الصفحات

الثلاثاء، 25 يوليو 2023

مقهى المسيري بدمنهور بين عبق الزمان وجماليات المكان:

لعبت بعض المقاهي في مصر دورا هاما في الحياة الثقافية والسياسية في النصف الأول من القرن الماضي. ومن أهم هذه المقاهي- إن لم يكن أهمها- والتي كانت بمثابة جامعة أهلية للمعرفة وكذا الثقافة، مقهى المسيري الشهير بمدينة دمنهور لصاحبها الأديب الكبير الأستاذ "عبد المعطي المسيري" يرحمه الله، الذي كانت تربطه صلة قرابة بالدكتور عبد الوهاب المسيري، لكون الأجداد أولاد عم. وكان "د. عبد الوهاب المسيري" يعتبر الأستاذ عبد المعطي أستاذه ومعلمه وملهمه بغض النظر عن القرابة. ظاهرة "مقهى المسيري" في عيون كبار المثقفين: وظاهرة مقهى المسيري، ما كانت لتغيب على من هو مثل د. عبد الوهاب المسيري أن يصوغ لها وصفا ولو مختصرا في سيرته الذاتية الأشهر (رحلتي الفكرية)، بصفته أهم معالم دمنهور الثقافية في إبان شبابه، ومما قال في ذلك: "ومن معالم دمنهور الأساسية مقهى المسيري لصاحبها الأستاذ عبد المعطى المسيري (رحمه الله).. وبعد دخولي الجامعة، أصبحت عضوا أساسيا في تلك الجامعة التي كانت تلتقي في المقهى، في جو كله مودة ودون استقطابات أيديولوجية ودون خوف أو وجل من التجريب أو الخطأ.. وكان بيننا شاعر العامية حامد الأطمس والشاعر فتحي سعيد (رحمهما الله)، كما تعرفت إلى محمد صدقي كاتب القصة وعبد القادر حميدة وغيرهما. كان المقهى هو بيت الثقافة في دمنهور. وكان أمين يوسف غراب يتردد عليه، وقيل لي إن يحيى حقي ومحمد عبد الحليم عبد الله وغيرهما من المشاهير من أبناء البحيرة وممن عملوا فيها كانوا من رواد هذا المقهى الأدبي"( ).. انتهى. كما قال عنه الأديب الكبير "يحيى حقي": "ذلك المثقف أو الأديب الذي يفكر في زيارة مدينة التاريخ القديم والتجار الشطار لكي يتعرف إلى صور الحياة وعادات الناس هناك لا بد من أن يجلس على رصيف مقهى المسيري الذي يمثل ظاهرة مهمة عند أبناء المدينة المثقفين والأدباء والزجالين"( ). .. ومن الشهادات المهمة لدور المقهى في إثراء الحركة الثقافية في مصر؛ شهادة الأديب الكبير "محمود البدوي" عن إحدى زياراته للمقهى في قوله: "وذهبنا إلى "مقهى المسيري" وترك عبد المعطي إدارة القهوة لأحد عماله، وجلس معنا يرحب، ويقدم التحيات.. وسرعان ما جاء إلى القهوة أكثر من أديب دمنهوري.. وكانت دمنهور في ذلك الوقت خلية نحل نشطة دون سائر المديريات.. وكانوا جميعا يتعاونون في صفاء ومودة وإخلاص على طبع الكتب وإصداراها إحياء للأدب و انتعاشة دوما.. ولم تكن هناك شللية ولا ماركسية ولا تقدمية ولا رجعية، ولا كل البلاء الأزرق الذي زحف على البلاد، وظهر في جو الأدب فلبد سماءه الصافية بالغيوم وقتل روح الفن المعيار الأول للأدب الصادق"( ).. و قال أـيضا: "كانت قهوة المسيري منتدى أدبيا عامرا وحافلا على الدوام بالأدباء من القاهرة والإسكندرية ودمنهور، وكان عبد المعطي قطب الدائرة وخلية منتجة ونشطة تظهر آثارها.. في كتاب يطبع في دمنهور أو الإسكندرية لقربها من دمنهور.. كان المجتمع الأدبي منتجا ومفيدا.. ولم تكن اجتماعات القهوة تنتهي إلى مناقشات بيزنطية تذهب مع الريح".. ومن مآثر المقهى أنه أغرى الأديب الكبير "عبد القادر المازني" أن ينشيء له مدرسة في دمنهور من أنصاره ومحبيه( ). .. ويقول "أ. رجب البنا": "عشت أهم تجربة ثقافية من خلال قهوة المسيري التي لم تكن مقهى تقليديا بالمعنى المعروف.. وقد عرفت للمرة الأولى "نجيب محفوظ" و"يحيى حقي" و"لويس عوض" و"د. محمد مندور" من خلال قهوة المسيري، فهذه الأسماء الكبيرة كانت تتردد عليها لشعورهم أن دمنهور بها تجربة ثقافية كبيرة وجيل جديد من الأدباء و المفكرين.. وكنت واحدا من هؤلاء، وحتى الآن لم تتكرر حالة الفوران الثقافي التي تسببت فيها داخل دمنهور"( ). .. وعن دور "عبد المعطي المسيري" نفسه يقول "عبد الرشيد الذوادي": "وكانت رسالته في الحياة أن يكتشف أصحاب المواهب الفنية والأدبية ويتبناها دون مقابل ويوجهها".. ويقول: "هذا الرجل وحده ساعد على إظهار عشرات من الشعراء والنقاد وكتاب القصة وأقام مئات الندوات يحضرها شباب المدينة، وينشغلوا بعدها بحوار مفيد" . تعريف بالأستاذ عبد المعطي المسيري (1909م: 1970م): ولد الأستاذ سنة 1909م في إحدى حارات دمنهور لأب متواضع يملك مقهى صغيرا، كانت تسمى (مقهى رمسيس) أيام والده، وللظروف الاقتصادية المتواضعة – رغم كبر حسب ونسب العائلة- عمل في المقهى منذ الصغر. وكما يقول د. خالد عزب: "ومن أهم الأشياء التي جعلت المسيري يهتم بالأدب تلك الطقوس التي كان يقوم بها الشاعر أحمد محرم في ركنه الخاص بالمقهى حيث يكتب ويعد مادة الجريدة التي كان يصدرها فكان عبد المعطي المسيري يتعمد تجهيز المكان بنفسه ويظل قريبا منه"( ). o وهو: الأديب الكبير، والمناضل الوطني، والقهوجي مكتشف المواهب. o والدمنهوري الفقير ابن العائلة الأرستقراطية الثرية. o وأحد أخطر أدباء القرن العشرين لفرط آثاره الثقافية على العالم العربي أجمع. o وصاحب الجامعة الأهلية العظمى، والتي تخرج على يديه منها عظماء رجال الفكر والأدب، ومنهم من تصدروا المشهد الثقافي في القرن الماضي، وما زالت آثارهم ممتدة عبر القرن الحالي، مثل: "محمد عبد الحليم عبد الله" و"محمد صدقي" و"أمين يوسف غراب" و"خيري شلبي" و"محسن الخياط " و"رجب البنا" و"فتحي سعيد" و"عبد القادر حميدة" و"حامد الأطمس" و"إسماعيل الحبروك" و"علي شلش" و"صبري العسكري"، وغيرهم كثير. o قال عنه "رجب البنا": "هو ينتمي إلى طائفة سقراط، فأعظم ما تركه ليس كتبه، ولكن عظمته في أنه صاحب مدرسة في دمنهور، فمقهاه كان حقيقة مدرسة وتلاميذه اليوم في كل مجلة وصحيفة وفي الإذاعة والتلفزيون". o ولقد قام بالتقديم لكتبه كبار الأدباء مثل: "طه حسين" و"محمود تيمور". وممن أثنى على أسلوبه الأدبي عميد الأدب العربي "د. طه حسين" على صفحات الصحف وحين كتب له مقدمة كتابه "في القهوة والأدب"، حيث قال: "أحسست إعجاباً عظيما بهذا الرجل الذي ثقف نفسه لم يختلف إلي مدرسة ولم يجلس إلي أستاذ، وإنما تعلّم القراءة والكتابة في السوق، وأخذ يقرأ ما يذاع في العامة، ثم قرأ لأكثر الكتاب المصريين، ثم ما نقل إلي العربية من آثار الغربيين، وهو الآن على كثرة ثقل أعباء الحياة عليه لا يستطيع أن يستقبل النهار والليل إلاِّ قارئاً كاتبا وناقداً مفكرا. كل هذا خليق بالإِعجاب وخليق بأن يحملني على أن أهنئ هذا الكاتب الأديب تهنئة صادقة بهذا الجهد الخصب المتصل وبهذا التوفيق العظيم الذي أتيح له"( ). o وهو نفس الكتاب الذي قال فيه "محمود أمين العالم": "صاحب المقهى الأديب عبد المعطي المسيري استطاع بكتابه هذا أن ينتزع من رأسي فلسفة أفلاطون ومثالياته". o وكذا قد أثنى عليه المستشرق الروسي "اغناطيوس كرانشوفسكي". o ومما يذكر أنه حينما راسل الرئيس "جمال عبد الناصر" طالبا منه تدعيم دور الأقاليم في الحركة الثقافية ضد الإقطاع الثقافي المسيطر في القاهرة؛ بعث عبد الناصر عضو مجلس قيادة الثورة ورئيس تحرير جريدة الجمهورية آنذاك "محمد أنور السادات" إلى المقهى الشهير، وقام بتدشين "نادي أدباء دمنهور" من مقهى المسيري. o وقد كان من زوار مقهاه الدائمين أكبر رموز الفكر والأدب والفن مثل: "يحيى حقي" و"محمود تيمور" و"توفيق الحكيم" و"نجيب محفوظ" و"زكي مبارك" و"مصطفى صادق الرافعي" و"محمد حسن الشجاعي" و" زكريا الحجاوي" و"عبد المعطي حجازي" و"صلاح عبد الصبور" و"علي الراعي" و"أنور عبد الملك" و"عباس العقاد" و"عبد القادر المازني". كما زارها كل من "أ.هدى شعراوي"، و"أ.محمود البدوي"، و"أ. يوسف السباعي"، و"د. لويس عوض"، و"د. محمد مندور"، وغيرهم الكثير. o من ضمن ما كتب قصة قصيرة عن علاقته بالأديب الكبير"توفيق الحكيم" بعنوان "أهل الكهف" نشرت في مجموعته القصصية الأشهر "مشوار طويل"، ومن المعروف لرواد المقهى إلى الآن أن "توفيق الحكيم" قد كتب أكثر من رواية على المقهى، في ركن معروف من أركانها، مثل رواية "أهل الكهف" و"يوميات نائب في الأرياف". o ولما ذاع صيت أ. عبد المعطي تعاقدت معه "إذاعة لندن" العربية التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية لتسجيل قصصه القصيرة، مقابل (5 جنيهات) عن القصة الواحدة، وبالفعل كان وقت إذاعتها في المساء تجلس الجموع الغفيرة في المقهى يلتف حول المذياع لسماعها. o و قد كان مفجرا لكثير من التظاهرات السياسية التي تخرج من المقهى، ومنها تظاهرة سنة 1948م، والتي ضمت أدباء وساسة ورجال دين شيوخ وقساوسة؛ إذ كانت تربطه صداقات عميقة مع رجال الأزهر والكنيسة( ). o أما عن انتاجاته الأدبية فقد كتب أكثر من 600 قصة، نشر منها الكثير في سبع مجموعات قصصية هي: 1- في الأدب والقهوة.. صدر سنة 1935م. 2- الظامئون.. صدر 1940م. 3- من أقاصيص القهوة.. صدر سنة 1942م. 4- روح وجسد.. صدر سنة 1947م. 5- على رصيف القهوة.. صدر 1949م. 6- الظلال الهاربة.. صدر بعد 1950م. 7- مشوار طويل.. صدر 1965م. o أما عن عالمية مستوى أدب "عبد المعطي المسيري" فقد جاء في مجلة الرسالة لصاحبها الأستاذ "محمد حسن الزيات": "فأقاصيص من القهوة، هي من أمتع ما قرأت من مجموعات القصص المصري الحديث، وهي شئ يبشر بمستقبل باهر ونضج قريب للأقصوصة المصرية التي هي ظاهرة من أقوى ظاهرات الأدب وأحبها إلى القلوب؛ فأقصوصة (حلة العيد) و (الحاج بكار) ثم قصة (الحياة في القهوة) لا تقل عن أبدع ما أنشأه "تشيكوف" و"أندرييف" و"جوركي" من القصص القصيرة. وليس هذا كلاماً نلقيه على عواهنه، فلمن شاء أن يقرأها وأن يرى بعد ذلك رأيه فيما نقول.. وسأذكر دائماً أن ميزة الأستاذ المسيري هي قدرته على تحديد هدف القصة، وخلق موضوعها خلقاً كاملاً طريفاً" . o وقد فاز بجائزة القصة القصيرة عام 1958. o ومما يذكر أنه المهندس الراعي المؤسس للمؤتمر الأول لأدباء الأقاليم بدمنهور برئاسة الأديب الكبير "يحيى حقي" عام 1958م. o كما كرمه أول مؤتمر لأدباء مصر في الأقاليم عام 1984م ومنحته وزارة الثقافة المصرية شهادة تقدير تقديرا لدوره المهم في خدمة الأدب المصري المعاصر . o وقد توفي في يوم مشهود غفل الناس عنه لانشغالهم بتشييع فقيدهم الرئيس "جمال عبد الناصر". بعض من أنشطة مقهى المسيري: لم يكن مقهى المسيري بيتا للثقافة - بالمعنى الضيق لها - وحسب، لكنه علاوة على أنشطة المقهى الثقافية كان يرافقها الكثير من الأنشطة التي تعبر عن شخصية المكان، وعن شخصية صاحب المكان التي ألقت بظلال الزمكانية على كثير من الأنشطة التي تعبر عن مقتضى حال التفاعل بين الإنسان والكون والحياة في مثل هذه البقعة من مصر، في تلك الفترة، بمشاركة تلك البصمة الشخصية الفريدة لصاحب المقهي. وهي أنشطة تنتمي للثقافة في بعدها الحضاري الأوسع، وتتبادل معا التأثيرات سلبا وإيجابا، ومن ذلك علي سبيل المثال: أولا: بعض من الأنشطة السياسية: كان "عبد المعطي المسيري" مهتما بالشأن العام متماهيا مع قضايا أمته، ودائم الاتصال بالجماهير. وكان يرى أنه الضروري الكشف عن معاناة الشعب المصري حتى تنتبه إليها الحكومات, وتعمل على رفع تلك المعاناة، وإقالة المهمشين من هذا الشعب المسكين من عثراتهم. وكان دائم الاتصال أيضا مع الحكام ينصح لهم، وأحيانا كثيرة يعارضهم. مثل: 1- مراسلته للرئيس "جمال عبد الناصر" بشكواه من عدم الاهتمام بثقافة الأقاليم ومبدعيها وقصر الاهتمام على القاهرة وأدبائها.. 2- دوره في تحريك الشعور الثوري لدى الطبقات الكادحة من الشعب في "حرب فلسطين 1948م"، حيث كانت تخرج المظاهرات لنصرة الشعب الفلسطيني من المقهى . والجدير بالذكر أن معظم تظاهرات المقهى كانت تضم شيوخا وقساوسة. 3- دور المقهى كغرفة عمليات ميدانية لتأييد ثوار يوليو، وفي حالة تأهب مستمر ومنه خرجت جموع المثقفين إلي شوارع المدينة مؤيدة للضباط الأحرار . 4- اشتراكه في العمل العام وترشحه للمجلس المحلى (المسمى مجلس بلدية دمنهور). ولا يُنسى في هذا السياق وقوفه في المجلس ضد رغبة ملك مصر السابق (فؤاد) بمطالبته بتغيير اسم أهم شوارع مدينة دمنهور من "شارع الامير فاروق" إلى "شارع أحمد عرابي" زعيم الشعب والمهمشين، وما كتابته لقصة "أهل الكهف" بمجموعته القصصية "مشوار طويل" إلا دليل دامغ على توثيق تلك الحادثة .. والطريف أنه بالفعل تحول اسم الشارع إلى "شارع عرابي" بعد "ثورة 23 يوليو 1952م" . 6- اشتراكه في جمع التبرعات في تسليح الجيش المصري لحرب "فلسطين 1948م"، وفي أحداث جسام أخرى ما يشبه ذلك، لثقة الناس به. ثانيا: بعض من الأنشطة الاجتماعية: مما يذكر عن امتداد النشاط التوعوي لـ"مقهى المسيري" إلى محافل أخرى خارج المقهى؛ أن "أ.عبد المعطي المسيري" قد وسع من نطاق أنشطة المقهى على مستويات عدة تطال معظم المناسبات والأعياد، وكذا العديد من المحافل الاجتماعية كالأندية الرياضية والاجتماعية، وأحيانا كثيرة، المساجد والكنائس، يل وصل الأمر إلى عقد ندوات بالسجون كما يقول "رجب البنا": "حتى أننا عملنا ندوات في السجن وفوجئنا بوجود عدد كبير ممن لديهم موهبة الشعر بين السجناء فكانت أمسيات رائعة وكان مأمور السجن معجبا بها جدا، خاصة أن سلوك المساجين تحسن كثيرا.." . ثالثا: بعض من الأنشطة في رعاية الفنون بجانب الآداب: اشتهر "مقهى المسيري" بتبني صنوف الأداب بين كل أو جل رواده، من رواية وشعر وقصة قصيرة ونثر وحكايات ودراما.. الخ.. وقد كان من رواد المقهى الكثير من النقاد الذين يدندون على انتاجات رواد المقهى. لكن من أنشطة المقهى ما هو مجهول عنها رعاية الفنون جانبا إلى جنب مع الآداب وأشكالها.. مثل المعارض التي كانت تقام في المقهى للفنون التشكيلية والتصوير الفوتوغرافي، ومن المعلوم أن مصور الأهرام الشهير "أنطوان ألبير" الذي يعدونه من أشهر مصوري الصحافة المصرية في تاريخها، هو من تلاميذ المقهى.. ومثل أنشطة الموسيقى والتأليف الموسيقي المختلفة، ومن المعلوم أن من رواد المقهى مؤسس أوركسترا القاهرة السيمفوني "محمد حسن الشجاعي" صاحب سيمفونتي "متتابعات أخناتون" و"أرض الوطن"، ناهيك عن ندوات التراث الموسيقى التي اعتاد أن يعقدها الشامل "زكريا الحجاوي" أحد أهم رواد المقهى من الزوار وآخرين. رابعا: بعض من أنشطة المقهى في تنمية الموارد البشرية: 1- رعاية وتنمية المواهب الشابة: مجرد متابعه أديب كبير مثل عبد المعطي المسيري لمبدع صغير، ومجرد توفير المقهى لهذا الصغير بمقابلة النقاد على رصيف المقهى والتتلمذ على أيديهم؛ كفيل بتنمية موهبة من كان به رشفة إبداع. 2- تفشي ظاهرة العمال والصنايعية الأدباء: مما يحمد لـ"مقهى المسيري" أن عدم إكمال الكثير من رواده لتعليمهم – بما فيهم صاحب المقهى نفسه – لم يقف عائقا أمام صناعتهم كمبدعين، بل مبدعين من أكبر مبدعي مصر.. ومن أمثلة ذلك (مثالا.. لا حصرا): 1. الأستاذ "عبد المعطي المسيري": (قهوجي).. 2. والروائي "أمين يوسف غراب": (عامل بسيط.. ثم موظف بسيط في مجلس المدينة بدرجة عامل).. وقد كان في السابق أمي (لا يقرأ ولا يكتب) حتى سن السابعة عشر.. 3. والقاص والروائي الكبير "محمد صدقي" الذي يعدونه في مكانة الأديب الروسي العالمي "ماكسيم جوركي": (منجد أفرنجي).. 4. والشاعر "محمد حامد داود": (نجار متخصص في تصليح كراسي المقاهي).. 5. وأحد أشهر زجالي مصر "حامد الأطمس": (نجار سواقي).. 6. والشاعر والكاتب الصحفي "سعيد فايد": (حلاق).. وهو الذي يعدونه من أساطين شعر الفصحى. .. بل أن هذه التجربة قد أغرت الآخرين في محاكاتها، فكما يقول "أ. رجب البنا": "كانت القهوة سببا في نهضة ثقافية كبيرة امتدت حتى ربوع مصر، وذاع صيتها وانتشرت الفكرة في عدد من المحافظات وبدأت تجربة مثلها في الإسكندرية في شارع صفية زغلول.. فبدأ بائع لب وسوداني يدعى رجب نفس الفكرة.. ثم في الزقازيق بائع فاكهة وهو "مرسي جميل عزيز" الذي كان يكتب أغاني لكبار المطربين في العالم العربي ولقب بشاعر (الألف أغنية) . 3- جهوده في الإصلاح الاجتماعي بجانب تنمية المواهب: بل أن من يتتبع السيرة الذاتية للأديب الكبير "خيري شلبي" ليعلم أنه كان في طريقه لاحتراف الإجرام، ولولا ولوجه في زمرة تلاميذ المقهى لانحرف في اتجاه آخر غير ما يسره الله إليه.. وقد ألمح بذلك في رواية "وكالة عطية"، كما أفاض تصريحا أيضا في أحاديث صحفية بفضل "أ. عبد المعطي المسيري" وفضل مقاه على تغير سلوكه وانضمامه ضمن عداد المبدعين. 4- إنشاء شبكة علاقات اجتماعية ثقافية عالية التشابك: من حسنات منتدى "مقهى المسيري" أنه عمق من شبكة علاقات ثقافية بين جموع المبدعين وبين رواده بعضهم البعض، وبينهم وبين كبار المبدعين في مصر كلها.. فذاك يجالس الأديب الكبير "فلان" على رصيف المقهى وتصير بينهم صداقة ورعاية أدبية وثقافية وأحيانا اجتماعية (مثل ما حدث بين الأديب الكبير "محمود تيمور" وشاب من صغار الكتاب – آنذاك - "رجب البنا") .. وذاك يستخدم "عبد المعطي المسيري" علاقاته لتوصيل موهبته في مجراها الطبيعي، فيلمع نجما، ويكون سندا وعونا لكثير من زملاءه في مدرسة رصيف المقهى، فتنشأ شبكة ثقافية حضارية اجتماعية في إقليم مهمش مثل "دمنهور" يعمل على المساعدة في تنميته وتنمية موارده.. حال المقهى الآن: وحال المقهى الآن في تحوله - بعد تغيير ملاكه – على مقهى شعبي متخصص بعرض مباريات المصارعة الحرة، يدعو لتساؤل مهم: (هل السبب في هذا الإبداع هو المكان (مقهى المسيري) وفقط؟؟.. أم أن حركة الإنسان في الزمان لابد وإن تتضافر حتما مع حيز المكان الذي لا ينفصل عنهما؟. .. يبدو أن إنسانية الإنسان، ومن ثم إبداعه لن تتجلى إلا إذا انتبه إلى انه حتما "إنسان زمكاني" بامتياز... والله أعلم. كامل مصطفى رحومة مؤسس جمعية محبي عبد الوهاب المسيري لتنمية الفنون والآداب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق