الصفحات

الثلاثاء، 9 ديسمبر 2014

مكة المكرمة: من مزار مقدس إلي مجمع تجاري

                           

تمثل مكة أكبر تناقضات العالم الإسلامي. هي مقر الكعبة، مبني مكعب من الجرانيت يعود إلي العصر الوثني يقال أنه قد بناه ابراهيم وابنه اسماعيل، وهي قبلة الصلوات الخمس اليومية للمسلمين والذين يصل عددهم إلي 1,6 ملايين مسلم. وتمثل نقطة يدور حولها جميع المسلمون الذين يستطيعون أن يأدوا الحج الذي كان مرهقا بشدة في الماضي، ثم أصبح مكلفا بشدة.
ولكن ما يدعو للتعجب هو أن الاكتشافات العلمية التي أهدتها الحضارة الإسلامية للعالم لتضيء طريقه، في الفن والعلوم والعمارة والفلك والفيزياء والفلسفة، لم تأت من مكة وإنما جاءت من مدن مثل دمشق، وبغداد، والقاهرة، واسطنبول. حيث كانت تلك المدن الكبيرة عالمية وملتقي انصهار الإسلام مع المسيحية واليهودية، لجميع المؤمنين ولغيرهم، لكن مكة كانت طويلا منعزلة ومنغلقة وشوفينية. حيث تظل حتي اليوم معقلا للطهارة، وهي محرمة علي غير المسلمين.
حتي نعرف ما حل بطائفة معينة من المسلمين في القرن الواحد والعشرين – الذين ينتهجون عدم التسامح، كراهية المرأة والأديان الأخري، التحجر الفكري والثقافي، رفض الحداثة والتطور – فعلينا إلقاء نظرة عميقة ومتفحصة علي مكة، المصدر الرئيسي للصورة الوهابية المتعصبة عقائديا من الإسلام.
ويمثل زياد الدين ساردار، وهو بريطاني مسلم نشأ في بنجاب الشخص المناسب لإلقاء تلك النظرة وإجراء الفحص المراد. فقد عمل في السبعينيات في مركز أبحاث الحج بجدة، محاولا أن يقود السعوديين نحو تطوير معماري أكثر ملائمة للمدينة الأكثر قداسة في الإسلام، وهو ما فشل فيه في النهاية.
تستمد مكة الكثير من طابعها المميز، والذي يشاركها فيه سكانها إلي حد كبير، من جغرافيتها القاسية. فقد كانت مكة بالنسبة للشاعر الإسلامي القديم "الحيقتان،" مكان لا يطاق صيفه ولا شتاءه. فلا تتدفق إليه مياه ... ولا بها بعض العشب ليريح العين ... فقط تجار، وهي المهنة الأحقر. ويحيط بها جبلين قاحلين، حيث تقع في منخفض وعر تحرقه الشمس العربية، علي بعد 45 ميل من ميناء البحر الأحمر بجدة.
وحتي لا نتحامل علي قاطنيها (حيث كان تاريخها ذكوريا محافظا بشكل كبير،) فإن تلك البيئة الموحشة من الجبال العازلة والصحراء والحرارة المشوهة للعقل توضح، بل وربما تعذر، الطبع المحلي الذي تعبر عنه المقولة "نحن لا نزرع القمح أو الذرة، فالحجاج هم محصولنا." فدائما ما كان هناك زوار ليتم استغلالهم. حيث سيحتاج الحاج اليوم، إن كان غنيا أو فقيرا، لما يتراوح بين 3,000 و 4,000 جنيه استرليني حتي يؤدي الحج في مكة. فحتي القرن التاسع كانت طائفة القرامطة الدينية المتشددة تهاجم القوافل المتجهة إلي مكة وتهين أفرادها وتسفك الدماء في المدينة المقدسة. ويتسائل ساردار قائلا: "كيف تتحول العقول بعد تخيل الجنة إلي عقول شيطانية؟"
جاءت لحظة البزوغ التاريخي لمكة في العام 610 مع نزول أول ما نزل من الوحي الإلهي علي النبي محمد. وما أتبعه من ظهور الإسلام، وإعادة الهيكلة المحافظة للحياة متعددة الآلهة في شبه الجزيرة العربية، وقد كان الأمر عنيفا وأدي لمواجهات بين القبائل وبين المدن، حيث حدثت المواجهة بين مكة المعادية بشدة للإسلام (الطرف الخاسر) ضد المدينة. ومع خضوع أهل مكة لمحمد وتحولهم إلي الإسلام، ومع اتخاذ الكعبة رمزا للدين الإسلامي الجديد، سريعا ما أصبحت مكة أغني. وفي أواخر القرن الثامن كانت محل السخاء الامبراطوري للخليفة العباسي في بغداد. وجاءت الجزية من كل حدب وصوب، فقد أرسل الملوك من كابول والتبت البعيدة أفخم الهدايا إلي مكة المكرمة.
رغم تمثيل مكة للملاذ المقدس الذي تنحي فيه القبائل المتناحرة خلافاتها قديمة الأزل قبل ظهور الإسلام، إلا أن العنف لم يكن بعيدا عن مكة علي مدار القرون. فيمكننا تخمين ما كان النبي محمد ليفعله مع المثال الفريد للتناحر الوحشي للإخوة عام 1314. فبعد تنازل الحاكم أبو نومي عن الحكم، عزم ابنه حميدة علي الحفاظ علي السلطة وسط منافسة حامية من إخوانه، حيث قتل أحدهم ودعي الآخرين للعشاء. في مشهد أشبه بفيلم "الطاهي، السارق، وزوجته، وعشيقها،" أكثر منه تجمع عائلي، كانوا خائفين بعد أن علموا أن جثة أخاهم قد تم طهوها وتقديمها لهم.
لكن أهل مكة ليسوا هم المفضلين للجميع. حيث يعتبرهم ساردار "سطحيين، ضيقي الأفق وغير مبالين للحقائق المتغيرة في العالم الخارجي." رغم أن المسلمين يصلون صوب مكة، إلا أن العديد من المسلمين يميلون بشكل إيجابي نحو المدينة، مدينة النبي محمد، والتي رحبت به واستضافته بعد رحلة هجرته من مكة عام 622. حيث أنه إن لم يهاجر في ذلك التوقيت تحديدا لقتله أهل مكة، والذي أضرت دعوته للتوحيد وانتقاده لعبادة الأصنام القديمة بتجارتهم. فقد قال محمد: "إني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلىَّ، وأكرمه على الله ، ولولا أن أهلك أخرجونى منكِ مَا خرجت."
ويتشكك ساردار بشكل أقل حول الحسابات التقليدية لمكة التي وضعها المؤرخون الإسلاميون الأوائل. فهو يشير إلي "القدسية والاحترام الشديدين الذين يجب أن يصاحبا قراءة المسلمين لمكة" إلا أنه يجب التحلي ببعض الموضوعية. حيث تستحق مراجعات تاريخية لمكة قبل الإسلام وفي بدايات ظهور الإسلام أجرتها باتريشيا كرون ومايكل كوك وأخرون – والتي تشكك في أهمية المدينة كمركز للتجارة والحج – المزيد من المشاركة أكثر من كونها مجرد حاشية أو استنتاج.
لن تحتاج لتكون مؤرخا حتي تري بشكل صادم تدنيس السعوديون لبيئة مكة العمرانية. فقد تم في العقود الأخيرة هدم مواقع ذات أهمية تاريخية غير محدودة، مثل مسجد بلال الذي يعود إلي عصر النبي. أما منزل السيدة خديجة أكثر زوجات النبي وقارا فقد تحول إلي مرحاض عام، بالفعل إنه رمز ملائم للنظام السعودي. كذلك برج ساعة مكة الملكية التي تلوح علي ارتفاع 1972 قدم فوق المدينة المقدسة، والتي تمثل تقاطعا غير مقدسا بين ساعة "بيج بن" ولاس فيجاس، حيث يقوم البرج علي حوالي 400 موقع ذي أهمية ثقافية وتاريخية عظيمة. ويريد رجال الدين السعوديون أن يهدموا بيت النبي خوفا من أن يتعبد إليه المسلمين بدلا من الله. وعند البحث عن بيت أبي بكر الصديق، أقرب صحابة النبي إليه وأول الخلفاء الراشدين، سيجد محله فندق "هيلتون مكة،" وهو صرح مبهرج ليس ضروريا أن يطل علي الكعبة. ثم يتضح أن الأمر تجاري بحت. فإن كان الفندق كامل العدد، عن غير قصد، يستطيع الزوار أن يجدوا إقامة بديلة عبر موقع "بي إن بي."
ولا يتوقف الهدم أبدا هناك. حيث يمثل الجزء الرائع الخاص بالحقبة العثمانية في المسجد أقدم أجزاء الحرم التي صمدت أمام الهدم. إلا أن أعمدتها الرخامية المزخرفة بالكتابة الإسلامية المحفورة والتي تعود إلي سلاطين القرنين السادس عشر والسابع عشر سليمان، سليم الأول، ومراد الثالث والرابع، علي وشك إفساح الطريق لقاعات صلاة متعددة الطوابع ذات ارتفاع 80 متر.
ولا يمثل ذلك رأيا معيبا لمعلق كافر. فالعديد من المسلمين وليس ساردار فقط يرون الخراب المعماري والتحول الذي حدث لمكة مزعجا بشدة. حيث قال لي مسلم بريطاني مؤخرا: "ما فعله السعوديون بمكة مروع للغاية، هناك أماكن بيع بالتجزئة مباشرة أمام الجامع الكبير. فقد كان آخر ما رأيت قبل الاتجاه نحو الكعبة هو منفذ بيع "سامسونايت" و"هاجن داز." لقد حولوا مكة إلي مركز تسوق." وتطول لائحة اتهامات آل سعود إلي ما هو أكثر من ذلك بالتأكيد. ورغم كونهم الخدام الرسميين لأقدس الأماكن الإسلامية، إلا أنهم اختطفوا وحرفوا الدين الذي تعهدوا بحفظه.
ورغم العبقرية السعودية المدمرة المتميزة بالابتذال والتطرف، ستظل مكة الخاصة بساردار "مكانا للتناغم الأبدي، وشيئا يستحق الصمود لأجله والسعي لتحقيقه. لقد كانت وستظل كذلك دائما."
إنه تاريخ وذكرى جذابة، وتسبيحة حب لمكان مقدس لمسلمي العالم أجمع، تسوءها عائلة فاسدة بالكامل بفعل أموال البترول.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق