Translate

الأربعاء، 26 ديسمبر 2012

و أدهم قد جُبت جِلبابه كما اجتابت الكاعبُ الخيعلا




جملة وجوه إعجاز القرآن



نقلا عن كتاب إعجاز القرآن للإمام الباقلاني


ذكر أصحابنا وغيرهم في ذلك ثلاثة أوجه من الإعجاز[1] :

أحدها : يتضمن الإخبار عن الغيوب ، و ذلك مما لا يقدر عليه البشر ولا سبيل لهم إليه . فمن ذلك ما وعد الله تعالى نبيه عليه السلام ، أنه سيظهر دينه على الأديان ، يقوله عز وجل : ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) [سورة التوبة] .

وكان أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، إذا أغزى جيوشه عرَّفهم ما وعدهم الله ، من إظهار دينه ، ليثقوا بالنصر ويستيقنوا بالنجاح .

و كان عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، يفعل كذلك في أيامه ، حتى وقف أصحاب جيوشه عليه ، فكان سعد بن أبي وقاص ، رحمه الله ، وغيره من أمراء الجيوش ، من جهته، يذكر ذلك لأصحابه ، وبحرِّصهم به ، ويوثق لهم ، و كانوا يُلقَّون الظفر في متوجَّهاتهم ، حتى فُتح في أيامه مرو الشاهجان ، و مرو الرُّوذ ، ومنعهم من العبور على جيحون ، و كذلك فُتح في أيامه فارس كسرى ، و كل ما كان يملكه ملوك فارس ، بين البحرين من الفرات إلى جيحون ، و أزال ملك الفرس ، فلم يعد إلى اليوم ولا يعود أبداً ، إن شاء الله تعالى ، ثم إلى حدود إرمينية ، و إلى باب الأبواب . وفتح أيضاً ناحية الشام ، والأردن وفلسطين، وفسطاط مصر ، و أزال ملك قيصر عنها، وذلك من الفرات إلى بحر مصر، وهو ملك قيصر. وغزت الخيول في أيامه على عمّورية ، فأخذ الضواحي كلها ، ولم يبق منها إلا ما حجز دونه بحر، أو حال عنه جبل منيع ، أو أرض خشنة ، أو بادية غير مسلوكة .

و قال الله عز و جل : (قل للّذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم و بئس المهاد) [آل عمران] ، فصدق فيه .

و قال في أهل بدر: ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ) [الأنفال: 7] ،و وفى لهم بما وعد .

و جميع الآيات التي يتضمنها القرآن ، من الإخبار عن الغيوب ، يكثر جداً ، و إنما أردنا أن ننبه بالبعض على الكل .

و الوجه الثاني : أنه كان معلوماً من حال النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان أمياً لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ .

و كذلك كان معروفاً من حاله أنه لم يكن يعرف شيئاً من كتب المتقدمين ، و أقاصيصهم و أنبائهم و سيرهم . ثم أتى بجمل ما وقع و حدث ، من عظيمات الأمور و مهمات السير ، من حين خلق الله آدم عليه السلام ، إلى حين مبعثه ، فذكر في الكتاب ، الذي جاء به معجزة له : قصة آدم عليه السلام ، و ابتداء خلقه ، و ما صار أمره إليه من الخروج من الجنة ، ثم جملاً من أمر ولده و أحواله وتوبته ، ثم ذكر قصة نوح عليه السلام ، و ما كان بينه و بين قومه ، و ما انتهى إليه أمرهم ، وكذلك أمر إبراهيم عليه السلام ، إلى ذكر سائر الأنبياء المذكورين في القرآن ، والملوك والفراعنة الذين كانوا في أيام الأنبياء ، صلوات الله عليهم .

ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه ، إلا عن تعلم ، وإذ كان معروفاً أنه لم يكن ملابساً لأهل الآثار و حملة الأخبار ، ولا متردداً إلى التعلم منهم ، و لا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه ، علم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي . و لذلك قال عزَّ وجل ( و ما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لأرتاب المبطلون) [العنكبوت] ، و قال : (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست) [الأنعام] .

و قد بينا أن من كان يختلف إلى تعلم علم ، و يشتغل بملابسة أهل صنعة ، لم يخف على الناس أمره ، ولم يشتبه عندهم مذهبه ، و قد كان يعرف فيهم من يحسن هذا العلم ، و إن كان نادراً ، و كذلك كان يعرف من يختلف إليه للتَّعلُم ، وليس يخفى في العرف عالم كل صنعة و متعلمها ، فلو كان منهم لم يخف أمره .

و الوجه الثالث : أنه بديع النظم ، عجيب التأليف ، متناهٍٍ في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه . و الذي أطلقه العلماء هو على هذه الجملة ، و نحن نفصل ذلك بعض التفصيل ونكشف الجملة التي أطلقوا.

فالذي يشتمل عليه بديع نظمه ، المتضمن للإعجاز وجوده :

1.    منها ما يرجع إلى الجملة ،و ذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه ، و تباين مذاهبه ، خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم ، و مباين للمألوف من ترتيب خطابهم ، و له أسلوب يختص به ، و يتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد . و ذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم ، تنقسم إلى أعاريض الشعر ، على اختلاف أنواعه ، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى ، ثم على أصناف الكلام المعدل المسجع ، ثم إلى معدل موزون غير مسجع ، ثم إلى ما يرسل إرسالاً، فتطلب فيه الإصابة و الإفادة ، و إفهام المعاني المعترضة على وجه بديع، وترتيب لطيف ، وإن لم يكن معتدلاً في وزنه ، و ذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل [فيه] ، ولا يتصنع له . و قد  علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه ، و مباين لهذه الطرق .

ويبقى علينا أن نبين أنه ليس من السجع ، ولا فيه شيء منه ، وكذلك ليس من قبيل الشعر ، لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجع ، ومنهم من يدعي فيه شعراً كبيراً ، والكلام عليهم يذكر بعد هذا الموضع .

فهذا إذا تأمله المتأمل تبين ـ بخروج عن أصناف كلامهم ، وأساليب خطابهم ـ أنه خارج عن العادة ، و أنه معجز ، وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن ، و تميٌّز حاصل في جميعه .

2.    و منها أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة ، و الغرابة ، و التصرف البديع ، و المعاني اللطيفة ، و الفوائد الغزيرة ، و الحكم الكثيرة ، و التناسب في البلاغة ، و التشابه في البراعة ، على هذا الطول ، و على هذا القدر . و إنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة و ألفاظ قليلة ، وإلى شاعرهم قصائد محصورة ، يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال ، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف ، ويشملها ما نبديه من التعمل و التكلف والتجوز و التعسف . و قد حصل القرآن على كثرته وطوله متناسباً في الفصاحة على ما وصفه الله تعالى به ، ففال عزَّ من قائل : ( الله نزَّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ) [الزمر:23] ، و قوله : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً )[النساء:82] . فأخبر سبحانه أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت ، وبأن عليه الاختلال. وهذا المعنى هو غير المعنى الأول الذي بدأنا بذكره، فتأمله تعرف الفصل .

3.    وفي ذلك معنى ثالث : وهو أن عجيب نظمه ، وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين ، على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها ، من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج ، وحكم وأحكام ، وأعذار وإنذار ، و وعد ووعيد ، و تبشير و تخويف ، و أوصاف ، و تعليم أخلاق كريمة ، و شِيم رفيعة ، و سير مأثورة ، و غير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها . و نجد كلام البليغ الكامل و الشاعر المفلق ، و الخطيب المصقع ، يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور .
فمن الشعراء من يجوّد في المدح دون الهجو .

و منهم من يبرز في الهجو دون المدح .

و منهم من يسبق في التقريظ دون التأبين .

و منهم من يجود في التأبين دون التقريظ .

و منهم من يغرب في وصف الإبل أو الخيل ، أو سير الليل ، أو وصف الحرب ، أو وصف الروض ، أو وصف الخمر ، أو الغل ، أو غير ذلك مما يشتمل عليه الشعر و يتناوله الكلام ، و لذلك ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب ، و النابغة إذا رهب ، وبزهير إذا رغب . و مثل ذلك يختلف في الخطب و الرسائل و سائر أجناس الكلام .

و متى تأملت شعر الشاعر البليغ ، رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها ، فيأتي بالغاية في البراعة في معنى ، فإذا جاء إلى غيره قصر عنه ، و وقف دونه ، و بان الاختلاف على شعره ، و لذلك ضرب المثل بالذين سميتهم ، لأنه لا خلاف في تقدّمهم في صنعة الشعر ، و لا شك في تبريزهم في مذهب النظم . فإذا كان الاختلال يتأتى في شعرهم ، لاختلاف ما يتصرفون فيه ، استغنينا عن ذكر من هو دونهم ، وكذلك يستغنى به عن تفصيل نحو هذا في الخطب و الرسائل و نحوها . ثم نجد من الشعراء من يجوّد في الرجز ، و لا يمكنه نظم القصيد أصلاً ، و منهم من ينظم القصيد ، ولكن يقصر[ تقصيراً عجيباً ، و يقع ذلك من رجزه موقعاً بعيداً ، و منهم من يبلغ في القصيدة الرتبة العالية ، و لا ينظم الرجز ، أو يقصر] فيه مهما تكلفه أو تعلمه .

و من الناس  من يجود في الكلام المرسل ، فإذا أتى بالموزون قصر ونقص نقصاناً بيّناً، ومنهم من يوجد بضد ذلك.

وقد تأملنا نظم القرآن، فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدّمنا ذكرها ، على حدّ واحد ، في حسن النظم ، و بديع التأليف و الرصف ، لا تفاوت فيه ، و لا انحطاط عن المنزلة العليا ، و لا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا ، وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجود الخطاب ، ومن الآيات الطويلة والقصيرة، فرأينا الإعجاز في جميعها على حدّ واحد لا يختلف . وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة[تفاوتاً بيِّناً، ويختلف اختلافاً كبيراً . ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة] فرأينا غير مختلف و لا متفاوت ، بل هو على نهاية البلاغة و غاية البراعة ، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر، لأن الذي يقدرون عليه قد بيّنا فيه التفاوت الكثير ، عند التكرار وعند تباين الوجوه ، واختلاف الأسباب التي يتضمن .

4.    ومعنى رابع : و هو أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتاً بيّناً في الفصل و الوصل ، و العلوّ و النزول ، و التقريب و التبعيد ، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم ، و يتصرف فيه القول عند الضم و الجمع .

ألا ترى أن كثيراً من الشعراء قد وصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره ، و الخروج من باب إلى سواه . حتى إن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري ، مع جودة نظمه ، و حسن وصفه ـ  في الخروج من النسيب إلى المديح . و أطبقوا على أنه لا يحسنه ، ولا يأتي فيه بشيء، وإنما اتفق له ـ في مواضع معدودة ـ خروج يرتضي ، و تنقل يستحسن .

و كذلك يختلف سبيل غيره عند الخروج من شيء إلى شيء ، والتحوّل من باب إلى باب . و نحن نفصل بعد هذا و نفسر هذه الجملة ، و نبين أن القرآن على اختلاف [فنونه] و ما يتصرف فيه من الوجوه الكثيرة و الطرق المختلفة ـ يجعل المختلف كالمؤتلف ، و المتباين كالمتناسب ، و المتنافر في الأفراد إلى حد الآحاد ، و هذا أمر عجيب ، تبين به الفصاحة ، وتظهر به البلاغة ، و يخرج معه الكلام عن حد العادة ، و يتجاوز العرف .

5.     و معنى خامس : وهو أن نظم القرآن وقع موقعاً في البلاغة يخرج عن عادة كلام [الجن ، كما يخرج عن عادة كلام الإنس] . فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا ، ويقصرون دونه كقصورنا . و قد قال الله عزّ جلَّ : (قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) [الإسراء88] .

فإن قيل : هذه دعوى منكم ، وذلك أنه لا سبيل لنا إلى أن نعلم عجز الجن عن [الإتيان] بمثله ، وقد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله ، وإن كان عاجزين ، كما أنهم قد يقدرون على أمور لطيفة ، وأسباب غامضة دقيقة ، لا نقدر نحن عليها ، ولا سبيل لنا للطفها إليها ، و إذا كانت كذلك ، لم يكن إلى علم ما ادعيتم سبيل .
قيل : قد يمكن أن نعرف ذلك بخبر الله عز وجل ، وقد يمكن أن يقال إن هذا الكلام خرج على ما كانت العرب تعتقده من مخاطبة الجن ، و ما يروون لهم من الشعر ، و يحكون عنهم من الكلام ، و قد علمنا أن ذلك محفوظ عندهم منقول عنهم . و القدر الذي نقلوه [من ذلك] قد تأملناه ، فهو في الفصاحة لا يتجاوز حد فصاحة الإنس ، و لعله يقصر عنها ، و لا يمنع أن يسمع الناس كلامهم ، و يقع بينهم وبينهم محاورات في عهد الأنبياء ، صلوات الله عليهم ، و ذلك الزمان مما لا يمتنع فيه وجود ما ينقض العادات . على أن القوم إلى الآن يعتقدون مخاطبة الغيلان ، و لهم أشعار محفوظة مدونة في دواوينهم .


قال تأبط شراً [2] :

و أدهم قد جُبت جِلبابه        كما اجتابت الكاعبُ الخيعلا [3]
إلى أن حدا الصبح أثناءه               مزّق جلبابه الأليلا [4]
على شيم نار تنوّرتها                  فبتُّ لها مدبراً مقبلاً [5]
فأصبحت والغول لي جارة            فيا جارتا أنت ما أهولا
وطالبتها بضعها ، فالتوت          بوجه تهوّل و استغولا [6]
فمن سال أين ثوت جارتي              فإن لها باللوي منزلا
و كنت إذا ما هممت اعتزمت         و أخر إذا قلت أن أفعلا

وقال آخر[7] :

عشوا ناري فقلت منون أنتم            فقالوا الجنُّ قلت عموا ظلاما
فقت إلى الطعام فقال منهم               زعيم يحسد الإنس الطعاما

ويذكرون لامرئ القيس قصيدة مع عمر والجني ، وأشعاراً لهما، كرهنا نقلها . وقال عُبيد بن أيوب :

فلله درُّ الغول أي رفيقة            لصاحب قفر خائف متقفِّر

أرنَّت بلحن بعد لحن وأوقدت       حواليَّ نيراناً تلوح وتزهر

وقال ذو الرمة [8] بعد قوله :

قد أعسف النازح المجهول معسفه       في ظل أخضر يدعو هامة البوم[9]
للجن بالليل في حافاتها زجل                كما تناوح يوم الريح عيشوم[10]
دويّة ودجى ليل كأنهما                       يم تراطن في حافاته الروم[11]

و قال أيضاً :

و كم عرَّست بعد السرى مع معرَّس      به من كلام الجن أصوات سامر[12]

و قال :

و رملٍ عزيف الجن في عقباته      هزيزٌ كتضراب المُغنين بالطبل [13]

و إذا كان القوم يعتقدون كلام الجن و مخاطباتهم ، و يحكون عنهم ، وذلك القدر المحكي لا يزيد أمره على فصاحة العرب ، صح ما وصف عندهم من عجزهم عنه كعجز الإنس .

و يبين ذلك من القرآن : أن الله تعالى حكى عن الجن ما تفاوضوا فيه من القرآن فقال : (وإذا صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين)[الأحقاف:29] ، إلى آخر ما حكى عنهم فيما يتلوه .

فإذا ثبت أنه وصف كلامهم ، ووافق ما يعتقدونه من نقل خطابهم، صح أن يوصف الشيء المألوف بأنه ينحط عن درجة القرآن في الفصاحة .

وهذان الجوابان أسدُّ عندي من جواب بعض المتكلمين عنه ، بأن عجز الإنس عن القرآن يثبت له حكم الإعجاز، فلا يعتبر غيره . ألا ترى أنه لو عرفنا من طريق المشاهدة عجز الجن عنه، فقال لنا قائل : فدلّوا  على أن الملائكة تعجز عن الإتيان بمثله ، لم يكن لنا في الجواب غير هذه الطريقة التي قد بيناها .

و إنما ضعّفنا هذا الجواب ، لأن الذي حُكي و ذكر عجزُ الجن و الإنس عن الإتيان بمثله ، فيجب أن نعلم عجز الجن عنه ، كما علمنا عجز الإنس عنه و لو كان وصف عجز الملائكة عنه ، لوجب أن نعرف ذلك أيضاً بطريقه .
فإن قيل : أنتم قد انتهيتم إلى ذكر الإعجاز في التفاصيل ، وهذا الفصل إنما يدل على الإعجاز في الجملة ؟

قيل : هذا كما أنه يدل على الجملة ، فإنه يدل على التفصيل أيضاً ، فصح أن يلحق هذا القبيل ، كما كان يصح أن يُلحق بباب الجمل .

6.    و معنى سادس : وهو أن ينقسم عليه الخطاب ، و من البسط و الاقتصار ، و الجمع والتفريق ، والاستعارة و التصريح ، و التجوز و التحقيق ، و نحو ذلك من الوجوه التي توجد في كلامهم ، موجود في القرآن . و كل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم ، في الفصاحة و الإبداع و البلاغة و قد ضمنا بيان ذلك [من] بعدُ ، لأن الوجه ههنا ذكر المقّدمات ، دون البسط والتفصيل .

7.    و معنى سابع : و هو أن المعاني التي تضمنها ، في أصل وضع الشريعة و الأحكام ، و الاحتجاجات في أصل الدين ، الردّ على الملحدين ، على تلك الألفاظ البديعة ، و موافقة بعضها بعضاً في اللطف و البراعة ، مما يتعذر على البشر و يمتنع و ذلك أنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة ، و الأسباب الدائرة بين الناس ، أسهل و أقرب من تخير الألفاظ لمعانٍ مبتكرة ، و أسباب مؤسسة مستحدثة . فإذا برع اللفظ في المعنى البارع ، كان ألطف و أعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرّر ، و الأمر المتقرّر ، المتصوّر ، ثم انضاف إلى ذلك التصرفُ البديع في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه ، ويراد تحقيقه ، بأن التفاصيل في البراعة والفصاحة ، ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى ، والمعاني وفقها ، لا يفضل أحدهما على الآخر ، فالبراعة أظهر و الفصاحة أتم .
8.    و معنى ثامن : و هو أن الكلام يتبين فضله و رجحان فصاحته ، بأن تذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام ، أو تقذف ما بين شعر ، فتأخذها الأسماع ، و تتشوّف إليها النفوس ، و يرى وجه رونقها بادياً غامراً سائراً ما تقرن به ، كالدرّة ، التي ترى في سلك من خرز ، و كالياقوتة في واسطة العقد .

و أنت ترى الكلمة من القرآن يتمثل بها في تضاعيف كلام كثير ، و هي غرّة جميعه ، و واسطة عقده ، و المنادي على نفسه بتميزه و تخصصه ، برونقه و جماله ، واعتراضه في حسنه و مائة ، وهذا الفصل أيضاً مما يحتاج فيه إلى تفصيل و شرح و نص ، ليتحقق ما ادّعيناه منه .

و لولا هذه الوجوه التي بيناها ، لم يتحير فيه أهل الفصاحة ، و لكانوا يفزعون إلى التعمل للمقابلة ، و التصنع للمعارضة ، و كانوا ينظرون في أمرهم ، و يراجعون أنفسهم ، أو كان يراجع بعضهم بعضاً في معارضته و يتوقفون لها .

...

ليست هناك تعليقات: