الصفحات

الأحد، 12 أكتوبر 2014


فضيلة الإمام الشيخ محمود شلتوت 
***** 
الشيخ السابع والثلاثون من مشايخ الأزهر الشريف
الشيخ السابع والثلاثون من مشايخ الأزهر الشريف
نشأته وبيئته وتوليه للمشيخة
هو الإمام الشيخ محمود شلتوت، إمام جليل، وفقيه كبير، ومصلح اجتماعى عظيم، يمتاز بثقافته الواسعة، وشخصيَّته القوية، وأسلوبه البديع، وصوته المعبِّر، وحجَّته البالغة، وقد أفاض المؤرِّخون والكُتَّاب في الترجمة لحياته وأعماله وآثاره.
في "منية بني منصور" التابعة لمركز إيتاي البارود محافظة البحيرة، وفي بيتٍ من بيوت العلم والسيادة، وُلِدَ الصبي محمود شلتوت سنة 1893م وحفظ القرآن الكريم في قريته، والتحق بمعهد الإسكندرية الديني سنة 1906م، وظهرت عليه علامات النبوغ والنجابة، فكان الأول دائمًا على فرقته، في جميع مراحل دراسته، وبعد حُصوله على الثانوية الأزهرية اتَّجه إلى القاهرة للالتحاق بالجامع الأزهر، ودرس علوم الأزهر على علمائه المشهورين وأئمَّته الأجلاء، ولفت الأنظار إليه من زملائه وغيرهم من الطلاب وكبار أساتذته، ولمَّا أتَمَّ العلوم الأزهريَّة فهمًا وحفظًا، تقدَّم لنيل درجة العالميَّة "الدكتوراه"، فكان أوَّل المتقدِّمين لها سنة 1918م الأوَّل بامتياز، ثم عُيِّنَ مدرسًا بمعهد الإسكندرية الدِّيني سنة 1919م، وفي هذا العام قامت الثورة الشعبية المصرية بزعامة سعد زغلول ضد الاحتلال الإنجليزي، وشملت جميع القُطر المصري بكلِّ فئاته من العامَّة والموظَّفين والعمَّال والفلاحين، وجُمِعَ تحت لوائها المسلمون والنصارى، وقام الشيخ شلتوت فيها بواجبه الديني والوطني، وشارَكَ فيها بقلمه ولسانه وجُرأته المعهودة فيه، في هذه الفترة تولى الشيخ المراغي مشيخةَ الأزهر، فرأى الانتفاعَ بمواهب الشيخ شلتوت الفذَّة وثقافاته الواسعة، وحبِّه الفطري للتجديد والإصلاح، فنقله للقاهرة مدرسًا بالقسم العالي، وكان يرأسه وقتها الشيخ عبدالمجيد سليم الذي تولَّى مشيخة الأزهر فيما بعدُ.
ولمَّا تقدَّم الإمام الشيخ المراغي بمذكِّرته لإصلاح الأزهر، كان الشيخ شلتوت في مقدِّمة المستجيبين له، بل كان أوَّل صوت أزهري ارتفع بتأييد هذه المذكرة، ولم يكتفِ بالتأييد الشفوي، بل أسرع بكتابة عدَّة مقالات في جريدة "السياسة اليومية" يدعو فيها إلى الأخذ بالمبادئ القيِّمة في المذكرة. وكان من بيت رجال الأزهر مَن يُقاوم هذه الحركة الإصلاحيَّة، وكان الملك فؤاد ملك مصر وقتَها لا يرتاح لهذه الحركة؛ فقامت العقبات في طريقها، فاستقال المراغي على الرغم من مكانته العلمية بين المستنيرين من علماء الأزهر وطلابه، وتولَّى الشيخ الظواهري المشيخة، وكان رأيه التأنِّي والتفاهُم مع أولي الأمر، فقُوبل بثورةٍ عاتية، وكان عنيفًا ضد الثورة؛ ففصل الشيخ شلتوت من منصبه، كما فصل العشرات من صفوة العلماء الذين كانوا في طليعة المصلحين؛ فاشتغل شلتوت بالمحاماة في المحاكم الشرعية مع الشيخ علي عبدالرازق وزير الأوقاف قبلها، واستفاد الشيخ شلتوت من عمله بالمحاماة دراية عميقة بطبائع النُّفوس، كما زاد فقهه للتشريعات القانونيَّة إلى جانب خبرته ودراسته العلميَّة، وفي فبراير 1935م أُعيد إلى عمله بالأزهر مع مَن فُصِلوا؛ فعُيِّنَ مدرسًا بكلية الشريعة، ثم وكيلاً لها، ثم ظهرت له نشاطات كثيرة ومهمَّة قبل تولِّيه المشيخة تدلُّ على عقليَّة ناضجة، وفكر سليم، وفقيه مجتهد نال حبَّ الناس وتقديرهم، الخاصَّة منهم والعامة، ودُعِي الأزهر للاشتراك في مؤتمر "القانون الدولي المقارن" المنعقد في مدينة "لاهاي" في هولندا سنة 1937م، ودون منازع اختار المجلس الأعلى للأزهر فضيلةَ الشيخ شلتوت عضوًا في هذا الوفد الذي يُمثِّله في هذا المؤتمر، وكان البحث الذي ألقاه شلتوت تحت عنوان "المسؤولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية"، وهي رسالة قيمة نالت استحسان أعضاء المؤتمر وإعجابهم، فأصدروا إقرارًا بصلاحية الشريعة الإسلامية للتطوُّر، وأنها مصدر من مصادر التشريع الحديث، وأنها أصليَّة ليست مُقتَبسة من غيرها من الشرائع الوضعيَّة، كما أصدر المؤتمر قرارًا بأنْ تكون اللغة العربيَّة لغةَ هذه الشريعة، إحدى لغات المؤتمر في دوراته المقبلة، وأنْ يُدعى لهذا المؤتمر أكبرُ عدد ممكن من علماء الشريعة الإسلاميَّة، على اختلاف المذاهب والأقاليم، وهذه المكاسب المهمَّة كانت بفضل الشيخ شلتوت وجهوده في البحث الذي ألقاه في المؤتمر، وأنَّ الشريعة الإسلامية صالحة لكلِّ زمان ومكان. وفي سنة 1939 عُيِّنَ مفتشًا بالمعاهد الدينية الأزهرية، فكانت ملاحظاته وتقديراته ودراساته شاملةً نافعة لأحوال المعاهد الأزهرية في مختلف النواحي العلمية والإدارية، وأُعيد مرَّةً أخرى وكيلاً لكلية الشريعة، وحقَّق فيها برامج إصلاحية مهمَّة، ولقد اعتلى فضيلة الشيخ شلتوت مناصب كثيرة مُتنوِّعة قبل اعتلائه مشيخة الأزهر، علي سبيل المثل لا الحصر: ففي سنة 1941م نال عضوية جماعة "كبار العلماء" بالإجماع، وكان أوَّل نشاط قام به في هذه الجماعة أنْ تقدَّم إليها باقتراح إنشاء مكتب علمي للجماعة تكون مهمَّته معرفة ما يُهاجَم به الدين الإسلامي والرد عليه، وبحث المعاملات التي جدَّت وتجدُّ، ووضع مؤلَّف في بيان ما تحتوى عليه كتب: "التفسير المتداولة"، وتنقيتها من الإسرائيليَّات، وتنقية كتب الدِّين من البدع والخرافات؛ وهذا ممَّا جعل الغرب يتهم المسلمين بالجهل والغباء وغياب التفكير، وقد أُلِّفت لجنة لهذا الغرض، برئاسة الشيخ عبدالمجيد سليم، وكانت هذه اللجنة إرهاصًا بإنشاء مجمع البحوث الإسلامية فيما بعدُ، والفضل للشيخ شلتوت في هذا الاقتراح، وظهر المجمع إلى الوجود أثناء تولِّيه المشيخة، ولا يزال المجمع يؤدِّي دوره الخالد إلى الآن.
وفي سنة 1946م صدر قرارٌ بتعيين الشيخ شلتوت عضوًا بمجمع اللغة العربية، وانتدبته جامعة القاهرة "فؤاد الأول" لتدريس فقه الكتاب والسُّنَّة لطلبة دبلوم الشريعة الإسلاميَّة بكليَّة الحقوق، فكان خير معلم، وفي سنة 1951م عُيِّنَ مراقبًا عامًّا لمراقبة البحوث والثقافة الإسلاميَّة بالأزهر، واستطاعَ في فترةٍ وجيزة أنْ ينهضَ بها وتوثيق صلاتها بالعالم الإسلامي، وفي سنة 1957م اختاره الرئيس السادات فيما بعدُ سكرتيرًا عامًّا للمؤتمر الإسلامي، واختاره مستشارًا للمؤتمر الإسلامي، ثم عُيِّنَ وكيلاً للأزهر، فنهض بأعبائه وأدَّى رسالته خيرَ أداء، بالإضافة إلى عضويَّته في اللجنة العُليا للعلاقات الثقافية الخارجية في الإذاعة ووزارة الشؤون الاجتماعيَّة، والأهمُّ من ذلك أنَّه كان المؤسِّس لدار التقريب بين المذاهب الإسلاميَّة التي قامت لإزالة الجفاء، وتوثيق الصلات بين الطوائف الإسلامية من سنَّة وشيعة، وكان له مكان الصَّدارة في كلِّ هيئة يشترك فيها؛ بما يبذل من آراء قيمة، وجهود عمل مضنية، ودراسات علميَّة عميقة، ومع هذا كله كان حديثه الصباحي في الإذاعة المصريَّة لا ينقطع، ويحاضر في شتَّى الجمعيات الثقافية مساءً، ويكتب في الصحف والمجلات، ويُشارك في مختلف الندوات العامَّة، ويخطب الجمعة كلَّ أسبوع في مسجد محمد علي بالمنيل، ويُفتي ويردُّ على الرسائل ويحلُّ المشاكل، ويلتقي بزعماء المسلمين، ويُحاضر في الكليات، ويُؤلِّف الكتب والأبحاث، إنها شعلة نشاط وطاقة عظيمة فوق العادة، هذا هو الإمام الشيخ شلتوت خادم العرب والإسلام.
علمنا فيما سبق أنَّ أنور السادات قبل أنْ يكون رئيسًا لمصر كان رئيسًا للمؤتمر الإسلامي، وكان فضيلة الشيخ شلتوت مستشارًا فنيًّا للمؤتمر، وكان ممثلاً للأزهر في اللجنة العُليا للعلاقات الثقافية الخارجيَّة، هذه اللجنة كانت تؤدِّي دورها في توثيق العلاقات الثقافية بين مصر ودول العالم، ولقد توقَّف نشاطها منذ فترة، وعرف رجال الثورة وعلى رأسهم جمال عبدالناصر ولمسوا فيه الثقافة الواسعة، والإيمان العميق، والأخلاق السامية، والأدب الجم، والشجاعة الأدبية، والإقبال على العمل المتواصل الدائب في خدمة العروبة والإسلام، فاتجهت أنظارهم إليه، وفي 13 أكتوبر 1958م صدر القرار الجمهوري بتعيينه شيخًا للأزهر، فكان بها جديرًا وكانت به جديرة.
وما كاد يعتلي كرسي المشيخة ويرأس هذا المنصب الكبير حتى ركَّز جهوده في إنشاء "مجمع البحوث الإسلامية" الذي كان يتطلَّع إلى إنشائه ويرى فيه رابطة علميَّة وروحيَّة وثيقة تشدُّ أزر المسلمين جميعًا، وتزيل ما بينهم من الخلافات التي بثَّها الاستعمار، وجعلها تنمو على مرِّ القرون بين العرب جميعًا والمسلمين، وبذل فضيلته جهودًا مضنية حتى استصدر قرارًا جمهوريًّا بالموافقة على إنشاء "مجمع البحوث الإسلامية" تحت رقم 4394 سري، وتم انعقاد المؤتمر الأول للمجمع سنة 1964م، ولا يزال يُؤدِّي رسالته السامية في قوَّة وثقة ويقين.
وكان الإمام شلتوت يتطلَّع إلى تحقيق الوحدة الإسلامية كما تطلَّع إليها غيره بعد أن تفرَّقَ شمل المسلمين، ومزَّقتهم العصبيات الجنسية، والفروق المذهبية، والخلافات الطائفيَّة، فبدأ جهاده في "جماعة التقريب" بين طائفتي السنَّة والشيعة يناهز عددهم الآن حوالي 120 مليون مسلم يقيمُ منهم في إيران أكثر من ثمانين مليونًا، كما أنَّ ملايين منهم في العراق واليمن وسوريا ولبنان والخليج العربي والهند وباكستان.
ولقد وسع الاستعمار شقَّة الخلاف بين الطائفتين؛ ليتمكَّن من تمزيق شمل المسلمين، وتسخيرهم لخدمة أغراض الاستعمار الماديَّة، ومن هنا بدأ الإمام الدعوةَ إلى التقريب مع مَن دعا إليها من زعماء المسلمين، ويقول الإمام في ذلك: "إنَّ دعوة التقريب هي دعوة التوحيد والوحدة، هي دعوة الإسلام والسلام، إنَّ فكرة الحرية المذهبية الصحيحة على نهج الإسلام، والتي كان عليها الأئمة الإعلام في تاريخنا الفقهي، كانوا يترفَّعون عن العصبية الضيقة"، وكان يقول: "هذا مذهبي وما وصل إليه جهدي وعلمي، ولست أُبيح لأحدٍ تقليدي، دون أنْ ينظر من أين قلت، كان الدليل إذا استقام فهو عهدتي، والحديث إذا صحَّ فهو مذهبي"، والمقال طويل ومهم، ويوضح أنَّ الأزهر الشريف ينزل على حكم هذا المبدأ، وهو "مبدأ التقريب بين أرباب هذه المذاهب"، فتقرَّر دراسة فقه المذاهب الإسلامية جميعها دراسةً تعتمد على الدليل والبرهان، خاليةً من التعصُّب، ومن الخير أنْ نسجِّل هنا فتوى للإمام الشيخ شلتوت، شاهدةً للحقيقة والتاريخ سُئِل فضيلته:
إنَّ بعض الناس يرى أنَّه يجب على المسلم لكي تقع عبادته ومعاملاته على وجهٍ صحيح أنْ يُقلِّدَ أحد المذاهب الأربعة المعروفة وليس من بينها مذهب الشيعة، فهل تُوافقون فضيلتكم على هذا الرأي على إطلاقه؛ فتمنعون تقليد مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية مثلاً؟
فأجاب فضيلته: "إنَّ الإسلام لا يُوجب على أحد اتِّباع مذهب معيَّن، بل نقول: إنَّ لكلِّ مسلم الحق في أنْ يُقلِّد بادئ ذي بدء أيَّ مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحًا، والمدوَّنة أحكامها في كتبها الخاصة، ولمن قلَّد مذهبًا من هذه المذاهب أنْ ينتقل إلى غيره، أي مذهب كان، ولا حرج عليه في شيء.
فينبغي للمسلمين معرفةُ ذلك، وأنْ يتخلَّصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معيَّنة، فما كان دين الله وما كانت شريعته تابعة لمذهب أو مقصورة على غيره، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله في عباداتهم ومعاملاتهم.
وللحقيقة والتاريخ: إنَّ الإمام شلتوت لم يبتكر دعوة التقريب ولم ينفرد، ولكنَّه قدَّم إليها من الدعم الفكري والبحوث الفقهيَّة ما دفعها إلى الأمام، ومكَّن لها في النفوس المؤمنة في جميع أقطار الإسلام، ولقد ذاعت شهرة الإمام في ربوع العالم الإسلامي فانهالت عليه الدعوات الرسميَّة لزيارة الأقطار الإسلامية، فدعته إندونيسيا لزيارتها، وقبل الدعوة بعد إلحاحٍ كبير؛ وذلك لظروف وقته الضيق وقتَها، فكان مشروع تطوير الأزهر هو الشاغل الوحيد، ودعته حكومة الملايو والفلبين، ولقيت البعثة استقبالاً حماسيًّا من الرؤساء والزعماء والطبقات الشعبيَّة منقطع النظير، وتهافت الجماهير على الإمام ومَن معه من أعضاء البعثة، تغمرُهم بالحب والمودَّة والتكريم، وزار ماليزيا والصين، وفي كلِّ دولة تزداد الحفاوة، وإضافةً إلى هذا كان يستقبلُ طوائف من رؤساء هذه الدول في مصر، ويكرمهم، ومنح بعضهم شهادات فخريَّة من جامعة الأزهر؛ ممَّا جذبهم إلي مصر، وقويت صلاتهم بها، كما تلقَّى دعوات من جميع دول الغرب والشرق من روسيا؛ لكثرة أعبائه وظروفه الصحيَّة، وقد نال فضيلته "الدكتوراه الفخرية" من دول عديدة؛ وذلك يدلُّ على منزلته السامية في شتَّى أنحاء العالم.
 
آثاره العلمية... وتأثيره
شهد الناس للإمام محمود شلتوت بالامتياز في خلُقِه وشخصيَّته وفي فطرته الطبيعيَّة؛ فاحتلَّ في فقه الشريعة الإسلامية مكانةً سامية، أتاحت له أنْ يكون المرجع الأكبر في عصره لطلاب المعرفة في كلِّ ما يتعلَّق بمشكلات العصر الحديث، وموقف الإسلام منها وقد أعانه على بلوغه هذه المنزلة عدَّة عوامل؛ منها:
1- مواهبه الشخصية: فقد كان يتمتَّع بذكاء حاد، وذاكرة قوية، وحب للبحث والقراءة والاستيعاب، وبصيرة ملهمة في فقه ما يستوعبه من دراسات.
2- تأثر تأثرًا كبيرًا بالفقيهين المجتهدين ابن تيميَّة، وتلميذه ابن قيِّم الجوزية، وأيضًا بالإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، والإمامين المراغي وعبدالمجيد سليم، ولكنَّه لم يُقلِّد أحدًا منهم، وإنما تأثَّر بهم، وأثَّروا فيه، وإنِ التبس عليهم أمرٌ عاد إلى الكتاب والسُّنَّة وكبار الباحثين.
3- تعمَّق في الدراسة والبحث: فدرس آراء أهل السُّنَّة والمعتزلة والأشاعرة والمذاهب الأربعة، ومذهب الشيعة الإمامية، والزيدية والظاهرية والأباضية، وأعانَتْه على ذلك بصيرته النافذة من إدراك الحقيقة في ثنايا هذه المذاهب وغيرها.
4- أفادته تجاربه العديدة وأبحاثه ومقالاته في الإذاعة أو الجرائد، والمشاكل الاجتماعية وحلولها في نطاق الشريعة الإسلاميَّة، أضفْ إلى ذلك رحلاته وصلاته بكبار الزُّعَماء والمستشرقين، ودائمًا حركة الإصلاح والتجديد في الأزهر تواجهُ تيَّاراتٍ رجعيَّة تشفقُ على الأزهر، وتخشى أنْ يقودَه التطوُّر إلى فقد شخصيَّته العظيمة، وكيانه المتميِّز وقيادته التاريخيَّة المجيدة، ولكنَّ الزمن لا يقفُ جامدًا، والحياة لا تظلُّ راكدة خامدة، ومَن لم يتحرك فاته الركب، وانقطعت به السبل. ولما قامت ثورة يوليو سنة 1952م في مصر وأعطت لأنصار التجديد آمالاً به السبل، ولما قامت ثورة يوليو سنة 1952م في مصر وأعطت لأنصار التجديد آمالاً فسيحة، وكان الإمام الشيخ شلتوت في طليعة المنادين بالتجديد والإصلاح، وهو من ألمع الناشئين في مدرسة الشيخ محمد عبده والمراغي، وسعى لدى كبار المسؤولين وخطب طالبًا أنْ يُعاد النظر في مناهج الأزهر وكتبه، لتُساير النهضة العلميَّة الحديثة، وقال فضيلته: "إنَّ الذي نريده للأزهر هو في واقعه انقلاب، انقلاب محبَّب للنفوس الغَيُورة على ماضيها، المتطلِّعة إلى المستقبل، ويصل بالعقلية الأزهرية إلى الفكر الأصيل، ويربط هذه العقلية الأزهرية الواعية بالحياة الواقعية التي يعيشُ فيها العالم اليوم، ويجب أنْ يقف العقل الأزهري أمامها ليبقى للجامعة الإسلامية نموها".
ودعوته هذه وجدت أذانًا مصغية من رجال الثورة؛ فصدر القانون رقم 103 لسنة 1961م بقرار جمهوري 5 يوليو 1961م، ووضع القانون ليكون ملبيًا لحاجات الأزهر في أنْ يكون جامعة كاملة النماء، ملبِّية حاجة العصر الحديث، بالطبيب والمهندس والفيلسوف والفقيه والإعلامي، ومنها: أنَّ الأزهر هو الهيئة الإسلامية الكبرى التي تقوم على حفظ التراث الإسلامي ونشره إلى كلِّ الشعوب، وإظهار حقيقة الإسلام وأثره في تقدُّم البشريَّة، وكفالة الأمن وراحة النفس دنيا وأخرى... إلخ.
وبهذا تميَّزت اختصاصات الأزهر من شمول الدين مادَّة وروحًا، ونصت المادة 4 على أنَّ شيخ الأزهر هو الإمام الأكبر وصاحب الرأي في كلِّ ما يتَّصل بالشؤون الدينية والدراسات الإسلامية، ويرأس المجلس الأعلى للأزهر، ولقد اشتمل قانون تطوير الأزهر على مائة مادَّة، كلُّ مادة تنبثقُ عنها مواد تفصيليَّة كلها في منتهى الأهميَّة والدقَّة والنظام، وهناك أحداث جانبيَّة حدث في حياة الإمام شلتوت كان لها أثرها الخطير في حياة الأزهر، وتُعتبر من العواصف والأنواء، وهي مدوَّنة في سجل تاريخ حياة الإمام، والمقام لا يتَّسع للخوض فيها.
إنَّ الإمام الشيخ شلتوت كان زاهدًا في كلِّ المكافآت التي يستحقُّها عن إنتاجه العلمي في جهاتٍ كثيرة، من إدارات ثقافيَّة، وطبع مؤلفاته وأحاديثه في الإذاعة والصحف، وإسهامه طوال حياته في كلِّ أنشطة الخير خدمةً للدين والوطن.
 
مؤلفاته وتصانيفه
لقد ترَك الإمام شلتوت ثروةً طائلة من الأبحاث والكتب القيِّمة والدراسات والتي لا يزال بعضها مخطوطًا.
ومن أهمِّ مؤلَّفاته المطبوعة:
1- فقه القرآن والسُّنَّة.
2- مقارنة المذاهب.
3- يسألونك، إجابة عن أسئلة تلقَّاها عن طريق الإذاعة، وطبعتها وزارة الثقافة.
4- منهج القرآن في بناء المجتمع، نشرته الإدارة الثقافية بالأوقاف.
5- المسؤولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية، رسالة نال بها عضوية "جماعة كبار العلماء".
6- القرآن والقتال.
7- القرآن والمرأة.
8- تنظيم العلاقات الدولية في الإسلام.
9- تنظيم النسل.
10- رسالة الأزهر.
11- إلى القرآن الكريم.
12- الإسلام عقيدة وشريعة.
13- تفسير القرآن الكريم.
14- بخلاف آلاف الفتاوى في كثير من المشكلات العصرية والاجتماعية.
 
وفاته
وبعد هذه الحياة الواسعة الأرجاء، والمزدحمة بالجهود الكثيرة، المليئة بالعطاء في سبيل الإسلام والوطن شرقًا وغربًا على السواء، فقد عرَف المرض طريقه إلى الأمام، ومع هذا لم يُؤثِّر على روحه المعنويَّة ولا على ذكائه الوقَّاد، ولم يكن المرض عائقًا عن أداء عمله، ثم استدعى المرض أخيرًا إجراء عملية جراحية تمَّت بنجاح، واستبشر الناس وأصدقاؤه خيرًا، ولكنَّها كانت خفيفة الروح وصحوة الموت، وكان أمر الله نافذًا لا رادَّ لقضائه، ولا مُعقِّب لحكمه، ولكلِّ أجلٍ كتاب، فلبى نداء ربِّه وصعدت روحه إلى بارئها في الساعة التاسعة وعشرين دقيقة من مساء ليلة الجمعة، ليلة الإسراء والمعراج، وأدَّى المصلُّون عليه صلاة الجنازة في السابع والعشرين من رجب سنة 1383هـ "1963م".
فرضي الله عن الإمام الشيخ شلتوت، وأسكنه فسيحَ جنَّاته مع الصدِّيقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقًا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق