يوسف صديق ..
الثائر الحالم ..
د. عاصم الدسوقي
يوسف صديق أحد الضباط الأحرار الذين حملوا أرواحهم على أكفهم ليلة 23 يوليو 1952 ليضعوا مصر على طريق جديد في الحكم والإدارة مختلف تمام الاختلاف عما كان قائما في البلاد لقرون طويلة. وما يزال تقدير هذا الدور محل اختلاف كبير بين الذين عاصروا وقائع الثورة وبين الذين كتبوا عنها وخاصة فيما يتعلق بوقائع ما حدث بين ليلة 23 يوليو وحتى 30 مارس 1954، وهي فترة القلق والصراع الحقيقي بين فرقاء الانقلاب-الثورة والتي صاحبها خروج بعض الذين لم يتكيفوا مع المناخ الجديد وراحوا ضحية أفكارهم. وقد قام خصوم جمال عبد الناصر فيما بعد بتصوير هذه الأزمة التي انتهت بتنحية محمد نجيب (14 نوفمبر 1954) على أنها أزمة الحكم بين الديموقراطية التي يمثلها محمد نجيب ومن وقف معه وبين الدكتاتورية التي يمثلها عبد الناصر ومن لم يخرج عليه.
والحال كذلك فإن يوسف منصور صديق كان أول الخارجين في تلك المعركة عندما اصطدم بمجلس قيادة الثورة عند مناقشة قانون تنظيم الأحزاب في يناير 1953 حين رفض الموافقة على إلغاء الدستور وتمسك بضرورة دعوة البرلمان المنحل للانعقاد ليقوم بتعيين مجلس الوصاية على العرش، ورفض فرض الرقابة على الصحف ، واعتقال الزعماء السياسيين دون اتهام، وطالب بإنشاء اتحاد عام للعمال. ثم انضم إلى ضباط المدفعية في المطالبة بأن يكون مجلس قيادة الثورة بالانتخاب. وعندما تم اعتقالهم لتقديمهم للمحاكمة قدم يوسف صديق استقالته من مجلس قيادة الثورة في 16 يناير 1953 ولم يكن قد مضى على القيام بالثورة سوى ستة أشهر (راجع: جمال شقرة، الحركة السياسية في مصر يوليو 1952-مارس 1954 رسالة ماجستير بكلية الآداب جامعة عين شمس 1985، ص 511).
ولقد كان من الطبيعي أن يتخذ يوسف صديق هذا الموقف الذي يتسق مع تكوينه الفكري من ناحية وتكوينه العاطفي من ناحية أخرى، ولم يكن فيه مناورا يبغي مساومة خصمه للتوصل إلى حل وسط. ففي النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين اتصل بالحركة الديموقراطية للتحرر الوطني (حدتو) أحد أكبر فصائل الحركة الشيوعية في مصر التي جذبت إلى صفوفها ضباطا آخرين لعل أبرزهم أحمد حمروش. وكان اتخاذ هذه الحركة من "الديموقراطية" صفة لها وعنوانا يعني أنها حركة تطالب بالديموقراطية في مجتمع غير ديموقراطي وهذا في حد ذاته ينفي عن مجتمع ما قبل 1952 صفة الليبرالية التي خلعها عليه خصوم ثورة يوليو من باب إدانة حكم الضباط الأحرار وليس من باب الإشادة بالمجتمع السياسي في مصر قبل 1952. ومن المعروف في هذا الخصوص أن الكتب التي نشرت عن مصر قبل 1952 بأقلام غربية ومصرية لم تصف الحكم السياسي آنذاك بالليبرالية أو الديموقراطية. ومن ثم فإن المطالبة بالديموقراطية في برنامج "حدتو" كان يستهدف رفع القيود عن نشاط الشيوعيين والتوقف عن ملاحقتهم ومطاردتهم والزج بهم في السجون حتى يمكنهم التقدم إلى الانتخابات النيابية ويحتلوا مقاعد في السلطة التشريعية. وعلى هذا يمكن تقدير انزعاج يوسف صديق لاتجاه مجلس قيادة الثورة لإلغاء الأحزاب السياسية وإلغاء الدستور، ونفهم توحده مع من ينهج نهجه.
ومن ناحية أخرى فإن يوسف كان من جيل سابق على معظم الضباط الأحرار فهو قد تخرج في الكلية الحربية عام 1933 وبالتالي لم يكن زميل دفعة لأحدهم ، وكان أبوه ضابطا بالجيش، وبالتالي لا ينطبق عليه التحليل التقليدي المتعارف عليه بشأن انفتاح أبواب الكلية الحربية لأبناء الطبقة الوسطى بعد معاهدة 1936. ويبدو أن ثمة شيء في حياته جعله إنسانا نافرا ليس من السهل الاقتراب منه أو استيعابه أو تآلفه مع آخرين إلا بصعوبة، فهو لم يقترب من التنظيمات "السياسية-الثورية" التي كانت قد بدأت تتكون داخل الجيش المصري منذ مطلع الأربعينيات وتسعى للتغيير مثل: تنظيم الطيران، وتنظيم السواري (الفرسان)، وتنظيم الضباط الوطنيين. كما لم تفكر قيادات هذه التنظيمات في تجنيده بين صفوفها إذ لم تردد مراجع هذه التنظيمات اسمه بين صفوفها. ولكننا نراه يقبل الانضمام لتنظيم الضباط الأحرار (بقيادة جمال عبد الناصر) ربما لأن بعض أعضائه كان مرتبطا بالحركة الشيوعية المصرية، ولم يحدث هذا إلا في أواخر 1951 مع أن أول منشور لهؤلاء الضباط كان في فبراير 1950 كما كان التنظيم في طور الإعداد قبل ذلك بكثير.
كما يبدو من حديث زميله الصاغ حسن الدسوقي أن يوسف صديق كان إنسانا تصادميا بطبعه ومن هنا كانت الترقيات تتجاوزه كما كان هدفا لمجموعة الحرس الحديدي التي كانت تعمل لحساب الملك منذ أواخر 1945 كما هو معروف.
ويبدو أن شخصية يوسف صديق على ذلك النحو كانت في تقديري وراء تحديد دوره ليلة الثورة إذ كان دورا ثانويا احتياطيا باعترافه تمثل في قيادته لمقدمة الكتيبة مدافع الماكينة الأولى (وظيفتها إدارية للتمهيد) لتساند السرية الرابعة كتيبة 13 مشاة المكلفة بعملية الاستيلاء على مبنى رئاسة الجيش بكوبري القبة. وكان إبلاغه بأن ساعة الصفر هي الثانية عشرة منتصف الليل وليس الساعة الواحدة بعد منتصف الليل سببا في نجاح عملية الاستيلاء وخاصة بعد أن علم الضباط أن أمرهم قد انكشف ، ذلك أن سرية المشاة المكلفة بالاستيلاء جاءت في الموعد المقرر أي بعد ساعة من وصول يوسف صديق تمكن يوسف في أثنائها من اقتحام المبنى بعد أن وصل للموقع تروب بقيادة الملازم أول فاروق الأنصاري من سلاح الفرسان كان مكلفا بمساعدة سرية المشاة في اقتحام المبنى، ثم وصلت سرية المشاة بقيادة الملازم أحمد فؤاد عبد الحي وكان يوسف صديق قد انتهى من تفتيش الطابق الأول وصعد إلى الطابق الثاني دون مقاومة إلا من أحد الجنود فعاجله يوسف برصاصة أردته قتيلا .. وهكذا جعلت الظروف دوره رئيسيا بعد أن كان ثانويا مساندا.
وبعد الاستيلاء على رئاسة الجيش انطلق يوسف صديق برفقة كل من محمد نجيب وجمال سالم وحسين الشافعي وزكريا محي الدين وأنور السادات إلى الإسكندرية ظهر يوم 25 يوليو إلى ثكنات مصطفى باشا للقيام بحصار قصري رأس التين والمنتزه استعدادا للتخلص من الملك. وخلال مناقشة مصير الملك اقترح جمال سالم القبض عليه ومحاكمته وإعدامه، ووافقه على ذلك عبد المنعم أمين وزكريا محي الدين، واعترض يوسف ومعه محمد نجيب وحسين الشافعي والسادات (جمال شقره، ص 159). وكانت تلك بداية مبكرة لعدم توائم يوسف صديق مع المجموعة بصرف النظر عن طبيعة من اتفقوا معه آنذاك.
على كل حال فبناء على دور يوسف صديق البارز تقرر ضمه إلى الهيئة التأسيسية للضباط في مساء اليوم التالي لرحيل الملك (27 يوليو) ومعه كل من محمد نجيب وزكريا محي الدين وعبد المنعم أمين، وأصبح عدد أعضائها أربعة عشر عضوا، وتغير اسمها إلى لجنة القيادة، ثم إلى مجلس قيادة الثورة.
فلما تقدم باستقالته من مجلس قيادة الثورة في الظروف التي سبقت الإشارة إليها غادر البلاد إلى سويسرا في مارس 1953 وبعد ثلاثة شهور رغب في العودة فلم يتمكن فذهب إلى لبنان (يونية 1953) ثم دخل مصر سرا في أغسطس حيث تم تحديد إقامته في بلدته زاوية المصلوب-بني سويف، فأصبح على هامش النظام السياسي القائم وإلى اليسار منه بعد أن كان في مركز الأحداث.
على أن تحديد إقامته لم يكن ليعوقه عن الحركة في الوقت المناسب خصوصا إذا جاءت متفقة مع توجهاته، إذ لم تلبث أن وقعت الأزمة حادة بين جمال عبد الناصر ومحمد نجيب فيما عرف بأزمة مارس 1954. وفي هذا الخصوص يذكر الصاغ أحمد عبد الله طعيمة الذي كان مسئولا عن شؤون العمال في هيئة التحرير أن ثمة ترتيبات لقيام عمال النقل والمواصلات بمظاهرات لصالح محمد نجيب تمت بمعرفة يوسف صديق الذي اتصل برئيس النقابة صاوي أحمد صاوي وهو من الواسطى-بني سويف لتحريض العمال، لكن طعيمة نجح في أن تتم المظاهرة في اليوم المتفق عليه مع الهتاف بحياة الثورة (راجع مذكرات طعيمة). وانتهى الأمر باعتقال يوسف صديق في إبريل 1954 وظل حتى مايو 1955. غير أنه لم يقترب من هذه الوقائع في مذكراته، ونفى في أحاديثه الصحافية اشتراكه في تحريك المظاهرات، وكذلك فعل أصدقاؤه الذين كتبوا عنه بعد وفاته. مع أن تحريك المظاهرات مناصرة لمحمد نجيب كان في صالح الديموقراطية التي يريد تحقيقها بصرف النظر عن الوسائل التي تتبع.
هكذا كان يوسف صديق إنسانا قلقا، وثائرا حقيقيا دفع ثمن أفكاره. لكن الذي غاب عنه-في تقديري- وغاب عن كثيرين ممن اتخذوا من قضيته وسيلة لطعن ثورة يوليو برمتها أو شخص جمال عبد الناصر تحديدا أن الرجل طرح أفكاره مبكرا جدا في وقت كان الثوار أنفسهم معرضون لخطر الإطاحة بهم، وأن الموقف كان بحاجة إلى تركيز السلطة في يد واحدة دون حاجة إلى توزيع الأدوار .. هكذا فعلت ثورات التحرر والاستقلال في العالم ابتداء من ثورة فرنسا في يوليو 1789 التي عصفت بالنظام القائم وأقامت "المؤتمر الوطني" تنظيما سياسيا يضم أصحاب المصلحة الجدد في التغيير استبعد من صفوفه العناصر الملكية، وكذلك فعلت الثورة الأمريكية التي لم تضع دستورا إلا بعد أحد عشر عاما من نجاحها .. فلماذا تكون الثورة في مصر بدعة بين الثورات ؟!.. ولماذا تحاسب بمقاييس خاصة لا تحاسب بها الثورات الأخرى !!.
ومن ناحية أخرى هل يجوز أن تطيح ثورة بنظام قائم وتبقى في الوقت نفسه على أسس شرعية هذا النظام في الحكم ألا وهي الدستور ومؤسساته البرلمانية ؟.. أليس استدعاء البرلمان والإبقاء على دستور عام 1923 كما كان يروم يوسف صديق بعد إسقاط الحكومة وطرد الملك يعني أن ما تم ليلة 23 يوليو انقلابا وليس ثورة ؟.
هل كان يجوز ليوسف صديق وهو عضو مجلس قيادة الثورة أن يتصرف بعيدا عن توجيهات المجلس ويتبع خطى انتمائه الفكري دون مراعاة للالتزامات التنظيمية .. هل كان يجوز له أثناء المناقشة الدائرة داخل المجلس حول تنظيم الأحزاب والحياة البرلمانية أن يسافر إلى بني سويف ويخطب في الناس قائلا: إن الثورة لا شرقية ولا غربية، في الوقت الذي يتفاوض فيه المجلس مع الإنجليز وتطلب مصر أسلحة من الغرب، ويعمل على تكوين جبهة داخل الجامعة من الإخوان المسلمين والشيوعيين للعمل معا تحت قيادة الثورة في الوقت الذي يصطدم فيه المجلس بكل من الإخوان ومنظمات اليسار (راجع جمال شقرة، ص 511).
ومهما يكن من أمر فإن يوسف صديق كان إنسانا رائعا وشخصية عظيمة وثائرا حقيقيا ارتفع فوق الآلام الشخصية، فرغم خروجه مبكرا من مجلس قيادة الثورة والزج به في السجن إلا أنه بادر بتأييد عبد الناصر في أزمة السويس ووجد في إجراءات التأميم الكبرى (1961) وإقامة القطاع العام ما يبشر بالمجتمع الاشتراكي الذي آمن به فنراه يلتقي مع عبد الناصر باستمرار في لقاءات حرة مفتوحة من واقع صداقة ومصير مشترك (راجع ما كتبته روزاليوسف في 7 إبريل 1975 بعد وفاته). وعندما اشتد عليه المرض في صيف 1970 يسافر للاتحاد السوفييتي للعلاج بموافقة عبد الناصر، وعندما يعلم بوفاته وهو تحت العلاج ينظم قصيدته الرائعة "دمعة على البطل" .. لم يتنكر للثورة ، ولم يحقد على عبد الناصر، ولم يتمنى له شرا، وربما كان يتعجل بلوغ الأمل قبل نضج الظروف مثل كل حالم بالمساواة والعدل. هكذا يكون الحر الحقيقي عندما يلتقي بأحرار حقيقيين .. رفقة طريق .. وزمالة سلاح .. لا يمكن أن يخون أحدهما الآخر، ولكن يعذر أحدهما الآخر إذا تعذر الوفاق.
أما إذا كان هناك من يفضل مقولة "إن الثورة تأكل أبناءها" ويرددها في معرض إدانة عبد الناصر لما حاق بمحمد نجيب ويوسف صديق وأن هذا أمر مألوف وقعت فيه كل الثورات .. الخ .. فلماذا إذن الغضب مما حدث .. ألم يكن من الممكن تبادل المواقف إذا كان قد قدر لفريق محمد نجيب أن ينجح !!.
ويبقى القول إن اسم يوسف صديق سيظل محفورا في كتب التاريخ مخلدا دوره ليلة 23 يوليو 1952 رمزا لثائر حقيقي حلم بالديموقراطية والعدالة الاجتماعية .. وما هذا الكتاب الذي حرص قصر ثقافة بني سويف على إصداره إلا دليل تقدير وإعجاب ومحبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق