الصفحات

السبت، 29 ديسمبر 2012

الأسلوب القرآني الفريد





الأسلوب القرآني الفريد
 بقلم أ. د . مصطفى مُسلم




و يطلق الأسلوب في اللغة على الطريق الممتد ، و يقال للسطر من النخيل أسلوب ، و الأسلوب الطريق و الوجه و المذهب ، و الأسلوب الفن ، يقال : أخذ فلان في أساليب من القول ، أي أفانين منه .

و في اصطلاح البلاغيين : هو طريقة اختيار الألفاظ و تأليفها للتعبير بها عن المعاني قصد الإيضاح و التأثير، أو هو العبارات اللفظية المنسّقة لأداء المعاني .

فالأسلوب القرآني : هو طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه واختيار ألفاظه[1] ، و لقد تواضع العلماء قديماً و حديثاً على أن للقرآن أسلوباً خاصاً به مغايراً لأساليب العرب في الكتابة و الخطابة و التأليف .

و كان العرب الفصحاء يدركون هذا التمايز في الأسلوب القرآني عن غيره من الأساليب ، روى مسلم في صحيحه [2] (أن أُنَيساً أخا أبي ذر قال لأبي ذر: لقيتُ رجلاً بمكة على دينك ، يزعُمُ أن الله أرسله ، قلتُ : فما يقول الناس ، قال : يقولون شاعر ، كاهن ، ساحر ـ و كان أنيس أحد الشعراء ـ قال أنيس : لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، و الله إنه لصادق و إنهم لكاذبون) .

و لقد أبرز العلماء ميزات للأسلوب القرآني اختص بها من بين سائر الكلام، فمن هذه الميزات :

أولاً : المرونة والمطاوعة في التأويل :

نجد في الأسلوب القرآني مرونة في التأويل ومطاوعة على التقليب بحيث لا يدانيه أسلوب من الأساليب ، وهذه المرونة في التأويل لا تحتمل الآراء المتصادمة أو المتناقضة و إنما مرونة تجعله واسع الدلالة سعة المورد الذي تزدحم عليه الوفود ثم تصدر عنه وهي ريّانة راضية .

فالأسلوب القرآني يشفي قلوب العامة ويكفي الخاصة ، فظاهره القريب يهدي الجماهير و سواد الناس و يملأ فراغ نفوسهم بالترغيب و الترهيب و الجمال الأخاذ في تعابيره و مشاهده ، وباطنه العميق يشبع نهم الفلاسفة إلى مزيد من الحكمة و الفكرة ، يحل العقد الكبرى عندهم من مبدأ الكون و منتهاه و نظامه و دقة صنعه و إبداعه .

و هذه المرونة من أسباب خلود القرآن فإن الأساليب العربية طوال أربعة عشر قرناً قد عراها كثير من التغير والتلوين اللفظي والذهني، ومع ذلك فإن القرآن بقي خالداً بأسلوبه المتميّز و بخصائصه الفريدة يتجدّد مع العصور و ظل رائع الأثر على ترامي الأجيال إلى هذه الأيام و إلى أن يرث الله الأرض و من عليها .

إن الأسلوب القرآني لم يستغلق فهمه على العرب الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم ولم يكن لهم إلا الفطرة السليمة الذوّاقة للجمال  و فهمه وتفاعل معه من جاء بعد ذلك من أهل العلوم و الأفكار ، و فهمه زعماء الفرق المختلفة على ضروب من التأويل ، و قد أثبتت العلوم الحديثة المتطورة كثيراً من حقائقه التي كانت مخفيّة عن السابقين ، و في علم الله ما يكون من بعد .

و المعهود من كلام الناس لا يحتمل كل ذلك و لا بعضه بل كلما كان نصاً في معناه كان أدنى إلى البلاغة ، و كيفما قلبته رأيته وجهاً واحداً و صفةً واحدة لأن الفصاحة لا تكون في الكلام إلا إبانة ، و هذه لا تفصح إلا بالمعنى المتعين ، و هذا المعنى محصور في غرضه الباعث عليه .

لقد فهم علماء السلف رضوان الله عليهم الآيات الكريمة : (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ {3} بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ) [سورة القيامة:3] ، (والأرض بعد ذلك دحاها) [النازعات:30] ، غير ما فهمه العلماء المتأخرين بعد تطور العلوم الطبية و الفلكية و لم يبعد عن الصواب من قال : (الزمن خير مفسر للقرآن) . وما ذاك إلا لأن القرآن كتاب الإنسانية الخالدة الذي لا يستطيع جيل من الأجيال استفراغ ما فيه من كنوز العلوم و الحكم والحقائق .

ثانياً : اعتماد الأسلوب القرآني الطريقة التصويرية في التعبير :

من السمات البارزة للأسلوب القرآني هو اعتماده الطريقة التصويرية للتعبير عن المعاني والأفكار التي يريد إيضاحها ، وساء كانت معاني ذهنية مجردة ، أو قصصاً غابرة ، أو مشاهد ليوم القيامة وغيرها من المجالات .

إن الأسلوب القرآني يحمل تاليه إلى أجواء الصور و كأنه ينظر في تفصيلات الصورة المجسّمة أمامه ، و كأن المشهد يجري أمامه حيّاً متحرّكاً ، و لا شكل أن الفكرة أو المعنى الذي يراد إيضاحه يكون أقرب إلى الفهم و أوضح في الذهن مما لو نقل المعنى مجرّداً من تلك الصور الحية ، و يكفي لبيان هذه الميزة أن نتصور هذه المعاني كلها في صورها التجريدية ثم نقارنها بالصورة التي وضعها فيها القرآن الكريم ، فمثلاً :

         أ‌-  معنى النفور الشديد من دعوة الإيمان : إذا أردنا أن نتصور هذا المعنى مجرّداً في الذهن يمكن أن نقول : إنهم ينفردن أشد النفرة من دعوة الإيمان فيتملّى الذهن وحده معنى النفور في برودة و سكون ، و لنمعن النظر في الأسلوب القرآني و هو يصوّر لنا هذا المعنى في هذه الصور الغريبة ( فما لهم عن التذكرة معرضون* كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة )[المدثر:49ـ 51] .

فتشترك مع الذهن حاسة النظر و ملكة الخيال و انفعال السخرية و شعور الجمال : السخرية من هؤلاء الذين يفرون كما تفر حمر الوحش من الأسد لا لشيء إلا لأنهم يدعون إلى الإيمان ، و الجمال الذي يرتسم في حركة الصورة حينما يتملاّها الخيال في إطار من الطبيعة تشرد فيه الحمر تيبعها قسورة ، فالتعبير هنا يحرك مشاعر القارئ و تنفعل نفسه مع الصورة التي نُقلت إليه وفي ثناياها الاستهزاء بالمعرضين .


لقد شبه الله تعالى فرار الكافرين عن تذكرة النبي صلى الله عليه وسلم كفرار حمر الوحش من الأسد لا لشيء إلا لأنهم يدُعون إلى الإيمان، أنظر أخي إلى جمالية هذا التشبيه الرائع الذي لا يصدر إلا عن إله عالم بخبايا النفس الإنسانية طبعاً هذا التشبيه له عدة مدلولات منها شدة فرارهم من النبي ، و سخرية من سلوكم الغير مبرر .

      ب‌-  و معنى عجز الآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله ! يمكن أن يؤدي في عدة تعبيرات ذهنية مجردّة ، كأن ، يقول إن ما تعبدون من دون الله لأعجز عن خلق أحقر الأشياء فيصل المعنى إلى الذهن مجرَّداً باهتاً .

و لكن التعبير التصويري يؤديه في هذه الصورة : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا و َلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج: 73] .

فيشخص هذا المعنى ويبرز في تلك الصور المتحركة المتعاقبة :

( لن يخلقوا ذُباباً ) درجة ( و لو اجتمعوا له ) و هذه أخرى ، ( و إن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ) و هذه ثالثة ، والاقتران بين الطالب و المطلوب ( ضعف الطالب و المطلوب ) و هي الرابعة .

إن الضعف المزري الذي يثير في النفس السخرية اللاذعة والاحتقار المهين ، ولكن أهذه مبالغة ؟ وهل البلاغة فيها هي الغلو ؟

كلا فهذه حقيقة واقعة بسيطة . إن هؤلاء الآلهة ( لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له ) .

و الذباب صغير حقير و لكن الإعجاز في خلقه هو الإعجاز في خلق الجمل و الفيل ، إنها معجزة الحياة يستوي فيها الجسيم و الهزيل .

فليست المعجزات هي خلق الهائل من الأحياء إنما هي خلق الخلية الحية كالهباء . و الصورة الفنية هنا هي الربط بين قدسية الآلهة المزعومة حيث وُضعت في أذهان معتنقيها في أقدس صورة و الربط بينها و بين مخلوق حقير . و لم يكتف بهذا الربط بل حشد لهذا المخلوق جموعأً ضخمة فعجزوا عن خلقه ، ثم في الصورة التي تنطبع في الذهن من طيرانهم خلف الذباب لاستنقاذ ما يسلبه ، وفشلهم مع اتباعهم عن هذا الاستنقاذ .

      ت‌-  ومعنى انتهاء الكون ثم محاسبة الناس على أعمالهم و دخول المحسنين الجنة والمسيئين النار ، و لذة أهل النعيم والترحيب بهم وشقاء أهل العذاب و تبكيتهم : كل ذلك يمكن أن يفهمها الإنسان مجردة و هي حقائق لم تقع بعد . فالتعبير عنها بكلمات مجردة تنقل الفكرة إلى الذهن باهتة .

و لكن التعبير القرآني وضع لنا هذه الحقائق في إطار زاهٍ حافل بالحركة و كأن المرء ـ حين يقرؤها ـ يعيش أجوائها، وتنقبض النفس لمشاهدة الأهوال و تخضع لقوة الجبار و تتشوّق لمرافقة السعداء .

فهذا مشهد يوم القيامة قال تعالى : (وَ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ السَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ و َتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {67} وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ {68} وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا و َوُضِعَ الْكِتَابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ و َالشُّهَدَاء و َقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَ هُمْ لَا يُظْلَمُونَ {69} وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَه ُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ {70} وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ و َيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَ لَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ {71} قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ {72} وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَ قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ {73} و َقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ {74} وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {75}‏[سورة الزمر:66ـ75] .

إنه مشهد رائع حافل ، يبدأ متحركاً ثم يسير و ئيداً حتى تهدأ كل حركة و يسكن كل شيء و يخيّم على الساحة جلال الصمت و رهبة الخشوع .

ويبدأ المشهد بالأرض جميعاً في قبضة ذي الجلال ، و ها هي السماوات جميعاً مطوّيات بيمينه .

إنها صورة يرتجف لها الحسّ و يعجز عن تصويرها الخيال ، ثم ها هي ذي الصيحة الأولى تنبعث ، فيصعق من يكون باقياً على ظهرها من الأحياء . و لا نعلم كم مضى من الوقت حتى انبعثت الصيحة الثانية (فإذا هم قيام ينظرون) . و يغير ضجيج وعجيج ، تجتمع الخلائق . فعرض ربك هنا تحف به الملائكة فما يليق الصخب في مثل هذا المقام .

(أشرقت الأرض بنور ربها) أرض الساحة التي يتم فيها الاستعراض ، أشرقت بالنور الهادئ (بنور ربها) فإذا هي تكاد تشفّ من الإشراق ، ( و َجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَدَاء ) ، و طوي كل خصام و جدال في هذا المشهد خاصة ( و قضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون * و وفيت كل نفس ما عملت و هم لا يظلمون * و وفيت كل نفس ما عملت و هو أعلم بما يفعلون ) .

فلا حاجة إلى كلمة واحدة تقال و لا إلى صوت واحد يرتفع .
و هكذا تجمل هنا عملية الحساب و الجزاء ، لأن المقام مقام روعة و جلال .

و إذا تم الحساب و عرف المصير وجّه كل فريق إلى مأواه (و سيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً) حتى إذا وصلوا إليها بعيداً هناك استقبلتهم حزنتها بتسجيل استحقاقهم لها و تذكيرهم بما جاء بهم إليها (وَ قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَ يُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ

هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) فالموقف موقف إذعان و اعتراف وتسليم ( قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى) .

و كذلك وجه الذين اتقوا ربهم إلى الجنة حتى إذا وصلوا هناك استقبلهم خزنتها بالسلام و الثناء ( سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) و ارتفعت أصوات أهل الجنة بالحمد و الدعاء : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ و َأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) .

ثم يختم الشريط المصور بما يلقي في النفس روعة و رهبة و جلالاً تتسق مع المشهد كله و تختمه خير ختام ( و َتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .

ثالثاً : طريقة الأسلوب القرآني المتميزة في المُحاجة و الاستدلال :

لقد أورد القرآن الكريم من أفانين القول في سياق محاجّة الكفار وتصحيح زيغ المحرّفين و الوعد لأوليائه و الوعيد لأعدائه ما يخرج عن طوق البشر الإحاطة بمثل هذه الأساليب في أوقات متقاربة أو متباعدة ، فالنفس الإنسانية لا تستطيع التحول في لحظات عابرة في جميع الاتجاهات بل تتأثر بحالة معينة .

و لا تستطيع التحول عنها إلى اتجاه معاكس إلا ضمن بيئة ملائمة .

أما الأسلوب القرآني فيلاحظ فيه الانتقال في شتى الاتجاهات في لحظات متقاربة متتالية ، وأحياناً تكون مترادفة . فمن مشرّع حكيم يقر الدساتير والأنظمة في تؤدة وأناة ورويّة ، إلى وعيد وتهديد لمن يرغب عن التشريعات ويريه سوء المصير ، إلى غافر يقبل توبة العبد إذا تاب وأناب ، إلى معلم يعلم كيفية الالتجاء إلى الخالق سبحانه وتعالى بأدعية لا تخطر على البال، إلى مقر لحقائق الكون الكبرى ، ومن مرئيات الناس و مألوفاتهم و التدرج بهم إلى أسرار سنن الله في الكون لنتأمل قوله تعالى : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَ اللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَ اللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {67} لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {68} فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَ اتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الأنفال:67 ـ 69] .

هاتان الآيتان نزلتا بعد إطلاق أسرى بدر و قبول الفداء منهم . و قد بدأتا بالتخطئة و الاستنكار لهذه الفعلة ، ثم لم تلبث أن ختمتا بإقرارها و تطييب النفوس بها بل صارت هذه السابقة التي وقع التأنيب عليها هي القاعدة لما جاء بعدها .

فهل الحال النفسية التي يصدر عنها أول هذا الكلام ـ لو كان عن النفس مصدره ـ يمكن أن يصدر عنها آخره و لمّا تمض بينهما فترة تفصل بين زمجرة الغضب و بين ابتسامة الرضى و الاستحسان ؟ إن هذين الخاطرين لو فرض صدورهما عن النفس متعاقبين لكان الثاني منهما إضراباً عن الأول ماحياً له ولرجع آخر الفكر وفقاً لما جرى به العمل .

فأي داعٍ دعا إلى تصوير ذلك الخاطر المحمود وتسجيله على ما فيه من تقريع علني و تغيص لهذه الطعمة التي يراد جعلها حلالاً طيبة ؟

إن الذي يفهمه علماء النفس من قراءة هذا النص أن ها هنا شخصيتين منفصلتين و ان هذا صوت سيد يقول لعبده : لقد أخطأت و لكني عفوت عنك و أذنت لك [3] .

و من الأمور المميزة للأسلوب القرآني طريقة استدلاله بأشياء و أحداث مثيرة صغيرة في ظاهرها و هي ذات حقيقة ضخمة تتناسب و الموضوع الضخم الذي يستدل بها عليه . تأمل في قوله تعالى : (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ {57} أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ {58} أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ {59} نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ مَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ {60} عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَ نُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ {61} وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ {62} أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ {63} أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ {64} لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ {65} إِنَّا لَمُغْرَمُونَ {66} بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ {67} أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ {68} أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ {69} لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ {70} أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ {71} أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ {72} نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ{73} فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة: 57ـ74] .

و مثل هذه الإشارات ترد كثيراً في القرآن الكريم لتجعل من مألوفات البشر و حوادثهم المكرورة قضايا كونية كبرى يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود ، يقرر بها عقيدة ضخمة شاملة و تصوراً كاملاً لهذا الوجود كما يجعل منها منهجاً للنظر والتفكير و حياة للأرواح و القلوب و يقظة في المشاعر و الحواس .

إن هذه الظواهر هي حقائق ضخمة و لكن الإلف و العادة بلّدت حواس الناس فلا تشعر بدلالاتها .

إن الأنفس من صنع الله، وما حول الناس من ظواهر الكون من إبداع قدرته ، و المعجزة كامنة في كل ما تبدعه يده ، و هذا القرآن قرآنه . و من ثمّ يأخذهم إلى هذه المعجزات الكامنة فيهم و المبثوثة في الكون من حولهم ، يأخذهم إلى هذه الخوارق المألوفة لديهم التي يرونها و لا يحسون حقيقة الإعجاز فيها لأنهم غافلون عن مواضيع الإعجاز فيها .

يمسهم الأسلوب القرآني بهذه اللفتات الاستفهامية المتتالية ليفتح عيونهم على السر الهائل المكنون ، سرّ القدرة العظيمة و سرّ الوحدانية المفردة ليثير في فطرتهم الإقرار الأول في عالم الذر .. (ألست بربكم ) [الأعراف : 172] .

إن طريقة القرآن الكريم في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره إنها المصدر الذي صدر منه الكون، فطريقة بنائه هي طريق بناء الكون من أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال وأضخم الخلائق .

و القرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية و أوسع تصور كوني، المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان : النسل ، الزرع ، الماء ، النار ، الموت .

و أي إنسان علي ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه ؟ أي إنسان مهما كان بدائياً لم يشهد نشأة جنينية و نشأ حياة نباتية ومسقط ماء وموقد نار و لحظة وفاة ؟

إن انفراد الأسلوب القرآني بهذه الميزات لهو دليل مصدره الإلهي فما الأسلوب إلا صورة فكرية عن صاحبه .

فالحذّاق من الكتّاب عندما يقرأون قطعة نثرية أو قصيدة شعرية لكاتب ما يدركون بملكتهم الأدبيّة و حسّهم المرهف الحالة النفسية التي كان عليها الكاتب عند الكتابة بل يذهبون إلى أكثر من هذا ، إلى ما وراء السطور فيستنبطون كثيراً من أوصافه النفسية و الخلقية فيحكمون عليه أنه عاطفي المزاج أو قوي النفس أو صاحب عقل و دراية أو حقود أو منافق أو غير ذلك من الأمور الخاصة .

و لا شكل أن هذا إدراك شيء أعظم و أرقى من العلوم الظاهرة والتي تقف بأصحابها عند جودة الأسلوب و متانته و قوة السبك و رصانته ، فإذا كان الأدباء و أهل البلاغة يدركون هذه الحقائق بعد العلوم الاكتسابية التي تعلّموها و مارسوها فإن العربي الذوّاقة مواطن الجمال في الكلام، لا شك أنه كان من أعرف الناس بما وراء الألفاظ والكلمات و كان يدرك بنظرته السليمة وسليقته الصافية حقيقة الذات التي وراء الأسلوب .

إن العربي الذواقة لجمال القول أدرك أسلوب القرآن المتميز وعرف أن سبب هذا التميز هو أن القرآن من مصدر غير مصادر كلام البشر ومن ذات غير مخلوقة لذا تميز الأسلوب عن أساليب المخلوق، فما دامت قوة الخلق والإبداع من العدم ليس في مقدور البشر بل وكل المخلوقات فلن يستطيع أحد منهم إيجاد أسلوب يشبه أو يقارب الأسلوب القرآني .

و لعل هذا الإدراك هو الذي منع العقلاء وأهل الفصاحة واللسن من  سائر العرب من محاكاة القرآن . و من تعرّض لمحاكاته صار أضحوكة بين الناس لأنه حاول أن يخرج عن طبيعته و ذاته و نفسيته إلى محاكاة الذات الإلهية. أورد الإمام ابن كثير في تفسيره قال : ( .. سألت الصدّيق بعض أصحاب مسيلمة الكذاب بعد أن رجعوا إلى دين الله أن يقرأوا عليه شيئاً من قرآن مسيلمة .

فسألوه أن يعفيهم من ذلك فأبى عليهم إلا أن يقرأوا عليهم شيئاً منه ليسمعه من لم يسمعه من الناس فيعرفوا فضل ما هم عليه من الهدى و العلم ، فقرؤوا عليه قوله : ( و الطاحنات طحناً و العاجنات عجناً و الخابزات خبزاً و اللاقمات لقماً إهالة و سمناً ، إن قريشاً قوم يعتدون ) ، و قوله : ( يا ضفدع بنت ضفدعين ، نقي ما تنقين ، نصفك في الماء و نصفك في الطين ، لا الماء تكدرين و لا الشارب تمنعين ) إلى غير ذلك من هذياناته ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : و يحكم أين كان يذهب بعقولكم ؟ و الله إن هذا لم يخرج من إل ـ أي إله ) [4]

لقد أدرك الصدّيق رضي الله عنه بحسه المرهف و ذوقه السليم النفسية التي خرجت منها العبارات و التراكيب و طريقة صياغتها و الصبغة الخاصة بنفسية قائلها ، إنها طبيعة بشرية و ليست صادرة عن الخالق سبحانه و تعالى .

فإن الفرق بين القرآن العظيم و كلام البشر كالفرق بين الخالق سبحانه و تعالى و بين المخلوق .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق