الصفحات

الأحد، 2 أغسطس 2020

القبَّالاه (الكابالا)

image_print
أحمد دعدوش

يدل مصطلح القبّالاه على مذهب يهودي باطني (غنوصي) في تفسير الكتاب المقدس يقوم على افتراض أن لكل كلمة ولكل حرف معنى خفيا، ويتضمن نظريات مستوردة من فلسفات أخرى لتفسير وفهم الخلق وطبيعة البشر وحقيقة الروح والقدر، ويحاول أتباعه اليوم نشره عالميا بمعزل عن الدين اليهودي بحيث يُقدم كفلسفة روحانية يمكن اعتناقها دون أن يغير المرء دينه.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعة اليهودية إن القبالاه هي مجموعة التفسيرات والتأويلات الباطنية والصوفية عند اليهود، فاسمها مشتق من كلمة عبرية تفيد معنى التواتر أو القبول أو التقبل أو ما تلقاه المرء عن السلف، أي «التقاليد والتراث», وكان يُقصد بها أصلاً تراث اليهودية الشفوي المتناقل فيما يعرف باسم «الشريعة الشفوية»، ثم أصبحت الكلمة تعني منذ أواخر القرن الثاني عشر «أشكال التصوف والعلم الحاخامي المتطورة»، وقد أطلق العارفون بأسرار القبَّالاه على أنفسهم لقب “العارفين بالفيض الرباني”، ويمكن القول إن هذا المذهب يمثل الجانب الصوفي الباطني لليهودية. [موسوعة اليهودية، 14/ 17].
ويجدر بالذكر أن هناك أنواع من الباطنية (التصوف العرفاني) تحرص على البقاء في نطاق توحيد الله وتنزيهه عن الاندماج بالمخلوقات، فالإله بهذا المعنى يتجاوز الإنسان والكون والتاريخ، ويحاول المتصوف من خلال مجاهدة شهواته وعشقه للإله أن يتقرب منه. لكن هناك نوعا آخر للتصوف ينتهي به الحال إلى “وحدة الوجود” و”الحلولية”، حيث يؤمن بالواحدية الكونية وبأن الإله يحل في الطبيعة والإنسان والتاريخ ويتوحد معها، وبدلا من المجاهدة والزهد يهتم المتصوف هنا بالفلسفة الباطنية التي يحاول فيها تفسير اندماجه بالإله وتألّهه، فهذا التصوف أقرب للعلمنة من الدين لأنه يسعى لتعظيم الإنسان وتأليهه بدلا من تكريس عبوديته لله.
ونجد أثر هذا المذهب الحلولي الغنوصي في بعض أشكال التصوف الفلسفي داخل أديان عدة بما فيها الإسلام، لكنه في القبالاه يبلغ أقصى درجات التطرف حتى يصبح ضربا من محاولات التدخل في الإرادة الإلهية، أملا في أن يتمكن اليهودي المتصوف من التحكم في الكون من خلال الاندماج بالإله وفهم آلية عمل الكون وسر الخليقة. [الغنوصية في الإسلام، ص7-11].
“ليس هناك تقشف في الكابالا (القبالاه)، فيجب أن يعيش حياته”.
كتاب علم الكابالا للمبتدئين، ص 26.
إسبينوزا
يبدو أن هذا الفكر الغنوصي المتطرف هو الذي مهّد لحركات الإلحاد في عصر النهضة المستمرة حتى اليوم، والتي زعمت أن اكتشاف قوانين نيوتن وغيرها من السنن الكونية الفيزيائية يبرر تأليه الإنسان وعدم احتياجه للإله. وهذا ما يؤكده الفليسوف اليهودي باروخ إسبينوزا الذي تأثر بالصوفية الحلولية واعتبر أن حلول الإله في المادة يسمح للطبيعة بأن تصبح هي الإله، وأن الصوفي صاحب العرفان يصبح قادراً على التحكم في الإله والطبيعة والكون.
ويمكننا هنا أن نرى ملامح “سوبرمان” الذي اخترعه الفيلسوف الألماني نيتشه، فهو الذي أطلق فكرة “موت الإله” وقدرة الإنسان على التحكم بالعالم، وهو أيضا الذي مهّد للأفكار النازية المتطرفة التي لا تؤمن إلا بإرادة القوة وتتجاوز أخلاق الضعفاء، كما يمكننا أن نلمس آثار القبالاه في نظرية عالم النفس النمساوي اليهودي سيغموند فرويد، فقد وضع تعريفاته لما يسمى بالأنا “إيغو” وفقا لمفاهيم القبالاه للنفس البشرية.
في كتابه “مفاتيح هذا الدم” The Keys of This Blood يكشف القس الكاثوليكي والبروفسور في جامعة الفاتيكان ملاخي مارتن الأثر الذي تركته الغنوصية القبّالية في العقل الأوروبي على يد حركة النهضة الإيطالية، حيث تعاونت مع الماسونية العالمية على نشر الفلسفة الإنسانوية “الهيومانية” المادية التي تستغني في جوهرها عن الإله.
في كتابه “القبالاه وما بعد الحداثة” يؤكد المؤلف “سانفورد إل درور” تأثر الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا بالقبالاه في وضع أفكاره للفلسفة التفكيكية، ومن المعروف أن فلسفات ما بعد الحداثة انتهت إلى العدمية والسفسطة، فهي تنتقد الإيمان بالمطلقات وتميل إلى التشكيك والنقد.
يقول باحثون متخصصون في الغوص بأسرار القبالاه إن هناك جزءا خفيا وراء ما يعلنه “حكماؤها” من الاندماج بالإله، فالحقيقة هي أن فكرة الاتحاد بالإله تطورت إلى الاتحاد بالشيطان نفسه عبر السحر، وذلك بعد أن تداخلت العقيدة اليهودية الحلولية بالأفكار الثنوية (ثنائية الإله)، فنتجت فكرة تأليه إبليس كإله أرضي مقابل للإله السماوي، ومن ثم فإن إبليس وشياطينه يقدمون لهم عبر طقوس السحر -من باب التضليل- من الخدمات والقدرات الخارقة ما يكفي للاعتقاد بألوهيته، لكن هذه الأسرار لا تُكشف إلا لمن يرتقي إلى أعلى الدرجات كما هو حال الجمعيات السرية التي تستمد بناءها الفكري من القبالاه، في حين يعلن بعض أتباعهم أن السحر ليس إلا علما خاصا أنزله الخالق إلى البشر عن طريق الأنبياء ليبلغوه إلى الحكماء. [مفهوم الخلاص في الديانة اليهودية، 94].
دافنشي
القبالاه والعلم
يجاهر معلمو القبالاه في العصر الحديث بأن كتبهم القديمة تضمنت الكثير من أسرار الكون التي لم يُكشف عنها إلا في هذا العصر، وأن علماء الغرب تعلموا القبالاه قبل أن يكتشفوا قوانين الطبيعة، فهم يؤكدون أن اكتشافات فيثاغورس الرياضية وفلسفة أفلاطون وأرسطو استندت إلى أسرار القبالاه. [موقع حكمة الكابالا].
ومع بدء النهضة في القرن الخامس عشر كان الإيطالي ليوناردو دافنشي منكباً على دراسة القبالاه، وما زال مؤرخون غربيون يتساءلون عن مصدر عبقريته المفاجئة التي أنتجت مخترعات غير مسبوقة ورسوما تشريحية لتفاصيل جسم الإنسان والأجنة في الأرحام، حيث تقول بعض المصادر إن أفكاره الإبداعية السابقة لزمانها لم تظهر إلا بعد أن اعتزل الناس سنتين في أحد الكهوف وفقا لما ورد في بعض أوراقه، ما دفع البعض لافتراض اتصاله بكائنات فضائية لديها حضارة متقدمة، بينما لا نستبعد -إن صحت الرواية- أن يكون قد اتصل بعالم الشياطين عبر بوابة القبالاه السحرية. لكن آخرين يرون أن ما ذكره دافنشي عن دخوله الكهف لم يكن سوى استعارة مجازية. [موقع الماركسي].
خريطة مطابقة للواقع رسمها دافنشي لمدينة إيمولا الإيطالية وكأنه ينظر إليها من السماء
نيوتن
وفي كتابه “دين إسحاق نيوتن” يقول المؤلف فرانك مانويل إن عالِم الرياضيات والفيزياء الشهير نيوتن (القرن السابع عشر) كان يؤمن بأن النبي موسى لم يتلق التوراة فقط بل أوحيت إليه أيضا قوانين التحكم بالطبيعة، لذا انشغل نيوتن بحل ألغاز القبالاه واكتشاف العلاقة بين بناء “خيمة الاجتماع” التي كان يحملها بنو إسرائيل أثناء التيه وبين بنية الكون. [The Religion of Isaac Newton, 364].
كما كتب رائد الرياضيات الحديثة الألماني غوتفريد لايبنتز (القرن الثامن عشر) أن المدينة الفاضلة “يوتيوبيا” يجب أن تبنى على أساس مفاهيم القبالاه التي تُشتق منها كل العلوم. [انظر كتاب: Leibniz And The Kabbalah].
أما ماكس ديمونت فيقول في كتابه “اليهود، الله والتاريخ” إن أبرز علماء القرن السابع عشر في أوروبا كانوا قد تتلمذوا على يد معلمي القبالاه، وإنهم لم يجدوا مشكلة في الخلط بين ألغاز القبالاه والخيمياء والعلوم التجريبية كما كان يفعل جميع أتباع الجمعيات السرية، مؤكدا أن القبالاه هي التي قادت إلى النهضة العلمية في ذلك العصر. لذا لا نستبعد أن تلك النهضة العلمية التي تسارعت بطريقة غير مسبوقة في تاريخ البشرية لم تكن نتيجة تراكم علمي تجريبي بحت، بل انطلق العلماء أساسا في تجاربهم مما اكتسبوه من عوالم القبالاه وما يسمى بالحكمة القديمة. [Jews, God and History, 292].
في هذا المقطع القصير، يتحدث عدة علماء معاصرين عن أسبقية القبالاه في الكشف قبل آلاف السنين عن نظريات علمية حديثة، مثل تكوين الذرة وتشريح الإنسان ونشأة الكون عبر الانفجار العظيم.
تاريخ القبالاه
يزعم القباليون أن فلسفتهم قديمة قدم البشرية، وأنها بدأت مع آدم عليه السلام نفسه، ثم نقلت عنه إلى نوح عليه السلام، ثم إلى النبي إبراهيم عليه السلام الذي يقولون إنه تأمل في عظمة ومعجزة الوجود الإنساني وبنية الكون وعمل قوانين الطبيعة فظهر له العالم الأعلى من خلال الوحي والإلهام، فقام بنقل جزء من أسرار هذه المعرفة إلى أتباعه الذين نقلوها بدورهم شفهيا عبر الأجيال، كما كان كل معلم يضيف براهين تجربته الشخصية. [موقع حكمة الكابالا].
ويؤمن المسلمون واليهود بأن النبي موسى تلقى التوراة عن ربه في جبل الطور بسيناء، لكن القباليين زعموا أنه ذهب إلى الجبل ثلاث مرات، مدة كل منها 40 يوما، حيث تلقى في الأولى نصوص الشريعة الظاهرية التي تم تدوينها في التوراة ويتم تعليمها للعوام من بني إسرائيل، وفي الثانية تلقى روح الشريعة التي يتعلمها الأحبار (الحاخامات)، أما الثالثة فتلقى فيها روح روح الشريعة، أي الأسرار الخاصة بعلماء القبالاه، ويزعمون أن موسى أخفاها في النصوص ولا يتم فهمها إلا باستخدام شفرات معينة وعبر التأمل الخاص.
شمعون بن يوحاي
خلال تعرض اليهود للسبي البابلي، نُسبت إلى حزقيال رواية وردت في سفر يحمل اسمه، حيث تقول إنه رأى رؤيا عن صعوده إلى السماء تمكن فيها من رؤية الإله على عرشه، فاستفاد القباليون من هذه القصة لابتكار عقيدة رؤية الإله والاتحاد فيه، وفي عام ٥۸٦ قبل الميلاد بدأوا بتدريس القبالاه ضمن مجموعات صغيرة من التلاميذ.
وعندما سيطر الرومان على أرض فلسطين واضطهدوا بني إسرائيل عادت القبالاه إلى السرية. ويقولون إن الحاخام شمعون بن يوحاي والملقب “بالراشبي” بدأ مرحلة جديدة عام 150 بعد الميلاد، حيث اختفى في كهف لمدة 13 سنة بعد أن تعرض أستاذه عاكيفا وزملاؤه للقتل من قبل الرومان، ثم خرج الراشبي ومعه كتاب الزوهار زاعما أن النبي إيليا (إلياس) عليه السلام ظهر له خلال اعتكافه وأملاه عليه كلمة كلمة، كما زعم أنه طبّق ما أملاه عليه بنفسه وترقى إلى أعلى درجات العالم الروحي متخطيا كافة درجات السلّم البالغ عددها 125 التي وضعها الإله، والتي بإمكان الإنسان إحرازها في هذا العالم.
مخطوط يُعتقد أنه يصور إسحاق الأعمى
ويقولون إن الزوهار ظل مخفيا ولا يُتداول إلا بالسر حتى نشر القبالي موسى بن ليون أول نسخة منه في القرن الثالث عشر في إسبانيا، بينما يرى بعض المؤرخين أن بن ليون هو الذي ألف الزوهار ونسبه إلى القرن الثاني بعد الميلاد مدعيا أن الراشبي تلقاه عن النبي إيليا. [موقع حكمة الكابالا].
وقبل ظهور الزوهار بقليل، كان القباليون يعتمدون كتاب “الباهير” (الإشراق) الذي لا يُعرف على وجه الدقة مؤلفه، لكن بعض المصادر تقول إن الحاخام إسحاق الأعمى جمعه من مخطوطات قديمة وطرحه في فرنسا حوالي عام 1200م، وهو يصنف ضمن كتب السحر.
الزوهار
يقسم كتاب الزوهار مراحل تطور الإنسانية على مدار ستة آلاف سنة، حيث تتطور خلالها النفس البشرية بمراحل من النمو في كل جيل، وصولا إلى “نهاية مراحل التصحيح” وهي المرحلة الأعلى في الكمال والروحية.
ونجد أثر هذه الفكرة اليوم لدى مفكرين يعتنقون أيديولوجيات مختلفة، فالمفكر الفرنسي “أوغست كونت” استخدمها في القرن التاسع عشر لتبرير التخلي عن الدين على اعتبار أن البشرية تنمو تاريخيا كما ينمو الفرد من مرحلة الطفولة إلى النضج، وهكذا ينتقل البشر من المرحلة اللاهوتية إلى الميتافيزيقية وصولا إلى الوضعية التي تنفي وجود أي علة إلهية للظواهر الطبيعية. كما استخدم بعض الإسلاميين (مثل مصطفى العقاد وجودت سعيد) هذه الفكرة لوضع فرضية مفادها أن الإنسان كان يحتاج إلى الوحي في مراحل سابقة بينما أصبح اليوم (بعد انتهاء فترة النبوات) مكتفيا بالعقل.
والملفت أننا نجد في أدبيات الحركات السرية الفكرة نفسها، والتي تقول إن الإنسان في هذا العصر يزداد نضجا بما يمهد لخروج المسيح المنتظر (الدجال الذي قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم إن كل الأنبياء حذروا منه) لتحقيق الاستنارة المرتقبة للإنسان، بينما يزعم أتباع الديانة الإبليسية أن إبليس يوحي لهم بأن وقت ظهوره اقترب بعد انتظار آلاف السنين ريثما يكتمل نضج الإنسان.
قبر إسحاق لوريا في صفد
وبحسب مراجعهم، بدأ إسحاق لوريا، ولقبه “الآري”، مرحلة أخرى في القرن السادس عشر عندما وضع أسسا جديدة للقبالاه التي أصبحت تدعى بالقبالاه اللوريانية (نسبة إليه) حيث جعل منها مدخلا لعلم اللاهوت والفلسفة وعلم النفس، وبذلك اكتمل البناء الفكري للقبالاه لتصبح نسقا أيديولوجيا يمكن من خلاله التأثير على علوم إنسانية شتى، فكان له دور كبير في تطوير أفكار الحركات السرية الشيطانية، وعلى رأسها الماسونية في القرن الثامن عشر وجمعية الثيوصوفيا في القرن التاسع عشر. [موقع حكمة الكابالا].
ومن مؤلفاته “شجرة الحياة” و”مداخل النوايا” و”مراحل دورة النفس”، وهي كتب تركت أثرا في فلسفة هيغل ونظريات فرويد. وقد فتح لوريا المجال جزئيا أمام العامة من الناس لدراسة القبالاه، ومن الطريف أنه طلب عند موته عدم نشر مؤلفاته للعامة قبل حلول الوقت المناسب لنشرها.
تقول مصادر القبالاه إن الرواد تعمدوا السرية لأنهم علموا أن أجيالهم لم تكن على قدر كاف من الوعي، بل إن بعضهم أحرقوا ما بين أيديهم من مدونات كي لا يتضرر بها العالم المادي لعدم قدرته على تحمل آثارها، ولكن مع حلول منتصف القرن الثامن عشر أصبحت دراسة الزوهار شائعة جدا بين العامة وخاصة في بولندا وروسيا والمغرب والعراق واليمن. [موقع حكمة الكابالا].
وفي عام ۱٩٤٣ بدأ المحامي اليهودي يهودا أشلاغ بتأليف كتاب “الشرح السُلّمي  لكتاب الزوهار ولتعاليم الآري”، وذلك بعد هجرته من بولندا إلى فلسطين وتفرغه للتأمل في تراث القبالاه، وصار لقبه “صاحب السُلّم” لأنه فصّل طريقة ترقي درجات السلّم المئة والخمسة والعشرين، ثم جاء من بعده ابنه باروخ شالوم أشلاغ، ولقبه “راباش”، ليضع سلسلة مقالات وشروح جديدة، حيث أصبحت مع كتاب أبيه المصدر الرئيس اليوم لفهم الزوهار، لا سيما وأنها تحاول التوفيق بين القبالاه ومكتشفات العصر الحديث.
فلسفة الخلق والاتحاد
استلهم القباليون كما أسلفنا من سفر حزقيال ممارساتهم الباطنية التي يهدفون من خلالها إلى رؤية الإله والاتحاد فيه، ثم تطور الأمر على يد شمعون بن يوحاي الذي وصف في “الزوهار” طريقة الترقي في السماء واختراق البوابات التي تحرسها الملائكة، وذلك بتعلم أسرار الحروف والأعداد، وصولا إلى العرش.
وخلال تلك الفترة ظهر كتاب اسمه “سفر يتزيراه” (كتاب الخلق) لمتصوف يهودي مجهول، شرح فيه نظريته عن خلق الله للكون عبر تشكيل 20 حرفاً من الأبجدية العبرية، حيث زعم أن الله ينطق بالعبرية ويشكل منها الموجودات عبر دمج الحروف.
لذا اهتم القباليون بما يسمى حساب الجمّل (جماتريا) والاختصارات (نوطيرقون)، وأصبحوا يستنتجون منهما معاني الكلمات وأسرارها ويتنبؤون بمستقبل الأحداث.
يعتبر فلاسفة القبالاه أن التوراة هي مخطَّط الإله للخلق كله، ولكن فهمها لا يتم إلا عبر التفسير الباطني، فكل كلمة فيها تمثل رمزاً، ولكل علامة أو نقطة سراً داخلياً، وبما أن الأبجدية العبرية مقدسة فهي ليست مجرد حروف، بل تنطوي على قوى خفية، وبالذات الأحرف الأربعة التي تكوِّن اسم يهوه (الإله). [مفهوم الخلاص في الديانة اليهودية، ص93]
وبينما حاول حاخامات اليهود تفسير ما ورد في التوراة من خلع صفات بشرية على الإله وتجسيمه بأنها من قبيل المجاز، فإن القبَاليين أخذوها بمعنى حرفي، وبما أن التوراة تقول إن الإله خلق الإنسان على صورته، فقد آمنوا بوجود مخلوق أول هو “آدم قدمون” وأنه كان إنسانا كاملا، حيث كان جسمه يعكس التجليات النورانية العشرة (سفيروت).
وتتدرج هذه التجليات على هيئة فروع “شجرة الحياة” التي يتخيلون جذورها مغروسة في السماء بينما تلامس فروعها الأرض، فالحكيم القبالي يتسلق تلك الشجرة المقلوبة بدءا من عالمه الدنيوي حتى يصل إلى الإله في السماء.
حساب الجمّل:
يستخدم هذا النظام عبر منح كل حرف رقما يدل عليه، ومن خلاله يتم احتساب المعادل الرقمي للكلمة أو الجملة، ويُستنتج بذلك تفسير النص أو يُتنبأ منه بحدث مستقبلي يتعلق به عبر احتساب تاريخ حدوثه، فمثلا فسروا العبارة التي وردت في سفر التكوين «318 عضواً في بيت إبراهيم» بأنها تعني «خادم إبراهيم»، كما استخرجوا عدة مرات تواريخ ظهور الماشيح (المسيح المخلّص). وقد امتد أثر هذه الخرافة إلى المسلمين في عصور سابقة، ونجدها واضحة في كتاب “القانون” لأبي الريحان البيروني الذي عاش بين القرنين الرابع والخامس الهجري، ومازال البعض يستخدم هذا النظام للتنبؤ بزوال إسرائيل.
الاختصارات:
استخدم القباليون هذا النظام أيضا للتلاعب بالنصوص وتفسيرها كما يحلو لهم، فمثلا فسروا كلمة المسيح (يشو) بأنها كلمة مركبة من الحروف الأولى لعبارة “ليفنى اسمه ولتفنَ ذكراه”. وبات بإمكان أي مفسر يزعم معرفته بهذا الفن أن يستخرج معان غامضة من أي كلمة أو نص، وانتقلت هذه الخرافة أيضا إلى المسلمين وأديان أخرى، ونحن نجد أثر الاختصارات في العصر الحديث حيث شاع اختصار أسماء المؤسسات والمنظمات إلى كلمة واحدة مكونة من الحروف الأولى.


السفيروت
السفيروت هي تجليات الإشعاعات الصادرة من النور الإلهي التي يزعم القبّاليون أنه تم بها خلق العالم، وأنها أداة الإله في خلق العالم وحُكمه، وتأتي في عشر درجات تُرسم على هيئة بلورات، كما يُطلق عليها اسم شجرة الحياة، وكل منها تقابل عضوا من أعضاء الجسم البشري وجرما من أجرام السماء:
1- كيتير عليون، أي التاج الأعلى للإله، وهي الإرادة المقدَّسة والعقل الفعّال، وهي أول مرحلة تخرج من الإله الخفي الذي يكون متوحدا مع العدم، فيخرج من هذا التجلي زوجان بلا جنس محدد. وهي تقابل رأس الإنسان والنور الأساسي.
2- حوخمة، أي الحكمة، وهي أول التجلِيات الصادرة عن الإله المتخفي، وتمثل العلة (الذكرية) الأولى. ويقابلها النصف الأيمن من المخ والأبراج الاثني عشر (زودياك).
3ـ بيناه، أي الفهم أو الذكاء، وهي العلة الأنثوية الأولى، حيث يدخل مع التجلي السابق في علاقة جنسية لإنجاب التجليين السادس والعاشر. ويقابلها النصف الأيسر من المخ وكوكب زحل.
4ـ حيسيد، أي الرحمة. يقابلها الذراع الأيمن وكوكب المشتري.
5- جبوراه، أي الشدة، وهي مصدر الحكم الإلهي والشريعة. يقابلها الذراع الأيسر وكوكب المريخ.
6- تِفئيرت، أي الجمال، ويشار إليها بالشمس والابن والملك المقدس، وهي مصدر عقيدة الخلاص المسيحية. يقابلها القلب والشمس.
7- نيتساح، أي التحمل والنصر. يقابلها الساق اليمنى وكوكب الزهرة.
8- هود، أي جلال ومجد الإله. يقابلها الساق اليسرى وكوكب عطارد.
9- ياسود عولام، أي أساس العالم، وهي أساس كل القوى النشيطة في الإله. يقابلها عضو التناسل والقمر.
10- ملخوت، أي الملكوت، وهي تمثل بني إسرائيل. يقابلها الأقدام والعناصر الأربعة.

وبحسب فلسفة القبالاه، كان الإنسان والكون قبل الخلق داخل الذات الإلهية، ثم انبثق آدم القديم عن هذه الذات على صورة الإله، ثم انبثق عنه الكون بنجومه وكواكبه.
لذا يرسمون آدم القديم على شجرة التجليات الإلهية (شجرة الحياة) بحيث يناظر كل عضو فيه صفة أو تجلياً من تجليات الذات، ويقع داخل البلورة النورانية التي انبثق منها، كما يناظر جزءا من الكون.
وبهذه الفلسفة يتم تقديس الإنسان والموجودات لارتباطهما بالإله، حيث يُزرع في عقول الأتباع أن هناك قنوات تصل الإنسان بالإله ويمكن تنشيطها عبر تنشيط الطاقة الروحية التي يتم جلبها من الأجرام السماوية، ما يسمح للإنسان بالترقي الروحي والتحرر من الجسد عبر حالة من التأمل تدعى “كافاناه”، ليتحد في النهاية بالإله، أو يحلّ الإله فيه، وهذه الحالة تدعى “دفيقوت” وهي تشبه حالة النيرفانا في الديانات الشرقية.
وتقول القبالاه إن آدم القديم كان خنثى مثل الإله (تتساوى فيه صفات الذكورة والأنوثة)، وكذلك الكون، وعليه فإن الاتزان يتطلب عودة الإنسان إلى صورته الكاملة وحالته الروحانية المتسامية، وذلك بالمساواة الكاملة بين الذكورة والأنوثة في الموقع، والاشترك التام في الفعل، وهذا ما نراه واضحا في الحركات الداعية إلى المساواة بين الجنسين اليوم.
وتبدو القبالاه أكثر تطرفا من اليهودية المحرفة في تقريب الإنسان من الإله والتعاطف مع إبليس، فقد أوضحنا في مقال “اليهودية” أن محرفي التوراة وضعوا قصة مختلفة تماما في سفر التكوين عن قصة الخلق التي نجدها في القرآن، فجعلوا من الشجرة المحرمة في الجنة شجرة للمعرفة، وزعموا أن الإله نهى آدم عن الأكل منها كي لا يكتشف الحقيقة ويصبح خالدا مثله فخدعه وأوهمه بأنه إن أكلها سيموت، وفي المقابل سعى الشيطان لمساعدة آدم بالتجسد على هيئة حية للتسلل خلسة إلى الجنة وإطلاع آدم على سر الشجرة، ما يعني أن الإله هو المضلل وإبليس هو المنقذ.
كما يزعم واضعو سفر التكوين أن الإله ترك آدم ليضع بنفسه أسماء الموجودات، وهذا على عكس الرواية التي يوثقها القرآن لهذه الحادثة، حيث علّم الله آدم الأسماء كلها وترك آدم ليتحدى الملائكة بما لديه من المعرفة بعد أن تلقاها من خالقه، فاليهودية المحرفة تزعم أن الإله ترك الإنسان ليصوغ معرفته ورؤيته للعالم بنفسه دون تدخل إلهي
وإذا كانت اليهودية قد أنزلت من قيمة الإله ورفعت مقام الإنسان إلى هذه الدرجة، فإن القبالاه ذهبت إلى ما هو أبعد وقلبت المعادلة كلها، فانصرفت إلى عبادة الشيطان نفسه وجعلت من الإله عدوا لها، فنرى أن طقوسهم وعبادتهم وفلسفتهم قائمة على فكرة منازعة الإله في قدراته وعلمه عبر اكتساب قدرات الشياطين والتقرب إليهم، وكأن بني آدم في علاقة منافسة مع الإله لمحاولة الوصول إلى منزلته بعد أن حرمهم منها.
ويزعم القباليون أن هناك حاسة سادسة كامنة لدى الإنسان، وأنهم قادرون على تفعيلها ليكتسب بها المرء القدرة على فهم “العالم الأعلى” ويدير بذلك حياته بنفسه، ويقولون إن تعاليمهم هي الوسيلة الوحيدة لبناء الوعاء الروحي الذي يمكن للإنسان أن يستخدمه لتلقي نور الخالق في نفسه، وبدون هذا الوعاء فإن الإنسان العادي لا يدرك من الواقع سوى 10% فقط، بينما تبقى 90% من الحقيقة غافلة عنه.
وبحسب مراجع القبالاه المتاحة لعامة الناس، فإن التتلمذ على أيديهم بنيّة إحراز التقدم الروحي يتيح للمرء الاستنارة وتصحيح ذاته، أما إذا أراد أن يصبح حكيما فلا تكفيه المعرفة بل عليه أن يتسلح بالرغبة الملحّة لتلقي “الحكمة”، ما يدل على دور الاستعداد النفسي لدى هذا النوع من التصوف الباطني.
ويجزمون أيضا بأن هذه “الحكمة” ليست ضربا من الفلسفة التأملية، فهي ليست من نتاج عقول البشر الذي يقبل الصواب والخطأ، بل هي علم حقيقي واقعي مُنزل من الخالق إلى الصفوة من خلقه [كتاب علم الكابالا للمبتدئين، ص 39]، ومن يتعمق في القبالاه سيجد أنهم يعتبرونها منحة من إبليس نفسه لمنافسة الخالق.
كما يزعمون أن علماء القبالاه لا يدركون العالَم الأعلى عن طريق خيالهم، كما يحدث للصوفيين في الأديان الأخرى، بل يدركونه على النحو نفسه في استخدام حواسهم الخمسة لإدراك هذا العالم المادي. [المرجع السابق، ص 33].
القبالاه والسحر
لا يُعرف على وجه التحديد متى ظهر السحر في تاريخ الإنسان للمرة الأولى، فهناك من ينسب بداياته إلى عصر نوح عليه السلام، لكن المؤكد أنه كان شائعا لدى شعوب كثيرة في عصور مغرقة في القدم، وأن السحر تداخل مع الأديان الوثنية حتى اختلط على العوام التمييز بين الاستعانة بالشياطين والتوسل إلى الآلهة أو الملائكة، ومازال كثير من الناس يخلطون اليوم بين هذا وذاك، إذ يستغل السحرة هذا الجهل للظهور بمظهر رجال الدين، فهم غالبا يستخدمون النصوص الدينية في التعويذات والطلاسم كغطاء لأعمالهم القذرة.
وكما هو حال جميع الكتب السماوية، فإن التوراة تحرّم السحر بوضوح، فحتى ما بقي منها بعد التحريف مازال ينص على ذلك، حيث نقرأ في سفر التثنية نصا موجها إلى النبي موسى عليه السلام يقول “متى دخلت الأرض التي يعطيك الرب إلهك، لا تتعلم أن تفعل مثل رجس أولئك الأمم، ولا يكن بينكم من يجيز ابنه أو ابنته في النار ولا من يعرف عرافة ولا عانف ولا متفائل ولا ساحر، ولا من يرقى رقية ولا من يسأل جانا أو تابعه، ولا من يستشير الموتى لأن كل من يفعل ذلك مكروه عند الرب”. أما عقوبة الساحر فكانت الرجم كما جاء في سفر اللاويين عند قوله “أي رجل أو امرأة يمارس الوساطة مع الجانّ أو مناجاة الأرواح، ارجموه ويكون دمه على رأسه” [اللاويين: 20/ 27].
وبالرغم من وضوح هذا التحريم فقد اشتهر اليهود بالسحر بعد السبي البابلي الذي حصلت خلاله الكثير من التحريفات للدين، ويقال إن اليهود الذين وجدوا أنفسهم أسرى في بابل بعد أن كانوا من أغنى الناس وأقواهم بدأوا بالاحتيال على أهل بابل، فاشتغلوا بالسحر والتنجيم، وراجت عنهم منذ ذلك الحين قصص تتهم النبي سليمان عليه السلام –الذي كان أعظم ملوكهم قبل السبي- بأنه كان ساحرا يستخدم الجن في أعمال الشر، حيث كان يملك بالفعل سلطة تسخير الجن في البناء والنحت دون السحر، لكنهم نسبوا إليه كتمان أسرار السحر في كتاب خاص، وأنهم وحدهم من يعرف هذه الأسرار.
ولا يُذكر الشيطان في الأسفار القديمة للتوراة التي بين أيدينا الآن إلا قليلا، فالخير والشر وجهان متكاملان للرب يهوه الذي عبده اليهود وحلّ فيهم -حسب معتقدهم- وكأن الذين كتبوا التوراة لم يريدوا منح الشيطان أهمية كبيرة، لأن قصة الإنسان لا تدور حول صراعه مع الشياطين بل حول صراع بني إسرائيل مع بقية البشر.
رسم تخيلي لعزازيل يعود للقرن التاسع عشر
وفي الأسفار التوراتية (المنحولة) والتلمودية التي ظلت تُكتب حتى نهاية القرن الثاني الميلادي وبتأثير كبير من الفلسفات الشرقية [انظر مقال اليهودية]، برز دور الشيطان بقوة، فاعتبروا إبليس “ملاكا ساقطا” اسمه عزازيل، حيث عصى ربه فأُبعده عن مملكة السماء مع مئتي ملاك تمكّن من إغوائهم، فتحول إلى شيطان يعارض إرادة الرب، ثم اشتهت بعض الملائكة الساقطة معه عددا من نساء البشر فتزوجوهن، وولدن لهن سلالة مميزة من العمالقة الذين عاثوا في الأرض فسادا، وهنا أرسل الرب نبيه أخنوخ (وهو إدريس عليه السلام) مع مجموعة من الملائكة السماوية لعقابهم، ويقول لهم الرب إن أرواحهم الشريرة ستظل حبيسة الأرض بعد موت أجسادهم، بينما تمت ترقية إدريس إلى مستوى الملائكة بعد أن عُرج به إلى السماء عدة مرات والتقى بكل الملائكة على مختلف درجاتهم وأصبح اسمه الملاك مطاطرون.
ومع أن تفاصيل سقوط عزازيل تأتي في عدة روايات، إلا أنها تنتهي إلى أن يصبح كائنا مواجها للإله يهوه، وكأنه ند له. ففي السفر المنحول المسمى باليوبيليات (الخمسينات) تصبح العلاقة بين يهوه وإبليس متفاوتة بين التقييد والإطلاق لمتابعة مهامه، والعجيب أن إبليس هذا كان قادرا على خداع الرب في بعض الحالات.
أما عند القبالاه فأصبح لإبليس (عزازيل) دور أكبر وأخطر، ويقول الدكتور عبد الوهاب المسيري إنه امتداد للأفكار الوثنية الغنوصية التي أخذها القباليون من الأساطير الثنوية (مثل المانوية والمجوسية) التي تؤمن بإلهين متضادين أحدهما للخير والآخر للشر، فأصبح القباليون يقدمون أدعية وصلوات للشيطان لتجنب شره، ويقدمون له القرابين في الأيام السبعة الأولى من عيد المظال باعتباره حاكم الأغيار (غير اليهود)، لكي ينشغل عنهم، ثم يقدمون القرابين لمعبودهم يهوه في اليوم الثامن. [موسوعة اليهود، 14/ 300]
وبينما تنظر الأديان التوحيدية (المسيحية والإسلام) إلى الملائكة على أنها مخلوقات نورانية تقوم بمهام أوكلها إليها الله، فإنها في الأديان الحلولية (اليهودية والقبالاه) تصبح جزءا من الإله ووسطاء له، وهو موكلة بتصريف كل شؤون الكون مثل إنزال المطر وتحريك الكواكب وإنبات العشب، لذا يشار إلى الملائكة في التراث العبري بأنهم أبناء الإله “بنو إلوهيم”. وبما أن اليهودية اعتبرت الشيطان إبليس من الملائكة، فقد تم منحه من البداية منزلة عليا، فالشياطين في عُرفهم ليسوا صنفا آخر من الكائنات التي تدعى بالجن كما هو واضح في الإسلام، بل هم مجرد ملائكة عصوا الأوامر.
وفي اليهودية الأرثوذكسية نجد صلوات موجهة للملائكة، وهو أمر تطور لدى القبالاه الذين منحوا الملائكة منزلة أعلى، واستخدموا أسماءهم في التمائم والتعاويذ، وجعلوا لهم إرادة مستقلة عن إرادة الإله مثل الشيطان عزازيل، على نقيض ما هو معروف في الإسلام الذي ينص على أن الملائكة “لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون” [سورة التحريم: 6]، وهكذا تلاشت الحدود الفاصلة لدى القبالاه بين الشياطين والملائكة، وأصبحت جميعها كائنات مستقلة ذات قدرات خارقة في تسيير الكون والتأثير في الإنسان.
ويقول مؤلف كتاب الزوهار إن الملائكة تمتلك طبيعتين، خيرة وشريرة، حيث حاول الأشرار منهم منع أخنوخ (إدريس) من الوصول إلى أعالي السماء أثناء عروجه لكن الملائكة الخيّرة ساعدته. ويضيف أن أخنوخ تمكن من تطهير نفسه من بذرة الشر الموجودة في كل إنسان حتى ترقى إلى درجة الألوهية فمنحه الرب درجة رئيس الملائكة وسماه مطاطرون.
ويزعم الحاخام أفراهام (في موقع بيت مدراش الإلكتروني) أن أخنوخ ترك تعاليمه في كتب سرية وأوصى بعدم كشفها إلا لمن يفهمها ولمن لديه معرفة كافية بعلم الفلك (التنجيم) من أبنائه، متوعدا بعقوبة الطرد لمن يخالف ذلك كما طُرد آدم من الجنة.
ويبدو أن هذا التدرج في فهم المفهوم القبالي للملائكة والشياطين انتهى إلى تأليه الشياطين وتقديمها على الملائكة الخيّرة، لما تتمتع به من قدرات خارقة يراها ممارسو السحر بأنفسهم عبر اتصالهم بالشياطين وتعاونهم معهم، وعبر المعارف الكونية التي اقتبسها القباليون من الشياطين الذين يتمتعون بأسبقية على البشر في الوجود الزمني وفي القدرة على الانتقال المكاني.
وحسب بعض التأويلات، أدخل القباليون في سحرهم نصوصا من كتاب المزامير، وهو كتاب أوحى به الله إلى النبي داود عليه السلام الذي كان مؤسس مملكة إسرائيل، فأصبحوا يكتبون بعض المزامير بطرق معينة ويضيفون عليها طلاسم سحرية، ويزعمون أن لها قدرات خاصة.
شنويبلين
لكن المصادر اليهودية القبّالية تنفي أي علاقة لها بالسحر، بل تسخَر من هذه الأقوال وتزعم أنها مجرد اتهامات لتشويهها. وبما أن اليهود والقباليين والحركات السرية قد سيطروا على معظم وسائل الإعلام والمؤسسات العلمية في الغرب بشكل تراكمي منذ بداية حركة النهضة في إيطاليا واندلاع الثورة الفرنسية وحتى اليوم، فإن الفكرة الشائعة اليوم هناك هي أن اليهودية والقبالاه بريئتان من السحر كبراءة الذئب من دم يوسف.
ولا يشذ عن هذه القاعدة في الغرب سوى الناشطين ضد الحركات السرية، وهم في معظمهم من الكاثوليك المتدينين، إضافة إلى بعض الماسون المتمردين، ومنهم اليهودي وليام شنويبلين William Schnoebelen الذي انشق عن الماسونية، ويقر بأن القبالاه هي العنصر الأساسي في كل أنظمة السحر الحديثة، وأن معظم السحرة والمشعوذين الكبار في القرن العشرين كانوا من القباليين. [The Dark Side of Freemasonry, 267].
يعتبر “سفر رازيل هاملاخ” من الكتب القبالية التي ظهرت بالتزامن مع ظهور الزوهار في القرن الثالث عشر، وهناك خلاف حول أصوله ومصدره، فهو مكتوب بالعبرية والآرامية ويتضمن أسطورة فريدة عن سقوط الملاك “رازيل” من السماء لتعليم آدم وإبراهيم أسرار الكون، لذا يتضمن الكتاب الكثير من المعارف الفلكية، ويربطها بمفاهيم الطاقة الروحية المعروفة لدى الباطنيين، ويجعلها محور الوجود.
يتضمن الكتاب أيضا أسطورة عن امرأة تدعى ليليث، ويقول إنها الزوجة الأولى لآدم قبل حواء، حيث تمردت عليه وأصبحت عشيقة الشيطان، ويُعد الكتاب من المصادر النفيسة للسحر والأساطير الغنوصية.
يعتقد باحثون أن هذا السفر ظهر على يد فرسان الهيكل الذين جلبوه من حفرياتهم في القدس أثناء الحروب الصليبية، وأنه يتضمن أسرارا سحرية خطيرة.
ويجدر بالذكر أن ليليث أصبحت رمزا في الحضارة الغربية للتمرد النسوي، ويُرمز لها بالبومة التي تحتل مركزا مهما في طقوس بعض الجمعيات السرية، حيث نجد صورة مصغرة لها بين خفايا الدولار، كما يوجد تمثال عملاق لها في الغابة البوهيمية بالولايات المتحدة حيث يقال إن القرابين تُقدم لها بحضور النخبة السياسية والمالية.

القبالاه والحركات السرية

بلافاتسكي
اشتهر جميع مؤسسي الجمعيات السرية الحديثة بتلقيهم علوم القبالاه على يد كبار أساتذتها، وعلى رأسهم اليوناني فيثاغورس الذي رحل إلى المشرق قبل الميلاد بنحو خمسة قرون وتتلمذ على يد حاخامات القبالاه، ثم أسس جمعيته السرية في كروتونا بجنوب إيطاليا التي أصبحت المرجع الرئيسي للحركات السرية في الغرب كله [انظر مقال الجمعيات السرية].
وفي العصر الحديث، يظهر أثر القبالاه الواضح في كتابات هيلينا بلافاتسكي مؤسسة جمعية الحكمة الإلهية، وأليستر كراولي مؤسس جمعية الفجر الذهبي، وألبرت بايك الأستاذ الأعظم للمحافل الماسونية في أميركا بمنتصف القرن العشرين، حيث مارسوا جميعا السحر بدرجات مختلفة.
كما يظهر بوضوح تغلغل القبالاه في الجمعيات السرية عن طريق عبادة كهنتها للشيطان الذي بات يُعرف باسم “لوسيفر”، وهي كلمة لاتينية وردت في الكتاب المقدس وتعني حامل الضياء.
ألبرت بايك
ولعل بايك هو أكثر هؤلاء وضوحا في الكشف عن ارتباط القبالاه والجمعيات السرية بالشيطان وعبادتها له، فيقول في كتابه “الأخلاق والعقيدة” Morals and Dogma إن “الاسم الحقيقي للشيطان، كما يقول القباليون، هو نقيض يهوه (الرب عند اليهود Yahveh)؛ لأن الشيطان ليس إلها أسود، بل هو نقيض الرب God. الشيطان هو تجسيد للإلحاد والوثنية. وللمبتدئين، هو ليس شخصا بل قوة خُلقت لأجل الخير، لكنها قد تخدم الشر، إنه أداة الحرية والإرادة الحرة” [Morals and Dogma, 102].
وهناك نص متداول بكثافة في الكثير من المراجع منسوبا إلى بايك، ويقال إنه ورد في إحدى رسائله إلى رؤساء المحافل الماسونية الكبار، ويقول فيه إن لوسيفر هو ند الإله (أدوناي)، وإن المسيحية (وكذلك الأديان التوحيدية كلها) حاولت قلب هذه “الحقيقة” لأن أدوناي يكره الإنسان فحرمه من المعرفة وطرد لوسيفر من الجنة لأنه دله عليها، لذا فإن أتباع الدرجات 31 و32 و33 في الماسونية يعبدون لوسيفر مباشرة، بينما يتركون بقية أتباع الدرجات الدنيا غائبين عن هذه “الحقيقة” التي يعتبرونها السر الأعظم للوجود. لكن المناوئين يقولون إن هذه الرسالة مختلقة من قبل الصحفي الفرنسي ليو تاكسيل (وفي 1907) وإنه لا يوجد دليل على صحتها، ولا يزال الجدل قائما بين الطرفين حتى الآن، وقد يستحيل البتّ في الأمر لأن الماسونية قائمة أساسا على السرية ونقض كل ما يشاع عنها من مؤامرات. [انظر مادة Luciferianism في موسوعة ويكيبيديا]
العين والهرم على الدولار
من جهة أخرى، نرى أثر القبالاه في الماسونية عبر رمز المثلث الذي تتوسطه أو تتربع على قمته “العين التي ترى كل شيء” All Seeing Eye، وهي ترمز إلى عين لوسيفر المطلعة على كل شيء وينبع منها النور، بحسب الكثير من المؤرخين والباحثين. وقد تم استيراد المثلث على الأرجح من مثلث قبّالي يُكتب فيه اسم يهوه (الإله)، حيث كان اليهود يعتبرون هذا الاسم مقدسا ولا يجوز لأحد أن ينطق به إلا الحبر الأعظم داخل قدس الأقداس بهيكل سليمان، أما القباليون فيعتبرون الإله قد تجلى عبر ثلاثة مراحل (كما هو حال الأديان الغنوصية الأخرى) فكان في آخر مرحلة يدعى بالنور اللانهائي (بالعبرية: عين صوف أور)، وهو النور الذي يُرمز له بالمثلث، ولكن يبدو أنه مع الانتقال إلى عبادة الشيطان لوسيفر رسموا عينه داخل مثلث الوجود الإلهي بدلا من وضع اسم الإله يهوه.
في كتابه “شفرة سورة الإسراء”، يرصد المؤلف بهاء الأمير ملامح انتقال القبالاه ومشروعها السري لتحريف الوحي وإفساد البشرية عبر الزمان والمكان، ولا سيما في الهند التي تشربت أفكار القبالاه وأعادت توليدها في أساطير البراهمية الهندوسية، ثم في بعض الأعمال الأدبية التي انتشرت في المشرق الإسلامي مثل ألف ليلة وليلة، وصولا إلى الغرب الذي تشبع عقله ووجدانه بأفكار القبالاه دون أن يدري.
كوتشر (وسط) يحضر جنازة الحاخام القبالي فيليب بيرغ في صفد عام 2013
القبالاه والمشاهير
بعد أن كانت طقوسا سرية على مدى قرون، انتهجت القبالاه نهج الانفتاح على شاكلة الماسونية، فقدم القباليون أنفسهم على أنهم رعاة الحكمة القديمة وسدنة أسرارها المحفوظة من أجل صلاح البشرية كلها، وبدأوا بافتتاح المدارس والمعاهد لتعليم الراغبين بفهم علوم القدماء، مع أن ما يتم تلقينه للناس -وهم غالبا من الغربيين الذين تشكلت عقولهم في بيئة فارغة من الروحانيات والعقائد- ليس سوى قشور القبالاه وليس أسرارها.
يحرص القباليون أيضا على استقطاب النجوم ومشاهير الرياضة والفن كما هو حال منظمة “المتنورين” الماسونية، ولا سيما المغفلين منهم، ففي إحدى المقابلات التلفزيونية أرادت الممثلة الهوليودية ديمي مور أن تستعرض اهتماماتها الجدية فقالت إنها منكبة على تلقي دروس “حكمة القبالاه”، ووافقها المذيع بأمارات الإطراء والتشجيع.
ويمكن للمتابع أن يلاحظ غلبة الغفلة والسطحية لدى المشاهير الذين استقطبتهم القبالاه، ومن أبرزهم لاعب ريال مدريد السابق ديفيد بيكهام وزوجته المطربة فيكتوريا، وعارضتا الأزياء ناعومى كامبل وباريس هلتون، ومغنية البوب مادونا التي اتخذت الاسم اليهودي “إستر” مرادفا لاسمها، والممثل آشتون كوتشر الذي زار مراكز القبالاه في تل أبيب وصفد عام 2013 وقال “إن إسرائيل قريبة وعزيزة على قلبي”، وغيرهم كثير.
ويعلن هؤلاء المشاهير وغيرهم الولاء للقبالاه بارتداء “تميمة حمراء” على معاصمهم، وهي خيط من الصوف الأحمر يتم اقتطاعه من خيوط طويلة يلفها القباليون حول قبر راحيل في فلسطين، بزعمهم أن هذا الفعل يشحن الطاقة التي يبثها القبر، ثم يقسم الخيط ويباع حول العالم. علما بأن بعض مواقع القبالاه تعترض على هذه الظاهرة وتعتبر أنها تشوه أسرار وحكمة أسلافهم.
ليوناردو دي كابريو (يمين) وأشتون كوتشر يرتديان التمائم الحمراء


أهم المراجع
عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق، القاهرة.
ميخائيل لايتمان، علم الكابالا للمبتدئين، موقع حكمة الكابالا، 2005.
هاينس هالم، الغنوصية في الإسلام، ترجمة رائد الباش، دار الجمل، ألمانيا، 2003.
سامي الإمام، الفكر العقدي اليهودي، جامعة الأزهر، بدون تاريخ.
هدى درويش، نبي الله إدريس بين المصرية القديمة واليهودية والإسلام، دار السلام، القاهرة، 2009.
بهاء الأمير، التفسير القبالي للقرآن، بدون ناشر، 2015.
محمد حمزة الكتاني، مفهوم الخلاص في الديانة اليهودية، دار الكتب العلمية، 2012.
علي الرشيدي، إرواء الظمآن بأخبار الشيطان، الدار العالمية، الإسكندرية، 2014.
Martin Malachi, The Keys of This Blood: Pope John Paul II Versus Russia and the West for Control of the New World Order, Simon & Schuster, New York, 1990.
Frank E. Manuel, The Religion of Isaac Newton, Clarendon Press, 1974.
Coudert Allison, Leibniz And The Kabbalah, 1996.
Max Dimont, Jews, God and History, 1962.
Ed Decker, The Dark Side of Freemasonry, 1994.
Albert Pike, Morals and Dogma, 1966.
Harun Yahya, Global Freemasonry, http://www.harunyahya.com

التعليقات

2 تعليقات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق