الصفحات

الخميس، 15 نوفمبر 2012

القرآن الكريم لا يُقاس بغيره









الكاتب بديع الزمان سعيد النورسي








إن القرآن الكريم لا يمكن أن يقاس بأي كلام آخر، إذ إن منابع علو طبقة الكلام وقوته وحسنه وجماله أربعة :

الأول : المتكلم . الثاني : المخاطب . الثالث : المقصد . الرابع : المقام . وليس المقام وحده كما ضل فيه الأدباء .

فلابد من أن تنظر في الكلام إلى : مَن قال ؟ ولمن قال ؟ ولِمَ قال ؟ وفيمَ قال ؟ فلا تقف عند الكلام وحده وتنظر إليه .

ولما كان الكلام يستمد قوته وجماله من هذه المنابع الأربعة ، فبإنعام النظر في منابع القرآن تُدرك درجة بلاغته وحسنها وسموها وعلوها .

نعم إن الكلام يستمد القوة من المتكلم ، فإذا كان الكلام أمراً ونهياً يتضمن إرادة المتكلم وقدرته حسب درجته . وعند ذاك يكون الكلام مؤثراً نافذاً يسري سريان الكهرباء من دون إعاقة أو مقاومة . وتتضاعف قوة الكلام وعلوه حسب تلك النسبة .
فمثلاً: (يا أرضُ ابلعي ماءكِ ويا سماءُ أقلعي) (هود:44) و (فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين) . (فصلت:11)

فانظر إلى قوة وعلو هذه الأوامر الحقيقية النافذة التي تتضمن القوة والإرادة . ثم انظر إلى كلام إنسان وأمره الجمادات الشبيه بهذيان المحموم : اسكني يا ارض وانشقي يا سماء وقومي أيتُها القيامة !

فهل يمكن مقايسة هذا الكلام مع الأمرين النافذين السابقين ؟ ثم أين الأوامر الناشئة من فضول الإنسان والنابعة من رغباته والمتولدة من أمانيه .. وأين الأوامر الصادرة ممن هو متصف بالآمرية الحقة يأمر وهو مهيمن على عمله ؟!

نعم! أين أمر أمير عظيم مطاع نافذ الكلام يأمر جنوده بـ : (تقدّم) وأين هذا الأمر إذا صدر من جندي بسيط لا يُبالى به ؟ فهذان الأمران وإن كانا صورة واحدة ، إلاّ أن بينهما معنىً بوناً شاسعاً،كما بين القائد العام والجندي .

ومثلاً : (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) (يس:82) و (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) (البقرة:34) انظر إلى قوة وعلو الأمرين في هاتين الآيتين . ثم انظر إلى كلام البشر من قبيل الأمر. ألا تكون النسبة بينهما كضوء اليراع أمام نور الشمس الساطعة ؟

نعم ! أين تصوير عامل يمارس عمله ، وبيان صانع وهو يصنع ، وكلام مُحسن في آن إحسانه، كلٌ يصور أفاعيله ، ويطابق فعله قوله . أي يقول : انظروا فقد فعلت كذا لكذا، افعل هذا لذاك، وهذا يكون كذا وذاك كذا… وهكذا يبين فعلَه للعين والأذن معاً ، فمثلاً :

 (أفلم ينظروا إلى السماءِ فوقَهم كيف بنيناها وزيّناها ومالَها من فروج * والأرضَ مددناها وألقينا فيها رواسيَ وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج * تَبصرةً وذكرى لكل عبدٍ منيب * ونزّلنا من السماء ماءً مباركاً فأنبتنا به جناتٍ وحبّ الحصيد * والنخلَ باسقاتٍ لها طلعٌ نـضيد * رزقاً للعباد وأحيينا به بلدةً ميتاً كذلك الخروج) (ق:6-11) .

 أين هذا التصوير الذي يتلألأ كالنجم في برج هذه السورة في سماء القرآن؛ كأنه ثمار الجنة ، وأين كلام الناس على وجه الفضول عن أفعال لا تمسهم إلاّ قليلاً ؟ فلا تكون نسبته إليه إلاّ كنسبة صورة الزهرة إلى الزهرة الحقيقية التي تنبض بالحياة .

إن بيان معنى هذه الآيات من قوله تعالى (أفلم ينظروا)  إلى (كذلك الخروج) على وجه أفضل يتطلب منا وقتاً طويلاً فنكتفي بالإشارة إليه ونمضي إلى شأننا :

إن القرآن يبسط مقدّمات ليرغم الكفار على قبول الحشر ، لإنكارهم إياه في مستهل السورة . فيقول : أفلا تنظرون إلى السماء فوقكم كيف بنيناها ، بناءً مهيباً منتظماً .. أوَلا ترون كيف زيّناها بالنجوم وبالشمس والقمر دون نقص أو فطور ..؟ أوَلا ترون كيف بسطنا الأرض وفرشناها لكم، وثبتنا فيها الجبال لتقيها من مّد البحار واستيلائها ؟ أوَلا ترون أنا خلقنا فيها أزواجاً جميلة متنوعة من كل جنس من الخضراوات والنباتات ، وزيّنا بها أرجاء الأرض كافة ؟ أوَلا ترون كيف أُرسلُ ماءً مباركاً من السماء فاُنبتُ به البساتين والزرع والثمرات اللذيذة من تمر ونحوه واجعله رزقاً لعبادي ؟ أوَلا يرون أنني أُحيي الأرض الميتة، بذلك الماء . وآتي ألوفاً من الحشر الدنيوي . فكما اُخرج بقدرتي هذه النباتات من هذه الأرض الميتة ، كذلك خروجكم يوم الحشر ؛ إذ تموت الأرض في القيامة وتبعثون انتم أحياء .

فأين ما أظهرته الآية في إثبات الحشر من جزالة البيان - التي ما أشرنا إلا إلى واحدة من الألف منها - وأين الكلمات التي يسردها الناس لدعوى من الدعاوى ؟

إن نسبة سائر الكلام إلى آيات القرآن ، كنسبة صور النجوم المتناهية في الصغر التي تتراءى في المرايا ، إلى النجوم نفسها .

نعم ! أين كلمات القرآن التي كل منها تصوّر الحقائق الثابتة وتبينها ، وأين المعاني التي يرسمها البشر بكلماته على مرايا صغيرة لفكره ومشاعره ؟
أين الكلمات الحية حياة الملائكة الأطهار .. كلمات القرآن الذي يفيض بأنوار الهداية وهو كلام خالق الشمس والقمر .. وأين كلمات البشر اللاذعة الخادعة بدقائقها الساحرة بنفثاتها التي تثير أهواء النفس .
نعم ! كم هي النسبة بين الحشرات السامة والملائكة الأطهار والروحانيين المنوّرين؟ إنها هي النسبة نفسها بين كلمات البشر وكلمات القرآن الكريم . وقد أثبتتْ هذه الحقيقة مع الكلمة الخامسة والعشرين جميع الكلمات الأربع والعشرين السابقة . فدعوانا هذه ليست ادعاء وإنما هي نتيجة لبرهان سبقها .

نعم ! أين ألفاظ القرآن التي كل منها صدف درر الهداية ومنبع حقائق الإيمان ، ومعدن أسس الإسلام ، والتي تتنـزل من عرش الرحمن وتتوجه من فوق الكون ومن خارجه إلى الإنسان ، فأين هذا الخطاب الأزلي المتضمن للعلم والقدرة والإرادة ، من ألفاظ الإنسان الواهية المليئة بالأهواء ؟

نعم ! إن القرآن يمثل شجرة طوبى طيبة نشرت أغصانها في جميع أرجاء العالم الإسلامي ، فأورقت جميع معنوياته وشعائره وكمالاته ودساتيره وأحكامه ، وأبرزت أولياءه وأصفياءه كزهور نضرة جميلة تستمد حسنها ونداوتها من ماء حياة تلك الشجرة ، وأثمرت جميعَ الكمالات والحقائق الكونية والإلهية حتى غدت كل نواة من نوى ثمارها دستور عمل ومنهج حياة .. نعم أين هذه الحقائق المتسلسلة التي يطالعنا بها القرآن بمثابة شجرة مثمرة وارفة الظلال وأين منها كلام البشر المعهود . أين الثرى من الثريا ؟

إن القرآن الحكيم ينشر جميع حقائقه في سوق الكون ويعرضها على الملأ أجمعين منذ أكثر من ألف وثلاث مائة سنة وإن كل فرد وكل أمة وكل بلد قد أخذ من جواهره ومن حقائقه، وما زال يأخذ .. على الرغم من هذا فلم تخل تلك الألفة ، ولا تلك الوفرة ، ولا مرور الزمان ، ولا التحولات الهائلة ، بحقائقه القيمة ولا بأسلوبه الجميل ، ولم تشيّبه ولم تتمكن من أن تفقِدهُ طراوته أو تسقط من  قيمته أو تطفئ سنا جماله و حسنه .

إن هذه الحالة وحدها إعجاز أي إعجاز .

والآن إذا ما قام أحدٌ ونظم قسماً من الحقائق التي أتى بها القرآن حسب أهوائه وتصرفاته الصبيانية، ثم أراد أن يوازن بين كلامه وكلام القرآن بغية الاعتراض على بعض آياته وقال : لقد قلت كلاماً شبيهاً بالقرآن . فلا شك أن كلامه هذا يحمل من السخف والحماقة ما يشبه هذا المثال :

إن بنّاءً شيد قصراً فخماً ، أحجاره من جواهر مختلفة ، ووضع تلك الأحجار في أوضاع وزينها بزينة ونقوش موزونة تتعلق بجميع نقوش القصر الرفيعة ، ثم دخل ذلك القصر من يقصر فهمه عن تلك النقوش البديعة ، ويجهل قيمة جواهره وزينته . وبدأ يبدّل نقوش الأحجار واوضاعها ، ويجعلها في نظام حسب أهوائه حتى غدا بيتاً اعتيادياً. ثم جمّله بما يعجب الصبيان من خرز تافه ، ثم بدأ يقول : انظروا إن لي من المهارة في فن البناء ما يفوق مهارة باني ذلك القصر الفخم ، ولي ثروة أكثر من بنّاء القصر! فانظروا إلى جواهري الثمينة !

لا شك أن كلامه هذا هذيان بل هذيان مجنون ليس إلا .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق