الصفحات

الاثنين، 18 فبراير 2013




مثل عيسى عند الله تبارك وتعالى






 محمد إسماعيل عتوك






قال الله تبارك و تعالى :﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ﴾ ( آل عمران: 59-60) .
أولاً- ذكر الله تبارك وتعالى هاتين الآيتين الكريمتين من سورة آل عمران في ضمن الآيات التي أنزلها في شأن النصارى ، لمَّا قدِم على النبي صلى الله عليه و سلم وفدٌ من نصارى نجران ، و ناظروه في المسيح - عليه السلام- و أنزل الله تعالى فيه ما أنزل ، فبين فيه قول الحق الذي اختلفت فيه اليهود ، و النصارى ؛ وذلك قوله تعالى : ﴿ ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾ ( مريم: 34 ) .
أما اليهود فقد ارتضوا الجريمة مركبًا ، فقتلوا أنفسهم ، و قتلوا الحق معهم ، و قالوا في المسيح : إنه ولِدَ - كما يولَد الناس - من ذكر و أنثى ، و إن ميلاده كان على فراش الإثم والفاحشة، مع قولهم لعنهم الله : إنه ساحرٌ و كذاب . و أما النصارى فقد قصُرَت مداركهم عن إدراك قدرة الله تعالى ، فلم تحتمل عقولهم تلك الحقيقة ، و هي أن الله تعالى قدير على كل شيء، يخلق ممَّا يشاء ، وكيف يشاء ما يشاء من يشاء ، فقالوا في المسيح: إنه ابْنُ الله ؛ كما قالت اليهود : عُزَيْرٌ بْنُ الله ، فردَّ الله تعالى عليهم قولهم ، و وبَّخهم على افترائهم و كذبهم بقوله : ﴿ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾    ( التوبة: 30) . و قالوا أيضًا : إن الله هو المسيح، تجسَّد بشرًا في جسد عذراء ، و إنه ثالث ثلاثة ، مع دعوة المسيح - عليه السلام - لهم إلى عبادة الله تعالى وحده ، وتحذيره لهم من الشرك وعواقبه الوخيمة . و إلى ذلك الإشارة بقوله سبحانه :
﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ* لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ( المائدة:72-73 )
و قد نهى الله تعالى النصارى عن الغلوِّ في دينهم ، و أن يقولوا على الله تعالى غير الحق ، وبين في أكثر من آية أن المسيح بن مريم رسول كغيره من الرسل ، خلقه بكلمة منه، وبنفحة من روحه ؛ كما خلق هذا الوجود كله بنور من نوره ، وفيض من فيضه ، فقال سبحانه :
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ﴾ ( النساء:171 )
و أقرب مثل لعيسى عند الله تعالى هو مثل آدم : ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ . و العرب تضرب الأمثال لبيان ما خفيَ معناه ، ودقَّ إيضاحه. ولمَّا خفي سِرُّ ولادة عيسى - عليه السلام - من غير أب ؛ لأنه خالف المعروف ، ضرب الله تعالى له المثل بآدم الذي استقرَّ في الأذهان ، وعُلِمَ أنه خُلِقَ من غير أب ، و لا أمٍّ .
ثانيًا- وقوله تعالى:﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ ﴾ مشبَّهٌ . و قوله : ﴿ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ مشبَّه به . و لا بد من مشابهة معنوية بين من ضُرِبَ له المثل ، و من ضُرِبَ به من وجه واحد ، أو أكثر ، و لا يُشْترَط المشابهة بينهما في جميع الوجوه . و المعنى الذي وقعت فيه المشابهة بين آدم ، و عيسى- عليهما السلام - كونُ كل واحد منهما خلق من غير أب ؛ ولهذا صحَّ أن يكون كل واحد منهما طرفًا في تشبيه واحد أداته الكاف التي دلَّت على أن ما بينهما تشابهٌ في الخَلْق في أحد الوجوه .
فالتشبيه بينهما واقع على أن المسيح خلق من غير أب ؛ كما خلق آدم من غير أب ،  ولم يكن التشبيه واقع بينهما على أن المسيح خلق من تراب، فكان بينهما فرق من هذه الجهة. وإن كان قد شبِّه الأول بالثاني لكونه خلق من تراب ، فلأن خلقهما يرجع في الحقيقة إلى التراب. وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه ابن سعد عن أبي هريرة ، قال : « الناس ولد آدم، وآدمُ من تراب » .
فإذا جاز ادعاء البُنُوة والإلهيَّة في عيسى لكونه مخلوقًا من غير أب ، فجواز ادِّعائها في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل . وإذا كان ذلك باطلاً، فدَعْواه في عيسى أشدُّ بطلانًا، وأظهر فسادًا ، لأنه خلق من غير أب، وآدم خلق من غير أب وأم .
ومن هنا كان الغرض من التشبيه في هذا المثل هو إقامة الدليل والحجة على المحاجين بخلق عيسى عليه السلام من غير أب ، مع اعترافهم بخلق آدم من غير أب وأم، فشبه الغريب بالأغرب ، والبعيد بالأبعد. فإذا اعترف بالأغرب والأبعد، كان الاعتراف بالغريب والبعيد أولى ، و هذا يقتضي حسم النزاع .
و أما قوله تعالى : ﴿ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ فالمراد به : أن نسبة المسيح إلى الله تعالى لا تزيد على نسبة آدم إليه شيئًا، في كونه خلْقًا غيرَ معتاد للمحاجِّين فيه . وإنما ذكر تعالى هذا القيد الذي قيَّد به مثل عيسى ؛ لأنهم جعلوا خلقه العجيب موجبًا للمسيح نسبة خاصة عند الله ، وهي البُنُوَّة والإلهيّة ، فكان لابد من ذكر هذا القيد .
فإن قيل: لماذا خلق الله تعالى عيسى من أنثى بلا ذكر خلافًا للمعتاد ؟ فالجواب عن ذلك: أن الله جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه، وأن يبين عموم هذه القدرة في خلق النوع البشري على الأقسام الممكنة، فخلق آدم من غير ذكر و لا أنثى ، وخلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى ؛ كما قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ ( النساء: 1 ) ، و خلق عيسى– عليه السلام - من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر الخلق من ذكر و أنثى ؛ كما قال :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى ﴾( الحجرات: 13 ) .
ثالثًا- وأما قوله تعالى : ﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ فهو تفصيلٌ لما أُجْمِلَ في المثل، وتفسيرٌ لما أُبْهِمَ فيه، ببيان وَجْهِ الشَّبَه. والضمير في ﴿ خَلَقَهُ﴾ لآدم ، لا لعيسى ؛ إذ قد عَلِمَ الكلُّ أن عيسى لم يُخلَق من تراب، فدل ذلك على أن محل التشبيه هو قوله تعالى : ﴿ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ .
و الخَلْقُ في اللغة أصلُه : التقديرُ المستقيمُ . و يستعمل في إبداع الشيء من غير أصل و لا احتذاء ؛ كقوله تعالى : ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾  ( الأنعام : 1 ) . و يستعمل في إيجاد الشيء من الشيء ؛ كقوله تعالى : ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ﴾ ( الروم: 20 ) ، و قوله تعالى : ﴿ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾           ( النساء: 1 ) .
و لسائل أن يسأل : لمَاذا قال تعالى هنا : ﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ ، و لم يقل :﴿ خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ ، أو من صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ﴾ ؛ كما أخبر تعالى في قوله : ﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ ﴾ ( ص: 71 ) ، و قوله عز وجل:﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴾ ( الحجر: 28 ) ؟
و الجواب عن ذلك : إنما عُدِل عن ذكر الطين الذي هو مجموع الماء و التراب ، و الصلصال الذي هو الطين اليابس ، إلى ذكر مجرَّد التراب ، لمعنى لطيف ؛ و ذلك أنه أدنى العنصرين ، و أكثفهما . فلما كان المقصود محاجَّة من ادَّعى في المسيح - عليه السلام - البُنُوَّةَ والإلهية ، مثَّله بآدم ، ثم أتى بما يصَغِّر من أمر خلقه عند من اعترف بخلقه من غير أب وأم ؛ فلهذا كان الإتيان بلفظ التراب أمسَّ في المعنى من غيره من العناصر ؛ و نحو ذلك قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ﴾ ( الحج: 5 ) . و نظير الآية قوله تعالى : ﴿ وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء ﴾ ( الرعد: 45 ) ، فإنه سبحانه إنما اقتصر على ذكر الماء دون بقية العناصر؛ لأنه أتى بصيغة الاستغراق ، و ليس في العناصر الأربعة ما يعمُّ جميع المخلوقات إلا الماء ؛ ليدخل فيها الحيوان البحري .. و في ذلك من مشاكلة اللفظ للمعنى ما لا يخفى على من يعرف جوهر الكلام ، ويدرك أسرار البيان .
وقوله تعالى:﴿ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ معطوف على قوله : ﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ بـ﴿ ثُمَّ ﴾ ، وهي لترتيب المُخْبَر عنه، أو للتراخي الرُّتَبِي ؛ لأن المعنى: ابتدأ خلقه بشرًا من جنس التراب، ثم قال له:﴿ كُنْ ﴾، فكان إنسانًا بنفخ الروح فيه . فإنَّ تكوينه بقول : ﴿ كُنْ ﴾ أرفع رتبة من قول : ﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ الذي هو أسبق في الوجود . و التَّكوين المشار إليه بـ﴿ كُنْ ﴾ هو تكوينه على الصفة المقصودة بإيجاد الروح فيه ، و نقله من طور البشرية إلى طور الإنسانية . فبهذه الكلمة كان عيسى كلمةً من الله تعالى ، و بهذه الكلمة كان آدمُ أيضًا كلمةً من الله تعالى .
وعلى هذا الذي ذكرناه يكون الترتيب في الآية الكريمة ترتيبًا زمانيًّا ؛ إذ بينَ خلق آدم بشرًا من تراب، وجعله إنسانًا بإيجاد الروح فيه، زمان طويل ؛ ولهذا لم يكن خلقه إبداعيًّا كما كان خلق المسيح عليه السلام.
و مذهب أكثر المفسرين على أن ﴿ ثُمَّ ﴾ لترتيب الخبر . و إلى هذا ذهب البغوي ، فقال في ذلك ما نصُّه: « فإن قيل : ما معنى قوله : ﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، ولا تكوين بعد الخلق ؟ قيل : معناه : خلقه ، ثم أخبركم أني قلت له: كن فكان، من غير ترتيب في الخلق ؛ كما يكون في الولادة، وهو مثل قول الرجل: أعطيتك اليوم درهمًا، ثم أعطيتك أمس درهمًا. أي: ثم أخبرك أني أعطيتك أمس درهمًا » .
وفساد هذا القول ظاهر لمن تأمله أدنى تأمل ؛ وإلا فكيف يقاس كلام الله الذي هو الأعلى في البلاغة والفصاحة بقول مصطنع لا يمتُّ إليهما بأية صلة ؟ كيف يكون قوله تعالى : ﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، مثل قول الرجل : « أعطيتك اليوم درهمًا، ثم أخبرك أني أعطيتك أمس درهمًا » ؟
تأمل الآية جيدًا ، ثم انظر كيف تفكَّك نظمها، ومُسِخَ معناها مَسخًا بهذا التقدير، هكذا : خلقه اليوم من تراب ، ثم أخبره أمس أنه قال له: كن فيكون . فالمعنى على هذا التقدير : ﴿ قَالَ لَهُ ﴾ في الأزل : ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾،     ﴿ ثُمَّ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ .
أما قوله تعالى : ﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾ فهو ظاهر المعنى ، لا يحتاج إلى تأويل، وقد بينا السر في اختيار لفظ التراب دون لفظ الطين ولفظ الصلصال .. و أما قوله تعالى : ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ فظاهر ﴿ كُنْ ﴾ يقتضي أن يكون المكوَّن واقعًا في الحال ، فأمره سبحانه بين الكاف و النون . وظاهر ﴿ فَيَكُونُ ﴾ يقتضي أن يكون المكوَّن واقعًا في المستقبل المتراخي . وفي ذلك ما يسأل عنه : كيف يقول سبحانه للشيء:﴿ كُنْ ﴾ ، ثم لا يكون واقعًا في الحال ؟ و لو كان ما أمر الله تعالى به واقعًا في الحال، لكانت صياغة الآية هكذا : ﴿ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَكان ﴾ ، فكيف يكون هذا ؟ و هل أمام قدرة القادر العظيم حواجز و حوائل ، تحول بين القدرة ، وبين إمضاء ما قدرت على الفور و في الحال ؟
و قد اضطربت أقوال النحاة والمفسرين في الإجابة عن هذا السؤال، و ذهب أكثرهم إلى القول بأن المراد بقوله تعالى : ﴿ فَيَكُونُ ﴾ حكاية حال ماضية، وأن أصل الكلام:( كُنْ، فَكَانَ ). قالوا : وإنما عبَّر بصيغة المضارع المقترن بالفاء دون الماضي، بأن يقال: ( فَكَانَ ) ؛ لأن التعبير بالمضارع فيه تصوير وإحضار للصورة الواقعة كما وقعت. ومن جهة أخرى ، فإن صيغة المضارع في هذا المقام ، تُنْبِىءُ عمَّا كان ، و تُومِىءُ إلى ما يكون بالنسبة لخلق الله تعالى المستمر في المستقبل ؛ كما كان في الماضي .
ولكن هذا الذي قرَّروه - وإن كان يبدو لأول وهلة قولاً صحيحًا - هو خلافُ الظاهر، ويأباه نظم الكلام و معناه . وبيانه : أن قول الله تعالى للشيء ﴿ كُنْ ﴾ لا يقتضي وقوع ذلك الشيء في الحال ؛ إذ قد يكون الأمر موقوتًا بوقت، أو يكون متعلقًا بأسباب لا بدَّ أن يقترن حدوثه بها. وهذه الأسباب لا متعلَّق لها بقدرة الله ؛ و إنما مُتعلَّقُها بالشيء ذاته الذي دعته القدرة إلى الظهور، والذي قضت حكمة الله ألَّا يظهر ؛ إلا بعد أن يستكمل أسبابه المقترنة به، وهذا ما يشير إليه قول الله تبارك وتعالى : ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ ( يس: 82 ). وذلك الشيء المراد معلومٌ قبل إبداعه، وقبل توجيه هذا الخطاب إليه. وبذلك كان مُقدَّرًا مَقضِيًّا ؛ فإن الله سبحانه يقول، ويكتب ممَّا يعلمه ما شاء ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر:« إن الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة » .
وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : « كان الله ، ولم يكن شيء معه، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض » .
و في سنن أبي داود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:« أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب . قال : ما أكتب ؟ قال :  ما هو كائن إلى يوم القيامة » .
إلى أمثال ذلك من النصوص التي تبيِّن أن المخلوق قبل أن يخلَق، كان مَعلومًا، مُخْبَرًا عنه ، مَكتوبًا فيه شيء، باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي، وإن كانت حقيقته التي هي وجوده العيني، ليس ثابتًا في الخارج ؛ بل هو عدمٌ مَحضٌ ، و نَفْيٌ صِرفٌ . و إذا كان كذلك ، كان الخطاب مُوَجَّهًا إلى من توجهت إليه الإرادة ، و تعلقت به القدرة و خُلِق ، ثم كُوِّن ؛ كما قال تعالى : ﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ ( النحل:40 ) . فالذي يُقال له : ﴿ كُنْ ﴾ هو الذي يُرادُ. وهو حين يُرادُ قبل أن يُخلَق، له ثُبوتٌ وتَميُّزٌ في العلم و التقدير . ولولا ذلك، لما تميَّز المُرَادُ المَخلوقُ من غيره .
فثبت بذلك أن الله تعالى ، إذا أراد أن يْكوِّن شيئًا معلومًا لديه، توجَّه سبحانه إلى ذلك الشيء بالخطاب بقوله : ﴿ كُنْ ﴾، ﴿ فَيَكُونُ ﴾. أي: يوجد ذلك المُكَوَّنُ عَقِبَ التكوين ، لا مع ذلك في الزمان ؛ ولهذا أتى سبحانه بصيغة الاستقبال مسبوقة بفاء التعقيب. وكونُ الفاء للتعقيب يُوجِبُ أن يكون الثاني عَقِبَ الأول، لا معه .
بقي أن تعلم أن ( الفاء ) تفيد التعقيبَ ، و التسبيبَ . فلو قيل : ( كن، فكان ) ، لم تدلَّ الفاء إلا على التسبيب ، وأن القول سببٌ للكون . فلما قال عز وجل:﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، دلَّت الفاء مع التسبيب على استعقاب الكون للأمر . و هذا لا يعني استعقابه في الحال ، من غير مهلة ؛ لأن بناء المضارع لا يدل بصيغته على الحال ، إذا لم يوجد معه قرينة تقيده به ، وتقصره عليه ؛ و إلا فإنه يدل على الدوام والاستمرار بلا انقطاع ؛ لأنه موضوع لما هو كائن ، لم ينقطع . وعليه فإن بناء الفعل ( يكون ) لا يدل بصيغته على الحال ؛ و إنما يدل على المستقبل المتراخي . و هذا يعني أن آدم خلق وسُوِّيَ بشرًا من تراب الأرض وطينها ، ثم صاِر إنسانًا عاقلاً بنفخ الروح فيه ؛ وذلك هو المراد بقوله تعالى : ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، بعد ذلك أمرت الملائكة بالسجود له، وهذا ما نصَّت عليه الآية الكريمة :
﴿ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ ( ص: 71- 72 ) . و الآية الكريمة :
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ ( الحجر: 28- 29 ) .
ولو امتثل الناس قول الله تعالى : ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (العنكبوت: 20 ) ، لعرفوا كيف ابتدأ الخلقُ ، ولو عرفوا، ما اختلف اثنان منهم في تفسير هذه الآية الكريمة، وغيرها من الآيات التي لا تنطق بالحق إلا لمن استنطقها من أولي النهى والبصائر ؛ كقول الله تبارك و تعالى : ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ﴾ ( السجدة: 7- 8 ) . و قوله جل وعلا : ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴾ ( المؤمنون: 12- 13 ).. إلى غير ذلك من الآيات التي نمر عليها ، ونحن عنها غافلون .
رابعًا - ثم بين تعالى أن ما أخبر به عباده في أمر عيسى - عليه السلام - هو الحق الذي لا يحوم حوله باطلٌ ، فقال سبحانه : ﴿ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ﴾ . فـ﴿ الْحَقُّ ﴾ على هذا خبر لمبتدأ محذوف. أي: ذلك النبأ في أمر عيسى عليه السلام ﴿ الْحَقُّ ﴾، فحذف ؛ لكونه معلومًا . و﴿ مِن رَّبِّكَ ﴾ حال من الحق.. و قيل : هو مبتدأ، استؤنف بعد انقضاء الكلام، وخبره قوله تعالى:﴿ مِن رَّبِّكَ ﴾. وهذا كما تقول : الحق من الله، والباطل من الشيطان . وقيل غير ذلك .
أما الامتراء فهو الشك الذي يدفع الإنسان إلى المجادلة المَبْنيَّة على الأوهام ، لا على الحقائق ؛ ومنه : المِراء . قال تعالى : ﴿ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ أَحَدًا ﴾ ( الكهف: 22 )، وأَصله في اللغة : الجِدال ، وهو مأخوذ من قول العرب : مَرَيْتُ الناقة والشاة، إذا أردت حلبها ؛ فكأن الشاكَّ يجتذب بشكِّه مراءً كاللبن الذي يجتذب عند الحلب . يقال : قد مارى فلان فلانًا ، إذا جادله ؛ كأنه يستخرج غضبه . و منه قيل : الشكر يمتري المزيد . أي: يجلبه .
و قد أكد سبحانه وتعالى أن ما أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم هو الحق بتأكيدات ثلاثة : أولها: التعريف في لفظ ﴿ الْحَقُّ ﴾. أي: ما أخبرناك به هو الحق الثابت الذي لا يخالطه باطل. وثانيها: كونه من عند الله تعالى . و كل شيء من عنده سبحانه فهو صدق، لا ريب فيه. وثالثها: النهى عن الامتراء والشك في ذلك الحق ؛ لأن من شأن الأمور الثابتة أن يتقبلها العقلاء بإذعان و تسليم وبدون جدل، أو امتراء .
و أما النَّهْيُ عن الامتراء في قوله تعالى : ﴿ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ﴾ فهو موجَّه في ظاهره إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال الرازي: « و هذا بظاهره يقتضي أنه كان شاكًا في صحة ما أنزل عليه ؛ وذلك غير جائز . واختلف الناس في الجواب عنه: فمنهم من قال: الخطاب ، و إن كان ظاهره مع النبي عليه الصلاة والسلام، إلا أنه في المعنى مع الأمة. والثاني: أنه خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام ، والمعنى : فدُمْ على يقينك ، وعلى ما أنت عليه من ترك الامتراء » .
وقال الألوسي : « ولا يضر فيه استحالة وقوع الامتراء منه صلى الله عليه وسلم، بل ذكروا في هذا الأسلوب فائدتين : إحداهما : أنه صلى الله عليه وسلم، إذا سمع مثل هذا الخطاب، تحركت منه الأريحية ، فيزداد في الثبات على اليقين نورًا على نور . والفائدة الثانية : أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم ، فينزع و ينزجر عمَّا يورث الامتراء ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم، مع جلالته التي لا تصل إليها الأماني، إذا خوطب بمثله، فما يظن بغيره ؟ ففي ذلك ثبات له صلى الله عليه وسلم، ولطف بغيره ».
وقيل: بل المقصود من هذا النهي : التعريض بالنصارى الذين قال الله تعالى فينهم : ﴿ ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾ ( مريم: 34 ) . والله تعالى أعلم بمراده ، وما ينطوي عليه كلامه من أسرار، سبحانه و تعالى !









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق