الأطباء العرب القدماء
الطب في الإسلام - مثل كل العلوم المعيشية - فرضُ كفاية، وتأثم الأمة كلها إذا لم يَقُمْ بعضهم بالواجب نحو هذا العلم لإنقاذ أبدان الناس؛ ولهذا نجد للرسول صلى الله عليه وسلم توجيهاتٍ طبية - وقائية وعلاجية - وعندما استقرَّت قواعد الدولة والحضارة الإسلامية ظهرت عبر كل العصور محاولات طبية:
أبرزها في القرن الأول الهجري محاولات الأمير (خالد بن يزيد الأموي) (ت90هـ).
وبعد بروز ظاهرة الترجمة في القرنين الثالث والرابع للهجرة تألَّق المسلمون في الطب، وظهر منهم أطباء كثيرون؛ منهم على سبيل المثال لا الحصر: أبو بكر محمد بن زكريا الرازي البغدادي (ت320هـ/ 932م)، وُلد بالري، ووفد إلى بغداد وله من العمر ثلاثون سنة، وقضى حياته في بغداد وتوفِّي بها، وهو طبيبٌ وكيمائي عظيم، ويعد بحق أعظم علماء المسلمين في الطب من ناحية الأصالة في البحث والخصوبة في التأليف؛ ولذلك وصفه القفطي بأنه "طبيب المسلمين غير مدافع فيه"، وذلك فضلًا عن سَعَة معرفته بالفلسفة والرياضيات والبصريات والكيمياء والصيدلية وغيرها من فروع المعرفة العقلية.
ويعدُّ الرازي من أعظم معلِّمي الطب الإكلينيكي، ويقف على قدم المساواة مع أبقراط، باعتباره أحد واصفي الأمراض المبتدعين، فمقالته: "كتاب في الجُدَرِي والحصبة"، ولها في اللاتينية عناوين مختلفة Liber de variolis et morbilis - De pestilential - Depeste عملٌ فَذٌّ من حيث قوة الملاحظة، والتحليل التمريضي؛ ذلك بأنها كانت أولَ بحث محكم في الأمراض المُعْدِية، وأول مجهود فني للتفرقة بين المرضين.
ولنا أن نقدر شهرتها بأنها طُبعتْ أربعين طبعة باللغة الإنجليزية بين سنتي (1498، 1866م)، وترجمها س. كولان إلى الفَرنسية في سنة (1556م).
وتشتمل هذه الرسالة على عملٍ ابتكاري طبي قدَّمه العرب، وهي أول تفسيرات يُعتمد عليها في أطوار المرضى الأولى؛ إِذْ شَرَح الرازي أعراض المرض بكل وضوح، وأقام بحثَه في علم الأمراض على نظرية التخمُّر أو الأخلاط، ووصف علاج المرض، وكان يلح في الإشارة إلى أهمية الفحص الدقيق للقلب والنبض والتنفُّس والبراز، عند مراقبة تطور المرض، وقد لاحظ أن ارتفاع الحرارة يساعد على انتشار الطفح، كما أشار إلى وسائل وقاية الوجه والفم والعينين، وتجنب الندوب الكبيرة، ولا غرو أنِ استنار بها جميعُ الأطباء في جميع الأمم[1].
وكان الرازي أولَ مَن أدخل المركبات الكيمائية في العلاج الطبي؛ حتى إن جورج سارتون يعده "الطبيب الكيميائي الأول"، وتنسب إليه كثير من الابتكارات الجديدة في جراحة العيون وفي الولادة وأمراض النساء.
ويعدُّ الرازي مِن روَّاد الطب الروحاني في الحضارة الإسلامية؛ حيث قدَّم من خلال كتابه "الطب الروحاني" محاولةً لإصلاح الأخلاق على أسس تربوية ونفسية.
ولا يتَّسِع المقام هنا للوقوف على جهود الرازي في علم الطب، فهذا أمر يحتاج إلى دراسة خاصة، وبوجه عام يمكن القول: إن هذا العالم "يُعتبر من أهم مَن وضعوا الأسس الراسخة والقواعد الثابتة لتعليم الطب وممارسته، ليس في العالم الإسلامي فحسب، بل في أثره البعيد في تدريس الصناعة الطبية، وما إليها من علوم، وتوجيهها في القرون الوسطى، والأوساط المستنيرة في الشرق والغرب لقرونٍ عديدة؛ فقد كتب باستفاضةٍ في الطب السريري والنفساني، وصنَّف في الكيمياء والعقاقير وتحضيرها، ووضع أصول فلسفة النظريات الطبية في هذه الحقبة، وساعد على تطور أدب الطبيب، وأهمية العمل في البيمارستانات، والتجرِبة الطبية، وحارب الشعوذة، وهاجم جهلاء المتطبِّبين، وحاول رفع مستوى التعليم الطبي برفع مستوى مزاولة المهنة من الناحيتين العلمية والعملية".
وقد كتب الرازي في كل الفروع التي تتعلَّق بصناعة الطب، وبلغت مؤلَّفاته الطبية حوالي ستة وخمسين كتابًا، منها ما كان على شكل رسائل، ومنها ما كان في مجلدات كبيرة.
ويعتبر كتاب (الحاوي) "من أجلِّ كتب الرازي وأعظمها في مجال الطب؛ وذلك أنه جمع فيه كل ما وجده متفرقًا في ذكر الأمراض الطبية، ومداواتها من سائر الكتب الطبية للمتقدمين، ومَن أتى بعدهم إلى زمانه، ونسب كل شيء نقله فيه إلى قائله"، وهذا الكتاب أَخذ من الرازي جُلَّ عمره، بَدْءًا مِن تعلمه مهنة الطب، ويقع في ثلاثين جزءًا (أو عشرين مجلدًا) جُمعت فيه كل المعارف الطبية التي توصَّل إليها العقل البشري، منذ أيام أبقراط حتى أيام الرازي، ومن هنا يقول عنه (إدوارد براون): "إنه أكبر كتاب عربي في الطب، بل أهمها"، وأثنت عليه الأستاذة (زيغريد هونكه) في كتابها (شمس الإسلام تسطع على الغرب)، واعتبرته موسوعة طبية ضخمة مليئة بالمحاضر والتقارير عن المرضى في مستشفيات بغداد وغيرها خلال الربع الأول من القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري)، استعملها الأطباء الأوروبيون خلال مئات السنين ككتاب للتعلم، ويقول (ول. ديورانت) في كتابه (قصة الحضارة): "إنه يبحث في كل فرع من فروع الطب، وأغلب الظن أنه ظَلَّ عدة قرون أعظم الكتب الطبية مكانة، وأهم مرجع لهذا العلم في بلاد الرجل الأبيض[2]".
وتجدر الإشارة إلى أن أكثر كتب الرازي قد تُرجمت إلى اللاتينية، وطبعت عدة مرات، ولا سيما في البندقية سنة (1509م)، وفي باريس سنة (1528م)، وسنة (1745م).
ونختم حديثَنا عن الرازي بما قالَتْه عنه المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة: "الرازي هو أحد أعظم أطباء الإنسانية إطلاقًا...، وقبل ستمائة عام كان لكلية الطب بباريس أصغر مكتبة في العالم، لا تحتوي إلا على مؤلَّفٍ واحد هو كتاب "الحاوي" في الطب للرازي.
وكان هذا الأثر العظيم ذا قيمة كبيرة، بدليل أن ملك المسيحية الشهير (لويس الحادي عشر)، اضطر إلى دفع اثني عشر ماركًا من الفضة، ومائة تالر (Taler) من الذهب الخالص، لقاء استعارته هذا الكنز الغالي، رغبة منه في أن ينسخ له أطباؤه نسخة، يرجعون إليها إذا ما هدد مرض أو داء صحَّتَه وصحة عائلته.
وكان هذا الأثر العلمي الضخم يضم كل المعارف الطبية منذ أيام الإغريق حتى عام (925م) بعد الميلاد، وظل المرجع الأساسي في أوروبا لمدة تزيد على الأربعمائة عامٍ بعد ذلك التاريخ، دون أن يزاحمه مزاحم، أو تؤثر فيه أو في مكانته مخطوطة من المخطوطات الهزيلة التي دأب على صياغتها كَهَنة الأديرة قاطبة، وهو العمل الجبَّار الذي خطَّته يد عربي قدير.
ولقد اعترف الباريسيُّون بقيمة هذا الكنز العظيم، وبفضل صاحبه عليهم، وعلى الطب إجماليًّا، فأقاموا له نصبًا في وسط القاعة الكبيرة في مدرسة الطب لديهم، وعلقوا صورته، وصورة عربي آخر هو "ابن سينا" في قاعة أخرى كبيرة تقع في شارع سان جيرمان، حتى إذا ما تجمع فيه طلاب الطب، وقعت أبصارهم عليها، ورجعوا بذاكرتهم للوراء يسترجعون تاريخها[3].
ومنهم أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد الجزار (ت350هـ) وهو قيرواني الدار، طبيب ابن طبيب، ومن مؤلفاته: (زاد المسافر، والاعتماد في الأدوية المفردة، والبغية في الأدوية المفردة، والبغية في الأدوية المركبة، وذم إخراج الدم، ورسالة في النفس، وأسباب الوباء بمصر والحيلة في دفعه، وطب الفقراء).
ومنهم أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي الأشعث (ت 336هـ)، وله من الكتب: كتاب الأدوية المفردة، وكتاب الحيوان، وكتاب في الجدري والحصبة والحميقاء، وكتاب في البرص والبهق ومداواتهما، وكتاب في الصرع، وكتاب ثانٍ في الصرع، وكتاب في الاستسقاء.
ومنهم سليمان بن حسان أبو داود - المعروف بابن جلجل (ت بعد 384 هـ) - ومن مؤلفاته: تفسير أسماء الأدوية المفردة، ومقالة في ذكر الأدوية، ومقالة في أدوية الترياق، ورسالة التبيين فيما غلط فيه بعض المتطببين، وطبقات الأطباء والحكماء.
ومنهم أبو علي أحمد بن مندويه، من أطباء القرن الرابع الهجري، ومن كتبه: كتاب (المدخل إلى الطب) وكتاب (الجامع المختصر في علم الطب) وهو عشر مقالات.
ومنهم ابن وافد (387 - نحو 465هـ)، المطرف بن عبدالرحمن بن عبدالكبير الأندلسي، ومن كتبه: كتاب الأدوية المفردة، وكتاب الوساد في الطب، ومجرَّبات في الطب، وكتاب تدقيق النظر في علل حاسَّة البصر.
ومنهم ابن سينا أبو علي الحسين بن عبدالله (ت 428هـ/ 1036م)، وهو أشهر أطباء العرب على وجه الإطلاق، وأبعدهم أثرًا، وقد بلغ مِن تقدير المعاصرين له أن لقبوه بـ "الشيخ الرئيس"، كما لُقِّب بالمعلم الثاني تشبيهًا له بأرسطو المعلم الأول.
وكان ابن سينا موسوعيَّ المعرفة، عالِمًا في كل علم، إلا أنه فيلسوف قبل كل شيء، وهو وإن لم يُعرف عنه أنه نزل بغداد ليتلقَّى عن فلاسفتها وأطبائها - على عادة كثير من علماء منطقته - لكنه تأثَّر إلى حدٍّ كبير بفكر المدرسة البغدادية في علوم الأوائل، وتتلمَذ في بلده على بعض علمائها الذين تلقَّوا علومهم في بغداد، وقرأ عددًا من الكتب المترجَمة في الحاضرة العباسية؛ مثل كتب أرسطو وأبقراط وبطليموس وغيرهم.
وأهم كتاب لابن سينا في علم الطب هو كتاب "القانون"، ذلك المؤلف العملاق، كما يقول الأستاذ (مييرهوف) عنه: "إنما هو تركيز لتراث المعارف الطبية اليونانية مضافًا إليها الزيادات العربية، فكان تأثيره في الطب عامًّا وشاملًا، ويعتبر هذا الكتاب العمل الفريد، وقمة المجد في تكوين المذاهب العربية، ترجمه جيرار الكريموني في القرن الثاني عشر إلى اللاتينية، وتوجد منه نسخ خطية لا حصر لها، ولقد طبع في الثلاثين سنة الأخيرات من القرن الخامس عشر ستَّ عشرة طبعة، ولا تشتمل هذه الطبعات على ما طبع من أجزائه طبعات متفرقة، أو ما ألف في شرحه باللاتينية والعبرية واللغات الدارجة (الناشئة عن اللاتينية)؛ فإنها سواء منسوخة أو مطبوعة لا يحصيها العد، واستمر العالم الأوروبي في طبع الكتاب وتدريسه حتى نهاية القرن السابع عشر، وربما لم يدرس كتاب في الطب على مر العصور كما درس هذا الكتاب، ولقد بلغ الطب الإسلامي - عن طريق ابن سينا عميد الأطباء وأميرهم - أوجَ عظمته".
ولقد حلَّ كتاب القانون في الطب - نظرًا لتنظيمه الكامل وقيمته الأصيلة الحقيقة - محلَّ كتاب الرازي "الحاوي"، وكتاب علي بن العباس "الملكي"، كما حل أيضًا محل كتب جالينوس، وظل في الطليعة حتى القرن السادس عشر، وقد نستطيع أن نستشفَّ أهميته القصوى في هذا العصر من الحقيقة الماثلة في أن فيراري (Ferrarius) (1471م) استشهد بابن سينا (3000) ثلاثة آلاف مرة، وبالرازي وجالينوس (1000) ألف مرة فقط، وبأبقراط (140) مائة وأربعين مرة لا غير.
ولقد تُرجِمت كتب ابن سينا في الطب إلى معظم لغات العالم، وظلت زهاء ستة قرون المرجعَ العالَمِي في الطب، واستخدمت كأساس للتعليم في جامعات فرنسا وإيطاليا جميعًا، وظلَّت تدرس في جامعة مونبلييه حتى أوائل القرن التاسع عشر[4].
ويذكر جوستاف لوبون: أن لائحة جامعة "لوقان" اتَّخَذت من كتب الرازي وابن سينا أساسًا للدراسة، وأن مؤلفات اليونان الطبية لم تَنَلْ فيها غير حظوة قليلة[5].
ومنهم أبو العلاء بن أبي مروان بن زهر (ت 525هـ) له كتاب الخواص، وكتاب الأدوية المفردة[6].
ومنهم أمية بن عبدالعزيز أبو الصلت الأندلسي (ت 460 - 529هـ)، ومن كتبه: كتاب الأدوية المفردة على ترتيب الأعضاء المتشابهة الأجزاء والآلية.
ومنهم أبو بكر محمد بن الصائغ (ت نحو 533هـ)، ويعرف (بابن باجة)، الأندلسي، ومن كتبه: شرح كتاب السمع الطبيعي لأرسطو بن طاليس، ورسالة الوداع، وكتاب اتصال العقل بالإنسان، وكتاب تدبير الموحد، وكتاب النفس[7].
ومنهم القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد (520 - 595هـ)، مولده ومنشؤه في قرطبة، وله في الطب: كتاب الكليات، وشرح الأرجوزة المنسوبة إلى الشيخ الرئيس ابن سينا في الطب، وكتاب الحيوان، ومقالة في المزاج، ومسألة في نوائب الحمى، ومقالة في حميات العفن، ومقالة في الترياق.
ومنهم أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي، نسبة إلى مدينة الزهراء من ضواحي قرطبة (ت 404هـ/ 1013م)، ويعد من أشهر الأطباء في عصر الازدهار العلمي الأول بالأندلس، وكان جراحًا مُبرزًا، مبتكرًا في جراحاته وعملياته الدقيقة، وهو من أطباء الخليفة عبدالرحمن الثالث.
ومن أهم مجهودات أبي القاسم الزهراوي الطبية أنه: "وصف عملية سحق الحصاة في المثانة، وتفتيت الحصاة في المثانة وإخراجها على الخصوص، فعُدَّتْ من اختراعات العصر الحاضر على غير حق".
وقال العالم الفيزيولوجي الكبير هاللر: "كانت كتب أبي القاسم المصدرَ العامَّ الذي استقى منه جميع مَن ظهر من الجراحين بعد القرن الرابع عشر".
وهو الذي أشار إلى ربط الشرايين في الجراحات الدقيقة، كما أجرى علميات صعبة في شق القصبة الهوائية، واستئصال اللوز بسنارة.
ويعترف العالم "سبرنجل" بأن الزهراوي أول مَن علم طريقة استئصال الحصى المثانية في النساء عن طريق المهبل، وأول مَن وصف الاستعداد الخاص في بعض الأجسام للنزيف.
ويقول الأستاذ/ قدري طوقان: "وقد جمع الدكتور/ أحمد عيسى في كتاب خاص ما كان يعرفه العرب من الآلات والأدوات الطبية، وضمنه جميع الآلات والعِدَد التي وردت في كتاب التصريف مع ذكر مسمياتها ومواضع استعمالها ونقل صورها، ويتجلَّى من هذا الكتاب أن الزهراوي أول مَن فرق بين الجراحة وغيرها من المواضيع الطبية وجعل أساسها قائمًا على دروس التشريح"[8].
والزهراوي هو صاحب الموسوعة الطبية الضخمة "التصريف لمن عجز عن التأليف".
ويعرف هذا الكتاب أيضًا باسم "الزهراوي" وهو بحق مفخرة للأندلسيين وللمسلمين عامة، ولا سيما القسم الخاص منه بعلم الجراحة.
وهذا الكتاب الذي فرغ الزهراوي من تأليفه حينما مضى على مزاولته لصناعة الطب والجراحة خمسون سنة من حياته المهنية، يُنبئ عن معارف طبية واسعة بمقاييسِ العصر الذي عاش فيه مؤلفه بالأندلس، ويكشف عن جوانب هامة من ممارسته لفنِّ الجراحة، وخبرته بالأمراض، وطرقه في العلاج، ومنهجه في التأليف الذي يُعدُّ في عصره منهجًا فريدًا، بما اتَّسم به من حسن التنظيم والتبويب، والميل إلى القصد في الكلام والوضوح في العبارة، وابتكار وسائل الإيضاح بالأشكال والصور، وقد وصفه الدكتور "فرانشيسكو فرانكو" بأنه يُمثِّل قمة المعرفة الجراحية الإسلامية؛ نظرًا لكونه يلخص كل المعلومات حول الجراحة في ذلك العصر".
وقد قسم الزهراوي الكتاب إلى ثلاثين مقالة، تتفاوت في الطول والقصر؛ فأطولها المقالة الأولى، وهي تبحث في كليات الطب، ويليها في الطول المقالة الثلاثون في العمل باليد؛ (أي الجراحة العامة، وجبر العظام، والكَي)، وهي التي رفعت مِن قدر هذا الطبيب، وتُمثِّل القسمَ العملي من الكتاب، وتعتبر أول ما كتب في علم الجراحة مقرونًا برسوم إيضاحية كثيرة للأدوات والآلات الجراحية، التي تصل إلى أكثر من مائتي شكل، ومعظمها من ابتكاره.
ومنهم أيضًا علاء الدين علي بن أبي الحزم القرشي الدمشقي، الملقَّب بابن النفيس (ت 1288م)، وكان أعظم عالم بوظائف الأعضاء في القرون الوسطى، حتى لقد سمي بابن سينا الثاني، وقد انتقل ابن النفيس من دمشق إلى القاهرة؛ حيث ابتنى بها دارًا وفرشها بالرخام.
ويهمنا مِن أمر ابن النفيس على الأخص أنه كان أول، بل أشهر وأعظم عالم بوظائف الأعضاء، استطاع أن يفهم جيدًا الدورة الدموية الصغرى، ويصفها لأول مرة، ليكون رائدًا لِمَن أتَوا بعده، والحق أن (جالينوس) تكلَّم في هذا الموضوع، ولم يُضِف الرازي أو علي بن العباسي أو ابن سينا شيئًا لآرائه، لا بالتعديل ولا بالتصحيح، حتى مقدم ابن النفيس، فقد أُشْكِل الأمر على جالينوس وادَّعى أن في الحاجز الذي بين الجانب الأيمن، والجانب الأيسر في القلب ثقوبًا غير منظورة، يتسرَّب فيها الدم من الجانب الواحد إلى الجانب الآخر، وما وظيفة الرئتين إلا أن ترفرفا فوق القلب فتبرِّدا حرارته وحرارة الدم، ويتسرَّب شيء من الهواء فيها بواسطة المنافذ التي بينهما وبين القلب فيُغذِّي ذلك القلب والدم.
عارض ابن النفيس هذه النظرية معارضةً شديدة، وأثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن اليونان لم يفهموا وظائف الرئتين والأوعية التي بين القلب والرئتين، وأنه فهم وظيفتها وأوعيتها، وتركيب الرئة والأوعية الشَّعْرية التي بين الشرايين والأوردة الرئوية، وشرح الفُرَج الرئوية شرحًا واضحًا، كما فهم أيضًا وظائف الأوعية الإكليلية، وأنها تنقل الدم ليتغذَّى القلب به، ونفى التعليل القائل بأن القلب يتغذَّى من الدم الموجود في البُطين الأيمن.
ولقد كرَّر ابن النفيس تعاليمه في الدورة الدموية الصغرى تكريرًا يدل على فهمه المطلق لوظيفتها وطريقة عملها؛ ذلك أنه كرر هذه التعاليم في خمسة مواضع متفرقة، ذاكرًا آراء ابن سينا، ومكررًا أقوال جالينوس التي اعتمد عليها ابن سينا، ثم عارضها بمنتهى الحماسة.
ومنهم أبو المنصور المظفر بن ناصر القرشي (ت 612هـ)، وله من الكتب: مقالة في الباهِ، وكتاب العلل والأعراض لجالينوس، والرسالة الكاملة في الأدوية المسهلة، ومقالة في الاستسقاء.
ومنهم أبو محمد عبدالله بن أحمد ضياء الدين الأندلسي العشاب، المعروف بابن البيطار (ت 646هـ)، ومِن كتبه: الجامع لمفردات الأدوية والأغذية، والمغني في الأدوية المفردة في العقاقير[9].
وغير هؤلاء هناك أطباء كثيرون لا يتَّسِع المقام لذكرِهم، وبعضهم لا يقل قدرًا ولا أثرًا عن الذين ذكرناهم، نشير مِن بينهم إلى إسحاق بن عمران (ت 294هـ)، وسعيد بن عبدربه (342 هـ)، وأحمد بن يونس من أطباء القرن الرابع الهجري، والتميمي (ت380)، وعلي بن رضوان (ت 453هـ)، وابن البذوخ (ت 575هـ)، والفيلسوف العالم الطبيب ابن طفيل (494 - 581هـ)، مؤلِّف (حي بن يقظان)، والذي كانت له جهود في الطب تحدث عنها لسان الدين بن الخطيب المؤرخ المغربي المعروف.
ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء الذين أشرنا إليهم - بهذا الإيجاز - إنما هم الأعلام، وليس شرطًا أن يكون الأطباء المهرة المهنيون المتخصصون أعلامًا يعرفهم الناس، فهناك - بيقين - مئات آخرون عملوا في صمت، وكانوا بارعين مهنيًّا بعيدين عن الشهرة وعن أصحاب القصور وأولي الأمر، كما أنهم لم يبدعوا مؤلفات، فلم يعرف الناس عنهم شيئًا، لكنهم - جميعًا - أسهموا بالعلم التطبيقي والتنظيري الفكري في بناء الحضارة الإسلامية.
[1] جلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي، ص (320، 321).
[2] د/ طه عبدالمقصود: الحضارة الإسلامية، ص (226، 228).
[3] د/ عامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية، ص (77، 78).
[4] جلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي، ص (325 - 327).
[5] جلال مظهر:المرجع السابق، ص (325، 326).
[6] ينظر في علم الطب والتشريح: حسام جزماتي: علم النشر في المؤلفات الطبيعية، مجلة آفاق الثقافة والتراث، السنة الثانية، العدد السابع، رجب 1415.
[7] رحاب خضر عكاوي: موسوعة عباقرة الإسلام (2/ 25، 44، 51، 52)، بتصرف.
[8] د/ عامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية، ص (147).
[9] رحاب عكاوي: موسوعة عباقرة الإسلام (2/ 69، 70، 75، 76، 81، 82، 92) بتصرف.
Y
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق