يقال : قد رأى ؛ ولكنه غفل ، أو نسي ، أو تناسى .
وكوْنُ هذا الاستفهام في معنى الإثبات يقتضي- كما ذكرنا- أن ما بعده قد وقع، وعلم به الناس ، إما عن طريق المشاهدة؛ كما في قوله تعالى :
﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾.
أو عن طريق السماع ؛ كما في قوله تعالى :
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بٍأًصْحَابِ الْفِيلِ ﴾(الفيل:1)
قيل في تفسيره : الخطاب للرسول صلى الله عليه و سلم . وهو ، وإن لم يشهد تلك الوقعة ، لكن شاهد آثارها ، و سمع بالتواتر أخبارها ؛ فكأنه رآها .
ولقائل أن يقول : قال الله تعالى :
﴿ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىء الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾(العنكبوت:19)
فعلق الرؤية بكيفية الخلق ، لا بالخلق ، والكيفية غير معلومة ، فكيف جاز أن يقال : ﴿ أَوَ لَمْ يَرَوْا ﴾؟ فالجواب عن ذلك : أن هذا القدر من الكيفية معلوم ، وهو أن الله تعالى خلق الإنسان ، ولم يكن شيئًا مذكورًا ، وأنه خلقه من نطفة ، هي من غذاء ، هو من ماء وتراب ، وهذا القَدْرُ كافٍ في حصول العلم بإمكان الإعادة ؛ فإن الإعادة مثله .
وقال تعالى : ﴿أَوَلَمْ يَرَ ﴾ ، ولم يقل :﴿أَوَلَمْ يَنْظُر ﴾ ؛ لأن حقيقة النظر هي تقليب البصر حيال مكان المرئي طلبًا لرؤيته ، ولا يكون ذلك إلا مع فقد العلم . والشاهد قولهم : نظر ، فلم يَرَ شيئًا . ويقال : نظر إلى كذا ، إذا مدَّ طرفه إليه رآه ، أو لم يرَه . أما الرؤية فهي إدراك الشيء من الجهة المقابلة . وإدراك الشيء هو الإحاطة به من كل الجوانب ، ووكلاهما لا يكون إلا مع وجود العلم .
بقي أن تعلم أن الفرق بين الرؤية والعلم هو أن الرؤية لا تكون إلا لموجود، والعلم يتناول الموجود والمعدوم . وكل رؤية لم يعرض معها آفة فالمرئي بها معلوم ضرورة ، وكل رؤية فهي لمحدود ، أو قائم في محدود ؛ كما أن كل إحساس من طريق اللمس ، فإنه يقتضي أن يكون لمحدود ، أو قائم في محدود .
فإذا عرفت ذلك ، تبين لك سِرَّ التعبير بالرؤية في قوله تعالى :
﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ ؟
دون التعبير بالنظر ؛ كأن يقال : ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُر الْإِنسَانُ ﴾ ؟ أو التعبير بالعلم ؛ كأن يقال : ﴿ أَوَلَمْ يَعْلَم ﴾ ؟
والمراد بـ﴿الْإِنسَان ﴾ - هنا - عموم جنس الكافر المنكر للبعث ، وإن كانت الآيات نزلت في كافر مخصوص ، هو أبيُّ بن خلَف الجُمَحِيّ- في أصح الأقوال - وهو الذي قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحربة يوم أحد . قال المفسرون : إنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ، فقال : يا محمد ! أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمَّ ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : نعم ، ويبعثك ، ويدخلك جهنم ، فأنزل الله عزَّ وجل هذه الآية إلى آخر السورة .
الإنسان وعموم الجنس البشري خلقوا من نطفة، صورة لنطفة بشرية تحاول النفاذ إلى داخل البيضة الأنثوية من أجل تلقيحها
وقد ثبت في أصول الفقه أن الاعتبار بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب ؛ ولهذا كان حمله على العموم أولى من حمله على إنسان مخصوص ؛ ألا ترى أن قوله تعالى :
﴿ قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا ﴾(المجادلة:1)
قد نزل في واحدة ، والمراد به الكل في الحكم ؟ فكذلك كل إنسان منكر البعث ، فهذه الآية رَدٌّ عليه . وعلى ذلك يكون خطاب﴿الْإِنسَان ﴾في الآية من حيث هو إنسان ، لا إنسان معين ، ويدخل من كان سببًا في النزول تحت جنس الإنسان الكافر دخولاً أوليًّا .
وقوله تعالى : ﴿ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ إشارة إلى وجه الدلالة على البعث والنشور، وتنبيه على كمال القدرة والاختيار؛ لأن النطفة جسم متشابه الأجزاء ، ويخلق الله تعالى منه أعضاء مختلفة ، وطباعًا متباينة ، وخَلْقُ الذكر والأنثى منها أعجب ما يكون ؛ ولهذا لم يقدِر أحد على أن يدَّعيه ، كما لم يقدِر أحد على أن يدَّعي خَلْقَ السموات والأرض ؛ ولهذا قال تعالى :
﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله ﴾(الزخرف:87) ؛ كما قال:
﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله ﴾(الزمر:38)
والنطفة هي القليل من الماء الصافي ، ويعبَّر بها عن ماء الرجل ، الذى يخرج منه إلى رحم المرأة ، وتجمَع على : نُطَف ، ونِطاف . وقيل : سمِّي ماء الرجل نطفة ؛ لأنه ينطِف . أي يقطر قطرة بعد قطرة ، من قولهم : نطِفت القربة ، إذا تقاطر ماؤها بقلَّة . وفي الحديث : ” جاء ورأسه ينطِف ماء “ . أي : يقطر . ونقطة واحدة من مني الرجل تحوي ألوف الخلايا ، وخلية واحدة من هذه الألوف هي التي تصير بقدرة الله الخالقة جنينًا ، ثم تُصَيِّر هذا الجنين إنسانًا ، فإذا هو خصيم مبين .