الصفحات

الأحد، 13 أكتوبر 2013

المثل القائل: (الدماهرة صباغين الحمير):

بقلم كامل رحومة
.. والسؤال المركب الذي يحتاج لمحاولة تفكيك؛ هو ما مدى صحة هذا المثل؟.. وهل هذا المثل يستخدم للمجاز أم للحقيقة؟.. وما المقصود بــ (صباغين الحمير)؟.. هل المقصود به أسم الفاعل الجمع لفعل يدل على صباغة الحمير؟.. أم صفة لأهالي المنطقة؟.. ولماذا الحمير بالذات؟.. هل هناك حكمة أم شبهة ما في ذلك؟..
فأما الحكمة: فهل الغرض من هذا الصبغ الزينة أم التمويه بشكل عام (بدون توفر هدف السرقة)؟.
وأما الشبهة: فهل الغرض من ذلك هو التمويه بغرض السرقة وفقط؟..
وهل هذه الشهرة مقتصرة على أهل دمنهور أم أنها تشمل كثيرا من البلدان؟..
وهل هناك احتمال أن تكون صيغة مركبة تدل على اسم علم؟..
فلا شك أن الأمر بجملته بحاجة إلى شرح وتفصيل ومحاولة الإجابة على ما قد يدور في الأذهان من تساؤلات.
أولا: هل هو مثل على سبيل المجاز أم على سبيل الحقيقة؟.. والترجيح المنطقي أن يكون مثلا لا حقيقة. لعدم شهرة المنطقة بهذا الأمر عمليا.. فلا توجد أي آثار لهذا، أو حكايات أو طرف شعبية تشير أو حتى تومئ بهذا. بل على العكس؛ فإن دمنهور على امتداد تاريخها تشتهر بتجارات ومهن أقرب لتجارات ومهن المدن لا الريف، فلم تشتهر بهذا النوع من التجارة في تاريخها.
ثانيا: هل “صباغين الحمير” أسم الفاعل الجمع لفعل يدل على صباغة الحمير فعليا؟.. لو صح ذلك فالسؤال الذي يفرض نفسه إجبارا (ما الهدف من صباغة الحمير؟).. هل التمويه بغرض السرقة؟.. فالإجابة المؤكدة و القطعية على ذلك: لا يمكن أن يكون بهدف السرقة لعدة اعتبارات؛ الأول: لو سرق الحمار بغرض اقتنائه؛ فسيعلم الجميع أنه مسروق، لأن الحمير من الحيوانات التي لا تقتنى إلا لغرض متخصص، فلن يخفى على كل من تعامل معه أنه مصبوغ. كما أن الحمار كثير التنقل. فمن غير الطبيعي أن يخفى على ريفي مثل هذا الأمر. والثاني: لو سرق الحمار بغرض البيع؛ فهل يخفى على متعامل بالحمير كون الحمار مصبوغا أم لا؟ .. اللهم لا.
ثالثا: هل الصباغة بهدف التمويه بشكل عام بدون هدف السرقة؟.
وهنا عدة اعتبارات؛ إما أن يكون بهدف الترفيه في الموالد والأعياد مثل صباغة المهرجين لوجوههم. وصباغة الحمير للترفيه من الأمور المعروفة و المشهورة ؛ ففي بلدان أخرى مثل “قطاع غزة”، في أزمة الحمر الوحشية الشهيرة التي فرضت عليها السلطات ضرائب باهظة، وتداولها وسائل الإعلام العالمية، وأدى ذلك إلى اضطرار إدارة السيرك للجوء إلى الحمير المصبوغة[1]. ورغم شرعية الفعل، إلا أن الدماهرة لم يشتهروا بامتهان هذه المهن؛ فهي مهن تحتاج لأناس رحالة، يسهل انتقالهم من مكان إلى آخر؛ عكس الدماهرة الذين يعشقون الاستقرار بمدينتهم، و يعمل غالبيتهم في التجارة.
و إما أن يكون بهدف التمويه والإخفاء كنوع من المقاومة لمعتد أو محتل. وهو أمر اشتهر قديما في كل ربوع مصر، وحديثا في قطاع غزة، وهو عمل وطني يهدف لسهولة التنقل على من يجهل التعرف على الفروق بين الحمير. وقد أذاعت قناة الحوار التي تصدر من لندن لقاءا مع مدام “نيكول كيل نيلسن” عضو البرلمان الأوربي داخل تقرير عن صباغة الحمير في قطاع غزة، باهتمام شديد أومأ بدهشة المجتمع الأوربي لهذه الظاهرة، وربطها بقضية الأنفاق[2]. والجدير بالذكر أن دمنهور قد جرى على أرضها موقعة استخدم فيها الحمير كوسيلة أساسية من وسائل الحرب، وسميت الحرب باسم الحمير، أو “تجريدة الحمير”، ففي سنة 1803م التقى الجيش العثماني مع المماليك، وهي الحملة التي أرسلها والي مصر العثماني محمد باشا خسرو بقيادة نائبه يوسف بك، وعرفت “بتجريدة الحمير”، فلعل فكرة الصباغة كانت إحدى تجليات هذه الحرب.
رابعا: هل الصباغة بهدف الزينة؟، بمعنى هل من الممكن أن يكون صباغة الحمير عند البعض هدفها الزينة والتجمل لكونها أحد أهم وسائل المواصلات المتاحة في ظرفها الزماني والمكاني؟. و هذا أمر أقر بانتشاره في الشام الكاتب والأديب السوري الكبير “أنيس إبراهيم” في روايته (الصباغ)، التي تدور حول شخصية الصباغ الذي يجيد تزيين الحمير. وهذا الأمر إن صح – وظن الباحث أنه الأقرب للصحة – فتصبح بذا صباغة الحمير مهنة من ضمن المهن مثل الحلاق أو المزين لوسيلة مواصلات متاحة؛ فليس فيها ما يعيب. و لكن في هذه الحالة لن تكون دمنهور إلا سوقا لمن يفعل ذلك من وافديها من البلاد الأخرى؛ و ذلك لعدم اشتهار هذا الأمر فيها على وجه الحقيقة.
خامسا: لماذا الحمير بالذات.. لماذا لا تكون الصباغة للحصان، أو للفرس، أو حتى للبقر، أو للجاموس مثلا؟، وهي حيوانات أغلى ثمنا من الحمار، فتكون السرقة بذلك أجدي.. والإجابة: أن العلة واضحة في سهولة التنقل للحمار، وكذا تخصص الحمار في الحمولات والنقل عن الحيوانات السابقة؛ مما يوضح حجية ما سبق طرحه في موضوع التمويه.
سادسا: هل هذه الشهرة مقتصرة على أهل دمنهور فقط أم أنها تشمل بلدانا أخرى؟.. والإجابة: بالنسبة لمصر: نعم، يوجد مدن وقرى أخرى التصق بهم هذا المثل، مثل قرية “طهواج” بمحافظة الغربية[3]. وبالنسبة للعالم العربي؛ فقطاع غزة مشهور بهذا أيضا، وإلى الآن، وغيرهما الكثير.
سابعا: هل هناك احتمال أن تكون صيغة مركبة تدل على اسم علم؟.. كأن يكون هناك طائفة أو قبيلة استوطنت المنطقة تسمى أو تكنى بصباغين الحمير.. والإجابة: نعم يوجد قبيلة (أولاد بو عزيز) في المغرب العربي يطلقون عليها (صباغين الحمير). ودمنهور من أكثر مدن العالم العربي التي بها عائلات من جذور مغاربية، وإلى الآن، وشارع المغاربة في دمنهور (أو ما يسمى بالمغرب بزنقة الستات) خير شاهد على تجذر العلاقات[4] . ومنطقة “كفر بني هلال” بدمنهور بها من قبيلة “بني هلال” العربية ما له صله بقبائل “بو عزيز” في المغرب العربي.
وعلاقة دمنهور بالمغاربة قد تنبه لها كثير من الكتاب؛ منهم الأديب الكبير “خيري شلبي” في رواية “وكالة عطية” التي تدور أحداثها عن مدينة دمنهور، والمؤرخ “محمد محمود زيتون” في كتابه “إقليم البحيرة”[5]، ود. عبد الوهاب المسيري في كتاب “رحلتي الفكرية”، وكذا كتاب “حوارات”[6].
وبعد.. وعليه.. فإما أن تكون صباغة الحمير على سبيل المجاز لا الحقيقة، أو وسيلة للترفيه واردة على المنطقة مع الغجر الذين يشاركون في الموالد، أو أن تكون أحد وسائل الزينة في زمان ما، أو أن تكون للتمويه والخداع تستخدم كأحد وسائل المقاومة الشعبية، أو أن تكون دلالة على مدلول اسم علم يشير لقبيلة أو طائفة بعينها. لكنه من الراجح الامتناع فيها أن تكون بهدف السرقة.. والله أعلم.


[2] برنامج لقاء في أوربا بتاريخ 9/12/2010م على قناة الحوار.
[3] مما جرى في بر مصر، ص73، 74.
[4] نجم، فرج عبد العزيز، القبيلة والأسلام والدولة في ليبيا، دار الدعوة، القاهرة، 2004م، ص226،227.
[5] إقليم البحيرة، ص286.
[6] وقد أخبرني المفكر الكبير د. “مازن النجار” المهتم بأصول وهجرات القبائل أن دمنهور هي في وسط المسافة بين الشرق والغرب العربي فكانت محطة للاستراحة، وأخبرني بأن العائلات في دمنهور تتشابه مع عائلات في قطاع غزة، ومنهم من له جذور مغاربية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق