الصفحات

الثلاثاء، 21 يناير 2014

الامام شامل



 الإمام شامل ( المجاهد الداغستاني )


هو مجاهد من المجاهدين العظام في زمن اشتدت فيه حاجتنا إلى المجاهدين العظماء ، تعرض للشهادة في مواطنها ، و أَبَى إلا أن يغترف من كأسها الطاهر المطهر ، لكنه مات على فراشه بعد ملحمة طويلة ، و معارك جليلة أذاق فيها الروس القياصرة الذل والهوان، و هُزموا أمامه مرارًا، هذا و روسيا آنذاك من القوى العالمية في الطبقة الأولى ، و كانت في أوج عنفوانها وغطرستها ، قد هزمت نابليون وتقدمت حتى دخلت باريس سنة 1816م !!
و الإمام شامل من داغستان ، ولد في قرية منها سنة 1212هـ/1797م ، و نشأ فيها نشأة الأبطال الفرسان ، على أنه درس بعض العلوم على مشايخ من بلاده .
و داغستان جزء من منطقة القوقاز الشمالي الذي يضم معها الشيشان و الأنجوش و أوسيتيا ، و هذه المنطقة مواجهة تمامًا للروس . و هناك القوقاز الأوسط الذي هو جمهورية جورجيا الآن ، و كانت تعرف عند المسلمين بالكرج . و هناك القوقاز الجنوبي الذي فيه أذربيجان وأرمينيا . و القوقاز غزاه المسلمون الأوائل وثبتوا في جنوبه وفي مناطق في شمال غربه ، لكن لوعورة المنطقة ولكثرة طوائف وأديان و مذاهب أهلها ، لم يستطع المسلمون أن يتحركوا شمالاً ، وغاية ما فعلوه أن سراقة بن عمرو الذي كان في زمن الخليفة الأموي مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية ، استطاع دخول تفليس (تبليس) عاصمة جورجيا اليوم .
ثم إن التتار و رأسهم تيمورلنك في مرحلة تحولهم إلى الإسلام ، نشروا الإسلام في أجزاء من الشيشان و الداغستان و أنجوش
ثم أرسلت الدولة العثمانية في مرحلة متأخرة نسبيًّا دعاة إلى الشيشان، وأقنعوا جماعات من الشيشانيين بالتحول إلى الإسلام بعد أن كانوا وثنيين، وكان هذا من قُرابة ثلاثة قرون من الآن، وكان ذاك عملاً رائعًا في منطقة و عرة ضخمة بها أشجار بلوط ضخمة ، يبلغ ارتفاع بعضها مائتين و ثمانين قدمًا ومحيطها خمسة و ثلاثين قدمًا!! و المنطقة مليئة بهذه الأشجار ، و بها جبال و عرة مما يصعب أي عمل عسكري فيها ، و هذا من فضل الله على أولئك الدعاة .
و منذ أن دخل الشيشانيون إلى الإسلام عمدوا إلى الدفاع عن الإسلام و رفع لوائه إلى يوم الناس هذا ، و لم تفلح معهم كل محاولات التغريب و التنصير ، و هناك شعوب دخلت قبلهم في الإسلام لكنها أجبرت على التحول إلى النصرانية كما اجتاحها الروس القياصرة مثل شعب الكرج (جورجيا) ، التي دخلها الإسلام منذ عصر التابعين ، لكن الشيشانيين ثبتوا و لله الحمد  .
كان لشامل صاحب يكبره بخمس سنوات يُسمَّى غازي محمد ملا ، و كان رفيق دربه ، فكانا يدرسان معًا على المشايخ ، و يدوران على المساجد ، و ابتدآ الجهاد معًا ، و كان لبدء الجهاد سبب مؤثر ، و هو أن غازي ملا رأى النبي صلى الله عليه و سلم في المنام ثلاث مرات و هو يدعوه للجهاد ضد الروس .
و الروس آنذاك هم الذين ابتدءوا بالاعتداء ، حيث كانت القيصرة كاترين تملكهم ، فأرسلت الجيوش إلى تلك المناطق ، و تتابع القياصرة من بعدها على إرسال 
الجيوش .
و لابتداء الضعف في الدولة العثمانية آنذاك -قبل قرابة مائتين و خمسين سنة من الآن استطاع القياصرة أن يثبتوا احتلالهم لبعض المناطق هناك ، و إضافة إلى ابتداء الضعف في الدولة العثمانيةكان هناك انعدام في تنسيق المواقف بينها و بين الدولة الصفوية في إيران بسبب تشيُّعها ، و كان هناك دولة قبرطاي الإسلامية و هم من الشراكسة ولم ينسقوا أيضًا مع الحركة الجهادية ضد الروس ، فأدى كل ذلك إلى احتلال الروس بعض المناطق في القوقاز ، و كان سائر العالم الإسلامي يغط في نوم عميق أو مشغول بمشكلاته الداخلية.
تقدمت الدولة الروسية لتحتل القوقاز و كان يدفعها سببان رئيسان : أوَّلهما أن القوقاز طريق إلى التركستان ، فإذا أخذوا القوقاز سهل عليهم الاستيلاء على التركستان ، و من ثَمَّ يتقدمون لأخذ الهند من المغول المسلمين – و هذا هو الدافع الآخر. و فعلاً ما إن أسقطوا دولة شامل إلا و دخلوا طشقند عاصمة أوزبكستان إحدى جمهوريات التركستان ، و لم يستغرق منهم هذا سوى سنة واحدة فقط بعد سقوط القوقاز .
لما رأى غازي محمد ملا النبي صلى الله عليه و سلم في المنام ثلاث مرات يأمره ببدء الجهاد ، تحدث إلى الداغستانيين بهذا فأجابوه ، و جاهد الروس ثلاث سنوات من سنة 1829م ، ثم حوصر في بلدته غمري هو وشامل و من معهما ، فقتل غازي محمد ملا ، و هرب شامل .
ثم استطاع أن يجمع فلول الداغستانيين و يبتدئ الجهاد ضد الروس سنة 1834م إلى سنة 1839م ، و في تلك السنة دلَّ عليه بعض أمراء الداغستان الخونة و حاصره الروس بقوة ضخمة فيها مدافع لم يكن يملك الداغستانيون شيئًا حيالها ، حيث كان الروس يدكون البيوت بها دكًّا، لكن شاملاً استطاع الهرب أيضًا .
و بعد تفكير و مراجعة لأحواله في ظل خيانة أمراء الداغستان ، قرر التوجه إلى الشيشان ، و هو معقل حصين جبلي كان أهله أقوى إيمانًا من الداغستانيين و أوفى ذمة ، و طبيعة الشعب الشيشاني الصعبة لا تسمح لهم بأن يرضخ بعضهم لبعض ، فكانوا بحاجة لرجل غريب يُسلسون له قيادهم ، فكان هذا هو الإمام شامل الذي استطاع أن يصل إلى القسم الجبلي من الشيشان ، و جمع حوله فلول أتباعه من الداغستانيين الذين انهزموا من الروس ، و بايعه أمراء الشيشان و قبائلهم ، و أعلنوه إمامًا عليهم له حق السمع و الطاعة و الجهاد معه في سبيل الله تعالى.
لما سمع القيصر بهروب شامل وما صنعه في الشيشان ، استشاط غضبًا و طلب من قائده حسم المعركة مع شامل ، فأرسل الجيوش إلى الشيشان و على رأسها أعظم القادة وأكثرهم خبرة في الحروب مع الداغستانيين و مع نابليون ، و قاومهم شامل ومن معه حتى اضطر القيصر لإرسال حملة عُرفت بحملة دارجو ، و هي البلدة التي كان يتحصن فيها شامل و أمراؤه ، و كان حولها غابات كثيفة جدًّا ، و كان قائد الحملة يسمى جراد ، لكنه لم يتمكن من الوصول إلى دارجو ، حيث كمن له جيش " شامل " على أشجار البلوط الضخمة التي سبق وصفها ، فكان فوق كل شجرة 40 - 50 من العساكر ، و كانوا يسكبون الزيت المغلي على الروس ، و يرمونهم بالحراب والبنادق ، فحصدوا كثيرًا منهم ، و فشلت الحملة وعادت أدراجها بعد خسائر ثقيلة.
ثم جرت مناوشات بين شامل وجراد متفرقة .
و بعد ثلاث سنوات في سنة 1845م أرسل القيصر حملة ضخمة قوامها ثلاثون ألف رجل بقيادة ضابط روسي فذّ اسمه روندسوف ، فمكر به شامل حيث جعله يتقدم في الأدغال إلى أن وصل إلى البلدة التي كان يتحصن بها شامل ، و ترك فيها مجموعات قليلة لمقاومة روندسوف الذي تغلب عليها ، و سوَّى بيوت البلد بالأرض بمدفعيته الضخمة ، و في طريق عودته و كان فرحًا مسرورًا بما صنع كان الشيشانيون ينتظرون جيشه في الليل ، فانقضوا عليه كالأسود، وقتلوا منهم خمسة وعشرين ألفًا ، فلم ينج إلا خمسة آلاف نصفهم جرحى ، و قتل قواد روس كبار في المعركة .
شامل و من معه كانوا من الصوفية النقشبندية الذين اشتهروا بالجهاد ، وهي من أصفى الفرق الصوفية و من أقلها بدعًا ، و كان شامل ومن معه يسمون أنفسهم بالحركة المريدية ، و كانت أصول الحركة المريدية تقوم على الشدة والقوة والفروسية وعلى الأذكار و الأوراد ، وضع شامل لجيشه نشيدًا جهاديًّا جميلاً ينشدونه في معاركهم ، و قد وصفتهم الكاتبة الأمريكية ليزا في كتابها " سيوف الجنة " ، و قالت فيه: إن الشيشانيين كانوا يتقدمون للمعارك مع الروس و هم يرتلون القرآن الكريم ، و ينشدون أنشودة الموت التي تبعث فيهم الحماس و القوة.
بعد حملة دارجو الثانية عمد الروس إلى خطة ماكرة حيث لاينوا أمراء الشيشان و رعاتهم ، و أمراء الداغستان فكانوا إذا أمسكوا بهم يطلقونهم و يكافئونهم بالأموال ، و كانوا في المقابل يقسون على المجاهدين جدًّا ، و بهذا تأثر كثير من عامة الشيشانيين و الداغستانيين ، و كان هذا من أوائل بوادر الإخفاق الذي حدث لشامل بعد ذلك .
ارتكب شامل سلسلة من الأخطاء ، فقد كان رجلاً عسكريًّا قويًّا ، شديد الشكيمة ، صعب المراس ، فكان يقسو أحيانًا على أتباعه و يفرض حركته المريدية على الشيشانيين ، فكان هذا يُوجِد نوعًا من التململ . و ثاني أخطائه الكبيرة أنه كان هناك رجل داغستاني اسمه مراد عدو لشامل في الداغستان ، فأصلح بينهما الشيشانيون و صار نائبًا لشامل في الداغستان، و كانت هناك طائفة من أمراء الداغستان حسدة لمراد ، فأوغروا صدر شامل عليه و أقنعوه أن يولِّي ابنه غازي محمدًا ولاية العهد من بعده ، ففعل شامل و أخذ البيعة من الأمراء الشيشانيين و الداغستانيين ..
و هذا الأمر أغضب الحاج مراد جدًّا ، فاستقل عن شامل و التحق بالروس ، و هذه خيانة كبيرة لكن الحسد والحقد اللذين استوليا على مراد و سوء التصرف من شامل أدى بمراد إلى هذا الذي صنعه ، على أن الروس بعد ذلك غدروا به و سجنوه ثم قتلوه ، و هي نهاية أليمة لرجل دوّخ الروس عشر سنوات ، و كان له عمل جهادي جيد ، لكن أعوذ بالله من الحقد و الحسد .
شامل قسَّم حركته المريدية تقسيمًا بارعًا ، فكان له مائة نائب وألف مرشد ينتشرون في القوقاز الشمالي ، و كان الحاج مراد أحد النواب الكبار و الساعد الأيمن لشامل ، الذي فَقَده في وقت كان في أمسِّ الحاجة إليه .
استمر المد والجزر بين شامل والروس سنوات طويلة ، و قتل منهم جنودًا و قادة كثيرين ، و هذا يعد عملاً رائعًا بالنسبة لقوة الشيشان الصغيرة أمام جحافل الروس ، لكنه الإيمان الذي يصنع العجائب.
و من المعارك التي تستحق الذكر أن الروس أرسلوا ولي عهد القيصر في جيش فيه كبار القادة و ثلاثون ألف جندي ، كل هؤلاء توجهوا إلى بلدة صغيرة ، فغطى الشيشان أبواب بيوتهم و نوافذهم بالطين، فصارت البيوت كتلة واحدة ، و غيروا سقوف بيوتهم إلى سقوف خفيفة رقيقة وغطوها بالتراب لتبدو كأنها هي السقوف الأصلية ، فكان الروس يقفزون فوق السقوف فيقعون في البيوت ليجدوا الشيشانيين المريدين أو المجاهدين في انتظارهم ، فيعملون فيهم ذبحًا و قتلاً ، فرجع الجيش خائبًا خاسرًا بسبب هذه الحيلة الذكية .
لكن شامل لم يكن يستطيع أن يصمد أمام هذه الحملات المتتابعة أكثر مما صمد، فقد بقي في الجهاد قرابة ثلاثين عامًا ؛ لذا كانت نهاية قصة الجهاد العظيمة هذه أن استسلم للروس بعد أن حوصر في خمسمائة من أتباعه فقط من قبل جيشٍ يُقدَّر بأربعين ألف جندي؛ لأنه رأى أن حقن دماء من بقي من أتباعه أولى له بعد أنه خانه عدد من أمراء الداغستان و خانته دولة الشراكسة القبرطاي ، وسلم نفسه للروس سنة 1859م - بعد ممانعة كبيرة من بعض أتباعه- فأخذوه إلى روسيا ، فبقي فيها مكرمًا تسع سنوات من قبل القيصر و القادة.
ثم طلب من القيصر أن يسمح له بالحج، فوافق بعد تردُّد، فرافقته حملة روسية إلى أن خرج من حدودهم، فحج ثم نزل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقر فيها مجاورًا ثلاث سنوات، ثم انتقل إلى جوار ربه سنة 1871م بعد جهاد دام قرابة ثلاثين سنة ، ووقف صخرة شمّاء أمام أطماع القياصرة ونواياهم التوسعية في المنطقة القوقازية والتركستانية .
وكان من أهم أسباب إخفاق الحركة الجهادية المريدية الشاملية خيانات عدد من أمراء الداغستان ، وقسوة شامل على أتباعه في بعض الأحيان وعلى سائر الشيشانيين ، فانفض عنه كثير منهم ، و هناك عامل مهم هو عدم تنسيق الدولة العثمانية معه لضعفها آنذاك .
بعد استسلام شامل لم يستسلم الشيشانيون بل قاموا بثورات متتابعة، ثم إنه لما جاءت الدولة البلشفية انتقمت من الشيشانيين ، فاتهمهم ستالين بمساعدة الألمان فهجّر كثيرًا منهم، ثم عادوا إلى بلادهم سنة 1957م بعد هلاك ستالين.
و اليوم الشيشانيون ما زالوا يكبدون الروس الخسائر الفادحة ، و لم تهنأ روسيا بالشيشان بعد شامل إلى يوم الناس هذا !! لكن الشيشانيين سيهنئون بالنصر قريبًا إن شاء الله .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق