يُقال: ومن الحب ما قتل...... ولست منكرا لذلك، فأنا الذي استشهدت وكتبت من قبل كما آخرين عن قيس الذي وصفوه بالمجنون وبحبيبته ابنة عمه ليلى العامرية التي أدمى هواها قلبه؛ لكن الغريب وقد يكون النادر مستحيل الحدوث هو أن يقضي الشخص نحبه من فرط هواه بالجمال وغرامه به وتعلقه دون أن يكون لأحدٍ هي أُنثى بذاتها، سلبت لبه وتملكت عقله، فانشغل عن دنياه وواقعه وهام في ملكوت الحب اللامتناهي حتى فقد عقله، وأمسى وحيدا ملكاً وشعباً في مملكة جنونه التي أطلقوها عليه واختارها بنفسه ولم يجد عاراً في ذلك، أو رغبةً في الخروج منها، بعد أن أصبح الجمال هاجسه الذي لا يُمكن أن يُشفى منه.
هو ابن النيل الجواد وشاعر السودان الذي قضى فاقداً لعقله بعد سنواتٍ من معاناته وأمراضه النفسية التي حجرت على جسده، لكنها لم تحجر على جود لسانه، الذي قرض به شعراً لو وزن بما فاضت به قريحة الشعراء المعاصرين في الهوى والجمال والغزل لوزنهم ورجحت كفته عليهم!
إدريس جماع مدرس اللغة العربية الذي ترك حبيبةً جارة له في السودان ورحل اربعينيات القرن الماضي صوب مصر فحصل منها على ليسانس اللغة العربية وعاد ليجد المحبوبة وقد تزوجت قريبا لها، فجن جنونه وهام في شوارع الخرطوم يرثي حظاً لم يكرمه بعد أن فقد وصال من منى نفسه بأن تكون يوماً شريكةً لحياته. كان رحمه الله وكما روي عنه هائماً في سوق الخرطوم كالباحث عن شيءٍ فقده وغير مكترث لما حوله، فناشد العديد من الأدباء والمفكرين والمثقفين حكومة الرئيس السوداني ابراهيم عبود التي عُرف عنها اهتمامها بالأدب والفن علاجه في الخارج فاستجابت وارسلته للبنان التي عاد منها للسودان مرة أخرى دون أن تتحسن حالته، حتى قيل أنه كان يُرى راقداً على خطوط السكة الحديدية، ليقوم منتفضاً كمن به مس عند اقتراب القطار. بقي حاله على ما هو عليه حتى ضنى جسده ونحل وتوفي بشعره العام ١٩٨٠.
عُرف برهف حسه وببلاغة شعره وبسمو معانيه, التي كانت تخرج مسرعةً فتصطف كلماتها بإبداع قارضها كسوارٍ من لؤلؤٍ أضنى بحاره حتى جمعه بتفانٍ وعزيمة, بأن يخرج في كل غطسه بلآلئ متناسقة براقة, حال جمعها وصقلها تغدو حلم أميرة يزدان بها معصمها حال لبسه!
من منا في لحظات قنوطه وحسرته لرداءة حظه لم ينشد:
إن حظي كدٓقيقٍ فوقٓ شوكٍ نثروه ...... ثم قالوا لِحُفاةٍ يومَ ريحٍ اجمعوه
عَظِم الأمرُ عليهم ثم قالوا اتركوه...... أن من أشقاهُ ربي كيف أنتم تُسعدوه
هي كلمات يرثي بها الشاعر ادريس نفسه، وإن كانت اختلف في مصدرها فنسبها البعض للشاعر السوداني محمد عبدالحي وآخرون ارجعوها لمحمد محجوب؛ لكن المنطق يشير الى أن معانيها جسدّت نمط تفكر جمّاع وكرست عمق أيمانه بالله سبحانه وتعالى وبقوته التي لا تجاريها أو تقترب منها قوة البشر.
من أكثر الروايات التي تم تداولها عنه وأثرى الغزل والجمال بها بقصيدة "أنت السماء"؛ ما روي عن موقف حدث معه وهو في المطار مستهلاً مشواره العلاجي في الخارج، حيث رأى عروساً تجلس بجانب عريسها في صالة الانتظار، فبهره فرط جمالها، فلم يزح ناظريه عنها رغم ما أثاره ذاك الصفون بالمرأة من حفيظة زوجها الذي حاول أن يبعدها عنه، فقال أحد أروع قصائده التي تغنى بها الفنان الراحل سيد خلقه، وكأنه يخاطب فيها زوجها المحتج والممتعظ من نظراته:
أعلى الجمال تغار منا ماذا عليك إذا نظرنا ..........هي نظرة تنسى الوقار وتسعد الروح المعنّى
دنياي أنت وفرحتي ومنى الفؤاد اذا تمنّى ............أنتَ السماءُ بدتْ لـنا واستعصمتْ بالبعدِ عنا
هلاَّ رحـمتَ مـتيمـا عصفت به الأشواق وهنا........وهفت به الذكرى فطاف مع الدجى مغنى فمغنى
هـزته مـنك مـحاسن غنى بها لـمّـَا تـغنَّى..............يا شعلةً طافتْ خواطرنا حَوَالَيْها وطــفنــا
أنـسـت فيكَ قداسةً ولــمستُ إشراقاً وفناً ..............ونظـُرتُ فـى عينيكِ آفاقاً وأسـراراً ومعـنى
كلّمْ عهـوداً فى الصـبا وأسألْ عهـوداً كيف كـُنا .....كـمْ باللقا سمـحتْ لنا كـمْ بالطهارةِ ظللـتنا
ذهـبَ الصـبا بعُهودِهِ ليتَ الطِـفُوْلةَ عـاودتنا..........
في قصة أخرى اشتهرت عنه ونتج عنها واحدة من قصائده العذبة؛ قيل عنه أثناء تواجده في مستشفىً فرنسيٍ للعلاج أنه أولع بعيني ممرضته التي تتولى علاجه وأسرته بجمالها، فلم يترك النظر اليها لحظة حتى خافت منه فاشتكت لمدير المستشفى، الذي نصحها بأن تضع نظارة سوداء حال تواجدها معه، ليتفاجأ جمّاع بما فعلت فقال فيها:
السيف في غمده لا تُخشى بواتره.........وسيف عينيك في الحالتين بتار! فتمت ترجمة ما قال للمرضة التي بكت من حسنه، وهو الذي صنف فيما بعد كأبلغ بيت شعر غزلي في العصر الحديث!
كتب عنه الدكتور عبده بدوي في كتابه الشعر الحديث في السودان " إن أهم ما يميز الشاعر إدريس جمّاع هو إحساسه الدافق بالإنسانية وشعوره بالناس من حوله"، فيما وصف الدكتور تاج السر الحسن المُشرف على طباعة ديوانه الوحيد "لحظة باقية" وفيها جمعت قصائده التي لم يتسنى نشرها بسبب مرضه عدا عن عديدة فقدت بسبب كتابته لها وتمزيقها او كتابتها على الجدران؛ شعره بالذي يقع في إطار التراثي والديواني العربي، كونه من مدرسة العربية الابتدائية ومن رواد التجديد الشعري ومن شعراء مدرسة الديوان على وجه الخصوص ضمن مجموعة عبدالرحمن شكري وعباس العقاد وابراهيم المازني.
أما هذه الأبيات للشاعر ادريس جماع فيمكن أن تقرأ راسيا وافقيا بنفس المعنى:
ألوم حبيبى وهذا محال
حبيبى افيك الكلام يقال
وهذا الكلام غداة الجمال
محال يقال الجمال محال
سيبقى شعر إدريس جماع خالدا وهو الذي يعد من أرق من كتب الشعر الممزوج بالبؤس والمعاناة والألم والحرمان الذي طال قائله، لكنه ومع ذلك خرج لنا بقصائد عذبة يفيض منها عبق الإنسانية والمشاعر المرهفة والإحساس الصادق الذي تغنى بالجمال وقدسه ودعى للوطنية ومجدها وساندها في فترات شهدت ثورات عربية كان من اشد المتحمسين لها وعلى رأسها القضية الفلسطينية والجزائر ومصر وقضايا التحرر في العالم أجمع، كما تغنى بأفريقيا ونادى لوحدة الشعوب ونبذ العنف وللسلام والمحبة ومجد وطنه وعشقه، ومن بعض ما قال فيه بأحد قصائده التي تم إضافتها للمناهج الدراسية ويقول فيها:
سأمشى رافعا رأسي .. بأرض النبل والطهر
ومن تقديس أوطاني .. وحب في دمى يجرى
ومن ذكرى كفاح الأمس .. من أيامه الغر
سأجعل للعلا زادي .. وأقضى رحلة العمر
هنا صوت يناديني .. نعم لبيك أوطاني
دمي عزمي وصدري .. كله أضواء ايماني
سأرفع راية المجد .. وأبنى خير بنياني
هنا صوت يناديني .. تقدم أنت سوداني
من قصائده الغزلية الأخرى قرأنا له:
في ربيع الحب كنا نتساقى ونغني
نتناجى ونناجي الطير من غصن لغصن
إننا طيفان في حلم سماوي سرينا
واعتصرنا نشوة العمر ولكن ما ارتوينا
انه الحب فلا تسأل ولا تعتب علينا
كانت الجنة مأوانا فضاعت من يدينا
أطلقت روحي من الأشجان ما كان سجينا
أنا ذوبت فؤادي لك لحنا وأنينا
فارحم العود اذا غنوا به لحنا حزينا
ليس لي غير ابتساماتك من زاد وخمر
بسمة منك تشع النور في ظلمات دهري
وتعيد الماء والأزهار في صحراء عمرى
ثم ضاع الأمس منى
وانطوى بالقلب حسرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق