الصفحات

الخميس، 13 أبريل 2017

ميزوفونيا: عندما يكون الصوت هو العدو!



أنت تتناول رقائق البطاطس المقلية مباشرة من الكيس بغير تحفظ في العمل. أنت جائع حقًا، وتلك الرقائق لا يبدو 
أنها تشبعك لكنها لذيذة لا تقاوم، حتى أنك صرت تحشر ثلاث أو أربع رقائق في فمك بالمرة الواحدة! صارت أصابعك حمراء مزيتة فأخذت تلعقها بصوت عالي قبل أن تنقض مرة أخرى على بقايا البطاطس في قاع الكيس. أنت تطلق عليها ميكروشيبس لأنها رقائق شيبس مصغرة يكون تركيز النـ....

كنت على وشك مواصلة تبرير ما تفعله من خطايا لعقلك، عندما شعرت بسخونة مفاجئة في جانبك الأيسر وكأنما هناك من وضعك إلى جانب أتون مكشوف؛ وعندما نظرت إلى يسارك وجدت زميلتك على الجهة الأخرى من المكتب تنظر إليك في غضب ممزوج بالانزعاج. لابد أنك قد ارتكبت كارثة ما حفزت جينات طفرة الإيذاء البدني عن بُعد لديها. فيما بعد، فلنبحث هذا الأمر فيما بعد!

الآن، ترفع كيس الشيبس العملاق إلى فمك مباشرة. إنها حركة طوفان الميكروشيبس المفضلة لديك! وكنت تفتح فمك بينما يتراقص لسانك بالداخل من الجذل، عندما سمعت تلك الزمجرة من صديقتك! هل ستتحول الآن إلى مستذئب أو ما شابه؟

يبدو أنها تجد الأصوات التي تصدرها بينما تأكل وتضمغ مزعجة لا تحتمل. لكنها تبالغ! حبًا بالله لابد أنها تبالغ! كيف يمكن أن يتسبب صوت المضغ والطحن والبلع واللعق بألم للغير إلى الحد الذي يحوله لتمثال مجسم للنقمة هكذا؟
فلننسحب نحن من ذلك المشهد سريعًا، ولنكتف بالسؤال الأخير الذي أثارته الضحية قبل موتها بلحظات. كيف يمكن أن يصبح الصوت الطبيعي مصدرًا للألم والانزعاج لدي البعض؟

ميزوفونيا: عندما لا يحتمل العقل أصواتًا بعينها

المعنى الحرفي لميزوفونيا Misophonia هو كراهية الصوت، والكلمة نفسها مشتقة من اليونانية القديمة حيث ميزو Miso μισο من μισεῖν misein وتعني “يكره”، وفون phon من اليونانية ϕωνος phonos وتعني “صوت” والصوت المقصود هنا هو الصوت إجمالًا دون تحديد. أما اللاحقة “ia” في نهاية ميزوفونيا، فهي طريقة تحويل الكلمات لحالات طبية، كما هو الحال مثلًا مع سكيتزوفرينيا schizophrenia.


للمزيوفونيا اسم آخر أقل شيوعًا، وهو متلازمة حساسية الصوت الانتقائية Selective Sound Sensitivity Syndrome. ويبدأ ظهور هذا الاضطراب في مرحلة الطفولة، ما بين الثامنة إلى سن الثالثة عشرة، وأحيانا بعد البلوغ، ثم تستمر مدى العمر في معظم الحالات، وتزيد مع الإجهاد والتعب والجوع!
إذا ما كنت تصاب بالغضب أو الامتعاض جراء بعض الأصوات التي يصدرها الآخرين وتبدو لهم طبيعية، مثل المضغ، تجرع الماء، التنفس الثقيل، الشخير، التنشق، النقر بالأصابع، أو الخربشة والصرير على الأسطح الجافة، فقد تعاني من الميزوفونيا! لا تقلق، ليس مرضًا خطيرًا أو معدي، لكن بعدما كان ينظر إلى ميزوفونيا كحالة غير مرضية، يشير بحث جديد إلى أن ميزوفونيا تمثل اضطرابًا مرضيًا حقيقيًا!

أي أن ما يبدو لك كانزعاج عارض من طريقة زميلك في التهام الطعام، قد يشير إلى اضطراب خفي لديك تجاه بعض الأصوات. مثل هذه الأصوات تدعى “مثيرات Triggers”، ولها فقط يُستثار الشخص الحساس لها!  ومع الوقت، تم وضع ما يشبه قائمة يمثيرات الميزوفونيا، ودعوني أخبركم أن تلك القائمة تكبر وتتعاظم كل يوم ما يعني أن هناك أقوامًا جدد ينضمون إلى تلك القائمة بلا توقف! يبدو أننا موشكون على الهلاك فعلًا.

بلا تعاطف!

لا أعلم إن كان هناك من استخدم كلمة “ميزوفوني” من قبل كصفة للدلالة على الأشخاص المصابين بالميزوفونيا، ولم أجدها على الانترنت خلال بحثي، لكنها تبدو ملائمة تمامًا اذا فلنستخدمهًا هنا. المشكلة الأكبر لدى الميزوفونيين هو عدم تعاطف الآخرين معهم أو حتى فهمهم لطبيعة حساسيتهم. هناك شعور عام لدينا بأن هذه الحالة هي نوع من “الترف” الذي لا نحتمله في حياتنا المليئة بما هو أقسى من مجرد الانزعاج لطريقة المضغ، أو التنفس الثقيل لأحدهم؛ وهي نفسها المقاربة التي تجعلنا لا نقدر الفن ولا نستسيغه! ميزوفونيا تتوارى خجلًا بالتأكيد بجانب التهاب الكبد الوبائي وغيره من أمراض الفقر التي تضربنا بلا رحمة. مقاربة غير عادلة بالطبع وإن كنا لا نستطيع تغييرها.
الخبر الجديد هنا هو ما توصل إليه فريق من العلماء بجامعة نيوكاسل، المملكة المتحدة في فبراير 2017، بعدما قاموا بفحص أشعة دماغية لعدد من الميزوفونيين عند تعرضهم لعدد من المحفزات الصوتية Triggers. فقد أظهر المسح الدماغي “نشاط فوق طبيعي” و”اتصال وظيفي غير طبيعي” للأجزاء الأمامية الوسطية medial frontal، والوسطية، والجدارية والمؤقتة من مخ الأشخاص عينة الاختبار مع سماعهم للأصوات التي يكرهونها. ولم يتوقف الأمر عند النشاط غير الطبيعي للمخ ووظائفه، بل تم كذلك تسجيل ارتفاعًا في معدل ضربات القلب وإفراز العرق لديهم. أي أن الميزوفونيين يتعرضون لهجوم انفعالي قوي يحفز ردود فعل جسدية تسبب عدم الارتياح والتوتر الشديد. هكذا نعلم أن الأمر لا مزاح به هنا.
مع هذا، تمثل هذه الدراسة الأخيرة أملًا في تغيير قريب لحالة عدم التعاطف والتشكيك السائدة تجاه الميزوفونيا ومصابيها، حتى أنها دفعت تيم جريفيس Tim Griffiths، أستاذ علم الأعصاب المعرفي cognitive neurology بجامعة نيوكاسل إلى الاعتراف في مؤثتمر صحفي بأنه كان أحد المشككين في مدى جدية حالات الميزوفونيا المنتشرة، إلى أن عاين بنفسه المرضى في العيادة وشاهد مدى التشابه في العلامات والأعراض بينهم جميعًا وقت الدراسة. ميزوفونيا هو اضطراب عصبي أصيل لا يجب الاستهانة به.

أسوأ صوت في العالم

مع ما كل قرأتموه بالأعلى عن الميزوفونيا والميزوفونيين، لا يجب أن نخلط بين كراهية الصوت وحساسيتنا نحن العادية تجاه الأصوات المزعجة. مع ميزووفونيا يتأذى الميزوفونيون من أصوات تراها الأغلبية طبيعية وعادية ولا يتأذون منها، بينما تظل هناك قائمة من الأصوات التي تصيبنا جميعًا أو على الأقل معظمنا بالانزعاج وأحيانًا الألم! فكروا في صوت خربشة الأظافر على لوح الطباشير الخشبي أو احتكاك الشوك المعدنية بأطباق الطعام، وستعلمون ما أتحدث عنه هنا! هذه أصوات مزعجة إلى الدرجة التي تدفعنا للجز على أسناننا والصياح في مصدرها كي يتوقف!

ولدينا هنا تجربة أخرى أجريت عام 2012 لتحديد أكثر الأصوات إزعاجًا في العالم، حيث تم تعريض المختبرين إلى 74 صوتًا مختلفًا ليجدوا أن الأصوات الأكثر إزعاجًا التي اتفق عليها الجميع حينها تقع في نطاق ترددات بين 2000 إلى 5000 هيرتز، بينما فاز بلقب “أسوأ صوت في العالم” وفق هذه التجربة صوت سكين معدني في زجاجة معلقة، متغلبة على بطل جهنم الشهير “احتكاك الأظافر على لوح الطباشير”.
وما انتهت إليه الدراسة هو أن آذاننا البشرية حساسة للغاية لنطاق معين من ترددات الصوت، حيث تثير هذه الترددات تفاعلًا بين القشرة السمعية للمخ Brain’s Auditory Cortex واللوزة المخية Amygdala، مما يضخم من هذه الترددات مسببة ألمًا حادًا لدينا.
أخبرونا، إلى أي فريق تنتمون: الميزوفونيون المرهفون، أم المهاجمون الفخورون بأصواتهم؟! أعتقد أن الجميع هنا سيفضل خانة الميزوفونيا… تبدو شاعرية إلى حد بعيد، ألا تتفق معي؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق